Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

الحظ / قصة كريسبين أودوبيوك ترجمة:

صالح الرزوق

خاص ألف

2014-10-15


في وقت مبكر من مساء العشرين من تموز - و هو تاريخ يبدو مهما، و مع ذلك لا يستطيع أن يحدد لماذا - رحل سينو لونغ جون نحو الشمال، و هو يضغط نفسه في مكان ضيق من حافلة قديمة لحق بها الصدأ و بالكاد تقفز نحو الأمام.

و توقع أن تصل الأمور لهذا الحد حينما جاء المفتش و أضاف ألواحا قصيرة بين المقاعد على طرفي الممر ليصنع وصلة بلا ظهر يمكن لمزيد من الاشخاص أن يجثموا فوقها، دون أن يأخذ بعين الاعتبار أن الحافلة تعاني من مشاكل و كأنها قارب تضرب به الأمواج المتلاطمة.

في الليلة الماضية كان سينو يعمل بتنظيف سكين اللحم، و بلا إنذار، صعدت لرأسه صورة رقبة أمه. لم يجد تفسيرا منطقيا لذلك. و أدرك لاحقا أن المرء قد يتناسى لفترة طويلة قبل أن تتكالب عليه الحالة النفسية و تسيطر على عقله. و تتركه يترنح على عتبات عالم تغمره الجعة، سكران و غائب عن الوعي: هل سمعت كيف فرم أمه كأنها سمكة؟. لم يجد حلا غير الابتعاد عن أمه. و لو وقف الأمر عند هذا الحد لهان عليه، و لكن حاجته للنقود تطلبت منه إجراء عاجلا يغير به الحياة التي يعيشها.

و ها هي حافلة الهروب تتحول إلى مقطورة للتأخير و التجميد. و لربما حصل على دوش و هو بثيابه، و حتى من غير توفر المياه. مع كل كيلو متر، كانت رائحة الأجسام النتنة تخنقه، و تدعوه لإعادة النظر بوجوده في الحافلة، ذاتها، و تفضح كل أسراره و خباياه. و حتى من غير الكز بأسنانه، و من غير التفكير بأي شيء قديم له مضمون بطولي، رفض سينو أن يقدم تنازلات. و على الرغم من كل شيء، لا يزال يريد أن يعتقد أن الإنسان يختلق حظوظه، حتى رائحة اللحمة الفاسدة النتنة لا تستطيع أن تؤثر بعقليته. كان يريد أن يغادر الحافلة، بنفس الحمى و الحماس الذي أراد أن ينصرف به من مدينته دودو في الليلة السابقة.

على الأقل قدم له الركاب الآخرون سببا ليرى نفسه بحالة أفضل منهم. لقد التهموا البيض و تبادلوا روائح مهينة و مخزية. و وفر سينو على نفسه المزيد من عواقب هذا التراخي، لكنه لم يلق اللوم عليهم.

و هذا لا علاقة له بكونه نوعا من الرجال لا يتخاذل و لا يستكين تحت أي ظرف. إنه بعيد عن ذلك. و لكنه لا يفهم لماذا لا يتحاشى المزيد من المشاكل (١) فكل شخص أمامه يطالبه باليقظة و الحذر. أضف لذلك، طوال الطريق نحو الشمال توالت المشاكل واحدة بإثر الأخرى. غير التدافع للهبوط عدة مرات كي يتخلص الركاب من ذلك الشيء اللعين في الأمعاء، أمضى كل الرحلة صامتا و الحافلة تشق طريقها إلى الأمام كي لا يقف في منتصف هذا القفر المجهول.

و مع ذلك لم يشاهد شاخصة واحدة تشير إلى أنهم في الطريق الصحيح إلى أبوجا. و كانت الغيوم و السحب القاتمة تحاصرهم من كل حدب و صوب.

و تباطأت الحافلة كأنها تسير خطوة و تتأخر خطوة، و أطلقت صوتا مبحوحا، ثم انطلقت للأمام كما لو أنها بمعجزة أطلقت سراح طاقة ميكانيكية مكبوتة. و قفزت للأمام زهاء كيلو متر أو ما شابه ذلك - و مرت الغابات بمحاذاتها بلمح البصر، فهب عليهم هواء رطب- ثم انفجرت الحافلة بشخير مرتفع يصم الآذان، و تدحرجت قليلا و وقفت. أطلق سينو تنهيدة من أعماقه. فقد علم أنهم سريعا سيقفون في وسط هذه البرية المجهولة بلا حيلة.

~

بعد حوالي ست ساعات، و بعد أن تمختر الـ٤٤ راكبا المتكومون فوق بعضهم البعض من وسط بوابة المدينة في أبوجا، أرعدت السماء و هطلت عاصفة مطرية غزيرة و معها حل ليل دامس.

و من خلف الضباب، تلصص سينو على قامات البنايات الشاهقة التي وقفت هناك، و لكنها كانت جزءا من السحر الحكومي في أبوجا. و علم عن وجه اليقين: من شاخصة مرور مرت بهم أنها منطقة أوتاكو، كانت أضواء المدينة تلمع تحت السيل المدرار، و في اللحظة التالية خيم الظلام- لم يعد هناك لا سحر و لا فتنة. و شهقت الحافلة و حرنت و هي ترتعش ثم تخمد في مكانها.

ضرب المطر السقف القاسي بقوة حتى أن سينو قلق من أن تنطوي الحافلة على نفسها. مثل هذه الروح العدوانية التي من الطبيعة أشارت لعدم رغبة المدينة بوصوله و تسببت بإزعاج و تشاؤم سينو.

لقد دفع ثمن التذكرة من نقوده في دودو حيث باع جهازه البلاك بيري بسعر زهيد. و الآن، لا يستطيع أن يغادر الحافلة، و المدينة تغطيه بالمطر و الظلام.

من المؤكد أن الحافلة سيئة الحظ وهي التي بدأت بهذا المنعطف غير المحبذ في الأحداث؟.

و لكن لماذا لا تقبله المدينة؟. هل هما يداه المشوهتان؟ نظر للأسفل لهما، الأصبع الثالث في الوسط ملتحمة بغيرها. أم لأنه واحد من عائلة لونغ جون و لكن بلا ملامح و قسمات موروثة تتشارك بها العائلة؟. لو أن أبوجا ستقدم له نفس الكآبة التي يحملها من مسقط رأسه، أليس الأفضل أن يعود أدراجه بالتو و الحال؟.

و لكن لم يرغب سينو بالعودة. فأبناء خاله المرحون يقطنون في أبوجا. و كان مقربا لإيناسني و كايت حينما أنفق وقتا في جامعتهما للبحث عن منحة طلاب داخلية - و تبين له أن هذا جزء من سحر و فتنة الحكومة و متوفر بشكل حبر على ورق فقط. و الآن عزم على الانتظار معهما لفترة من الوقت ليرى إلى أين وصلت الأحوال، و لكنه لم يضع في ذهنه التفتيش عن الفرص المجانية.

بذل سينو مجهودا شاقا يفوق ما فعله زملاؤه. بالإضافة لإدارة مطبخ في مطعم في مسقط رأسه، قدم إعانات لوالدته- و التي تقاعدت في وقت مبكر من مهنة التمريض- و أعان ابني خالة أصغر مته. و بحث عن حظوظ أفضل ليكسب المزيد من النقود ليدفع لابني الخالة لقاء متابعة الدراسة بعد المرحلة المتوسطة. و كان يهتم بشراء ملابس أفضل و دراجة بخارية لتجذب اهتمام البنات إليه و لتعيش إحداهن معه.

و بدأ بزيارة معلمه؟. ألا يستحق فرصة أفضل؟ حقا، هو لا يمتلك رأس المال المناسب ليبدأ بتوضيب مطعم جيد، و لكن أليس بوسعه أن يضع قدمه على أرض مستقرة و يابسة و يرى ماذا يمكنه هو و المدينة أن يجنيا من بعضهما البعض.

في منتصف هذه الصلاة الغريبة، صاح مفتش الحافلة يقول:" اهبطوا و ضعوا عيونكم على حقائبكم". شكر سينو ربه لأنه يسافر في النهار، و قبض على جعبة الظهر و انضم لأولئك المتدافعين للهبوط من الحافلة، سواء كانت تمطر أو لا تمطر. و قبل أن يصل لمنفذ الخروج، توقف المطر فجأة كما بدأ فجأة. فأضاء وجهه و أشرق.

غادر الحافلة، و أخرج من جعبته دفتر ملاحظات جديد. فيه أرقام هواتف تهمه. و نظر حوله بحثا عن هاتف للعموم. و شاهد شخصا لديه هاتف في دراجة مسقوفة. فكر سينو، هذا غريب. شاهد مثل هذه العربات في دودو. و هي مستوردة من الهند و لكنه لم يرفض الفكرة لأنها يمكن أن تعبر من بين زحام المواصلات و تقلك للمكان الذي ترغب به و بالوقت المناسب. غير أنه لم يشاهد أحدا يستعملها كغرفة لإجراء مكالمات هاتفية. و بدأت فكرة تتشكل في ذهنه. قلب صفحات الدفتر و اقترب من الدراجة.

" أنا سينو يا كايت".

" سينو، مضى وقت طويل دون لقاء".

" نعم وقت طويل جدا كما تفضلت(٢). للتو وصلت إلى أبوجا، و كنت أتصل بإيناسني و لكن خطه لا يعمل".

" ربما نسي أن يضعه بالقابس مجددا، أين أنت لأحضر لاستقبالك".

~

تعانق سينو و كايت. و أثنت على روحه الإفريقية، ثم عبست لما شاهدت الجعبة و قالت:" هل هذه كل أمتعتك؟".

" أنا رجل عملي، ليس معي الكثير من الأثقال (١)".

هزت كايت رأسها و قالت:" سينو ديفيتو (٣). نفسه بالأمس و اليوم و حتى الأبد".

لم تسعده هذه الفكرة: أنه لم يتغير، و لكن سره سماع لقبه القديم، هز سينو منكبيه و ضغط نفسه في سيارة كايت الصغيرة جدا. تساءل: لماذا شخص أصيل من عائلة لونغ جون مثل كايت يشتري علبة كبريت و يقول إنها سيارة. قال لها:" إذا هذه هي مركبتك" و لم يزعج نفسه ليصيغ كلامه بصيغة استفهام.

" كلا، هي لي في الوقت الحالي. و سأحصل على سيارة أكبر قريبا".

أومأ سينو. شخص من عائلة لونغ جون لا يطمئن و لا يرضى بشيء صغير لهذه الدرجة.

أخذت كايت وقتها لتتحرك بمرونة بين الزحام. نظرت لليسار و اليمين، وللمرآة الصغيرة لترى ماذا يجري خلفها ثم لليسار و اليمين مجددا. كانت تبدو عملية معقدة. و رغب سينو أن يسأل متى أصبحت بنتا مطيعة من عائلة لونغ جون. و لكنها فورا أطلقت سلسلة من الأسئلة المرهقة عن الأعمام و العمات و الأبناء و البنات. و بالكاد ضبط أعصابه حتى لا يذكرها أنه توجد هواتف لذلك. فكل أولئك الأقارب لديهم في النهاية هواتف.

وحينما سألت ماذا حدا به ليحضر إلى أبوجا، دمدم بشيء حول حال دودو، و نظر من النافذة و لاحظ بدهشة بالغة أن الظل المحيط بالأبنية العالية الذي رآه سابقا هو في الواقع لبيوت عادية. ماذا بوسعه أن يقول، في نهاية المطاف؟. أنه بدأت تنتابه أفكار طارئة؟. و أنه تعب من لقبه الجديد " سينو المقطوع اليدين؟". و لكن ها هما يداه، باستثناء أن النار شوهت وجه أمه و لحمت الأصابع الثلاثة المتوسطة ببعضها بعضا في يديه. و لم يكن لديه ما يكفي من النقود لإجراء عمل جراحي. أضف لذلك، لقد تأقلم مع استعمال الأصابع المتأثرة. و كلما ناداه شخص يقول هذا سينو بلا يدين، يزمجر قائلا " بل أنا سينو بيدين قويتين!".

و زاد ذلك من حماسة بعض الحمقى و المغفلين لإلحاق المزيد من الإزعاج به. و حينما وصلت المضايقات لأمه، لم يكن يستطيع أن يقول ماما ذات الوجه المتألق و تمنى لو تستقر الامور تلقائيا و يموت الضجيج. و حتى التفكير بذلك كان يبدو سخيفا: فأمه لها صيت بالحسن و الجمال لو لا أنها احترقت و هي تحاول إنقاذه من النار. و يعلم بقرارة نفسه أنه لن يلحق بها الضيم و الأذى، مع أنه يرغب من صميم قلبه لو يعود شكلها كما كان في السابق.

و حينما دخلوا إلى شقة كايت، حيث كانت غرفة المعيشة و النوم لهما نفس حجم المرآب في دودو، اشتعلت الأنوار. فأشرقت وجنتاها.

" سينو دي فيتو، لقد أتيت معك بالكهرباء. هذا فأل حسن. هل تعلم ذلك؟".

أومأ سينو موافقا و قدم آيات الشكر و العرفان بصمت لخالقه، ثم انطلق للحمام للحصول على دوش مناسب. و تحركت كايت لتوضيب وجبة ورق الكاسافا و عجينة الخضار و حساء أفانغ. و حينما خرج من الحمام، كان قلبه مليئا بالامتنان، فهي لم تتذكر طعامه المفضل فقط و لكن يبدو أنها حضرت الطعام كما تفعل أمه في بلدته. ابتلع الطعام و بحث عن طريقة ليشغل نفسه خلال وقت الانتظار قبل أن تنتهي.

" كيف إيناسني؟".

ارتفع حاجبا كايت و قالت:" أنا و إيناسني، نعيش في أبوجا، و قد أنتقل لاعيش في بوركينافاسو بينما هو يرحل إلى روسيا".

" لماذا، ماذا حصل؟".

" هكذا هي الحياة. حاولت أن أزوره و لكنه تصرف كأنني أتطفل عليه".

لم يفهم سينو ما تقول. كان إيناسني و كيت واحدا لا ينفصل. أخ و أخت ينعمان بالسعادة و التقارب. فريق واحد. و أن يعيشا منفصلين يبدو شيئا غريبا. ما لم...

سألها:" هل يعيش مع شريكة له".

" أشك بذلك. اعتاد على عقد لقاءات مع ثرثارة تعمل معي، و لكن سمعت أنهما لم ينسجما".

" سمعت؟".

" هذا ليس شأني. من فضلك (٢). تحاشيت أن أزوره في بيته".

" لماذا؟".

تنهدت كايت و قالت:" يكون في الداخل و يتصرف كأنه غائب. اليوم مثلا، عيد ميلاده".

" هل اليوم هو عيد ميلاد إيناسني؟ كيف أنسى ذلك؟". و قفز قلب سينو من موضعه. لا غرابة أن التاريخ أصاب وترا في قلبه.

" إنه ينضج يا سينو. ناهيك عن أن إيناسني يعمل مستشارا في المدينة هذه الأيام، لذلك أنا متيقنة أنه لا يهتم بهذه المناسبات. ما أهمية يوم عيد الميلاد بالمقارنة مع يوم استلام أتعابه و نقوده؟ هيا تعال و تناول طعامك".

شاهد سينو أخبار التاسعة مساء و هو يأكل بنهم. و رأى مخططا فيه سهم يشير للأعلى و يوضح خبرا عن طريقة نمو الاقتصاد بأرقام مضاعفة مجددا خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة. كان سينو يعرف هذه المعجزات الحكومية؛ شكل آخر من أشكال الواقع على الورق. و ركز تقرير آخر على تطور احتياطي الوقود. هذه الأكاذيب لم تعد تهم سينو. عيد ميلاد إيناسني يهمه أكثر. إيناسني بوجهه الجديد، دائما بقصة شعر قصيرة و رياضية، إنه رجل يميل للعبث و المرح و لا يوجد في العالم شخص يتفوق عليه بهذه الميول. لو اجتمعت كل قوى الشر لن تستطيع أن تمنع سينو دي فيتو من حضور الاحتفال.

انتهى من الطعام. و انتعش و ارتدى قميصا زهريا و سألها:" كيف أستدل على بيت إيناسني؟".

و ردت كايت ردا مزدوجا . قالت:" الوقت قرابة العاشرة تماما. لم لا تنتظر للغد؟".

يمكنه ذلك، و لكن سينو يتذكر أن إيناسني افترق عنه من ثلاث سنوات، و هذا يعني أن ابن عمه الأكبر قد ضرب الرقم القياسي في الاختفاء. وكان سينو يعلم أن إيناسني يحب الحفلات. و كانا في أبوجا، المدينة التي انعقد فيها أول كرنفال على مستوى كل الأمة. الزحام امتد على طول مهرجان من ثلاثة أيام، حفلة العمر لا يمكن لشخص من عائلة لونغ جون أن يفكر بعدم حضورها.

" اليوم عيد ميلاده و ليس الغد".

" أخمن أنك تقول الحقيقة، إيناسني يعيش في ويوسي II منطقة نانتوكيت كريسينت رقم ١٤٦١.

" نان ماذا؟".

عدة شوارع في أبوجا لها أسماء يمكن لأي شخص أن يراها في أطلس الجغرافيا.

" ستعرف هذا البيت حين تقع عينك عليه. فهو الوحيد بسطح أزرق".

~

أربعة ركاب إضافيين ضغطوا أنفسهم بسرعة مع سينو في التاكسي. رجل كبير و بدين، و أكثرهم حظا بالنسبة لسينو، فقد بدأ بالشخير فورا و هو في مقعده الأمامي بينما رغيف خبز كبير أيضا يستقر في أحضانه. و في المقعد الخلفي، امراة لها رائحة عرق و تبدو غاضبة حتى أنها غرست كوعها في خاصرة سينو إلى أن انكمش عنها. كان بمقدوره أن يضع كوعه في خاصرتها و لكنه مال للنافذة. فعائلة لونغ جون تنتقي معاركها بحيطة و حذر.

توقفوا عند حاجز عسكري أمام ثكنة أباشا. و بعد تفتيش عرضي قام به الجنود، حصل السائق على إذن للمتابعة، و لكن المحرك خمدت أنفاسه. و طلب السائق من الجميع دفع السيارة. و استجابوا كلهم باستثناء راكب المقعد الأمامي. هز السائق الرجل الصخم. فارتعش برعب. و طار رغيفه في الهواء، و استقر عند موطء أقدام المجندين. و في نفس الوقت، تابع سينو و بقية الركاب دفع التاكسي حتى زمجر المحرك.

التقط واحد من الجنود الرغيف، و قال: " ما نوع هذا الخبز؟ هل تريد أن تطعم كل أبوجا؟".

قبض الرجل الضخم على خبزه، و حاول أن يقتنصه من يدي المجند.

و لكن أمسك الجندي به و عيناه جاحظتان. و قال:" أيها الأحمق؟ كنت أمزح معك، لماذا تتصرف كالمغفلين؟".

و انتشل الجندي الخبز من بين يدي الرجل و رماه بين أشجار الغابة بعيدا بكل قواه. ثم حرر أمان بندقيته و لقمها.

~

ركع كل شاغلي التاكسي على طرف الطريق، وجوههم للغابة، و أيديهم على رؤوسهم. و وقفت السيارة خائرة القوة في وسط الطريق. واحد من الجنود تكلم باللاسلكي. و توقع سينو أن التهمة هي إلقاء القبض على " أشخاص مشبوهين" يسببون الفوضى، و ها هم الجنود يحاولون اتخاذ التدابير للوصول إلى قرار لردع المشاغبين. لم يكن سينو يرغب أن يكون جزءا من هذا الهراء. و هو ينوي حضور حفلة العمر.

اقتربت دراجة نارية تزمجر. التفت ليراها. كانت دراجة قوية، و لكن ليس من النوع المعروف الذي يحمل خلف رجل بنت تتمسك به و مؤخرتها بارزة للعيان و تلهب مشاعر الحسد و الغيرة.

سأل الجنود سائق الدراجة:" لماذا لا أضع الخوذة؟".

قال السائق بسخرية:" لأنني لن أسقط".

قال واحد من الجنود:" أنت استفزازي".

قال آخر:" هذا ضد القانون".

نسي الجنود سينو و من معه. و سحبوا السائق من دراجته و أجبروه أن يقفز كالضفدع على جنبات الطريق. واحد من الجنود أشار بعد ذلك لسينو و من معه ليغادروا. فتدافعوا نحو التاكسي الخامد الأنفاس و انطلق السائق مباشرة.

و بعد أن مروا بالشاخطة ويوسي II، شعر سينو بالراحة و انتابه الإحساس بالفخر حيال هذه المنطقة. و بعد قليل من التقدم، وجد نفسه معجبا ببعض الفتيات اللواتي ارتدين القليل من الثياب و كن تقفن على جوانب الطريق قرب فندق صغير. و جلس رجل ببذة رياضية لها غطاء رأس قرب الفتيات و معه صندوق صغير الحجم. كان يبيع الحلويات، و العلكة، و السجائر، و الواقيات الجنسية و كل ما شاكل ذلك.

اشترى سينو علبتين من واقيات الجنس، فهناك الكثير من الفرص لاستعمالها في حفلة إيناسني.

و سأل الرجل صاحب غطاء الرأس كيف يصل إلى ناناكوشيت.

قال الرجل " ba )4) إنكليزي؟".

" ماذا؟".

ترجمت له واحدة من البنات:" لا يتكلم الإنكليزية. نانتوكيت في الطرف الآخر من ويوسي II".

شكرها سينو و انطلق بالاتجاه الذي أشارت إليه.

قالت البنت:" الأفضل لك أن تركب التاكسي. ألا ترى الوقت؟ ستلقي الشرطة القبض عليك".

شكرها سينو مجددا. و فهم من نبرتها أن شارع إيناسني قد يكون بعيدا لحد ما. و أقلقته الفكرة. و لكن أهاب به صوت من داخله يذكره أن أفراد لونغ جون يشربون المر و العلقم بنفس الحماس الذي يشربون به نبيذ النخل الحلو المذاق. أضف لذلك، لقد وصل إلى ويوسي II. و لن يعسر عليه أن يجد ناناكوشيت أو الشارع الذي يطلقون عليه الاسم الغريب هذا.

و ما أن شرع بالمسير حتى تجمهر عدد من الجنود بقربه و أشهروا أسلحتهم. تجمد سينو في مكانه. و رفع يديه.

قال صوت خشن من طابور العسكر:" هذا الشاب يبحث عن مشكلة كبيرة. عرف بنفسك. لماذا أنت هنا بعد منتصف الليل. هل أنت عراف و ساحر أم لص مسلح؟".

شرح سينو لماذا هو هنا في هذه الساعة.

قال الضابط:" لقد تجاوزت نانتوكيت. حسنا. لو شاهدناك هنا ثانية سنضعك في الزنزانة".

شكر سينو رجال الأمن و أسرع عائدا إلى نانتوكيت كريسينت. كانت الشوارع تمتد أمامه بلا نهاية و تلتف و تتشابك و لكنه لم يجد رقم ١٤٦١ حينما خمد التيار الكهربائي. و لو أنه لم يكن يقف ببوطه على الرصيف لربما اعتقد أنه الآن في شارع من شوارع مستنقعات غابات دودو.

كان بحاجة لصوت موسيقا حفلات صاخبة ليستدل على بيت إيناسني. و بانقطاع الكهرباء همست الظلمة في أذنه بكل أنواع الهراء الفارغ و المرعب. و شعر بضغط على المعدة حتى خانته قواه. و لكنه خمن أن المشتركين بالحفلة الآن يلهون و يعبثون. و هكذا وقع تحت تأثير أفكار غريبة. بقي شيء واحد: كيف يمكنه التعرف على سقف أزرق في الظلام.

وقف خارج بوابة بيت و نظر إلى السقف. و شعر بالقنوط. اقترب أكثر، و أصبح وجها لوجه أمام حارس بثياب رسمية و بيده هراوة.

صاح:" لص".

قال سينو:" كلا. لست لصا. أنا أبحث عن رقم ١٤٦١ . رجاء (٤) هلا دللتني عليه".

قال الحارس بصوت حاد:" هل تظن أن عملي دليل لعابري السبيل".

" كلا. و لكن ساعدني و الرب يكافئك".

أشار الحارس بدلال لبوابة تبعد عنه بمقدار بيتين.

أسرع سينو إلى حيث أشار الحارس. و كان ضوء يلمع من نافذة في الطابق الأرضي. و كان يمر به عابرو السبيل، و أحيانا يحجزون الضوء. و اقتنع سينو أن الحفلة وصلت للجزء الحساس فيها. دق على البوابة.

و صاح صوت من الداخل:" لم أنته. انتظر حتى الفحر".

" إيناسني. هذا أنا. سينو دي فيتو".

و خرج من البيت شخص و اقترب من البوابة و قال:" سينو؟".

رجل عجوز بشعر غير مسرح اقترب للأمام فتراجع سينو.

" إيناسني؟".

" سينو، هل هذا أنت حقا؟".

" آه، هذا أنا. أين شحمك و لحمك يا رجل؟". لم يجد سينو ابن خاله المحب للمرح في صورة هذا الأستاذ الجائع و المزري الذي وقف أمامه.

~

تحت تأثير الصدمة من رؤية ابن خاله، غرق سينو في كنبته. و استمر إيناسني بالدوران حول طاولة كبيرة وقفت حيث يضع الناس بالعادة طاولات الوسط. كان مصباحان يعملان بالشحن و لهما ذراع يقفان متعاكسين على كل طرف من غرفة المعيشة غير الموضبة جيدا.

كانت أوراق و دبابيس و لابتوب و علبة حليب تلقي ملامح الفوضى على الطاولة. و كان إيناسني على فترات متقطعة يدمدم ببعض الحروف و يضرب بيده جبهته.

" إيناسني أيها الولد العجوز. المتاعب (١) أنستك عيد ميلادك؟".

" آه، تتكلم عن عيد ميلاد؟". ظهرت على إيناسني علامات الحيرة. ثم تحركت عيناه كأنه انتبه لوجود سينو في التو. و تابع:" كنت تفهم بالرياضيات، أليس كذلك؟".

" قليلا، لماذا؟".

" يجب أن أحسب كم لترا من الماء نحتاج سنويا لخمسة ملايين إنسان يعيشون في هذه المدينة، بينما معدل زيادة السكان السنوي يبلغ --- أوووه".

و تمسك إيناسني بمعدته.

قفز سينو من الكنبة و قال:" ما الموضوع؟".

سحب إيناسني علبة من جيبه، و هرع للطاولة، و التقط حبتي دواء من العلبة و ابتلعهما مع جرعة حليب. ثم عبس و تجشأ.

" ما الأمر يا إيناسني؟".

" القرحة فقط. لا شيء يستحق القلق".

هز سينو رأسه و قال:" متى تناولت الطعام لآخر مرة؟".

نظر إيناسني لسينو وقال:" آه.. هذا لا يهم. هل تستطيع أن تحسب؟ يجب تقديم الجواب إلى اللجنة في الغد- أعني اليوم. هذا الصباح".

" دعنا ندبر لك شيئا تأكله أولا لو سمحت(٢)؟ هل لديك شيء في المطبخ؟".

هز إيناسني منكبيه و قال:" أحضرت كايت بعض اليام حين جاءت آخر مرة".

حمل سينو واحدا من المصباحين و ذهب للمطبخ. و شاهد القدور و المقلاة و السكاكين و البهارات و الزيت، هنا، سواء جاءت الكهرباء أم لا، لم يكن يهمه الأمر.

وضع قدرا من الماء على النار و قشر اليام. و على نار أخرى، وضع مقلاة و أضاف عدة نقاط من زيت الزيتون عليها. التهب الزيت بينما هو يقطع البصل. و يتغلغل بوخزاته المعروفة في عينيه و ذكره ذلك بدودو و أمه، و هكذا شعر بالمزيد من الصواب لأنه غادر المدينة.

كان من الصواب أن يغادرها لتكون بأمان من القوى الشريرة التي تدفعه لإلحاق الضرر بها. كسر أربع بيضات. و صب المحتويات السائلة في صحن، و رش عليها الملح، و الزعتر و جوزة الطيب. ثم خلط البيض، و هو يفكر بإيناسني الجديد الذي ينسى عيد ميلاده. من الواضح أن أيام الحفلات قد ولت. و تساءل هل سيعجبه إيناسني الناضج كما كان معجبا بشخصيته المرحة السابقة التي عرفها و تفاءل بها. في كل الحالات، سواء قبلت به المدينة أو رفضته، و سواء وجد المال لإدارة مطعم أو لا، سيطهو سينو ديفيتو أول طبق له في أبوجا. و لو أنه تابع التلاعب مع حظوظه و استغلالها ربما يتمكن من إقناع إيناسني بشراء دراجة بثلاث عجلات، و بها يتمكن من بيع الشطائر و المشروبات الباردة. ليس هذا مثل مطعم، فعلا هذا أقل من أحلامه، و لكن أفراد أسرة لونغ جون، حتى لو أنه شخص قصير القامة، لا يبقى صغيرا و تافها طوال الحياة.



هوامش:

١- وردت في النص بلغة اليوروبا wahala.

٢- وردت في النص بلغة اليوروبا abeg.

٣- للمديح. ديفيتو DeVito اسم ممثل أمريكي معروف.

٤- ba تعني لا أعرف.



كريسبين أودوبيوك : Crispin Oduobuk قاص من نيجيريا. و الترجمة بإذن منه.







































































































































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة :

17-نيسان-2021

قصائد مختارة لمارلين مونرو

03-تشرين الأول-2020

قصة / كانون الأول / كريستال أربوغاست

12-أيلول-2020

مدينة من الغرب اقصة : تميم أنصاري ترجمة

22-آب-2020

قصائد لهنري راسوف ترجمة :

20-حزيران-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow