Alef Logo
دراسات
              

من هو إله يسوع؟

فراس الســواح

2010-01-02


لقد خاطب يسوع الناس على قدر أفهامهم بمن فيهم تلاميذه، على ما بيّنا في الحلقة الماضية من هذه الدراسة، وما سقنا من شواهد إنجيلية. وهذا يستدعي بالضرورة أنه قد بثّ في تلاميذه نوعين من التعاليم، الأول ظاهريّ والثاني باطنيّ. وهذا هو مؤدّى قوله في إنجيل لوقا: " ليس أحد يعرف من هو الابن إلا الآب، ولا من هو الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له. " (لوقا 10: 22). أي إنّ يسوع لم يعلن الحقائق الخافية بخصوص الآب إلا للقلّة التي يختارها من تلاميذه. وقد أكّد بعض آباء الكنيسة هذه الحقيقة، ومنهم كليمنت الاسكندري الذي نشط في أواخر القرن الثاني الميلادي، والذي كشف في إحدى رسائله عن وجود إنجيل روحاني لمرقس لدى كنيسة الاسكندرية يحتوي على تعاليم ليسوع لا يعرفها إلا الخاصة، ولا يجوز كشفها لغير الساعين إلى كمالهم في الدين (راجع ما أوردناه عن هذا الموضوع في دراستنا السابقة عن إنجيل مرقس السري). على أنّ بعض جوانب تعاليم يسوع الباطنية ذات الطابع الغنوصيّ الواضح قد رشح إلى أسفار الكتاب المقدسي المسيحي، لاسيما رسائل بولس وإنجيل يوحنا. أما تعاليمه الظاهرية فقد دوّنها حسب فهمهم لها مؤلّفو الأناجيل الإزائية الثلاثة مرقس ومتى ولوقا. ولنبدأ برسائل بولس باعتبارها أقدم أدب مسيحيّ مدوّن.

يتحدث بولس عن "إله هذا العالم" أو "إله هذا الدهر" في إشارة خفيّة إلى إله التوراة يهوه في أكثر من موضع. فهو إله الهالكين من اليهود الذين رفضوا الخلاص الذي قدّمه لهم يسوع: " ولكن إذا كان إنجيلنا مكتوماً (= محجوباً)، فإنّه مكتوم عن الهالكين الذي فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح. " (2 كورنتة 4: 3-4) . ومن المعروف أنّ لقب " إله هذا الدهر " هو واحد من ألقاب إله التوراة. نقرأ في سفر إشعيا على سبيل المثال: " أما عرفت، ألم تسمع؟ إله الدهر، الربّ خالق أطراف الأرض، لا يكلُّ ولا يعيى." (إشعيا 40: 28). هذا الإله الذي يدعوه الغنوصيون بالأركون الأكبر ( من الكلمة اليونانية (Archon أي الحاكم) ، يدير العالم من خلال مساعديه المدعوّين أيضاً بالأراكنة (Archons)، أو الأركان بلغة بولس، وهم حفظة الشريعة: " لمّا كنتم تجهلون الله كنتم عبيداً لآلهة ليست بآلهة حقاً. أمّا الآن وقد عرفتم الله، بل عرفكم الله، فكيف تعودون إلى تلك الأركان الضعيفة الحقيرة وتريدون أن تكونوا عبيداً لها كما كنتم قبلاً، تراعون الأيام والشهور والفصول والسنين (إشارة إلى السبت وأعياد اليهود الدينية)؟ " (غلاطية 4: 8-10). " حين كنا قاصرين كنا عبيداً لأركان هذا العالم. فلما تم الزمان أرسل الله ابنه مولوداً لامرأة، مولوداً في حكم الشريعة ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة." (غلاطية 4: 3-6).

وهؤلاء الأراكنة هم ملائكة الحاكم الأكبر الذين بلَّغوا شريعته لليهود وعملوا على تطبيقها: "فما معنى الشريعة؟ إنها أُضيفت بداعي المعاصي إلى أن يأتي النسل الذي جُعل له الموعد (= المسيحيون)، أعلنها (أي الشريعة) الملائكة على يد وسيط (= موسى)، والواحد لا وسيط له، والله واحد." (غلاطية 3: 19-20). وهؤلاء الملائكة من معاوني الآركون الأكبر هم أصحاب الرئاسة والسلطة الذين خلعهم المسيح: " كنتم أمواتاً بزلاتكم وقلف أجسادكم، فأحياكم الله معه وصفح لنا عن جميع زلاتنا وممّا ما كان علينا من صك للفرائض، وألغاه مسمّراً إياه على الصليب، وخلع أصحاب الرئاسة والسلطان وعاد بهم في ركبه الظافر." (كولوسي 2: 13-15). ومع زوال سلطة هؤلاء فقد زالت سلطة الشريعة: " فلا يحكمنّ عليكم أحد في المأكول والمشروب أو الأعياد والأهلَّة والسبوت، فما هذه كلها إلا ظلّ الأمور المستقبلية، أما الحقيقة فهي جسد المسيح. فلا يحرمنّكم أحد إياها رغبة منه في التواضع وفي عبادة الملائكة … فأما وقد مِتّم مع المسيح متخلّين عن أركان العالم، فما بالكم لو كنتم عائشين في العالم تخضعون لمثل هذه النواحي: لا تمسّ، ولا تذق، ولا تأخذ.. وتلك أشياء تؤول كلها إلى الزوال بالاستعمال." (كولوسي 2: 16-21). وهؤلاء الأراكنة هم الذين صلبوا يسوع المسيح لجهلهم بحكمة الله الخفية: " ولكن هناك حكمة نتكلم عليها بين الناضجين في الروح، وهي غير حكمة هذا العالم ولا رؤساء هذا العالم وسلطانهم على زوال، بل هي حكمة الله السرية الخفية التي أعدها قبل الدهور في سبيل مجدنا وما عرفها أحد من رؤساء هذا العالم، ولو عرفوها لما صلبوا رب المجد." (1 كورنثه 2: 6-8).

وبخصوص المفهوم الغنوصي عن روح الإنسان باعتبارها قبس من روح الله يقول بولس: " أما تعرفون أن روح الله يسكن فيكم؟ فمن هدم هيكل الله هدمه الله، لأن هيكل الله مقدس وأنتم أهل الهيكل." (1 كورنثه 3: 16-17). " وإذا كان روح الله الذي أقام يسوع من بين الأموات يسكن فيكم، فالذي أقام يسوع المسيح من بين الأموات يبعث الحياة في أجسادكم الفانية بروحه الذي يسكن فيكم." (روما 8: 10-11). " فمع أن الإنسان الظاهر فينا يسير إلى الفناء، إلا أن الإنسان الباطن يتجدد يوماً بعد يوم." (2 كورنثه 4: 16). ومادام الأمر كذلك فإن هذا العالم هو بالمفهوم الغنوصي غربة للروح لأن مسكنها الأصلي هو في السماء: "ولذلك لا نزال واثقين كل الثقة، عارفين أننا ما دمنا في هذا الجسد فنحن متغرّبون عن الربّ لأننا نهتدي بإيماننا لا بما نراه. فنحن إذاً واثقون، ونُفضل أن نغترب عن هذا الجسد لنقيم مع الربّ". (2 كورثنه 5: 6-8). وعلى عكس اليهود الذين يعتقدون أن وطنهم في الأرض، فإنّ من عرف المسيح يعرف أن وطنه الحقيقي هو في السماء: " هناك جماعة كثيرة تسلك في حياتها سلوك أعداء صليب المسيح (=اليهود). هؤلاء عاقبتهم الهلاك، وإلههم بطنهم (كناية عن شرائع النجس والطاهر في المأكل)، ومجدهم عوراتهم (كناية عن افتخارهم بالختان)، وهمهم أمور الدنيا. أما نحن فوطننا في السماء ومنها ننتظر الربّ يسوع المسيح. فهو الذي يبدل جسدنا الوضيع ليجعله على صورة جسده المجيد." (فيليبي 3: 18-21).

وهذا ما يقود بولس إلى موقف غنوصي من الجسد: "اسلكوا سبيل الروح ولا تقضوا شهوة الجسد، لأنّ الجسد يشتهي ما يخالف الروح". (غلاطية 5: 16-17) . وموقفه هذا من الجسد يقوده إلى موقف سلبي من الزواج رغم عدم شجبه له : "أريد أن تكونوا من دون هم. فغير المتزوج يهتم بأمور الربّ وكيف يرضي الربّ، والمتزوّج يهتمّ بأمور العالم وكيف يرضي امرأته، فهو منقسم… أقول هذا لخيركم لا لألقي عليكم قيداً، بل لتعلموا ما هو لائق وتخدموا الربّ دون ارتباك." (1كورثنه 7: 32-35).

هذه النظرة الغنصوية إلى الجسد ينجم عنها بالضرورة عند بولس قوله بالبعث الروحاني لا بالبعث الجسدي، على ما يراه الغنوصيون أيضاً: "هكذا أيضاً قيامة الأموات، يدفن الجسم في فساد ويقام في عدم فساد، يدفن في هوان ويُقام في مجد، يدفن في ضعف ويقام في قوة، يدفن جسماً حيوانياً ويقام جسماً روحانياً… كما هو الترابي هكذا الترابيون أيضاً، وكما هو السماويّ هكذا السماويون أيضاً. وكما لبسنا صورة الترابي سنلبس أيضاً صورة السماوي. أقول لكم أيها الإخوة إنّ لحماً ودماً لا يقدران أن يرثا ملكوت الله، ولا يرث الفساد عدم الفساد." ( 1 كورثنه 15: 42-50).

إن ثنائية الجسد والروح تعكس عند بولس ثنائية الظلام والنور، والخير والشر. وهو في تبنيه إلى هذه الثنائيات يستخدم مصطلح الإفاقة من نوم الغفلة ورقدة الجهالة الشائع عند الغنوصيين: " تنبه أيها النائم وقم من بين الأموات يضيء لك المسيح." (إفسس 5: 14). " وأنتم تعرفون في أي وقت نحن. حانت ساعتكم لتفيقوا من نومكم، فالخلاص الآن أقرب إلينا مما كان يوم آمنا. تناهى الليل، واقترب النهار. فلنطرح أعمال الظلام ونحمل سلاح النور، لنسلك كما يليق السلوك في النهار." (روما 13: 11-13). " أما أنتم أيها الإخوة فلا تعيشون في الظلام حتى يفاجئكم ذلك اليوم مفاجأة اللص، فلا ننم كسائر الناس بل علينا أن نسهر ونصحو. فإنما في الليل ينام النائمون، وفي الليل يسكر السكارى، أما نحن أبناء النهار فلنكن صاحين لابسين درع الإيمان والمحبة وخوذة رجاء الخلاص." (1تسالونيكي 5: 4-8). " احمدوا الآب بسرور لأنه جعلكم أهلاً لأن تشاطروا القديسين ميراثهم في النور. فهو الذي نجّانا من سلطان الظلمات ونقلنا إلى ملكوت ابنه الحبيب، فكان به الفداء وغفران الخطايا." (كولوسي 1: 12-13).

فإذا انتقلنا إلى إنجيل يوحنا الذي رشح إليه الكثير من تعاليم يسوع الباطنية، لوجدنا كيف تغيب الحدود الفاصلة بين المسيحية الأولى والفكر الغنوصي، لاسيما فيما يتعلق بثنائيات الوجود: الخير والشر، النور والظلمة، الموت والحياة، والمعرفة والجهل : " أنا نور العالم، من يتبعني لا يخبط في الظلام بل له نور الحياة." (8: 12)." النور باق معكم وقتاً طويلاً، فامشوا ما دام لكم النور مخافة أن يدرككم الظلام، لأن الذي يمشي في الظلام لا يدري أين يسير. آمنوا بالنور ما دام لكم النور، فتكونوا أبناء النور." (12: 35-36). " جئت إلى العالم نوراً، فمن آمن بي لا يقيم في الظلام." (12: 46).

ويتحدث يسوع في إنجيل يوحنا عن غربة المؤمنين في عالم تحكمه القوى الظلامية: " من يحب نفسه يهلكها، ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية." (يوحنا 12: 25) . "من أحبّ حياته هلك، ومن كره حياته في هذه الدنيا حفظها إلى الأبدية." (12: 25). " لو كنتم من العالم لأحبّ العالم من كان منه، ولكن أبغضكم العالم لأنكم لستم منه. فاختياري لكم أخرجكم من العالم." (15: 19). " بلَّغتهم كلامك فأبغضهم العالم، لأنهم ليسوا من العالم كما أني لست من العالم". (17: 14). ولذلك عندما سأله الوالي الروماني أثناء المحاكمة: أأنت ملك اليهود؟ أجابه يسوع: " ليست مملكتي من هذا العالم. ولو كانت مملكتي من هذا العالم لدافع عني رجالي لكي لا أُسلّم إلى اليهود". (18: 36). هذه المملكة الأرضية التي رفضها يسوع ما عرفت الله قط: " العالم لم يعرفك، أما أنا فقد عرفتك، وعرف هؤلاء (=التلاميذ) أنك أرسلتني " (17: 25).

وإذا كان العالم جاهلاً بالله الحق فلأنه واقع تحت سلطان قوة أخرى يدعوها يسوع بسيد هذا العالم، إله اليهود الذي جربه في البرية، والذي رفض يسوع السجود له وأعلن انتهاء سلطانه على المؤمين بالآب السماوي: " اليوم دينونة هذا العالم، واليوم يُنبذ سيد هذا العالم. فإذا رُفعتُ من هذه الأرض جذبتُ إلي الناس أجمعين" (12: 31-32). " لأن سيد هذا العالم قد حُكم عليه." (16: 11). " لن أخاطبكم بعد الآن لأن سيّد هذا العالم آت وليس له يد عليّ. وما ذلك إلا ليعرف العالم أني أحبّ الآب وأعمل بما أوصاني." (14: 30-31). سيد هذا العالم الذي عرض على يسوع السلطة على كل ممالك الأرض، هو الذي يهب كل سلطان أرضي، وهو الذي أسلم يسوع إلى الصلب. فعندما قال له الوالي ببلاطس أثناء المحاكمة: " ألا تكلمني؟ أفلستَ تعلم أن لي سلطاناً أن أصلبك وسلطاناً أن أُطلقك؟ " أجاب يسوع: " لم يكن لك سلطان عليّ البتّة لو لم تكن أعطيت (هذا السلطان) من فوق، لذلك الذي أسلمني إليك له خطيّة عظيمة." (19: 10-11). ولكن يسوع بموته على الصليب وقد غلب العالم وسيد هذا العالم: " ستعانون الشدة في هذا العالم، فاصبروا لها، لقد غلبتُ العالم." (16: 13).

أما مصدرنا الثالث في تتبُّع التعاليم الخفية ليسوع، فهو إنجيل غير رسميّ منسوب إلى توما الرسول يحتوي على 114 قولاً ليسوع من غير التعرض لسيرته أو المناسبات الخاصة بهذه الأقوال. ورغم بقاء هذا الإنجيل خارج كتاب العهد الجديد، إلا أنه أكثر الأناجيل غير الرسمية قرباً إلى الأناجيل القانونية، الأمر الذي أكسبه عن جدارة لقب الإنجيل الخامس. تعود أقدم الشذرات المكتشفة من هذا الإنجيل إلى مطلع القرن الثاني الميلادي، ولكن الباحثين يعتقدون بأنه ترجمة يونانية عن نص آراميّ أقدم دُوّن في فلسطين أو مكان آخر من سورية. وهناك اتجاهات جديدة في البحث تضع تاريخ تدوينه في زمن ما من النصف الثاني للقرن الأول الميلادي، أي في فترة تدوين الأناجيل الرسمية.

من الأقوال الـ114 الواردة في إنجيل توما هناك نحو 50 قولاً يشترك بها مع أقوال يسوع الواردة في الأناجيل الإزائية الثلاثة (مرقس ومتى ولوقا)، وهذا ما يعطي بقية الأقوال مصداقية تؤكد نسبتها إلى يسوع. إلا أن ما يميّزه عن الأناجيل الإزائية هو أن يسوع لا يظهر فيه كمبشر بحلول اليوم الأخير ودينونة العالم، وإنما كمعلّم حكمة يرشد إلى سبل الحياة الروحية الكفيلة بتطهير النفس والانعتاق من العالم. وتظهر في أقواله لهجة غنوصية بسيطة وواضحة، وبعيدة عن التصورات الميثولوجية المعقدة التي نواجهها في النصوص الغنوصية التي دونت بعده، والتي ابتعدت عن جوّ الأناجيل الرسمية رغم اتخاذها لشخصية يسوع المسيح المبعوث مركزاً لأفكارها وتصوّراتها الدينية.

ومؤلف الإنجيل يصف في فقرته الاستهلالية الأقوال التي يقدمها لنا على أنها : "الكلمات الخفية التي نطق بها يسوع الحيّ، ودوّنها يهوذا توما." وأنّ : "من يتوصّل إلى تأويلها لن يذوق الموت أبداً." وتبتدئ كل فقرة من الفقرات الـ114 إما بجملة: "قال يسوع" أو "قال له التلاميذ" أو "سأله التلاميذ". وفيما يلي مقتبسات من هذا الإنجيل مع شروحاتي على المتن (1):

* قال يسوع: على من يبحث ألا يتوقف عن البحث إلى أن يجد، وحين يجد سوف يضطرب، وحين يضطرب سوف يَعْجَبُ ويسود على الكلّ.

أي إن المعرفة هي أداة الساعي إلى الخلاص، وعليه متابعتها دون كلل أو يأس، لأنها ستقود في النهاية إلى الاستنارة التي تترافق في البداية مع الدهشة والاضطراب، ثم يليها الغبطة والسكون الداخلي.

* قال يسوع: عندما تعرفون أنفسكم تعرفون أنكم أبناء الآب الحيّ. ولكن إذا لم تعرفوا أنفسكم أقمتم في الفقر وكنتم الفقر ".

على ما هو معروف في الأدبيات الغنوصية فإنّ يسوع هنا يقرن الروح بالثروة والجسد بالفقر. فمن عرف نفسه عرف إلهه الذي سيمد له يد الخلاص، ومن لم يعرف نفسه بقي مقيماً في الفقر، أي في الجسد المادي، أسيراً لدورة التناسخ. ولذلك قال في فقرة أخرى من إنجيل توما:

* إذا نشأ الجسد عن الروح فهي معجزة، وإذا نشأت الروح عن الجسد فهي معجزة المعجزات. وإني لأعجب كيف لهذه الثروة العظيمة أن تقيم في هذا الفقر.

* قال يسوع: اعرف ما في متناول البصر يظهر لك الخافي عليك. فما من خفي إلا وينكشف.

أي إن المعرفة الحقة للعالم تكشف لك أصله المتجذر في الشر والظلام.

* قال يسوع: لقد ألقيتُ على العالم ناراً، وها أنا أرقبه حتى يضطرم.

أي إن يسوع جاء ليقضي على كل ما هو قديم ويستبدله بكل ما هو جديد. وقد ورد في إنجيل لوقا: " جئت لألقي على الأرض ناراً، وكم أرجو أن تكون قد احترقت " (لوقا 12: 29) .

* قال يسوع : هذه السماء ستزول والتي فوقها ستزول. ولكن من هم أموات لن يحيوا، ومن هم أحياء لن يموتوا.

الأموات الذين لن يحيوا هنا، هم غير العارفين. أما الأحياء فهم العارفون الذين عرفوا أنفسهم وعرفوا إلههم.

* قال يسوع: إذا صُمتم جلبتم على أنفسكم خطيئة، وإذا صليتم أدنتم أنفسكم، وإذا تصدقتم آذيتم أرواحكم.

أي إن العارف الذي يصوم عن العالم ليس بحاجة إلى الصيام التعبّدي اليهودي؛ والذي هو في تواصل دائم مع الإلهي ليس بحاجة إلى طقس الصلاة الشكليّ، والذي تنبع أخلاقه عن التزام حرّ وأصيل ليس بحاجة إلى أخلاق الشريعة المفروضة من الخارج .

* قال يسوع: ليس بمقدور أحد أن يمتطي حصانين في آن معاً، أو أن يشدّ قوسين. وليس بمقدور العبد أن يخدم سيّدين (قارن مع متى 6: 24).

الحصانان والقوسان والسيّدان هنا هما الروح والجسد.

* قال يسوع : إذا سألوكم من أين جئتم؟ قولوا: جئنا من النور، من المكان الذي انبثق فيه النور من تلقاء ذاته وتجلّى في صور نورانية. وإذا سألوكم: من أنتم؟ قولوا: نحن أبناؤه، نحن مختارو الآب الحيّ .

* قال له تلاميذه : أربعة وعشرون نبياً كلهم تكلّموا عنك. قال لهم: لقد غفلتم عن الحيّ الذي أمامكم وتكلّمتم عن الأموات.

يؤكّد يسوع هنا القطيعة مع التاريخ الديني اليهودي.

فالشريعة وتعاليم الأنبياء قد انتهت بظهور البشارة الجديدة.

* قال له تلاميذه: هل الختان مفيد؟ قال لهم : لو كان مفيداً لكان أبوهم أنجبهم مختونين. ولكن الختان الحقيقي بالروح .

يستبدل يسوع هنا طهارة الجسد التي يعبر عنها الختان اليهودي بطهارة الروح التي يعبر عنها العماد المسيحي. فالختان الحقيقي هو بالروح لا بالجسد. وهذا ما عبّر عنه بولس عندما قال: " الختان ختان القلب العائد إلى الروح لا إلى حروف الشريعة (روما 2: 29). وأيضاً : " هأنذا بولس أقول لكم : إذا اختتنتم فلن يفيدكم المسيح شيئاً … لقد انقطعتم عن المسيح يا أيها الذين يلتمسون البر من الشريعة (غلاطية 5: 2-4).

* قال يسوع : كونوا عابري سبيل.

أي عيشوا في هذا العالم كغرباء عنه متطلعين دوماً إلى موطنكم الأصلي في السماء. ولذلك قال في موضع آخر عندما سألته المجدلية: ماذا يشبه تلاميذك؟ فقال: يشبهون صغاراً يعيشون في حقل لا يخصهم.

* قال يسوع : من عرف كل شيء ولم يعرف نفسه، افتقر إلى كل شيء.

* قال يسوع : من يطلب يجد ومن يقرع يُفتح له الباب.

أي إن المعرفة متاحة للجميع وما عليك إلا أن تقرع بابها.

*قال يسوع: من فهم العالم وقع على جيفة، ومن وقع على جيفة فالعالم ليس أهلاً له.

أي إن من يعرف العالم على حقيقته لا يرى فيه سوى جيفة، فيشيح بوجهه عنها ويغدو فوق العالم.

* قال يسوع: تطلعوا إلى الحيّ ما دمتم أحياء، لئلا تموتوا وتحاولوا رؤية الحيّ فلا تستطيعون.

أي لن يرى الله بعد الموت إلا من رآه رؤية القلب الحقة في الحياة.

مآل تعاليم يسوع:

إن تعاليم يسوع الظاهرة منها والباطنة، قد وصلت إلى مؤلّفي الأناجيل بعد أكثر من أربعين سنة على وفاته، على شكل مجموعات أقوال دوّنها مؤلّفون مجهولون، ومنها مجموعة اللوجيا – Logia (2) ، والمجموعة المنسوبة إلى توما التي اقتبسنا منها أعلاه، ومجموعة المصدر (3) ، إضافة إلى أخبار حفظتها ذاكرة التلاميذ عن سيرة حياته.

وقد تأمّل هؤلاء المؤلفون في هذه التركة وفهموها، كلّ بما يتناسب مع تكوينه الشخصي وخلفيته الثقافية، فأخذ ما أخذ وترك ما ترك. ثم جاءت الكنيسة المبكرة وتأملت في تركة هؤلاء المؤلفين وبنت عليه مستوى ثانيا للتفسير. وأخيراً جاء اللاهوت المسيحي الذي صاغه آباء متشبعون بالثقافة اليونانية، فبنوا مستوى ثالثا للتفسير.

ومع الانتقال بين مستويات التفسير هذه، جرى إسقاط الكثير من التعاليم الباطنية ليسوع حتى بدا أنها قد ضاعت إلى الأبد. إلا أن شخصية فذّة بين آباء الكنيسة نشط في أواسط القرن الثاني الميلادي يدعى مرقيون Marcion ، قد حفظ لنا جوهر هذه التعاليم وبنى عليها كنيسة بديلة عن كنيسة روما. ورغم أنّ هذه الكنيسة لم تُعمّر طويلاً، إلا أنها تبقى أمامنا بمثابة شاهد حيّ على الوجه الخفيّ لتعاليم يسوع المسيح .

وهذا ما سنتفرّغ له في البحث القادم .

الهوامش:

1– Marvin W. Meyer, The Secret Teaching of Jesus, Vintage, 1986, pp. 19 – 38. انظر ترجمتي الكاملة للنص وشروحاتي عليه في مؤلفي : " الوجه الآخر للمسيح " .

2 – اللوجيا – Logia تعني الأقوال باللغة اليونانية. هذه المجموعة من أقوال يسوع لم تصلنا وإنما ذكرها بعض آباء الكنيسة، ومنهم أوزيب القيساري في نقله عن بابياس أسقف هيرابوليس في القرن الثاني الميلادي، الذي قال إن متى قد جمع هذه الأقوال باللهجة العبرية السادة (=الآرامية)، ثم جاء بعده من ترجمها حسب استطاعته .

3 – المصدر ، أو Q من الكلمة الألمانية Quelle (=المصدر). وهو مرجع يفترض الباحثون وجوده، ويعتقدون أنه مصدر مشترك لكل من متى ولوقا، إضافة إلى مصدرهما الآخر وهو إنجيل مرقس .

عن موقع الأوان





















































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

دراسات في علم الأديان المقارن: تاريخ المصحف الشريف

22-أيار-2021

هل كان موسى مصرياً

08-أيار-2021

هل كان موسى مصرياً

01-أيار-2021

الديانة الزرادشتية وميلاد الشيطان

24-نيسان-2021

في رمزية حجر الكعبة الأسود

13-شباط-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow