Alef Logo
مقالات ألف
              

فصل المقال في حقيقة إخوان الصفاء

فراس الســواح

خاص ألف

2018-01-13

إخوان الصفاء وخلان الوفاء جمعية سرية تأسست على الأغلب في مدينة البصرة حاضرة الثقافة الإسلامية، في زمن ما من النصف الأول من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وتركت لنا ميراثاً فكرياً وروحياً متميزاً، بقيت آثاره فاعلة في الثقافة العربية عبر عصورها، يتمثل في اثنتين وخمسين رسالة لم يذكر مؤلفوها أسماءهم، تستغرق في الطبعات الحديثة نحو ألفين وخمسمئة صفحة. تبحث الرسائل في شتى معارف ذلك العصر من فلسلفة وعلوم وإلهيات، وتهدف إلى التأسيس لمذهب إسلامي ذي طابع كوني، يستغرق المذاهب كلها ويوحد بينها. نقرأ في الرسالة 45، على سبيل المثال: «وبالجملة، ينبغي لإخواننا أيدهم الله تعالى، أن لا يعادوا علماً من العلوم أو يهجروا كتاباً من الكتب، ولا يتعصبوا على مذهب من المذاهب، لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها ويجمع العلوم جميعاً». وغايتهم من ذلك كله هي فهم الشرط الإنساني والعمل بما يوجبه هذا الفهم، من أجل حياة عقلية ونفسية وروحية متوازنة في هذا العالم، تُعِدُّ الإنسان إلى الخلود الروحي في العالم الآخر.

يلف الغموض نشأة هذه الجماعة وتنظيمها وعدد أعضائها، على الرغم من أنها نشطت في عصر حكم الأسرة البويهية في بغداد، وهي فترة موثقة لنا تمام التوثيق. وقد تضاربت فيها أقوال القدماء وتباينت الآراء، ومعظمها متأخر عن عصر الإخوان، وذلك عائد إلى الطابع السري للجماعة ولجوئها إلى التقية والستر، على انتشارها الواسع في جميع أرجاء العالم الإسلامي. وفي الحقيقة، فإنه لا يتوفر لنا إلا خبر تاريخي واحد يمكن الركون إليه، جاءنا عن المؤلف أبي الحيان التوحيدي المعاصر للإخوان، وعلى وجه التحديد لمن ألف الرسائل منهم. فقد أورد التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة» وفي كتابة الآخر «المقابسات» هذه الحوارية التي جرت بينه وبين ابن سعدان وزير صمصام الدولة البويهي، نحو عام 372هـ على الأرجح:

قال الوزير للتوحيدي: إني لا أزال أسمع من زيد بن رفاعة قولاً يريبني، ومذهباً لا عهد لي به، وكناية عما لا أُحقه، وإشارة إلى ما لا يتوضح شيء منه. يذكر الحروف ويذكر اللفظ، ويزعم أن الباء لم تُنقَّط من تحتٍ واحدةً إلا لسبب، والتاء لم تُنقَّط من فوق اثنتين إلا لعلَّةٍ، والألف لم تُهمل إلا لغرض، وأشباه هذا. فما حديثه؟ وما شأنه؟ وما دِخْلته؟ وما خبرته؟ فقد بلغني أنك كنت تغشاه وتجلس إليه وتُكثر وتورِّق له..

فقال التوحيدي: أيها الوزير، إنك كنت تعرفه قبلي قديماً وحديثاً بالتربية والاختبار والاستخدام، وله منك الأخوة القديمة والنسبة المعروفة.

قال الوزير: دع هذا وصِفْهُ لي.

قال التوحيدي: هناك ذكاء غالب، وذهن وقاد، ويقظة حاضرة، وسوانح متناحرة، ومتَّسع في فنون النظر والنثر... وتبصُّر في الآراء والديانات، وتصرٌّف في كل فن..

قال الوزير: فعلى هذا ما مذهبه؟

قال التوحيدي: لا يُنسب لشيء ولا يُعرف برهط، لجيشانه بكل شيء، وغليانه في كل باب... وقد أقام بالبصرة زماناً طويلاً، وصادف بها جماعة جامعة لأصناف العلم وأنواع الصناعة، منهم: أبو سليمان محمد بن معشر البستي ويُعرف بالمقدسي، وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني، وأبو أحمد المهرجاني، والعوقي، وغيرهم. فصحبهم وخدمهم. وكانت هذه العصابة قد تآلفت بالعِشرة وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهباً زعموا أنهم قرَّبوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله والمصير إلى جنته. وذلك أنهم قالوا أن الشريعة قد دُنِّست بالجهالات واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة... وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال. وصنّفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة علمِيِّها وعمليِّها، وأفردوا لها فهرستاً، وسموها رسائل أخوان الصفاء وخلان الوفاء، وكتموا أسماءهم، وبثوها في الورَّاقين، ولقنوها للناس، وادَّعوا أنهم ما فعلوا ذلك إلا ابتغاء وجه الله عزل وجل وطلب رضوانه.

تعطينا هذه المحاورة معلومات لا بأس بها عن جماعة الإخوان. فقد جرت، كما قلنا، نحو عام 372هـ، وهو العام الذي تولى فيه ابن سعدان الوزارة في خدمة البويهيين الفرس، الذين حكموا إلى جانب بني العباس من عام 334 إلى عام 447هـ. ومن صيغة الماضي التي استخدمها التوحيدي في وصف زيد بن رفاعة، وكون الرسائل مبثوثة في الناس في فترات سابقة على المحاورة، نستدل على أن زمن تأليف الرسائل ربما يعود إلى أواسط القرن الرابع، في وقت كان فيه أبو حيان شاباً يجلس إلى زيد ويورق له، أي ينسخ له كتبه. فإذا كانت الرسائل قد وُضعت في هذا الزمن فعلاً، وهي زبدة فكر الإخوان ولا يُعرف لهم غيرها، فإن التنظيم السري لا بد وأن يكون قد تشكل قبل هذا الزمن، وربما في أوائل القرن الثالث أو قبل ذلك، وكان يعتمد في دعاوته على مجموعة من التعاليم الغنوصية العرفانية مبثوثة في مرجع أكثر اختصاراً من الرسائل، تتحدث عن الأصل السماوي للنفس الإنسانية، وهبوطها إلى عالم المادة، والوسائل العرفانية الكفيلة بتحريرها وعودتها إلى مصدرها. وهذه هي المحاور الرئيسة التي قامت الرسائل بعد ذلك بتطويرها، وتقديمها في إطار موسوعي أشمل احتوى على كل المعارف المتاحة لذلك العصر.

وتقدم لنا الرسائل نفسها إشارات تدل على زمن تأليفها. ففي معرض نقدهم لعقيدة الإمام الغائب عند الشيعة الاثنا عشرية، يقولون في الرسالة 42: «ومن الآراء الفاسدة والاعتقادات المؤلمة لمعتقديها رأي... من يرى ويعتقد أن الإمام الفاضل المنتظر الهادي مختفٍ لا يظهر من خوف المخالفين. واعلمْ أن صاحب هذا الرأي يبقى، طول عمره، منتظراً لخروج إمامه، متمنياً لمجيئه، مستعجلاً لظهوره، ثم يفني عمره ويموت بحسرة وغصة لا يرى إمامه، ولا يعرف شخصه من هو» (42: 3، 532). فإذا عرفنا أن الإمام المهدي قد اختفى في سن صغيرة نحو عام 265هـ، وأضفنا إلى ذلك الفترة الزمنية اللازمة لترسيخ هذه العقيدة بعد مرور الوقت الكافي لوفاة الإمام، لوصلنا إلى أواسط القرن الرابع، وهذا ما يتطابق مع ما استنتجناه من المحاورة.

تشير المحاورة بشكل مباشر إلى المقر الرئيس للجماعة، وهو البصرة، حيث التقى زيد بن رفاعة بجماعة جامعة لأصناف العلم، فصحبهم وخدمهم. كما تذكر من أعضائها الرئيسين إلى جانب زيد أربعة هم: المقدسي، والزنجاني، والمهرجاني، والعوقي. وجميع هؤلاء لم يكونوا من الشخصيات الفكرية البارزة في ذلك العصر، والمؤلفات التي تُعزى إلى بعضهم لم تكن بمستوى ووزن الرسائل. وعلى الرغم من أن كل الباحثين يعزون تأليف الرسائل إلى زيد بن رفاعة وهؤلاء الأربعة، إلا أنني أرجح أن يكون هؤلاء الأربعة هم أصحاب الرسائل من دون زيد الذي «صحبهم وخدمهم» على حد تعبير التوحيدي، ويبدو أنه كان أصغر منهم سناً. وإني أستند في هذا الترجيح إلى ما للرقم الرباعي من أهمية في فكر الإخوان، فأصل الأعداد كلها هو من الواحد إلى الأربعة، وعدد مراتب الوجود أربعة، وعدد أقسام رسائلهم أربعة، ويقوم تنظيمهم على الرقم أربعة. فعلى قمة الهرم يتربع أربعة أشخاص هم بمثابة القيادة العليا، وهؤلاء الأربعة منتقون من أربعين، والأربعون منتقون من أربعمئة، والأربعمئة منتقون من أربعة آلاف، ووراء الأربعة آلاف عدد لا يحدده النص من «الأنصار» الذين يدعونهم بالتائبين المخلصين (الرسالة التاسعة)؛ ويشكل هؤلاء شريحة واسعة منتشرة في بقاع العالم الإسلامي، على ما نفهم من فقرات بعض الرسائل، ومنها ما ورد في الرسالة 48: «اعلمْ أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن لنا إخواناً وأصدقاء من كرام الناس وفضلائهم، متفرقين في البلاد... وقد ندبنا لكل طائفة منهم أخاً من إخواننا ممن ارتضينا في بصيرته ومعارفه لينوب عنا في خدمتهم بإلقاء النصيحة إليهم بالرفق والرحمة والشفقة عليهم» (48: 4، 188).

وتدلنا المحاورة على السمة العامة لمذهب الإخوان الذي يعتمد على التوفيق بين الدين وفلسفات العصر وعلومه، حيث قال التوحيدي: «وذلك أنهم قالوا: إن الشريعة قد دُنِّست بالجهالات واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة... وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال». وهناك تتمة لما أوردناه من المحاورة تضيء بعض جوانب هذه المسألة. فقد سأل الوزير أبا حيان التوحيدي عن المقدسي الذي يبدو أنه كان الأبرز بين الأربعة، وعن رأيه في الشريعة والفلسفة، فروى التوحيدي عنه قوله:

«الشريعة طب المرضى، والفلسفة طب الأصحاء. والأنبياء يطببون المرضى حتى لا يتزايد مرضهم، وحتى يزول المرض بالعافية فقط، وأما الفلاسفة فيحفظون الصحة على أصحابها حتى لا يعتريهم مرض أصلاً. فبين مدبر المريض وبين مدر الصحيح فرق ظاهر وأمر مكشوف، لأن غاية تدبير المريض أن يُنتقل به إلى الصحة... وغاية تدبير الصحيح أن يحفظ الصحة، وإذا حفظ الصحة فقد أفاده كسبُ الفضائل وفرَّغه لاقتنائها؛ وصاحب هذه الحال فائز بالسعادة العظمى وقد صار مستحقاً للحياة الإلهية، والحياة الإلهية هي الديمومة والخلود. وإن كَسِبَ الفضائل من يبرؤ من المرض بطب صاحبه أيضاً، فليست تلك الفضائل من جنس هذه الفضائل، لأن إحداهما تقليدية والأخرى برهانية، وهذه مظنونة وهذه مستيقنة، وهذه روحانية وهذه جسمانية، وهذه دهرية وهذه زمانية».

وفي حديث التوحيدي تلميحات صائبة إلى روحانية مذهب الإخوان، وجنوحهم إلى السلم في نشر مذهبهم الذي يخلو من المطامع الدنيوية والسياسية، واعتناقهم لمثل اجتماعية عليا، والطابع الأخوي لتنظيمهم، عندما قال: «وكانت هذه العصابة قد تآلفت بالعِشرة وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القُدس والطهارة والنصيحة». فرسالتهم على ما نجد في ثنايا الرسائل أخلاقية بالدرجة الأولى، تحث على تهذيب النفس وتطهيرها من الآراء الفاسدة والاعتقادات الرديئة المؤلمة لأصحابها، والارتقاء بها فوق عالم المادة الذي يعتبرونه سجناً للنفوس الإنسانية. ولكن هذه السمة الخلاصية لمذهبهم لم تكن تعني انسحاب الفرد من العالم والانكفاء على ذاته من أجل تدبير خلاصها، لأن على الفرد في سعيه لخلاصه الفردي أن يساعد النفوس الأخرى على الخلاص أيضاً، وذلك عن طريق نشاط جمعي واسع تقوم به جماعة الإخوان، التي جعلت من نفسها نموذجاً للمجتمع الجديد المنشود الذي تحث تعاليمهم على بنائه. وقد وجهوا النقد اللاذع إلى الفساد السياسي والاجتماعي السائد في زمنهم، والتدهور الأخلاقي الذي يسم العلاقات الاجتماعية، وشخّصوا أمراض المجتمع، وأشاروا إلى طرائق الإصلاح.

أما عن جدة هذا المذهب، وعدم انتمائه إلى أحد المذاهب الإسلامية المعروفة من شيعة ومعتزلة أو إسماعيلية أو قرمطية، فنجده في قول التوحيدي إن زيداً ورفاقه «قد وضعوا فيما بينهم مذهباً»، ولم ينسبهم إلى أحد. ولو كان على دراية بصلتهم بإحدى الجماعات السياسية أو الفكرية أو الدينية، لما تردد في ذكر ذلك. وهذا الرأي الذي يصدر عن شخصية مرموقة عاصرت إخوان الصفاء، وعرفت بعضاً من أعضائها البارزين، هو أكثر مصداقية من آراء بعض المؤلفين الإسماعيليين المتأخرين على إخوان الصفاء بنحو قرنين أو أكثر، والذين يؤكدون انتماء الإخوان إلى الإسماعيلية. ولا أدل على ذلك من أن فكرة الإمامة، وهي حجر الرحى في الفكر الشيعي عامة والفكر الإسماعيلي خاصة، لم تكن موضع توكيد لدى الإخوان، وهم في أكثر من موضع في رسائلهم يستبعدونها من مذهبهم. ومن ذلك قولهم في الرسالة 47: «واعلمْ أن العقلاء الأخيار إذا انضاف إلى عقولهم القوة بواضع الشريعة، فليس يحتاجون إلى رئيس يرأسهم ويأمرهم وينهاهم ويزجرهم ويحكم عليهم، لأن العقل والقدرة لواضع الناموس يقومان مقام الرئيس الإمام. فهلمّ بنا أيها الأخ أن نقتدي بسُنَّة الشريعة ونجعلها إماماً لنا» (47: 4، 137). وفي الحقيقة، فإن أي تشابه بين فكر الإخوان وفكر فلاسفة الإسماعيلية المتأخرين عليهم، إنما يعكس تأثير الإخوان في الإسماعيلية وليس العكس، وأثناء القرن الرابع الهجري لا نجد أي أثرٍ فكريٍّ إسماعيلي بارز كان يمكن له أن يرفد فكر الإخوان.

وهنالك إشكالية في حديث التوحيدي تتعلق بعدد الرسائل، فهو يقول إنهم «قد صنّفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة علمِيِّها وعمليِّها». ولكننا نجد أن عدد الرسائل في فهارس المخطوطات التي وصلت إلينا هو اثنتان وخمسون رسالة، على الرغم من أن الإخوان يذكرون في ثنايا الرسائل تارة أنها اثنتان وخمسون وتارة أخرى أنها واحد وخمسون، وفي مطلع رسالتهم الثانية والخمسين وفق الفهرست يقولون: «وهذه هي آخر الرسائل من القسم الرابع، وهي الحادية والخمسون». كما وأنهم يشيرون إلى تصنيفهم لرسالة إضافية دعوها بالرسالة الجامعة، واعتبروها بمثابة تلخيص للرسائل، من أجل إتاحة الفرصة لمن لم يطلع على الرسائل كلها وفَاتَهُ بعضها، لربط ما فاته بما تحصّل لديه. فما هو عدد الرسائل بالضبط؟ في الحقيقة نحن لا نملك سوى الالتزام بالعدد 52 الوارد في فهرست الرسائل. أما عن الرقم 51، فيبدو أن الإخوان بعد انتهائهم من كتابة الرسائل، قد بثوها في اثنين وخمسين رسالة، وفيما بعد عندما وضعوا الرسالة الجامعة في وقت لاحق على نشر الرسائل، أرادوا الحفاظ على الرقم 52 لما له من دلالة رمزية، فقاموا بضم رسالتين إلى بعضهما في رسالة واحدة، وهما على الأغلب الرسالة الأولى من القسم الثالث المعنونة «في المبادئ العقلية على رأي الفيثاغورثيين»، والرسالة التي تليها والمعنونة «في المبادئ العقلية على رأي إخوان الصفاء»، وجعلوا العنوان المشترك لهما «في المبادئ العقلية». وأما عن الرقم خمسين الذي ذكره التوحيدي، ففي ذلك أكثر من تفسير؛ فإما أن التوحيدي أورد رقماً تقريبياً لم يتوخَّ فيه الدقة، وإما أن ما وصله من الرسائل لم يتجاوز الخمسين، وإما أن الإخوان في ذلك الوقت لم يكونوا قد بثوا الرسالتين الأخيرتين في الوراقين، ولم يكن متداولاً منها إلا خمسون.

على أنني، في الحديث عن عدد رسائل إخوان الصفاء، أود أن أثير مسألة قد لا نستطيع فيها الوصول إلى قولٍ فصلٍ على ضوء معلوماتنا الحالية؛ وهي انتماء الرسالة الجامعة إلى الرسائل الأصلية للإخوان، وكون مؤلفي الرسائل هم فعلاً واضعوها. إن القراءة المدققة لهذه الرسالة تقودنا إلى ملاحظة اختلافها عن رسائل الإخوان، فهي غامضة في تعابيرها، وتفتقد إلى حيوية وسهولة أسلوب الإخوان الذي يتوجه إلى عامة المثقفين لا إلى خاصتهم، على الرغم من أن هدفها المعلن هو تلخيص الرسائل والربط بين أفكارها، وتوضيح غاياتها. كما أنها تحتوي على عدد من الأفكار التي تتناقض مع ما ورد في الرسائل، وعلى الأخص فيما يتعلق بمسألة الإمامة. ولعل من قرأ الفلسفة الإسماعيلية التي بدأت بواكيرها تتفتح في القرن الخامس الهجري، يستطيع ملاحظة الشبه بين أسلوب فلاسفة الإسماعيلية وأسلوبها. فهل قام بوضعها أحد المفكرين الإسماعيليين ممن أرادوا إعطاء طابع إسماعيلي للرسائل؟ إن الأمر غير مستبعد، لاسيما وأن الأفكار الإسماعيلية التي يقال عن وجودها في الرسائل مبثوثة في هذه الرسالة بالذات. أما عن ورود ذكر الرسالة الجامعة في أكثر من موضع في الرسائل، فيمكن تفسيره في هذه الحالة، بأن النُّسَّاخ الذين بدأوا بعد ذلك بنسخ الرسالة الجامعة هذه إلى جانب الرسائل الأصلية، قد حشروا عنوان الرسالة الجامعة إلى جانب بقية العناوين. هذه اللمسة التحريرية على الرسائل تغدو ممكنة إذا عرفنا أن الحلقات الإسماعيلية هي التي صارت معنية فيما بعد بتوريق وتداول الرسائل، بعد زوال تنظيم إخوان الصفاء.

نأتي الآن إلى مضمون الرسائل وموضوعاتها ومنهج الإخوان في صياغتها. فقد تكلم الإخوان في شتى فروع المعارف الفلسفية والعلمية، في زمن لم يكن فيه العلم قد استقل عن الفلسفة. وعلى حد قول التوحيدي فإن الإخوان «صنفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة علميِّها وعمليِّها». فلقد كتبوا في علم العدد، والمنطق، والفلك، والطبيعيات، والجغرافيا، والبيئة الأرضية، وعلم النفس، والإلهيات، وذلك بأسلوب لا يصعب حتى على قارئ العربية الحديث. يقولون في الرسالة 15: «عمِلْنا في هذه الرسائل، وأوجزنا فيها القول، شبه المدخل والمقدمات، لكيما يَقْرُب على المتعلمين فهمها، ويسهل على المبتدئين النظر فيها». ويقولون في الرسالة الأولى إن الفلاسفة «لما بحثوا عن علم النفس بقرائح قلوبهم، واستخرجوا معرفة جوهرها بنتائج عقولهم، دعاهم ذلك إلى تصنيف الكتب الفلسفية. ولكنهم لما طولوا الخُطب فيها، ونَقَلها من لغة إلى لغة من لم يكن فهم معانيها ولا عرف أغراض مؤلفيها، انغلق على الناظرين في تلك الكتب فهم معانيها، وثَقُلت على الباحثين أغراض مصنفيها. ونحن قد أخذنا لُبَّ معانيها وأقصى أغراض واضعيها، وأوردناها بأوجز ما يكون من الاختصار في اثنتين وخمسين رسالة». ولكن الإخوان لم يقصدوا إلى إنتاج موسوعة معرفية، وهي الصفة التي تُلصق بالرسائل من قِبَل معظم الباحثين، بقدر ما قصدوا إلى سعادة الإنسان في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى؛ وهذه السعادة تبتدئ باستلام طريق المعرفة.

وضع الإخوان رسائلهم في أربعة أقسام، يختص كل قسم منها بموضوع من موضوعات الفلسفة. ويبدو أن كل واحد من الأربعة الذين يتربعون على قمة الهرم التنظيمي، كان مسؤولاً عن إعداد قسم من هذه الأقسام، أما الرسالة الجامعة، فقد أفردوا لها مجلداً خاصاً يستغرق في الطبعات الحديثة نحو 350 صفحة.

ولكن على الرغم من هذا التقسيم المنهجي للرسائل وتوزيعها على أربعة أقسام، لكل قسم منها موضوعه الخاص ولكل رسالة فيه موضوعها أيضاً، إلا أن الإخوان لم يتقيدوا بهذا التقسيم؛ فهم لا يستنفدون الموضوع الواحد في رسالة واحد أو قسم بعينه، بل نراهم يعودون إليه في رسائل أخرى وقسم آخر، لمزيد من المعالجة والتطوير، أو قد يكررون حرفياً ما قالوه سابقاً دون تغيير؛ الأمر الذي يؤكد تعدد المؤلفين، كما يؤكد ما أوردتُه سابقاً عن وجود مرجع مشترك لهم سابق على كتابة الرسائل. وينجم عن ذلك عدم اقتصار الرسالة الواحدة على موضوعها المعلن في العنوان، واحتوائها على الكثير من الاستطرادات التي تعالج أفكاراً خارجة عن السياق. وهذه في رأيي أبرز الصعوبات التي تواجه قارئ الرسائل، الذي لا يستطيع الإحاطة بأي موضوع تعالجه، أو فهم جانب من جوانب مذهب الإخوان إلا بعد الانتهاء من قراءة الرسائل، وكان على قدر من النباهة يمكّنه من ربط شتات الأفكار والتأليف فيما بينها عبر كل مرحلة من المراحل.

يقوم مذهب الإخوان على التوفيق بين الدين والفلسفة، وهو طريق اختطه قبلهم الفيلسوف الكِندي، ولكنهم كانوا أول من وصل به إلى أقصى غاياته. فإذا كان على المرء أن يبدأ أولاً بالإيمان الذي هو التصديق والإقرار ما أخبر الأنبياء، إلا أن الإنسان العاقل لا يلبث حتى يضع إيمانه هذا موضع التفكير العقلي. وهنا يأتي دور الفلسفة، وطلبُ المعارف الحقيقة التي تقود إلى تصديق العقل بعد تصديق القلب. نقرأ في الرسالة 46: «ومن أجل هذا دعت الأنبياء أممها إلى الإقرار أولاً، ثم طالبوهم بالتصديق بعد البيان، ثم حثوهم على طلب المعارف الحقيقية. والدليل على صحة ما قلنا، قوله عز وجل: «الَّذِيْنَ يُؤْمِنُوْنَ بِالْغَيْبِ»، ولم يقل الذين يعلمون بالغيب؛ ثم حثهم على طلب العلم بقوله: «فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَلْبَاب»؛ ثم مدحهم فقال: «... يَرْفَعُ اللهُ الَّذِيْنَ آمَنُوا مِنْكِمْ وَالَّذِيْنَ أُوْتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ...» فكفى بهذا فرقاً بين العلم والإيمان».

كما يقوم مذهب الإخوان على التوفيق بين الأديان، لأن في كل منها جانب من الحقيقة. يقولون في الرسالة 42: «فاعلمْ أن الحق في كل دين موجود، وعلى كل لسانٍ جارٍ، وأن الشُّبهة دخولها على كل إنسان جائز ممكن، فاجتهد يا أخي أن تبين الحق لكل صاحب دين ومذهب مما هو في يده، أو مما هو متمسك به، وتكشف الشبهة التي دخلت عليه، إن كنت تحسن هذه الصناعة... ثم اعلمْ أن الأنبياء، عليهم السلام، لا يختلفون فيما يعتقدون من الدين سراً وعلانية... وأما الشرائع التي هي أوامر ونواهٍ وأحكام وسنن، فهم فيها مختلفون... ثم اعلمْ أن اختلاف الشرائع ليس بضارٍّ، إذا كان الدين واحداً» (42: 3، 486-487، 501).

من هنا، فإن التعصب هو آفة العقول يعميها عن رؤية الحقائق: «... ثم اعلمْ أنه ينبغي لمن يريد أن يعرف حقائق الأشياء أن يبحث أولاً عن علل الموجودات وأسباب المخلوقات، وأن يكون له قلب فارغ من الهموم والغموم والأمور الدنيوية... ويكون غير متعصب لمذهب أو على مذهب، لأن العصبية هي الهوى، والهوى يعمي عين العقل، وينهى عن إدراك الحقائق» (40: 3، 376).

من هنا، فإن مذهب الإخوان هو استمرار وتكملة لكل معارف الإنسانية، وعلومهم مأخوذة من أربعة مصادر رئيسة: «أحدها الكتب المصنفة على ألسنة الحكماء والفلاسفة، من الرياضيات والطبيعيات؛ والآخر الكتب المنزلة التي جاءت بها الأنبياء...؛ والثالث الكتب الطبيعية، وهي صور أشكال الموجودات بما هي عليه الآن من تركيب الأفلاك، وأقسام البروج، وحركات الكواكب ومقادير أجرامها، وتصاريف الزمان، واستحالة الأركان، وفنون الكائنات من المعادن والحيوان والنبات..؛ والنوع الرابع الكتب الإلهية التي لا يمسها إلا المطهرون» (45: 4، 42).

لقد تأثر الإخوان بالفلسفة اليونانية، ووضعوا فيثاغورث وأفلاطون وأرسطو في درجة تعادل درجة الأنبياء، واستشهدوا بأقوالهم في سياق واحد مع أقوال عيسى المسيح والرسول الكريم؛ كما تأثروا بالفلسفة الأفلاطونية الحديثة التي نشطت في المشرق العربي في العصر الهيلينستي، لاسيما فيما يتعلق بنظرية الفيض الإلهي التي تفسر كيفية ظهور العالم عن الله؛ وصبت في إنائهم الفكري تيارات قادمة من الهند وفارس، والصابئة المحليين في حران وهم أصحاب عقيدة كوكبية تقدس الأجرام السماوية. ولكنهم خرجوا من ذلك كله بمذهب أصيل أسس لغنوصية إسلامية أعطت ثمارها بعد ذلك في الفكر الصوفي، ولدى الفرق الإسلامية ذات الطابع الفلسفي وهي: الإسماعيلية والنصيرية والدرزية.

الإخوان والغنوصية:

الغنوصية مذهب فضفاض لا يقوم على أيديولوجيا دينية متحجرة، أو دوغما مذهبية. وقد بدأت بواكيره في الظهور مع مطالع القرن الأول الميلادي، بتأثير من الأفلاطونية الوسيطة، والتعاليم الهرمزية المنسوبة إلى هرمز المثلث العظمة؛ وهذه التعاليم مبثوثة في ثماني عشرة رسالة تمثل نوعاً من الغنوصية المبكرة، صاغها على ما يبدو عدد من المؤلفين المجهولين الذين ينتمون إلى أخوية روحية تشبه في تنظيمها جماعة إخوان الصفاء. ويظهر في هذه الرسائل الهرمزية عدد من الأفكار المؤسسة للغنوصية، وأهمها مثنوية الإنسان وانقسامه إلى جزء مادي وآخر روحي، حيث يمثل الجسد كل ما هو مادي ومظلم وفانٍ، ويمثل العقل (الذي يتطابق مع الروح) كل ما هو نوراني وحقيقي وخالد، وهو الذي يقود في النهاية إلى الخلاص من سجن المادة، وتُجسِّد فعالياته سعي الروح إلى الانعتاق، ودعوتها إلى العوالم النورانية العليا، إلى الله الذي تدعوه هذه النصوص بالأب الكلي.

جاءت تسمية الغنوصية Gnosticism من الكلمة اليونانية غنوص-Gnosis التي تعني المعرفة الحدسية الباطنية، أو العرفان بمصطلح التصوُّف الإسلامي. فالعارفون هم الغنوصيون -Gnostics الذين يتواصلون مع الحقيقة الكلية عن طريق بصيرتهم الداخلية، أم الآخرون فهم «غير العارفين» الذين يقفون عند ظاهر التعاليم الدينية، ولا ينفذون إلى حقيقتها الباطنية. فإذا كان الطريق إلى الجنة لدى اليهودية هو الالتزام بأحكام الشريعة، ولدى المسيحية هو الإيمان بيسوع المسيح، فإن الخلاص عند الغنوصية يتأتى عن طريق فعالية روحية داخلية تقود إلى معرفة النفس، وفي أعمق مستوياتها تقود إلى معرفة الله ذوقاً وكشفاً وإلهاماً. هذه المعرفة هي التي تحرر الروح الحبيسة في إطار الجسد المادي والعالم المادي الأوسع، لتعود إلى مصدرها حيث كانت قبل الهبوط.

فالغنوصية معتقد خلاصٍ، وكل مفاهيمها وتصوراتها الكونية تتلخّص أخيراً في مفهوم واحد عن التحرر والانعتاق. ولكن الخلاص الغنوصي لن يتأتى عن طريق العبادات الشكلية والطقوس، إذا لم تترافق مع المعرفة وتكون مقدمة له. إن الصراع الرئيس الذي يخوضه الإنسان هو صراع بين المعرفة التي تقود إلى الخلاص، وبين الجهل الذي يبقيه في دورة الميلاد والموت، كلما بلي جسمه وآل إلى الفناء تقمَّصت روحه جسداً آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية إن هي لم تفلح في الانعتاق. من هنا فإن الحكمة القديمة المنقوشة على جدار معبد دلفي في اليونان، والمؤلفة من كلمتين هما «اعرفْ نفسك» تتخذ أهمية مركزية في كل النظم القائمة على المعرفة. فلقد استخدمتها الأفلاطونية وفسرتها بمعرفة النفس الإلهية في داخل الإنسان، وكذلك الهرمزية التي نقرأ في إحدى رسائلها: «إن الله الآب الذي جاء منه الإنسان هو نور وحياة، فإذا عرفت أنه نور وحياة وأنك صدرتَ عنه، فسوف تُستعاد إلى الحياة مرة أخرى».

فعلى عكس الزرادشتية وبقية النظم الدينية التي تبشّر ببعث أجساد الموتى في اليوم الأخير، فإن البعث الذي تبشّر به الغنوصية هو بعث الأرواح؛ إنه خلاص من الجسد ومن العالم في آن معاً، لا من الخطيئة ومن الذنوب. وإذا كان هنالك من مفهوم عن الخطيئة الأصلية في العقيدة الغنوصية، فإنه سقوط الروح في عالم المادة، وإذا كان هنالك من مفهوم عن التوبة، فإنه وعي الإنسان للقبس الإلهي في داخله، وبحثه عن الوحدة المفقودة. مع انبعاث هذا الوعي تبتدئ الروح رحلة خلاصها وانعتاقها، ويتحول الموت من بوابة تؤدي إلى القبر أو إلى دورة تناسخ جديدة، إلى بوابة تؤدي إلى العالم الروحاني الأعلى.

وفي هذا يقول إخوان الصفاء بأن موت الجسد هو ولادة الروح؛ ويشبهون ملاك الموت بقابلة الأرواح لأنه يستولد النفس (= الروح) من الجسد كما تستولد القابلة الجنين من الرحم. ولهم في ذلك تشبيهات أخرى؛ فالنفوس تشبه الدُّرَّ بينما تشبه الأجساد الصدف، وما الموت سوى استخراج الدُّرَّة من الصدفة ليُستأنف بها أمر آخر. والنفوس أيضاً تشبه لُبَّ الحَبَّ إذا نضجت السنابل وآن أوان الحصاد، حيث يُرمى بقشورها ويؤخذ لبُّها ويستأنف بها آمر آخر (الرسالة 5).

يقوم مذهب الإخوان على عدد من الأفكار الغنوصية الأساسية وأهمها:

1- إن الروح الإنسانية، أو النفس كما يفضلون تسميتها، هي شرارة من النور الإلهي الأسمى تم احتباسها في الجسد المادي. وبمصطلح الإخوان المستمد من نظريتهم في الخلق والتكوين، فإن النفس الجزئية التي تسكن الجسد الإنساني هي قوة منبعثة وفائضة عن النفس الكلية، والنفس الكلية هي فيض فائض من العقل الكلي، الذي فاض بدوره عن الذات الإلهية. وقد أُهبطت هذه النفس الجزئية إلى مركز العالم المادي، وهو الأرض، واتحدت بالأجسام الجزئية.

2- ويتبع ذلك أن الإنسان عبارة عن جملة مجموعة من جوهرين متباينين: جسد جسماني، ونفس روحانية. فالصفات المختصة بالجسد بمجرده، هي أنه جوهر مادي طبيعي؛ وهو منفسدٌ ومتغير ومستحيل بعد الموت إلى العناصر المادية التي تكوَّن منها. أما الصفات المختصة بالنفس بمجردها، فهي أنها جوهرة روحانية، سماوية، نورانية، حية بذاتها، فعَّالة في الجسد ومستعملة له إلى وقت معلوم، ثم إنها تاركة له وراجعة إلى عنصرها ومبدئها.

3- إن فكاك النفس من أسر العالم المادي وسجن الجسد، لن يتأتى لها إلا بمعرفتها لأصلها، وصحوها من حالة الجهل والنسيان التي آلت إليها عقب ارتباطها بالجسد، والتي يدعوها الإخوان بنوم الغفلة ورقدة الجهالة.

4- إن النفس العارفة ترتقي عبر المراتب الروحية صعوداً إلى أعلى رتبة إنسانية تهيئها للانعتاق النهائي بعد الموت. ولكن الانعتاق الحقيقي، يتحقق لها قبل ذلك في لحظة الصحو والانتباه التي تكشف البصيرة. والبعث، على ما يقول الإخوان، هو انتباه النفوس من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، والقيامة هي قيامة النفس من قبرها وهو الجسد، أما الجسد فيسقط ولا يقوم أبداً.

5- إن النفوس العارفة التي فارقت أجسادها بالموت، لن تُرد إليها إثر قيامة عامة للأموات، وإنما تبقى سعيدة ملتذة حرة في عالم الأفلاك، أما النفوس غير العارفة فتبقى بعد مفارقة أجسادها حبيسة في العالم المادي الأسفل. فهاتان هما الجنة والنار اللتان تدومان ما دامت السماء والأرض، فإذا حان وقت دمار العالم انسحبت منه النفس الكلية فبطلت حركته وآل إلى الفناء، وحُشرت النفوس الجزئية: أي اجتمعت بالنفس الكلية واتحدت معها، والنفس الكلية تلتحق بالعقل الكلي الذي يلتحق بباريه عز وجل.

6- إن المهمة الملقاة على عاتق الإنسان الذي انفتحت بصيرته على الحقائق، هي الكدح في سبيل تنقية نفسه وتطهيرها من أجل تحضيرها للانعتاق، وفي الوقت نفسه مد يد العون إلى النفوس الجاهلة والأخذ بيدها على طريق المعرفة. وهو إذ يبدأ بفهم الشريعة وتطبيقها والالتزام بما ورد فيها من أوامر ونواهٍ، عليه أن يدرك أنَّ الشريعة وحدها لا تحقق الانعتاق، وأنه لا بد من اقترانها بالكدح المعرفي الذي يحوّل النفس الغافلة إلى نفس منتبهة.

على أن الإخوان يختلفون مع الغنوصية التقليدية في أكثر من نظرة وممارسة. فالعالم عند الغنوصيين شر كله ولا سبيل إلى إصلاحه. من هنا يأتي رفضهم للعالم ومحاولة الانسحاب منه. وبما أن الجسد ينتمي إلى العالم المادي علينا أن نرفضه أيضاً ونتنكر لشهواته ورغباته؛ حتى إن بعض الفرق الغنوصية قد شجعت على ترك الزواج والإنجاب والعلاقات الجنسية. أما الإخوان فلا يرون أن العالم شر بطبيعته لأنه من صنع الله، بل هو ناقص، ونقصه ناجم عن كونه الحلقة الأخيرة من سلسلة الفيض الإلهي، حيث قصَّرت كل حلقة من هذه السلسلة عن اللحاق بسابقتها وعجزت عن التماثل معها، وصولاً إلى الحلقة المادية الدنيا التي تلي فلك القمر، وهي أكثر الحلقات نقصاً وعجزاً. ولكن هذا العالم المادي الأدنى على نقصه وكونه سجناً للنفوس الهابطة، إلا أنه قدم لها في الوقت نفسه فرصة للانفلات من عقاله عن طريق المعرفة. والإخوان يُشَبِّهون المدة التي تقضيها النفس الجزئية في العالم بتلك المدة التي يقضيها الجنين في الرحم؛ فكما أن الجنين لا يستطيع الانتفاع بالحياة إلا بعد بقائه المدة الكافية في الرحم لاستكمال الخِلْقَة وتتميم الأعضاء، كذلك هو حال الإنسان الذي يتوجب عليه قضاء المدة اللازمة في هذا العالم من أجل التعلم والتبصر والارتقاء، ومن ثم الانتفاع بالحياة الثانية.

وينجم عن ذلك أن الإخوان، على ذمِّهم للجسد، لا يجدون فيه شراً إلا بالنسبة إلى أولئك الذين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم مجرد جسد، فينغمسون في اللذات وتلبية دواعي الشهوات، غافلين عن نفوسهم وعن معادِها ونشأتها الثانية. أما العارفون الذي يدركون مثنوية الجسد والنفس ويعون العلاقة الجدلية بينهما، فإنهم في موقع السادة لأجسادهم لا في موقع العبيد؛ ويتحول الجسد عندهم، بما فيه من أعضاء ووظائف نفسية وعصبية، إلى أداة للمعرفة المنجية. فالجسد على ما يكرر الإخوان هو الصراط المستقيم الذي تجوز عليه النفس لتصل إلى جنات الخلد. والنفوس الجزئية: «إنما ربطت بأجسادها التي هي أجساد جزئية، كيما تكْمُل فضائلها وتُخرج كل ما في القوة والإمكان من الفضائل والخيرات إلى الفعل والظهور، ولم يمكن ذلك إلا بارتباطها بهذه الأجساد وتدبيراتها لها» (الرسالة 9).

فمذهب الإخوان، على عكس الغنوصية التقليدية، مذهب تفاؤلي؛ وهم إذ يدركون ما في العالم من قصور ونقص، يؤمنون بالقدرة على إصلاحه. وهم ينطلقون من قاعدة نقدية واسعة للمجتمع ومؤسساته وللأخلاق السائدة، من أجل تحقيق هذا الإصلاح المنشود.

كما تختلف غنوصية الإخوان في وسائل وأساليب تحقيق المعرفة. فبينما تركز الغنوصية التقليدية على المعرفة الصوفية التي يحققها التأمل الباطني في معزل عن العالم ومؤثراته، فإن الإخوان يرون أن الثمرة الأخيرة للمعرفة، وهي معرفة النفس ومعرفة الله، لن تتأتى قبل معرفة العالم ومجرياته، ومعرفة الجسد الإنساني بجميع وظائفه، لأنه مسكن النفس ووسيلتها إلى الانعتاق.

من هنا، فقد ابتدأ الإخوان رسائلهم بأكثر العلوم تجريداً وهو الرياضيات وعلم العدد؛ ثم انتقلوا إلى الهندسة؛ ثم إلى الموسيقى التي عدُّوها علماً رياضياً؛ ثم وجَّهوا أنظارهم إلى السماء ورسموا خارطة للكون؛ ثم عادوا إلى الغلاف الجوي ورصدوا ظواهره من بروق وروعود وحركة رياح وشهب وما إليها؛ ومنه هبطوا إلى سطح الأرض فدرسوا بيئاتها وتضاريسها ومناخاتها ونباتها وحيوانها، وأدركوا كرويتها فقاسوا قطرها ومحيطها، وحددوا خط الاستواء والمدارين، وخطوط الطول والعرض؛ ثم نزلوا إلى أعماقها وحددوا مركزها واعتبروه مركز الأثقال جميعها مشيرين بذلك بشكل عام إلى قانون الجاذبية، ووصفوا معادنها وتركيبها العمقي؛ وتوقفوا ملياً عند جسم الإنسان فوصفوا عملياته البيولوجية ووظائف أعضائه، واكتشفوا الدورة الدموية والسيالات العصبية، ووصفوا آليات السمع والبصر والشم والحس، وتحدثوا عن مراكز الدماغ ووظائفها، والعمليات النفسية من إدراك وإحساس وما إليها، وبسَّطوا المنطق الأرسطي والبرهان الفلسفي وطبقوا ذلك في مناهجهم البحثية، ووضعوا الأسس الأولى للنظرية الداروينية في ارتقاء الأنواع والتطور

بشكل عام. وفي غمار ذلك كانوا يبسطون مذهبهم ويدعون إليه، إثر تعليقهم على كل علم من العلوم وظاهرة من ظواهر الطبيعة والكون.

هذه الذخيرة المعرفية للإخوان قد خطفت أبصار الباحثين الذين تصدوا لدراسة الرسائل، فاعتقدوا أنها مقصودة لذاتها، وأشبعوا فروع المعرفة التي تكلم فيها الإخوان بحثاً وتحليلاً، ولكنهم لم يولوا مذهب الإخوان ما يستحق من عناية ودراسة، وبعضهم لم يتلمس خيوطه المنسوجة ببطء وعناية عبر الرسائل، سواء بإفصاح أم بتكتم مفصح لمن يريد الغوص إلى بواطن المعاني.

لقد أعطانا الإخوان نسخة إسلامية معدلة عن المذهب الغنوصي المشرقي. ونحن إذا لم نعِ هذه الحقيقة لن نكون قادرين على فك الشيفرات المبثوثة في رسائلهم.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

دراسات في علم الأديان المقارن: تاريخ المصحف الشريف

22-أيار-2021

هل كان موسى مصرياً

08-أيار-2021

هل كان موسى مصرياً

01-أيار-2021

الديانة الزرادشتية وميلاد الشيطان

24-نيسان-2021

في رمزية حجر الكعبة الأسود

13-شباط-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow