Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

هذا هو لحم الخنزير - اعترافات نباتي متمرد / فلورين بيكان ترجمة:

صالح الرزوق

خاص ألف

2017-06-17

بالعودة إلى الثمانينات، استدعتني رئيستي إلى مكتبها لتخبرني أن مخابرات شيسكو يتعقبونني، و لم تكن لدي أية فكرة عما يجب أن أمر به. و كان من دواعي الاستغراب أن أجد لاحقا أن الجريمة هي أنني نباتي. فهذا لا يبدو لي شيئا غير مباح ولا سيما لأن الرتل عند الجزار يستغرق كل الليل على أمل الحصول على رطل من اللحوم في الصباح. في الواقع كان ذلك بادرة دفاعية من رئيستي في العمل لحماية ظهري. سألت الشرطة السرية:"وأين المشكلة، هذا يعني توفير حصة رجل آخر من دور اللحوم". رد الشرطي:"بالتأكيد، ولكن كيف ينفق هذا الرجل وقته حين لا يقف بالدور لشراء اللحوم؟".

لو استفسروا مني لأخبرتهم ببساطة إنني كنت أطهو ما تيسر من خضار متوفرة في السوق دون الوقوف بالدور. ولكن طبعا، هم لا يسألونني. فأمانة الشرطة تفضل الحصول على معلوماتها بالسر. ولا بد أنه من خلال معلومات غامضة المصدر وصلوا لخبر حميتي غير الأرثوذوكسية، لا سيما أنني لا أعلن عن عاداتي. ومع ذلك، لم أفهم طوال حياتي لماذا تهتم الشرطة السرية الشيوعية بطعامي النباتي. من الواضح، أن المديرة تعرضت للاستجواب أيضا. وقد أهابت بهم تقديم توضيحات (فهي عضو في الحزب الشيوعي ولديها الحق في الاعتراض). ولكن جوابهم كان غريبا حقا فقد قالوا:"لا يمكن أن يثق أحد بهؤلاء. يبدأون بعدم أكل اللحوم، وينتهون بإشعال الشموع في منتصف الليل". واستغرقت المديرة وقتا طويلا لتفهم هذا اللغز. ويجب أن أقر لم يكن بوسعي التغلب على هذه المصيبة دون معونتها.

"لا يمكن أن يثق أحد بهؤلاء. يبدأون بعدم أكل اللحوم، وينتهون بإشعال الشموع في منتصف الليل". فإضاءة الشموع في منتصف الليل كنتيجة من نتائج الامتناع عن تناول اللحوم مشكلة غامضة (جدا)- لو قارنتها بفضيحة التأمل الرواقي التي خططوا لها من سنتين فقط. رسميا كانوا يشجعون الناس على حضور جلسات التأمل الرواقي وبعد أسابيع اعتبروهم أعداء الشعب، وتم تصنيف هذه الجلسات بأنها غير قانونية. وعدد قليل ممن حضر الجلسات كانوا نباتيين وقد أشعلوا خلال الاجتماعات، ليس الشموع، وإنما أعواد البخور. ولم يحصل ذلك في منتصف الليل، ولكن عند الشرطة السرية، كل هذه الأفعال يجب أن تجري في ساعة مسحورة... وفي الواقع، لأنهم قرروا أن يراقبوني، وجدوا يدي مضرجة بلون أحمر.

بالعودة لما سلف، كان تقنين الكهرباء يجري بأمر نافذ المفعول بعد 10 ليلا، ولو اضطررت أن أذهب إلى الحمام في منتصف الليل، علي بالتأكيد، إشعال شمعة (فالمصابيح الديودية نادرة في الأسواق مثل اللحوم تماما).

من حسن الحظ، كان أنصار الدولة قد قرروا في النهاية أن لا يزيدوا من درجة حذرهم مني، ومن ناحيتي تابعت سلوكي النباتي. وعلى أية حال، هذا لم يعفيني من الشبهات. في الماضي أن تكون نباتيا في رومانيا يعني أنك شاذ وتثير الانتباه. حتى الوالدة اشتبهت أنني على وشك الانتحار وإلا لماذا أمتنع عن تناول اللحوم. وكانت تعتقد أن عدم تناول اللحوم يعادل الامتناع عن التنفس حتى الموت، وأن حالتي النباتية غير المفهومة، وبالضرورة، كانت مصدرا لبعض المخاوف.

دائما أتساءل لماذا يؤمن الرومانيون بعدم الحكمة في استبدال اللحوم بشيء آخر. والفتات القليلة التي تتوفر لهم عليها أن تنفد ببطء، ومع ذلك لا يفكرون أبدا بتقريب موعد الحصة التالية، مهما كان بعيدا. واللحوم، تعني عند الغالبية الخنزير، مع أن العجل، والأغنام، والغزال تبدو لحومها مقبولة المذاق.

الفرق في الواقع لا يهم.

وأتذكر المشهد المحير في مطعم روماني صغير في الثمانينات. فيه نادل يحمل طبقا يشبه اللحوم و يقدمه لزبون وهو يقول:"لقد طلبت لحم العجل أليس كذلك؟". ويرد الزبون بدفاع عن النفس:"بل طلبت الخنزير". ولكن النادل لم يتأثر باعتراضه، ووضع الطبق أمامه على الطاولة، وهو يقول بصوت خافت:" هذا لحم خنزير إذا".

أن تكون نباتيا في رومانيا يعني أنك غريب لدرجة ما.

وكان ذلك الزبون أكثر خوفا مني. كنت أستوعب عدوانية النادل كلما طلبت "طعاما بلا لحوم". و تعليقهم الأولي كان "هل أنت مريض؟"، وكنت أعتذر بقولي:"أبدا، لكن لا أتناول اللحوم". وبعد ذلك يسألون :"ما رأيك بالدجاج؟". وألح بالرفض مرعوبا من الإصرار:"ولا آكل الدجاج أيضا". يقول:"حسنا سأحضر بعض السمك إذا". هذا ما يقوله النادل المرهق، قبل أن ييأس مني حين أنوه له إن السمك لحوم كذلك. ولحسن الحظ لم يكن الطعام البحري شائعا في المطاعم التي كنت أرتادها في تلك الأيام.

ولتكون عادلا، يبدو الألمان مرحين بنفس المقدار حينما يصنفون اللحوم. كلما رفضت قطعة نقانق لأنني لا آكل اللحوم، سريعا ما يصححون لي أفكاري بقولهم:"ليس فيها لحوم، إنها مجرد نقانق". و الخنزير المدخن له نفس المعنى، إنه يخلو من اللحوم، باعتبار أنه يصنف بحرية في قائمة "السلطة النباتية". ولكن حتى في ألمانيا تغيرت الأمور في نهاية التسعينات، ومعظم المطاعم تقدم الآن أطباقا نباتية بلا أية إضافات.

في الأعوام الأخيرة، قفزت المطاعم في رومانيا قفزة مهمة نحو الطعام النباتي، ويبدو أن الشرطة السرية الجديدة لا تهتم بالمشبوهين بجريمة الطعام النباتي. لقد تبدلت الأمور هنا على نحو حقيقي. ومن عدة سنوات مضت، خلال نزهة في كارباتيا الغربية البعيدة، عبرت بمطعم ريفي صغير وكانت لائحة الأطعمة فيه بحجم دليل تلفونات، وفيها أطعمة من كل العالم- فرنسا، إيطاليا، إسبانيا، الصين، وغيرها. حتى الطعام الإنكليزي كان ممثلا بأطباق فاخرة منها الجبنة الويلزية، الأرز بالسمك، الملفوف باللحمة، وأيضا، فطيرة اللحمة المحشية بالكلى.

كنت أشك أنهم صادقون، ومع ذلك كانت عائلة فرنسية تزور المطعم باستمرار، وفي النهاية، تحليت بالجرأة وسألت النادلة:"هل كل هذه الأطعمة متوفرة ؟". ردت بارتباك تقول:"حسنا، أنت تعرف ما يحصل فعلا، الحياة في هذه الجبال المباركة- صعود وهبوط، لقد نفدت لحمة الأخطبوط من مطبخنا..."

بالتأكيد لقد ابتعدنا عن موضوعنا: كل شيء يجب أن نعتقد أنه من لحوم الخنزير، وأنا متهم بتناول الطعام النباتي لأنني من جماعة سرية.


فلورين بيكان Florin Bican مولود في رومانيا عام 1956، وتلقى علومه في جامعة بوخارست. مترجم من الرومانية إلى الإنكليزية. والمقالة منشورة في مجلة (كلمات بلا حدود)، عدد أيار ، 2017 .




















تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة :

17-نيسان-2021

قصائد مختارة لمارلين مونرو

03-تشرين الأول-2020

قصة / كانون الأول / كريستال أربوغاست

12-أيلول-2020

مدينة من الغرب اقصة : تميم أنصاري ترجمة

22-آب-2020

قصائد لهنري راسوف ترجمة :

20-حزيران-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow