Alef Logo
دراسات
              

في أزمة تعليم الفلسفة

زهير الخويلدي

2007-08-01

" العلوم العقلية التي هي طبيعية للإنسان من حيث أنه ذو فكر فهي غير مختصة بملة بل يوجه النظر فيها الى أهل الملل كلهم ويستوون في مداركها ومباحثها. وهي موجودة في النوع الانساني منذ كان عمران الخليقة.وتسمى هذه العلوم علوم الفلسفة والحكمة..."
مقدمة:
ربما تكون أزمة الوجود التي اجتاحت اليوم الساحة التربوية إلى حد أنها شغلت بال المفكرين وحيرت عقول المتحاورين قدرا محتوما في نظر البعض من الواقعين المتشائمين وربما يستوجب فهمها والغوص في كنهها في نظر المتفائلين الطوباويين إحالتها على هذه الخلفية النظرية والعملية المتأتية من غائية التاريخ ولكن ماهو أكيد بالنسبة الى الفكر الحاذق أن هذه الغائية لا نقدر على الكشف عنها إلا بواسطة الفلسفة والتفلسف وذلك لأن هذه الحضارة نشأت عن جملة من المعاني الصادرة عن دور تفكري وقولي وأن هذه الأزمة يمكن أن نعثر لها على مخرج باتباع مسلكين:
1 ـ فإما أن تضمحل هذه الحضارة باغترابها أكثر فأكثر عن جوهر معناها العقلاني الديني الذي هو كنه وجودها فتقع بذلك في الحقد على الفكر وتضيق بذلك معنى الوحي وتسير بالناس إلى الظلمة والوحشة.
2 ـ وإما أن تبعث من جديد بفضل عمل بطولي يقوم به العقل ويرتكز على تأويل الشرع بتدبر التراث وتحويل الضاد إلى مقام للوجود في العالم وذلك بتفكيك التلفيقية الغائمة والتحجر الفارغ بصورة حاسمة.
بيد أن هذه الأزمة ناتجة من بعيد أو من قريب من أزمة تدريس الفلسفة وغياب فلاسفة بالمعنى الحقيقي للكلمة من حضارة اقرأ، وقد بينت الأحداث بالواضح ما تمثله الفلسفة من خطورة على حياة الأمم سواء إذا حظر تدريسها أو درست بشكل سيئ. عندئذ تبدو حياتنا اليومية متأثرة بالأحداث الفلسفية حتى تلك التي تبدو لأول وهلة طفيفة وليس لها معنى.كما أن الفلسفة هي وحدها القادرة على أن تفتح حوارا حرا وعميقا حول قضايا المستقبل وهي وحدها التي بإمكانها إبداع إمكانيات أرحب للوجود. هكذا يكون الحديث عن الفلسفة والتربية تنبيها على خطورة الموقف وبؤس الأوضاع في المجتمعات التي يكتسحها الطغيان والتزمت عندما تتعرض إلى فترات اضطهاد للفكر وخنق للحرية وقتل للمدارك الطبيعية للبشر إبرازا إلى ما ينتظر الشعوب من شقاء عندما يهون الفكر فيها ويمتهن أو عندما ينتشر فيها البغاء العقلي ويطارد الفلاسفة وتحاصر كتبهم من طرف دعاة الجنات الموعودة وأصحاب الأقاويل المغشوشة وتضيق عليهم أوقات الدرس ومواده بما لا يلبي انتظارات الجمهور.
إن الفلسفة عبر تاريخها الطويل لم تعرف فترة من الهدوء والاطمئنان بل كلما سجلت انطلاقة جديدة وبعث إلا وتعرضت لأشكال جديدة من المنع والمحاصرة ونظر إليها على أنها خطر يهدد الأمم,فهي ما انفكت تزعزع أركان النظام القائم وتبحث عن مثل أعلى يفتح للإنسان آفاق جديدة للرقي والتقدم.
إن طبيعة الفلسفة هي أن لا ترتاح إليها السلطة التي لا يعنيها غير الحفاظ على امتيازاتها ولذلك فهي تشجع الركود وتبرر ماهو سائد وتنمع الفكر الحر من الانبجاس والانتشار، في حين تحافظ الفلسفة على ما في الإنسان من نزوع دائم نحو ممارسة حرية التفكيروالتعبير وتنتهج طريقا مخالفا للتفكير السائد إذ تقض مضاجع المستسلمين وتثور على الواقع لأنها في جوهرها تحير وسؤال ونزوع إلى القيم والمعنى تعمل على فضح كل أشكال الاستلاب التي يتعرض لها البشر.
يترتب من هذا القول أنه ثمة أزمة في فلسفة اليوم تمظهرت في ثوب تأزم التعليم الفلسفي عبر عنه أحد الطلاب عندما اكتفى بكتابة هذه الأسطر في احد الاختبارات الجامعية في شعبة الفلسفة :
"إن المتعة في برامجكم التعليمية, ندخل مع كل درس داخل كهوف رمادية يكسوها الغبار, جدرانها مكتسية بأنسجة عناكب رهيبة و مقرفة, نسمع صدى أصوات قادمة من وراء خط الزمن, صادرة عن هياكل عظمية تآكلت رؤوسها ونقشت أطرافها، نقرأ نقوشا حجرية بلغة لانفهمها بل ولا نراها. هناك لا نجد مرايا نرى فيها أنفسنا، نحاول إصدار صوت ,فلا نتذكر لغتنا بل ولا نستطيع حتى فتح أفواهنا وان أردنا أن نكتب فان أيدينا مشلولة عما نريد كتابته وكأننا أطفال يجهلون الأبجدية فيأتي شخص آخر من غير زماننا ليمسك و يخط بأقلامنا أشياء وأشكال لسنا نعرف معانيها وليس تعرف معانينا.هناك نخضع لغير إرادتنا, نسمع غير أصواتنا،نتكلم غير لغتنا...لذلك فمن يدخل الكهف،عفوا الدرس, يكون لاشيء بل ولا يكون،فلم تطلبون منا أن نتكلم ونحن أصنام..."
فهل هذا التأزم الدائم ناتج عن طبيعة الفلسفة أم أنه صادر عن طبيعة الناس الذين تتوجه إليهم؟ هل ستفضي هاته الأزمة إلى تضييق الخناق عليها أم تنذر بانطلاقة جديدة تقوم على نبذ التفاهات والاهتمام بالجوهر؟ هل أن تعثر كل التعلميات السابقة هو الذي أدى إلى تقلص حضور الفلسفة في الفضاء العمومي أم هو إثبات لها وتنشيط لآلياتها وتجديد لكينونتها ؟
هل تعود أزمة الفلسفة إلى إخفاق في نقل الإبداعات الفلسفية الغربية إلى اللغة العربية وتعذر الترجمة أم إلى استحالة ملائمة هذه الإبداعات للبيئة الثقافية المحلية والأهلية؟ واذا ما رمنا الاصلاح والتجديد فماهي شروط إمكان تأسيس تعلمية فلسفية ناجحة ؟ أي صعوبات يواجهها تدريس الفلسفة في مجتمعنا؟ لماذا لا تتحول هذه الخطة إلى تعلمية فلسفية ناجحة ؟ ماهي أركان وخصائص هذه التعلمية الفلسفية الجديدة ؟ ماذا لو كان الفيلسوف مقتصرا على ذاته أو منحصرا في التأليف الأكاديمي دون أية علاقة له بالعالم؟ أليست الفلسفة في جوهرها حوار وجدل ونقاش وتدريب وتعليم وطريقة لتوليد المعاني من العقول المتحاورة عبر السخرية والتهكم وعبر الدور القولي الذي يدور بين المعلم والمتعلم؟ ما الفرق بين البحث الفلسفي والتعلمية الفلسفية ؟
هل يأخذ الأستاذ بعين الاعتبار المعرفة الموجودة بشكل مسبق في ذهن المتعلم ويوظفها في عمله؟ أليس القصد من التدرب الفلسفي هو الفوز بهذه المعرفة وإعادة بنائها على أسس متينة ؟ ماهي العلوم والمعارف الإعدادية التي ينبغي أن تتعلم قبل الاهتمام بالفلسفة ؟ ما الغاية من تعلم الفلسفة؟ هل هو التعود على حسن قيادة العقل نحو الحقيقة أم تأمل الخير والجمال ؟
هل الفلسفة محتوى متناسق من أصناف المعارف والعلوم أم أنها في جوهرها منهج للبحث والتأمل؟ إلى أي مدى تعتبر الفلسفة رياضة فكرية تدفع بالإنسان إلى اكتشاف المعاني والاقتراب من إبصار العلل الأولى والقيم القصوى؟ هل هدف الفيلسوف هو تلقين الناس ما اكتشفه بنفسه أم تدريبهم على الجهد والسعي للتغلب على الصعاب قصد الفوز بالحقيقة بأنفسهم؟ هل الفلسفة أقرب إلى التعليم التقليدي أم إلى التعليم العصري ؟ أليس أرسطو هو المسئول عن تحنيط الفلسفة وحصرها في قوالب جامدة عندما فصل بين البحث النظري وبين تعليم الفلسفة حسب برنامج محدد وفق أبواب ومفردات مضبوطة ؟ ما القصد من تعلم الفلسفة ؟ هل الفلسفة مادة تعليمية ؟ وهل يتعلم الإنسان الفلسفة أم الإنسان فيلسوف بالطبع ؟ أو بعبارة أوضح هل الإنسان في حاجة إلى الفلسفة ؟ وماهو القصد من تعلم الفلسفة؟ ولماذا تصلح الفلسفة اليوم ؟ هل يمكن أن نقيسها بالمعايير المتداولة للعلم والتقنية؟أي أهمية لتدريس الفلسفة في المؤسسة التربوية ؟
إذا كان مقصودنا هو بناء تعلمية ناجحة من وجهة نظر الفلسفة العربية فان استيفاء هذا الغرض يتطلب منا العودة للنصوص الأصلية التي حملها إلينا التاريخ العربي والشروع في إعادة استنطاقها قصد استخراج ما يمكن استخراجه منها ولذلك ارتأينا أن نقسم مراحل بحثنا إلى الأبواب التالية :
1 ـ أهداف التعليم بصفة عامة
2 ـ أزمة تعليم الفلسفة
3 ـ شروط نجاح تعليم الفلسفة
إن ما نراهن عليه هو بناء تعلمية فلسفية ناجعة تقرب الأفكارمن الأفهام وتخاطب الناس على قدر عقولهم تساعدهم للتمرس على التفكير وتكسبهم القدرة على فهم المايحدث وإجادة فن تقييمه.
فإلى أي مدى تستوفى هذه الخطة مطلبنا في بناء هذه التعلمية ؟ وهل تقدر النصوص الفلسفية العربية التي سنستنطقها أن تلبي حقيقة غرضنا ؟
1 ـ في أهداف التعليم:
" فقبل كل شيء يجب أن نتساءل عماهي أغراض التربية؟هل هي كسب الرزق؟هل هي التعليم والتهذيب؟ أو هي العلم لذاته أو هي الأخلاق؟وهل هي راجعة لمصلحة الفرد وحده أو للجماعة وحدها؟"
اعلم أن التعليم هو إيجاد الفضائل النظرية في الأمم والمدن وزرع القيم الحميدة في النفوس من أجل تربية الناشئة تربية سليمة متكاملة وحفز الهمم وشحذ العقول واعلم كذلك أن التعليم فن عزيز المذهب جم الفوائد إن تلقفته الأرواح بالقبول وأمسكته بيد الصناعة ظفرت بكنز عظيم وغنمت بذخيرة دائمة
وأتحفت بمنزلة عالية "لا يستوي فيها من يعلم بمن لا يعلم" و"يرفع الناس فوق بعض درجات".في هذا السياق يصرح ابن خلدون:"ان البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلون به من المذاهب والفضائل تارة علما وتعليما والقاء وتارة محاكاة وتلقينا بالمباشرة. الا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكاما وأقوى رسوخا".
ان للتعليم أهداف ومحتويات ومناهج ويتطلب التدرج والمرور بعدة مراحل إذ يتعاقب المعلمون على المتعلمين أحدهم لضبط القرأءة والكتابة والثاني لعلم العربية والشعر والثالث للتدريب في الحساب والطبيعيات والرابع للعقليات والمنطقيات ويراعى في ذلك التنوع والاستعداد والمشاكلة والملائمة إذ لو كانت الآداب والصناعات تجيب وتنقاد بالطلب والمرام دون المشاكلة والمواءمة ما كان أحد غفلا من الأدب وعاريا من الصناعة فلذلك ينبغي لمدبر المتعلم إذا رام اختيار الصناعة أن يزن أولا طبعه ويسبر قريحته ويختبر ذكاءه فيختار له الصناعات بحسب ذلك.
من هذا المنطلق يرى حكماء العرب أن التعليم ينقسم إلى بعدين تعليم ابتداء وتعليم انتهاء فأما تعليم الابتداء فهو ما يعلمه المتعلم في أول أمره من قراءة وكتابة ولغة وشعر وحساب وأما تعليم الانتهاء فهو إتقان كل ما سبق والزيادة عليها بالاشتغال بأحكام النجوم والمنطق والطبيعيات والتاريخ والتدرج إلى ما بعد الطبيعة بعد التدرج بالمنطق العلي في فهم الطبيعة وأسرارها.
يقول ابن خلدون:" اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدرج شيئا فشيئا وقليلا قليلا يلقى عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال. ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم الا أنها جزئية وضعيفة." ان أيسر طرق هذه الملكة هو فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة والعناية بالحفظ دون إهمال الحاجة إلى الفهم والإفهام لأن التعليم الصحيح يكون بدعم ملكة التصرف في العلم لدى المتعلم لأنه إن حصلت له ملكة في علم استعد بها لقبول ما بقي من العلوم لذلك لا ينبغي أن يخلط عليه علمان معا فانه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما.
إن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجيا أول الأمر يكون المتعلم عاجزا عن الفهم بالجملة إلا على سبيل التقريب والإجمال والأمثال ثم يتقوى الاستعداد بالتكرار والمداومة حتى يصل إلى درجة الاستيعاب والتحصيل والإحاطة بمسائل ذلك الفن. قال بعض العلماء "من أكثر المذاكرة بالعلم لم ينس ما علم واستفاد ما لم يعلم" وإن كان للدربة دورا في تنمية القدرة على التذكر فان الفهم له دور في ترسيخ هذه القدرة فهو شرطا للحفظ ويكون بادراك الموجودات وتصورها كما يكون بتصديق القضايا والتسليم بأحكامها. في هذا السياق يصرح الماوردي:" العلوم مطالبها من ثلاث أوجه قلب مفكر ولسان معبر وبيان مصور فإذا عقل الكلام بسمعه فهم معانيه بقلبه وإذا فهم المعاني سقط عنه كلفة استخراجها وبقي عليه معاناة حفظها واستقرارها لان المعاني شوارد تضل بالإغفال والعلوم وحشية تنفر بالإرسال فإذا حفظها بعد الفهم أنست وإذا ذكرها بعد الأنس رست... وإن لم يفهم معاني ما سمع كشف عن السبب المانع منها ليعلم العلة في تذر فهمها فانه بمعرفة أسباب الأشياء وعللها يصل إلى ما شذ وصلاح ما فسد"
لما كان العلم من الأدب والأدب لا يستقر إلا بالتعليم فان التعليم هو غير بعيد عن التأديب لكن التعليم قد يقتصر على القول بللسان بينما التأديب فيكون بالقول والفعل معا لإنهاض العزائم وتحريك الهمم نحو فعل ذلك الشيء حتى يصير مستوليا على النفوس ومتغلغلا في العقول ومترسخا في القلوب.
على هذا النحو فإن مواد التعليم أدوات لضمان تكوين متكامل للمرء إذ تعود العقل النظام والتنظيم في درس الأمور وحسن التصرف في الشؤون. لكن إذا كان التربية تراوح بين الطبع والتطبع وكان الأدب ينقل الطبع المذموم إلى الطبع المحمود فانه ينبغي أن يعمل الأستاذ على إصلاح أخلاق المتعلمين وحسن سياستهم فقد قال بعض الحكماء "العادة طبيعة ثانية" وتشمل العادة الوظائف العقلية الرمزية والمواقف الأخلاقية الاجتماعية والأفعال الحسية الحركية.هكذا يقوم التعليم على الوازع الذاتي أكثر من قيامه على الرادع الخارجي وماذا كانت التربية التزام دائب لا يعرف بالفشل.
اعلم كذلك أنه يراعى في التعليم بين التحصيل الشكلي والاستبصار الواعي وبين الاستيعاب وضرورة الاختصاص في مجال معين وإذا ادعى معرفة كل شيء وبقي في العموميات كان كالحمار الذي يحمل أسفارا. ولذلك يتطور التعليم من مجرد التبليغ إلى الاختصاص المهني وقد قال ابن خلدون في هذا الشأن:" صار العلم ملكة تحتاج إلى التعلم فأصبح من جملة الصنائع والحرف " ويضيف "إن التعليم لهذا العهد من جملة الصنائع المعاشية البعيدة من اعتزاز أهل العصبية "
إذا كان المراد من التعليم التفهيم والتكوين بالنسبة للمرء فان التكوين هو إيجاد شيء مسبوق بالمادة أما التفهيم فهو إيصال المعنى إلى فهم السامع بواسطة اللفظ وهو كذلك التفسير أي الكشف والاظهاردون تعريض في الكلام أو تعقيد لأن الكلام إذا كان مغلقا فان معناه لا يظهر بسهولة ولذلك يستلزم التعليم التطبيق والتطويل لأن الفائدة لا تحصل في التعليم إلا بالزيادة في أصل المراد ومقابلة الاسم بالاسم والفعل بالفعل وبالتكرار.
وقد أقر التوحيدي بأن الفضائل لا تقتني إلا بالشوق إليها والحرص عليها والطلب لها وهذا أمور كلها لا تكون إلا بمشوق وباعث وداع والمشوق والباعث والداعي هو التعليم فهو سبب الأريحية والهزة والشوق والعزة، فالأريحية للروح والهزة للنفس والشوق للعقل والعزة للإنسان فإذا بلغ المرء درجة من النضج لابد أن تتعلق همته بالجوهر ويهمل العرض ويستفيد من العلوم العقلية في فهمه للعلوم النقلية ويعمل على اكتساب جودة التمييز والقدرة على الاستنباط والتفكير دون الاتكال على الغير ودون الاقتصار على جودة الحفظ.
لقد قال الشيخ الرئيس ابن سينا في هذا الاطار:"لابد أن يكون التعليم والتعلم بعلم سبق ومنه صناعي كالخياطة وإنما يحصل باستعمال أفعال تلك الصناعة والمواظبة عليها ومنه تلقيني كتعليم اللغة وإنما يحصل بالمداومة على التلفظ بها لتحصل ملكة ومنه تأديبي ويحصل بالمشاورة ومنه تقليدي وإنما يحصل بالثقة بالمعلمين ومنه تنبيهي لمن خاطب بالأوليات العقلية ونحوه". فإذا كان التعلم لما سبق إليه الغير ممن تقدم أو تأخر وكان العلم بما هو عرفاني صرف وبما هو مهني وحسي وحركي وعملي فان التعليم يكون لما تمت الخبرة به. ويميز ابن سينا بين التعليم الفكري والتعليم الذهني الأول هو الذي يكتسب بقول مسموع أو معقول من شأنه أن يوقع اعتقادا أو رأيا لم يكن أو يوقع تصورا ما لم يكن أما الثاني فيكون بين اثنين وقد يكون بين إنسان واحد مع نفسه من جهتين فمن جهة لحدس بالحد الأوسط في القياس يكون معلما ومن جهة استفادة النتيجة منه متعلما مدلا.
هكذا يكون التعليم الجيد اتساق ما إلى اكتساب مجهول بمعلوم وحصول ملكة في أمر عملي فكري أي صناعة كاملة وراسخة ومن هنا يشترط التعليم الإجازة العامة والشاملة للمقروء والمسموع من المنظوم والمنثور ومن المعقول والمنقول على العموم والإطلاق والشمول والاستغراق وقد قيل تعليم الشيء في الصغر كالنقش في الحجر,لأن المتعلم أهل لأن يحلى بحلي الإعلام وينظم في السلك العلمي الرفيع الانتظام.ولا ينبغي أن يكتفي الأستاذ بالمختصرات لحاجته إلى التبسيط والاقتصاد لأن التعليم الذي يقوم على المختصرات لا يهيئ الفرصة لنضج الملكات لا يتيح الإيجاز والاقتضاب تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد لذلك لابد من المغامرة في البحث عن الأمور العويصة والتنقيب عن المسائل العنيدة.
اعلم كذلك أن انقطاع سند تعليم العلم يؤدي إلى اختلال العمران وتناقص الصنائع وفقدان الأمصار وأن انتشار التعليم و ترسخ العلم يؤديان إلى استبحار العمران وازدهار الصنائع وامتداد العصور,فبين إذن أن التعليم عامل من عوامل التحضر ومظهر من مظاهرها. وقد قيل العلم خزانة مفتاحها السؤال والسؤال يثمر العلم لأن العلم يدرك بسؤال سؤول وقلب عقول. إن الناس يتحدثون بأحسن ما يحفظون ويحفظون أحسن ما يكتبون ويكتبون أحسن ما يسمعون. فأن يموت الإنسان طالبا للعلم خير من أن يموت قانعا بالجهل. والعلم من التربية و"معنى التربية يشبه فعل الفلاح الذي يقلع الشوك ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع ليحسن نباته ويكمل ريعه" كما يقول الغزالي.
هذا عن دلالة العلم والتعليم بالجملة وعلى العموم الآن ماذا عن دلالة تعليم الفلسفة على الخصوص؟ هل يجوز لنا الحديث عن فلسفة للتربية في المخزون التراثي التعليمي للفلسفة العربية الإسلامية؟ ماهي ملامح الفلسفة التربوية عند العرب ؟ وأي دور تضطلع به في مستوى النهوض الحضاري الشامل وتجديد طرق التعليم وأثرها في بناء الشخصية الرسالية التاريخية للأمة ؟
كيف نفسر الرأي القائل بأن الفلسفة يمكن تدريسها ويمكن تعليمها بالنسبة للناشئة مهما كانت أعمارهم ولا توجد أي موانع تحول دون ذلك ؟ ماهي الشروط التي ينبغي أن تتوفر لإنجاح مشروع تدريس الفلسفة؟ ألا ينبغي أن نفكر في بناء تعلمية فلسفية عربية حتى تتماشى مع روح الثقافة الإسلامية X






























تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

أهمية تدريس الفلسفة للأطفال

05-تشرين الأول-2019

هابرماس بين استعادة الحداثة وعقلنة الفعل التواصلي

10-آب-2019

إشكلات هرمينوطيقية

13-شباط-2010

تأملات لاديكارتية

12-تشرين الأول-2009

السببية بين العلم والفلسفة

23-أيلول-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow