Alef Logo
دراسات
              

معركة الحجاب ما دلالتها ؟

أبو يعرب المرزوقي

2008-04-19

تمهيد: قد يكون من المجازفة أن يحاول المرء الكلام على معركة الحجاب كلاما يدعي فيه تجاوز سطح المعركة المحتدمة بين الأصوليتين العلمانية والدينية لفهم أبعادها الرمزية العميقة. فأصحاب الموقفين يحول الوطيس دونهم والتنبه إلى ما وراء الحمية الغالبة عليهم فلا يفصحون عن علل المعركة ذاتها. لذلك فمواقفهم ليست فتحا لأبواب الحوار بل هي غلق لها وغالبا ما تنتهي إلى الإرغام المتبادل والتنافي المطلق فلا يحسم الأمر إلا في ساحات القتال بدل الجدال: الديني يتمترس بالرأي العام الشعبي زاعما أنه يدافع عن أحد مقومات حقوق الله والعلماني يتمترس بالرأي العام الغربي زاعما أنه يدافع عن أحد مقومات حقوق الإنسان.
لذلك فإني سأحاول تجاوز المواقف العرية عن التعليل لأحدد دلالة المعركة من منظور الصفين بما هو ممكن من الموضوعية لأن هدفي ليس نصرة أحد الصفين -خاصة وكلاهما يوظف ما يتكلم عليه من حقوق لغايات سياسية بدائية لا علاقة لها بالله ولا بالإنسان-بل علاج المشكل ذاته حتى وإن كنت أعلم أن أحد الصفين أو كليهما سيتهمني بالدفاع عن موقف الصف الآخر. وينبغي أن أبدأ فأرفض شعارين يلغي أصحابهما محدديْ الظرف الإنساني أعني طبيعة الإشكال وظرف حصوله:
فأما الشعار الأول فهو الذي ينطلق من وضعية الأمة الحرجة ليكرر حجة لا صوت يعلو على صوت المعركة مع الغزاة وهي الحجة السهلة التي يحاول أن يسكب بها كل من يحاول مناقشة قضايا الخيارات القيمية في مجتمعاتنا ظنا أن الصراع مع أعداء الخارج يلغي الصراع القيمي في الداخل. فهذا الموقف يلغي الحياة الخلقية والفكرية والجمالية أو هو على الأقل يجمدها باسم الفراغ للمعركة.
وأما الشعار الثاني فهو الذي يعتبر أصحابه المعركة مع الغزاة مجرد تعلة ويصورون لنا أنها لا حقيقة إلا في أذهان مرضى الهوية. لذلك فهم يتجاهلون الظرفية العربية الإسلامية الحالية ولا يرون إلا معارك القيم فيجعلونها تطغى إلى حد يسخِّفون به كل من يحاول أن يذكر بضرورة التصدى للأعداء في توظيفهم للصراعات الداخلية التي هي طبيعية ما لم تصل إلى حد الحلف مع العدو في حربه النفسية على الأمة.
ما يخفيه التهوين والشعارات
وقد نتج عن هذين الشعارين ضرب من التهوين بالإشكالية التي يرمز إليها الحجاب تهوين يشارك فيه غلاة الصفين. فصاحب الموقف العلماني الغالي يزعم أن الأمر لا يتجاوز الكلام على خرقة توضع على الرأس ولا علاقة له بالمسائل الجوهرية في حياة الناس لولا تزمت بعض الدينيين. وصاحب الموقف الديني الغالي يزعم أن الأمر لا يتجاوز تحلل بعض العلمانيين وتقليد المغلوب للغالب. وهذا التهوين يخفي ما يعبر عنه الحزبان من أزمة حقيقية تحول دون التعايش بين ثقافتين ليس لدور الرؤوس المشتغلة حنقا فيها إلا دور عرض الحمى المعبر عن داء عضال ينبغي الكشف عنه.
ومع ذلك فالتهوين على أهميته أقل خطرا من الشعارين اللذين يخفيان تردي حال حياتنا الروحية والقيمية ترديا يكاد يقضي على حياة الأمة السوية. فهذان الشعاران يفسدان حياة الأمة الفكرية والروحية فيحولان دون فهم دلالة المعارك الجارية بين نخبها سواء من اختار منها الحل العلماني أو من اختار الحل الديني لقضايا القيم في المجتمع. والحل ليس أمرا سحريا بل ينبغي البحث عنه بعد الاعتراف بأن المعركة مع الغزاة موجودة فعلا ولا يمكن تجاهلها وبأن ذلك لا يمكن أن يلغي المعارك القيمية بين النخب. فمعارك القيم قائمة كذلك ولا يمكن تجاهلها. ومن ثم فلا بد أن نفهم دلالة جريان الأمرين معا ودلالة تجاهل صاحب الشعار الأول معارك القيم ودلالة تجاهل صاحب الشعار الثاني المعركة مع الغزاة.
ولعل المثال الذي اختاره دعاة نزع الخمار من الأمثلة التي توضح المقصود. فهم ضربوا مثال بورقيبة الذي ساعد امرأة تونسية لنزع السفساري بعد الاستقلال متجاهلين أنه هو أيضا من عارض نزع السفساري في الحقبة الاستعمارية. فهو إذن مثال يبين كيف أن معارك القيم لا يمكن أن تجري في المطلق بل هي ذات صلة بالظرف والمناسبة. وفي الحقيقة فإن كل الخيارات الخلقية الشكلية ترد إلى فهم محددات التناسب مع الظرف: تحديد المناسبة هو المعيار الأول والأخير للروية الخلقية ليس عند الفرد فحسب بل وكذلك عند لجماعة. وأما الخيارات الجوهرية التي تتجاوز ما للظرف فيها من دور غالب فهي متعالية على الجدل بين النخب لأنها شرطه عند جميع الأمم السوية كما نبين في هذه العجالة.
الدلالة المنطقية العامة
قبل أن نتكلم في دلالة المعركة نفسها فلنبين أولا أن التناظر العكسي بين الموقفين الأصوليين العلماني والديني يثبت أن كلا الصفين بات متفقا على أن قضايا القيم موضوع سجال عام رغم طابعها الخصوصي كالحال في مسألة الحجاب التي تتعلق باختيار اللباس والرموز العقدية. وفي هذا الأمر يبدو للوهلة الأولى أن العلماني هو الذي تناقض فاقترب من الديني. ذلك أن الديني عندما يجعل أخص خصائص الإنسان أعني تعامله مع بدنه مسألة جدل عام لا يتناقض. أما العلماني فهو يتناقض بمثل هذا العمل خاصة إذا لم يكتف بالسجال بل ينتقل إلى اقتراح الإجراءات القانونية للتعامل معها إذ من المفروض أن لا يتكلم العلماني في المسألة لأنها من خصوصيات المرء التي تخرج عن مسؤولية الشأن العام.
والديني ذاته ليس أقل تناقضا من العلماني. فهو يحتج ضده بالقول إن مسألة اللباس مسألة خاصة وليس يحق للدولة ولا للعلماني أن يناقشها. فيكون معين حججه نقيض تصوره للمسألة ومن ثم فهو لا يستطيع أن يدافع عن الحجاب إلا بشرط أن يقف الموقف العلماني من علاقة الخصوصي بالعمومي. ويمكن من منطلق الحكم بين الطرفين أن يقول المرء: لا بأس من قبول هذا التطور واعتبار اللباس من حيث هو واجهة الوصل بين الخاص والعام قابلا لأن يكون مساحة لقاء بين الحزبين بلجوء كل منهما لموقف الثاني فنفهم تناقض موقف الحزبين كليهما.
فالعلماني صار يعتبر القضية موضع علاج عام وعلى الدولة أن تتصدى لها. والديني صار يعتبرها خاصة وليس للدولة دخل في علاجها: فيكون العلماني لا يستطيع أن يدافع عن موقفه إلا بأخذ موقف الديني من علاقة العمومي بالخصوصي ويكون الديني في نفس الوضعية لأنه لا يستطيع أن يدافع عن موقفه إلا بأخذ موقف العلماني من العلاقة بينهما. فيتساويان في التناقض. والحصيلة أنهما يلتقيان فيبدأ السجال وهو ما نريد فهم دلالاته.

دلالة المعركة العميقة
تساوى الصفان في تناقض موقفيهما. العلماني تناقض فصار لا يفصل بين الخاص والعام. والديني تناقض فصار يفصل بين الخاص والعام. وما أريد أن أشير إلى دلالته هو مناط الحجاج المضاعف عند الحزبين:
1-مناط الحجاج السلبي: هل ما يسميه الإسلامي عورة يجب أن تحجب ذو معنى حقيقي أم لا ؟ وجواب العلماني هو لا وجواب الديني هو نعم.
2-مناط الحجاج الإيجابي: هل السفور من علامات تحرير المرأة من سلطان التقاليد الاجتماعية أم لا؟ وجواب العلماني هو نعم وجواب الديني هو لا.
فيبتين أن مناط الحجاج بوجهيه واحد عند الحزبين وفي الحالتين السلبية والإيجابية. لكن الأجوبة متعاكسة. فما يثبته العلماني في الثاني ينفيه الديني وما يثبته الديني في الأول ينفيه العلماني. أما وصف المناط الأول بالسلبي والمناط الثاني بالإيجابي فيصح في الحالتين رغم تعاكس الأجوبة:
ذلك أن المناط الأول يتعلق في الحالتين ب"ببدن المرأة بعضه" أحدهما يصفه بالعورة والثاني ينفي الوصف وهو مناط سلبي عند كلا الحزبين: كلاهما يعتبر الحياة العامة مقتضية حجب بعض البدن والخلاف حول: ما هو ؟
أما المناط الثاني فيتعلق في الحالتين ب"حرية المرأة" أحدهما يصفها بالحرية الشخصية والثاني بحرية ممارسة الشعائر وهو إيجابي عند كلا الحزبين: كلاهما يؤمن بأن الهندام تعبير وأنه ينبغي أن يكون حرا والفرق هو هل هو حرية مباشرة أم حرية تابعة لحرية العقيدة.
فالعلماني يتكلم على حق المرأة في التصرف في بدنها وهي حرية تحدد بالمقابل مع دور المعتقد العام. والديني يعتبر الحرية التي يستند إليها اختيار الهندام تابعة لحرية المعتقد وليست حرية مباشرة وهي حرية تحدد بالمقابل مع دور السلطة العامة. وإذن فكلاهما يدافع عن الحرية ولا يختلف الواحد منهما عن الآخر إلا بالسلطة التي يعتبرها متدخلة في ما لا يحق لها أن تتدخل فيه. وهنا أيضا حصل التعاكس بين الموقفين:
فالعلماني الذي يدعي الإيمان بالفصل بين الدين والدولة يريد من الدولة أن تتدخل في مسألة دينية بمنظور خصمه فينفي بذلك حرية المعتقد بنفي ما هو من مقوماته على الأقل عند المدافعين عن الحجاب.
والديني الذي يدعي الدفاع عن ضرورة الجمع بين الديني والسياسي يريد من الدولة ألا تتدخل في مسألة دينية من منظوره والمسائل الدينية من مقومات الدولة في نظره.
علاج مناط الحجاج الأيسر
ولما كان مناط الحجاج الإيجابي هو الأيسر على الفهم من المناط السلبي وأقل عمقا منه رغم تعلقه بما يبدو أهم مقوم من حياة الإنسان أعني الحرية فإننا سنبدأ به. فليس من شك في أن المسألة لها صلة مباشرة بالبند التاسع عشر من حقوق الإنسان أعني بند حرية التعبير. ذلك أن حرية التعبير ليست في الحقيقة إلا التعبير عن الحرية بكل أدوات التعبير . واختيار الهندام أبرز أدوات التعبير عن الحرية في العصر الحديث. لذلك فهو ينبغي أن يكون خاضعا لهذا المبدأ من حقوق الإنسان. ولما كانت المرأة المسلمة خاضعة لنظام من الهندام شبه نمطي سواء كان ذلك على أساس التقاليد عامة أو التقاليد الدينية خاصة فإن كل ترك للهندام الرسمي بمبادرة شخصية لأي جزء من هذا الهندام يمكن أن يعد تعبيرا عن الحرية دون شك ولا جدال.
لكن المشكل هو أن هذا الترك لم يعد بمبادرة شخصية ولا شيء يثبت أنه للخروج على التقليد. الدعوة إليه صارت جبرا عليه. والغالب عليها استبدال تقليد بتقليد: صار الأمر مفاضلة بين تقليدين أو بين هندامين الهندام الذي يختاره الأصولي الديني والهندام الذي يختاره الأصولي العلماني ولا دخل للأفراد في الخيار بين الهندامين. لذلك فعدم ترك الهندام التقليدي عند المسلمات أو العودة إليه خاصة لا يختلف عن الدعوة إلى تركه: كلاهما ليس تحررا بل تقليد. الأصولي العلماني يدعو إلى التحرر من التقليد العربي بالتقليد الغربي و الأصولي الديني يدعو إلى التحرر من التقليد الغربي بالتقليد العربي: فيتساوى الموقفان رغم ما يبدو بينهما من تقابل وصراع.
وقد يكون ذلك ما يقتضيه الطابع الجدلي للتناقض بين الموقفين. لذلك فلست أقول ذلك للتلاعب بالألفاظ أو لسفسطة القضية بل لبيان أن القضية صارت فاسدة بالطبع لعدم ربطها بالظرف: فلو كان المجتمع المسلم مجتمعا يتطور تطورا طبيعيا وطرحت قضية الهندام بمبادرات شخصية من بعض النساء من منطلق ما يمسى بتلقاء النفس ناتج عن تغير ذوقي أو خلقي أو حتى بسبب تطور الموضة في عملية تطوير الهندام إبداعا لتعبير هندامي متحرر من التقليد لما كان للمشكل هذا الوجه الذي يبدو معركة بين دعويين للتحرر من التقليد بالتقليد.
كل المشكل هو إذن في ميلين جارفين للتقليد باسم التحرر: تقليد الماضي الذاتي للتحرر من طغيان حضارة الغرب وتقليد الماضي الغربي للتحرر من طغيان حضارة الإسلام ولا علاقة له بالحرية لا بمعناها العلماني ولا بمعناها الديني. وهذا الوصف حتى وإن كان لا يصح على الجميع إذ قد يكون البعض يريد التحرر من الهندام التقليدي للأسباب التي ذكرنا أعني الذوق أو الخلق أو التطوير الهندامي. لكن غلبة الموجة العامة وطابعها الصدامي جعل هذا الوصف الخياري بين ثقافتين هو الذي أفسد المعركة من الأساس: لم تعد معركة قيم بقدر ما هي معركة انتساب لهوية ثقافية أهلية أو أجنبية.
وطبعا ليس يمكن الحسم في مثل هذين الموقفين من منطلق الجدل القيمي الحر الذي تعيشه الأمم السوية التي لا تعاني من انحطاط وغزو ثقافي بل وعسكري في نفس الوقت. لكن الديني يتكلم وكأن معركة الذوق والخلق والتطوير الهندامي لا وجود لها مركزا فقط على معركة الهوية. والعلماني يتكلم وكأن الانحطاط والغزو لا وجود لهما مركزا فقط على معركة الذوق. ويبدو أن العلماني يتناسى أو يتجاهل التجارب التاريخية للغرب نفسه: فعندما كان الغرب في موقع المغزو وراد الفعل كان تصرفه أشبه بتصرف التأصيليين منا اليوم.
فأوروبا كانت في النصف الثاني من عصر القرون الوسطى في وضعية رد الفعل على الغزو الحضاري العربي الإسلامي فلجأت إلى من نلجأ نحن إليه اليوم: التشبث بهوية دفاعية إلى أن تمكنت في حروب الاسترداد من التحول من موقع راد الفعل إلى موقع الفاعل. وكان فيها من كان يتهم بالتعرب كما يتهمون بعضنا اليوم بالتغرب. ومثلما نجد مؤسسات لنا تحرم بعض الكتب الغربية كانت مؤسسات لهم تحرم بعض الكتب العربية. ولما تحررت أوروبا من الحاجة إلى الموقف الدفاعي وأصلحت شأنها شرعت في الإبداع الحر في جميع المجالات فلم يعد التغيير الذوقي والخلقي متهما عندهم كما كان في عصر الهزيمة.
وهذا الموقف سنة كونية. لذلك فهو قد تكرر في كل المراحل المعلومة من تاريخ البشرية. فلا تستقل جماعة عن غيرها من الجماعات إلا بفروق ثقافية تضخمها لتثبت الفروق التي ليست هي بين البشر شيئا آخر غير الهويات الثقافية لكونهم من حيث التاريخ الطبيعي جنسا واحدا. هكذا فعل اليونان مع الشرق القديم. وهكذا فعل الشرق المتأخر مع الغزو المقدوني. وهكذا فعل العرب مع الشعوب التي فتحوا أرضها وضموها إلى إمبراطوريتهم. وهكذا فعل الغرب الوسيط معنا. وهكذا نفعل الآن معه. ونفس الظاهرات ملحوظة في الشرق الأقصى.
وكل من يتناسى هذه السنة يفرِّط أو يفرِط فيؤول الأمر إلى هذه المعركة التي ينبغي أن نرجعها إلى حجمها الحقيقي بأن نفهم مقوماتها وشروط إخضاعها للحوار المتزن والمرن بين النخب لتحقيق التوافق بين ثقافتين تكادان تجعلان أصحابهما طائفيين بشرط أن تنأى الدولة عن الزج بنفسها في هذه المعركة التي هي من معارك المجتمع المدني وليست من المعارك التي تنحاز فيه الدولة لأحد الصفين.
مناط الحجاج الأكثر عسرا
نأتي الآن إلى بيت القصيد بعد أن أرجعنا المشكل إلى حجمه الحقيقي دون تسييس. فكلا الحزبين يشترك مع الآخر في كونه ليس من مدرسة العراة وليس من مدرسة دفن المرأة تحت الخيمة الطالبانية. فيكون المشكل بينهما في ما ينبغي وما لا ينبغي أن "يكشف" أو"يحجب" من الجسد بصرف النظر عن الجنس وفي الحياة العامة أولا ثم بالنسبة إلى المرأة خاصة. فإذا ما استثنينا أصحاب مدرسة العراة ومدرسة المقابر وتسامحنا في الأسماء بلا مشاحة فإن البدن الإنساني سواء كان ذكرا أو أنثى فيه ما لا بد من إخفائه حتى من أجل حمايته فضلا عن الحشمة والخلق وفيه ما لا بد من كشفه حتى من أجل أن تعمل الحواس في السلوك غير المعوق.
وكل المشكل يأتي من استهجان دلالة كلمة العورة. وهو استهجان ليس له ما يبرره. فالقرآن لا يستعمل الكلمة بدلالة تهجينية بل بمعناها العربي الفصيح أي ما يخاف عليه فيحتاج إلى الحماية إما بالمعنى المادي في الإستراتيجية العسكرية أو بالمعنى الرمزي في الرعاية الخلقية. لذلك فالكلمة وردت في القرآن بهاتين الدلالتين. إنها تعني بصورة أوضح النقاط التي يمكن أن يأتي منها الخطر على صاحبها أو على ما هو عزيز لديه. ثم هي صارت تعني مواطن الإغراء في البدن أو ما يمكن أن يسمى بمواقع الإثارة الجنسية Zones érogènes منه.
فيصبح مدلول الكلمة هو ما ينبغي حجبه من البدن لأنه من مواقع الإثارة الجنسية فيه. وهذا المعنى متغير من ثقافة إلى ثقافة. ولا يمكن لأي عاقل سواء كان علمانيا أو دينيا أن يزعم أن تحديد مواقع الإثارة الجنسية واحد في كل الثقافات إلا إذا حصرها في الأعضاء التناسلية. لكن ما هو مثير جنسيا في ثقافة قد لا يكون كذلك في ثقافة أخرى: وأكبر الأدلة على ذلك هو أصناف التبرج والزينة ومنها اللباس وفنون الإغراء التي من السخف اعتبارها نمطية في كل الحضارات.
إن الأمر الوحيد الكوني في هذا المضمار قد لا يتعدى الأعضاء التناسلية. وكل ماعداها مما له دلالة المثير الجنسي وعدمه متغير من ثقافة إلى ثقافة ومن عصر إلى عصر في نفس الثقافة: فتعرية النهود والسرر والشعر إلخ... مثلا ليست عوارت في بعض الحضارات وهي كذلك في البعض الآخر . لذلك فلا يمكن تحديد ما ينبغي كشفه وما لا ينبغي بصورة مطلقة لأن المسألة ثقافية تتغير كما تتغير مواقع الإثارة في المجالات الأخرى التي لها صلة بالذوق عامة وبالذوق الجنسي خاصة. فإذا تم لنا تحديد المقصود بمواضع الإثارة الجنسية عامة وصلتها بالمسألة الذوقية خاصة فإن العلاج يتعقد لأنه يؤول إلى مسألة اختلاف سلالم القيم في الثقافات المختلفة. فيوجب أن نبحث في مسألة القيم عامة وفي مسألة اختلاف سلالمها باختلاف الثقافات.
دور الأمثلة الشاذة
وحتى نيسر الانطلاق فنبعد القضايا الجانبية التي يذهب إليها من لا يعلم شروط العلاج العلمي للقضايا سنأخذ المرأتين اللتين تنظم حملة نزع الحجاب دفاعا عنهما مثالين من الشذوذ ذي الدلالة الحاسمة حتى يتبين أن المتكلمين في المسألة يخبطون خبط عشواء لعدم التمييز بين جوهر المشكل والأعراض الجانبية: أعني مثالي الفنانة هيفاء وزوج حارس المرمى المصري.
فهذان المثالان يبينان العمق الحقيقي للمعركة رغم كونهما من الشواذ التي تحذف ولا يقاس عليها. ذلك أن مثال هيفاء لا يمكن أن يقاس عليها سواء في حجاج دعاة لبس الحجاب أو في حجاج دعاة نزعه إلا بالدلالة التي تتميز بها حالات الشذوذ الحدية التي لا تخلو منها ثقافة مهما كانت بدائية في مسألة الزي. ذلك أن الفن الذي اختيرت منه هذه الفنانه مثالا لا يتعامل مع البدن على أنه بدن إمرأة بل على أنه جزء من منظومة الجهاز الفني لأنه أحد المؤثرات الفنية تماما كالديكور والموسيقى والأضواء. وهو يكون أكثر فاعلية بمقدار الجمع بين الحجب والكشف فلا يقاس عليه في علاج مسألة الحجاب رغم كونه كما سنبين من المعاني الحدية التي تحدد منزلة الجسد في الثقافات.
أما زوج الحارس فهي أيضا حالة خاصة لا يقاس عليها إلا بنفس الدلالة الحدية. فحالها الفجائي كحال زوجها الذي هاجر بتحدي قانون التجارة الرياضية: أحدثت انقلابة فجئية تقطع مع تحجبها كما قطع زوجها مع ناديه. فهي إذن انقلابة تشبه الدوار المؤقت ولا تعبر عن خيار مترو أو عن تطور باطني: جاءت فرضة فاقتنصها زوجها فدار رأسها بالفرصة فعبرت عما يرمز لهذه القطيعة. لو خسرت الفريق المصري في كأس إفريقيا لما حصل ما حصل. ومع ذلك فللحادثة دلالة حدية ذات صلة بعلاقة المال والدين منذ قصة العجل الذهبي: والمعلوم أن الرياضيين أكثر الناس إيمانا بالحظ ومن ثم أكثرهم خلطا بين الدين والخرافة فلا يكون التدين السابق على الانقلابة إلا من جنس الأمل في المساعدة السحرية على التدين اللاحق. ومعنى ذلك أن السيدة المحترمة كانت تحلم بالمال وترجو ربها الخرافي ثم لما حصل المال صارت تعبد ربها الحقيقي الذي عبدته دائما: لم تكن تؤمن برب حقيقي ولم تصبح تؤمن برب حقيقي بل كلا ربيها دوار بتأثير اللامتناهي الزائف حلما به قبل الانقلابة واستتمتاعا به بعدها.
ولست أعني بهذا التحليل والتعليل أني أعارض سلوك المرأتين فهو سلوك شخصي وتعبير عن الحرية حتى لو كان بهذه الصفات ولهما فيه كل الحق. لكن ذلك يساعد على تحديد أمرين:
الأول هو منزلة الجسد والمال منزلتهما العامة إذا حصرا في شذوذهما وفي في الثقافة التي يتكلم باسمها المدافعون عن نزع الحجاب إذا عممت ولا علاقة له بالحرية وحق التعبير. فهيفاء ما كانت لتفعل لو لم يكن ذلك جزءا من دور الجسد في الفن المعاصر . وزوج الرياضي ما كانت لتفعل لو لم يمض زوجها العقد السويسري. وهذا التمييز ضرروي: لأن منزلة المرأة من حيث هي جزء من منظومة أحد أصناف الفنون (الجواري قديما وراقصات الكباريهات حديثا) ومنزلة المال من حيث هو مرض عبيد ألعاب الحظ لم يخل منهما مجتمع قديما كان أو حديثا. لكني لم أسمع بمجتمع يريد أن يعمم ذلك حتى في الغرب الحالي.
الثاني هو أن تقديم هذا الهم القيمي الثانوي على شرط كل قيمة أعني معارك الوجود الحر لا يفهم إلا بشرط أن ينسى أصحابه الوضعية التي تعيشها ثقافة تصارع من أجل البقاء في لحظة غزو ثقافي وعسكري واقتصادي تصارع بنفس الطريقة التي صارعت بها كل الثقافات التي وجدت في وضعيتها. فلو كانت النخب العربية في خلال حروب التحرير تقدم المعارك القيمية الثانوية على شرط الوجود المستقل لما استقل أي بلد عربي: إذ إن الاندماج كان يكون أفضل الحلول كما يدعو إلى ذلك الآن زعماء الليبرالية العربية الجديدة. ولعل ذلك لم يحصل لأن المستعمر لم يكن يسمح به. ولا أتصوره الآن مستعدا للقبول باندماج هؤلاء فيه حتى الآن: كل ما يريده هو أن يصبحوا تابعين روحيا حتى يجعلهم نوابه في مستعمراته الجديدة كما نرى ذلك في بعض بلاد المنظومة الشرقية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي أو كما نراه في ما يحاولونه في العراق وأفغانستان.
وإذن فموقف المستعمر لا يزال ضد المساواة بين الشعوب حتى لو مسخت نفسها رغم وهم بعض النخب التي تتصور أمريكا أتت للعراق لتمدنه وتحقق الديموقراطية حتى باتوا يرددون معزوفة ثقافة السلم واصفين أنفسهم بعشاق الحياة والمقاومين بالإرهابيين وعشاق الموت. ذلك أن من يتصور الحياة من دون كرامه حياة إنسانية لم يفهم بعد الفرق القرآني بين "حياة" والحياة ! ولو علمت النساء المناديات بالحرية على يد الغرب ما الذي حل بنساء العراق لعلموا أنهم يذهبون بالمرأة العربية إلى حتفها.
أعماق المسألة والخيار الثقافي
وبذلك نصل إلى العمق الذي يجعل المسألة في هذا المستوى الثاني أعسر على الفهم منها في المستوى الأول. فهل تعميم المثالين حول جسد المرأة والمال ينتسب إلى معركة الحرية حقا أم هو هروب من المعركة الحقيقية المتمثلة في التحرر من التقليد الذي يتصف بها الصفان المتصارعان ؟ لكي نجيب عن هذا السؤال لا بد أن نفهم ما للأمرين من تفاعل أعني دور جسد المرأة في دورة المال ودور دورة المال في منزلة المرأة عامة ومنزلة جسدها خاصة وأصل ذلك كله في نظرية القيمة بمعناها الاقتصادي والخلقي والوجودي.
فكيف نفهم قيم ثقافة تجحد المتعاليات وتعتبر الإخلاد إلى الدنيا أسمى القيم فتجعل الحرية شعارا للدفاع على تحويل المرأة عامة وأحياز الإغراء فيها إلى سهم التسويق الحاملة لجاذبية النَّفاق في المجالات التي ترد القيم إلى بعدها السوقي ليس في الاقتصاد فحسب بل في أبعاد الثقافة والتربية والسياسة التي تحولت إلى سلع. ولعل رمز الرموز هو دور المرأة في التحيل الاستعلامي وحتى الاستعماري في بلاد المتخلفين الذي غزاهم غيرهم بما يورده لهم في قصور لهوهم التي تلهيهم عما كان ينبغي أن يعنيهم لو كانوا أهلا لكراسيهم. لكن ذلك قد يخرجنا عن إطار مسألة الخمار فيغوص إلى أعماق الخيارات الوجودية التي تتمايز به الحضارات. وهو أمر قد يعد تفلسفا زائدا عن اللزوم فلنمسك العنان.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

هل الرد على طرابيشي يحل المشكل؟

02-آب-2008

تقارير التنمية العربية ما دلالتها ؟

01-تموز-2008

معركة الحجاب ما دلالتها ؟

19-نيسان-2008

نعم: الحق أحق أن يتبع (بين الأستاذين الطالبي والشرفي)

07-نيسان-2008

نحن وفن الكاريكاتور ؟

01-نيسان-2008

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow