Alef Logo
ابداعات
              

قصة / عيون يارا

صالح الرزوق

2009-09-09

( ...)

يوم انتسبت إلى الجامعة أصرت جدتي أن تحيط رقبتي بحجاب يحمي حامله من عيون الحساد ، و طاردتني بجفنة البخور من مكان إلى مكان حتى أشبعت ثيابي و بدني برائحته ، ثم زينت شحمة أذني بنصيحة قيّمة مثل حلق ذهبي ثمين نبهتني فيها إلى ضرورة الابتعاد عن البنات و أصدقاء السوء.
و قد نسيت ذلك كله بعد شهر و نصف من بدء حياتي الجامعية ، و غرقت حتى قمة رأسي في مطاردة البنات و مصاحبة أصدقاء السوء ، كانت الجامعة بحرا عميقا و أنا سمكة صغيرة لا أستطيع مقاومة التيار العاتي.
و هكذا نسيت أحلامي و آمالي في مستقبل علمي مرموق ، و تبنيت الحكمة القائلة : عش يومك كأنك تموت غدا.

- 1 –

كانت ع .ك. محور أحاديثنا ، نحن شلة أصدقاء السوء ، و كان حامد أكثرنا حديثا عنها. و هو لا يتورع عن ذكر اسمها قبل كل جولة نرد يلعبها مع حسان. و قد بلغ هوسه بها إلى حد اعتراض طريقها ، و هي تغادر قاعة المحاضرات. و كان جوابها كلمات قاسية اعتصرت قلبه بيد من فولاذ. و لبث حامد مدة شهر كامل معتكفا في البيت. و حين ذهبت لزيارته ، قال لي بصوت منكسر : الهزيمة شيء لا يطاق.
و قد ودّعني حتى الباب الخارجي ، و هو يعيد على مسمعي عبارته الجديدة : الهزيمة شيء لا يطاق. الهزيمة لا تطاق أبدا.
و بقي حامد على هذه الحال من الانطواء و العزلة ، حتى وقعت حرب حزيران ، و محا ألم ضياع الأرض آلام الحبيبة ، فعاد إلى الشلة و انطوى تحت لوائها المنكس من جديد ، لكن غيمة عابرة من الحزن كانت تلوح في فضاء عينيه السوداوين من حين لآخر ، و كنت أقرأ فيها ذكرى حب غابر لم تكتب له الحياة.

- 2 –

يبدو لي ، أحيانا ، و كأن الفشل هو شعار أصدقاء السوء الطيبين ، فقد أصيب حسان بنكسة عاطفية أقضت مضجعه ، بعدما هجرته حبيبته أ .ط. ، و أصبحت أراه في أنحاء الجامعة يسير كالشبح من غير صوت أو علامة تدل على وجوده ، و هو الذي كان لا يتكلم إلا بصوت مرتفع ، و لا يمشي إلا إذا دقّ الأرض بكعبي حذائه. و كان يقول في تفسير هذه الظاهرة الشاذة : دعنا يا رجل نحتفل بالحياة ، سوف يخطف الموت منا أصواتنا.
و في أحيان أخرى كان يقول كما لو أنه يصرخ : دع الموتى يطقون غيظا. لن يستطيعوا مهما بلغوا من الجرأة أن يحركوا عظامهم الراقدة قيد أنملة.
و لم تكن عادات حسان السيئة قابلة للعد و الحصر ، فمنها مطاردة البنات بشكل وقح و ركوب الباص دون تذكرة و الهرب المتكرر من المحاضرات... إلخ.
غير أن الأنانية كانت أكثر عاداته سوءا ، و لعل هذا هو سبب ابتعاد أ. ط. عنه عشية يوم الهزيمة الذي بدله من حال إلى حال.
عرضت عليه مرارا أن أكون واسطة خير لإعادة المياه إلى مجاريها ، لكنه في كل مرة كان يقابل اقتراحاتي بابتسامة مريرة.
كنت أرى بين شفتيه أسنانا متآكلة تراكم عليها القلح و اللون الأصفر الميت ، و أسمع منه كلمات تتحدث عن موت المحارب و انفجار بارودة فاسدة في الوجه ، ثم كان يغطي عينيه بيده كي لا يرى أرواح شهداء الحرب ، و هي تمر من أمامه و تلوح له بأيديها العظمية الشفافة.

- 3 –

أصبح حديث الهزيمة و الحب الميت الفاشل المحور الجديد الذي تدور عليه أحاديث أفراد الشلة. و كنت أحس بالقهر لانغماسي في هذا الجو الرتيب البليد. و قد حاولت أن أحطم القيود التي تربطني بهؤلاء المنهارين المصدومين بسيارة التاريخ المتحركة ، لكن الخروج من سجن أصعب من الدخول إليه.
الحديث عن الحرب نتناوله مع الفطور ، الصدّ و الجفاء و الكساد العاطفي حقنة نأخذها مع الغداء ، و نسدل الستار على يومنا بعشاء خفيف و نقاش ثقيل و غليظ عن خراب الأوطان العامرة . و كنت دائما أستمع إلى هذه الأحاديث الفقيرة ، و أنا أمزق بعض الصفحات البيضاء التي أعدت أصلا للدراسة ، ثم أقطع هذه المزق إلى نتف صغيرة و ألقيها على الأرض.
و بدأت أشعر بضرورة العودة إلى أحضان جدتي التي يفرّخ الحنان و المحبة و السلام في ساحات قلبها الهرم.

- 4 –

فاجأني حسان بقرار انفصاله عن الشلة. و قدرت له هذا الموقف الشجاع الذي يدل على تغير واضح في سلوكه و شخصيته. و بقي حامد و حده يطاردني كظلي ، و يثقل عليّ بأحاديثه الجوفاء المتكررة عن حرب خاسرة و حب منهار.
و كان تشبيهه للحرب بلعبة النرد يغيظني إلى درجة الغليان. قال مرة و نحن نتمشى في شوارع المدينة بعد العاشرة ليلا : الحظ هو القانون. أرقام النرد تقرر من الخاسر و من الرابح.
تجنبت عبء الرد على تلك الثرثرة المجانية ، فأحس بالظلم . وقف وسط الظلام المترسب فوق المدينة. رفع ذراعه اليمنى ، كافة أصابعها ملتئمة إلاّ السبابة منفردة تشير إلى السماء ، و صاح بأعلى صوت ممكن : هذا هو نصيبي....
لم أر حامد مستسلما مثلما رأيته في تلك الليلة ، و لعله كان يبرر هزائمه المتتالية في الحب و الدراسة ، من خلال ذلك يلتمس للمهزومين الآخرين أعذارا ترسخ الهزيمة و لا تبررها.
حتى إذا أفرغ شحنة غيظه ، انقلب إلى قط أليف لا صوت له و لا مخالب و لا أنياب ، ثم قصد المنزل. و أعتقد أنه تسلق السرير بثيابه الكاملة ، لأنني حينما زرته في اليوم التالي و وجدته ميتا ، كان متمددا على الفراش بلباس الخروج...

- 5 –

جيل خائب و ضائع..
عقد الشلة انفرط ، و بقيت وحيدا أجتر ذكرى حزينة ، و الألم ينقّ في صدري بين حين و آخر.
لم أجد سوى حضن جدتي يستوعب اغترابي و يخمد ما أنا فيه من غليان و توعك. و قد ضمتني بجناحيها و رحبت بعودة الابن الضال.
في ظل الاستقرار و صفاء الذهن علمت أن الشوك كان في أيدي أفراد الشلة فحسب ، و أن الرماد كان في عيونهم فقط. و لما التقيت بحسان في عقب إحدى المحاضرات الصباحية ، دعوته إلى إفطار سريع في المقصف. هناك جلسنا على طاولة واحدة وجها لوجه.
قلت له : إيه. مضت فترة طويلة.
قال : طويلة لأننا دفعنا ثمنها من أعمارنا. لكنها قصيرة بالنسبة للآخرين ، هناك من لم يحس بها على الإطلاق.
أعجبني تحليله المنطقي و الهادئ لأزمتنا. و هذا ما أكد ظنوني في أننا لم نخسر الحرب ، و لا بد للأرض أن تعود.
- نعم يا حسان. سوف تعود الأرض قريبا. لكن حامد لا يعود.
التهمنا آخر لقمة من إفطار الساعة الحادية عشرة ، ظاهرة أخرى تدل على ميولنا إلى التأخير أو لنقل التأجيل ، و انصرفنا كل في سبيله ، لكن بعد أن حصلت من حسان على وعد بلقاء عاجل.
في البيت كانت جدتي تدفع خيطا رفيعا في ثقب الإبرة. قبّلت غضون وجهها ثم ساعدتها في إمرار الخيط من الثقب الرفيع ، و داعبت ( يارا ) ابنة الجيران الصغيرة ، التي أرى الغيم الأزرق يسبح في قزحية عينيها مثل أحلام النهر. و تساءلت في نفسي و قد حق لي التساؤل : هل هذه عيون يارا الحلوة أم عيون المستقبل ؟..

• من مجموعة دقات القلب


















تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة :

17-نيسان-2021

قصائد مختارة لمارلين مونرو

03-تشرين الأول-2020

قصة / كانون الأول / كريستال أربوغاست

12-أيلول-2020

مدينة من الغرب اقصة : تميم أنصاري ترجمة

22-آب-2020

قصائد لهنري راسوف ترجمة :

20-حزيران-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow