Alef Logo
الغرفة 13
              

هل الرد على طرابيشي يحل المشكل؟

أبو يعرب المرزوقي

2008-08-02


كان رد الأستاذ عايض الدوسري على ما يقترحه طرابيشي من فهم للعلمانية في الإسلام ردا مفحما بكل معاني الكلمة. فهو عالج مقترحه من حيث العلل الفاعلة في صاحبه نفسيا (قلبا لطريقة طرابيشي عليه) واجتماعيا (موقف الأقلية) ومن حيث العلل الغائية للدعوة التي يمثلها هذا المقترح (الأجندة الخفية للأقليات وربما للاستعمار والحرب على الإسلام). ولعل أعمق ما في العلاج هو ما كان أكثره موضوعية لبعده عن الكلام في دوافع الباحث وغايته وتركيزه على علمه بما يتكلم فيه. فقد كان بيان القصور التصوري والخطأ التأويلي عند صاحب المقترح شديد الوضوح والإقناع. فقد بين أن طرابيشي جاهل بأصل التناسب الجوهري بين النظرة المسيحية (المحرفة) والعلمانية أعني الفصل بين مملكة السماء ومملكة الأرض وبين أنه عابث في طلب أصل التنافر الجوهري بين النظرة الإسلامية والعلمانية لغفلته عن الوصل بين المملكتين في المنظور القرآني.
ورغم أني وبصورة مبدئية لا أنوي الدخول في جدل مع طرابيشي لكوني لم أتعود الرد على من فكرهم من جنس فكره في هذه المسألة أو في غيرها فإني مع ذلك اتبنى رد الأستاذ الدوسري كاملا لأني ما كنت لأرد بصورة أخرى ولا أرى ما يمكن أن يضاف إلى علاج الأستاذ الدوسري الذي استوفي الكلام في وجوه المسألة عند حصرها في إضافتها إلى المردود عليه. وقبل أن أبين طبيعة المشكل الذي أريد الكلام عليه لا بد من ذكر علتي عدم الرد المبدئي على ما يشبه هذا الفكر المزعوم:
فأولا ليس في ما يكتبه طرابيشي من علم يستحق أن يرد عليه فكل ما يبدر منه خيارات إيديولوجية ذاتية توالت مناوساته فيها بالصورة التي يمكن القول بحق إن الأستاذ الدوسري قد كان شديد اللطف في وصفه إياها. وكان قلب منهجه عليه في نقده للجابري وحنفي كافيا حتى وإن كانت حجة الأقلية ليست مما يستهان به.
وثانيا لأن الاجتهاد في دين لا ينتسب إليه المجتهد يمكن أن يكون مقبولا إذا كان الأمر مقصورا على البحث العلمي في أحداثه وآثاره ودلالات رموزه (كما يفعل المستشرقون مثلا). أما محاولة الانتقال إلى الخيارات العملية في التعامل الفعلي مع مقدسات لا ينتسب إليها صاحب الرأي فإن ذلك يصبح عدوانا موصوفا أقل ما يقال فيه إنه عبارة عن فساد في الذوق حتى لو كان المقدم عليه منتسبا إلى أقلية تعيش بين أهله.
فما علة الكتابة في المسألة إذن؟ لا أكتب ردا على الطرابيشي ولا على أي علماني لم يفهم الفكر الغربي فضلا عن فهم الإسلام بل لمناقشة الأستاذ الدوسري رغم أن كل ما جاء في رده ليس فيه ما يرد لو كان الأمر مقصورا على ما رد به على الطرابيشي. فما جاء في نصه من المعاني التي حاولت تلخيصها ما كنت لأكتب غيرها لولا علتي عدم الرد المبدئيتين اللتين أشرت إليهما. إنما أكتب لأبحث مع الأستاذ الدوسري في جوهر المشكل الذي لا ينبغي أن يغفلنا عنه الرد على العلمانيين لأنه يبقى على ما كان عليه حتى بعد محاولته التي أبعدت المشغبات والمكدرات الناتجة عن التطفل في قضايا التحديث الإسلامي من كل من هب ودب.
ما أريد مناقشته مع الأستاذ الدوسري هو المشكل التالي: هل يمكن علاج مسألة المنزلة التي يشغلها الدين في حياة الإنسان من منطلق الموقفين التقليديين أعني موقف الفصل العلماني وموقف الوصل الإسلامي؟فماذا لو تبين أن الأمرين كلاهما فرضية مدرسية لا وجود لها في الواقع الفعلي وأن المسألة ينبغي أن تطرح من منظور آخر يمكن أن يساعد على الحل ؟
ولنبدأ فنحدد المفصول والموصول ما هو ؟ فالتحديد الدقيق الذي يمكن بصوغه المشكل من استشراف الحل الذي يقربنا من قيم القرآن الكريم يجعل المسألة ذات مستويين كلاهما مضاعف ومُرجع إلى المستوى الثاني:
المستوى الأول من منطلق الحل المسيحي (المفترض):
1-هل الفصل المسيحي بين حياتين روحية وزمانية ممكن فضلا عن أن يكون مطلوبا في حياة سوية ؟ فإذا تبين امتناعه ثبت أنه لا يمكن أن يكون إلا من ثمرات التحريف في فكر المسيحيين.
2-وعن هذا السؤال ينتج السؤال التالي حول مآل الحل الإسلامي مآله الذي قد لا يكون ما قصده القرآن الكريم: هل الحل الإسلامي برفض هذا الفصل بين الحياتين يقتضي ضرورة الوصل بين الديني والسياسي ؟
المستوى الثاني من منطلق الحل الإسلامي (المفترض):
1-وهل الوصل الإسلامي بين سلطتين دينية وسياسية ممكن فضلا عن أن يكون مطلوبا في نظام سوي؟ فإذا تبين امتناعه ثبت أنه لا يمكن أن يكون إلا من تمرات الانحراف في فكرنا.
2-وعن هذا السؤال ينتج السؤال التالي حول مآل الحل المسيحي مآله الذي قد لا يكون ما قصده ما صح من أنجيل المسيح عليه السلام: هل الفصل بين السلطتين يقتضي ضرورة الفصل بين الحياتين ؟
وما أريد أن أدعو الأستاذ إلى مناقشته إذا كنا نطلب دواء للأدواء التي تعاني منها الأمة إلى حد صار يتطاول عليها كل أفاقي العالم هو مسألة وحيدة: تحديد الجامع بين هذين المستويين المضاعفين اللذين يحيل كل منهما إلى الآخر ما يقتضي تجاوز المقابلة بين المنطلقين لأن القرآن لم يأت للمسلمين وحدهم بل لكل البشرية بل ولكل مكلف من الموجودات. وهذا الجامع هو حسب رأيي قضية واحدة تقبل الرد إلى هذا السؤال: إذا كانت الحياة واحدة ولا تقبل الفصل بين وجهيها الروحي والزماني رغم كونهما وجهين مختلفين منها (حقيقة قرآنية وإصلاح للتحريف السابق) ألا يكون حصر السلطان عليهما في يد واحدة ضارا بكلا الوجهين سواء كانت وحدة السلطان مباشرة (يد واحدة في نظام استبدادي صريح) أو وحدة السلطان بصورة غير مباشرة (تبعية السلطان الروحي للسلطان الزماني أو العكس في كل نظام استبدادي غير صريح)؟ وإذن فهذه المسألة تفترض إثبات الحقيقتين التاليتين:
1-الفصل بين الحياتين مستحيل وضار لأنه يؤدي إلى ضده بصورتين مختلفتين: تسيطر الحياة الدنيوية إما بصورة صريحة أو بصورة منافقة فيزول الدين لأنه بعد هذا الفصل يفقد موضوعه أو مجال فعله الحقيقي لأن الإنسان مكلف بالاستخلاف في الدنيا وليس بالانقطاع عنها: تصوير الحياة.
2-الوصل بين السلطانين مستحيل وضار لأنه يؤدي إلى ضده: تسيطر السلطة الزمانية إما بصورة صريحة أو بصورة منافقة فيزول الدين لأنه بعد الوصل يتحول إلى أداة خالصة فيقد تعالي غاياته على أدواته ومجال سعيه الحقيقي لأن السياسة مكلفة بتحقيق قيم متعالية عليها: مادة لا صورة.
والنتيجة هي ضرورة البحث عن الحل القرآني الذي لا يمكن أن يكون ما يمارسه المسلمون اليوم وعن الحل الإنجيلي الذي لا يمكن أن يكون ما يمارسه المسيحيون: فكلانا إذن قد حرف دينه هم بزعم الفصل بين الحياتين نتيجة حتمية لضرورة الفصل بين السلطانين ونحن بزعم الوصل بين السلطانين نتجية حتيمة للوصل بين الحياتين. والعلة واحدة في الحالتين: قيس الناس العاديين على الأنبياء. فليس من شك أن الرسول الأكرم كان قادرا على الوصل بين السلطتين دون أن تضيم إحداهما الأخرى خاصة وهو قد كان مؤسس الدولة فضلا عن كونه مبلغ الرسالة. وليس من شك في أن المسيح عليه السلام كان قادرا على الفصل بين الحياتين خاصة وهو قد جاء في ظل استعمار واحتلال أجنبي مع الفساد الطاغي على الطبقة الدينية اليهودية.
وفرضيتي الأساسية هي التالية: لا يمكن الوصل بين الحياتين إلا بالفصل بين السلطتين وإذا وُصلت السلطتان فصلت الحياتان حتما فيكون الحل في الوصل بين الحياتين والفصل بين السلطانين المعنوي والرمزي من جهة والحكمي والفعلي من جهة ثانية. وللفصل بين السلطتين مستويان:
المستوى الأول: فصل إحداهما عن الأخرى. فالدين سلطة تربية خلقية. والسياسة سلطة حكم قانونية: وتناغمهما مع استقلالهما إحداهما عن الأخرى يسميه ابن خلدون صورة العمران. أولاهما وازع داخلي والثانية وازع خارجي بمصطلحه. فلا ينبغي أن يتحدا في يد واحدة مباشرة أو بصورة غير مباشرة كأن تكون السلطة التربوية ذات نفوذ فعلي لا معنوي فتصبح مفتشة في عقائد الناس بخلاف ما نبهت إليه الآية الكريمة"ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين" (النحل 125) أو تابعة للسلطة السياسية فتكون مجرد سلطة تبرير إيديولوجي للحكم أو العكس فيصبح الحكم أداة تفتيش عقدي في ضمائر المؤمنين.
المستوى الثاني: تحديد مجاليهما حتى لا يقع تحريف الدين بجعل سلطة النخب الدينية تصبح بديلا من الأخلاق أي من سلطة الجماعة الروحية (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين وليس شرطة رسمية) وحتى لا نستبدل سلطان الضمير بسلطان العلماء فلا يكون المؤمن مكلفا حقا بل هو تابع لمكلف وتحريف السياسة بجعل سلطة النخب السياسية تصبح بديلا من الشرعية أي من سلطة الجماعة الزمانية (رعاية المصالح فرض عين وليس مهمة نخب حزبية) فلا يكون المواطن مواطنا حرا بل تابعا لسيد.
وحاصل القول ومجمله إنه لا يكفي أن نرد على دعاة العلمانية بل لا بد من علاج المشكل القائم عندنا بدءا بالاعتراف بوجوده ثم تحديد طبيعته والشروع في علاجه من منطلق الفهم الأقرب إلى قيم القرآن ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. كيف فقدنا معاني العلاقة بين الحياتين وبين السلطانين فابتعدنا عن القرآن حتى صار العلماني محقا في بعض مزاعمه خلطا بين اتهام انحراف المسلمين عن قيم القرآن وقيم القرآن لفرط ما حصل عندنا من تحول السلطة التربوية التي هي خلقية معنوية إلى سلطة سياسية لها نفوذ فعلي بل ولها شرطتها وتحولت السلطة السياسية التي هي قانونية حكمية إلى سلطة روحية لها قدسيتها ! لا بد من نزع نفوذ الأولى الفعلي حتى تكون سلطة معنوية روحية ونزع قدسية الثانية الوهمية حتى تصبح في خدمة المواطنين وليست سيدة عليهم:
فالثانية مجرد أداة للشرعية الوحيدة التي هي إرادة الأمة أعني الإرادة التي اختارت أن يكون الإسلام شرعها.
والأولى مجرد أداة للقدسية الوحيدة التي هي عقيدة الأمة التي اختارت قيم القرآن معايير لسلوكها في الجهر والعلن.
وما لم يحصل هذان الفصلان بين السلطتين وفيهما وهما فصلان لا علاقة لهما بمسألة العلمانية لأنهما من جوهر القيم القرآنية فإن الدين قد يتحول إلى نفاق جماعي في غياب حرية المعتقد القرآنية التي هي شرط فاعلية الضمير وتتحول السياسة إلى عبودية جماعية في غياب ما حددته الآية 38 من الشورى ولا يبقى إلا الحلف بين هامان وفرعون وتزول القدسية والشرعية في آن. والله ورسوله أعلم وأحكم.



















تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

هل الرد على طرابيشي يحل المشكل؟

02-آب-2008

تقارير التنمية العربية ما دلالتها ؟

01-تموز-2008

معركة الحجاب ما دلالتها ؟

19-نيسان-2008

نعم: الحق أحق أن يتبع (بين الأستاذين الطالبي والشرفي)

07-نيسان-2008

نحن وفن الكاريكاتور ؟

01-نيسان-2008

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow