Alef Logo
ابداعات
              

فراشة على مرآته

ناديا الألوسي

خاص ألف

2010-08-03


واحدة .. اثنتان .. وثالثة الآن في رمقها الأخير .
ودائما في الرمق الأخير هذا تخطف أنفاسها لحظة ترقب مكتنز بالأمل لحدوث شيء ما , اي شيء , مثل مفاجأة . فلحظة واحدة يمكنها أن تصنع اشياء كثيرة وعظيمة , حياة باكملها تتغير في لحظة , الطبيعة نفسها تغضب وتثور في لحظة ثم تسكن في اخرى .
اعدت كل متكآت اللهفة في روحها واغمضت عينيها , ثم .. لا شيء . لا حركة .. لا ثم صوت , سوى لعقربين .. قضما مابقي من وجبتهما وزحفا فاغرين الى التالية . حركات ذاتها تتكرر , ومن عيون يطفئانها في النهار الى عيون الليل وحدهما من يحكي .. بلا كلمات حكاية تتجدد كل يوم . لكم أمقت هذين العقربين... حدثت نفسها. ومع هذ ا فأن التطلع اليهما كل حين اغراء لا تقاومه .
أحست ان اللحظة القائمة توشك أن تفتح بوابة الضجر . شعور عرفته مرارا ولم تألفه روحها . تكره أن تكون لا مبالية , أن تطفو .. لا هي هنا ولا في اي هناك , في مكان ينسلخ عن ألوانه ويكتسي لونا واحدا.. فارغا . غير ان فكرة , لا ليست فكرة , فكل الأفكار هجرت رأسها فجأة , بل هي ذبذبات أفاقت عليها تسري في جسدها , بدأت الآن تتكثف وتتجمع في بؤرة مثل نبضة في القلب ثقيلة , لها قوة غامضة كالتي للاشتياق أو للرغبة .. رغبة ملحة لا تستكين وفي غير ما اعتادته, لكن في ماذا ؟ لا تعرف .

السماء صافية , وقريبة بدت , تسكب ضوءا بهيا ولازوردا فوق مدينة راعشة بالحركة ضاجة بالصخب . الأشجار في كل مكان , خضراء وكستنائية وصفراء , تختلج حيرة بين فصل يستعد للرحيل وفصل مقبل يسوق نسائمه الرقيقة تنثر بوح الياسمين والريحان على العابرين . صور كثيرة تتداخل وتتغير مع لمح البصر , أيقاعات والوان مشرقة تملأ قلب النهار وتشكل مشهدا من الحياة متوهجا يستحق تأمله والأستمتاع به , لكن ليس التأمل ما خرجت من أجله .
مقادة بالرغبة المجهولة مضت تبعثر خطى تسابق خطى على ارصفة وشوارع , أذرع ممدودة تناديها , وكلها اعين ترشقها بسهام لاتخطيء اهدافها .
... للرجال عيون ذئاب .. فاحترسي .
منذ جمعتها صدفة سحرية مع باسل وأسلما روحيهما طائعين للحب , وهما يتقاسمان قلبيهما . يعيشان شوقا وشغفا ببعضهما لا حدود له , لكن كل بطريقته . فهي تكرس وجودها كله له ولا تحس بأحد غيره , وحبه لها مسكون بقلق وهواجس لاتهدأ ترهق القلبين . طوال سنوات الحب , كل حبيبتي يطوقها بألف لا .. وصايا لا انتهاء لها تحميها من أي آخر . وصايا في اللقاء وفي البعد يملأ بها ذاكرتها , قيود غير مرئية تتحرك داخلها صائمة عن لغة جسدها وأجمل أثوابها وحليها :
- الا تراك تفكر في هذا الأمر بقلق أكثر مما ينبغي ؟
- لا .. حبيبتي . أنا رجل وأعرف من أين تبدأ خيالات الرجال والى أين تصل . وأنت امراتي , لا اريد لطيفك ان يمر بمخيلاتهم .
لكن ندى , رغم عدم قناعتها بوصايا باسل , أمينة عليها , مثل سر مقدس , وهذه هي قوانين الحب .
غابت عنها بانشغال ذهنها بالذكرى , تفاصيل الأمكنة التي مرت بها والشوارع التي قطعتها ولم يستوقفها شيء ولا تدري متى تتوقف .
***
بسعادة وزهو , جديد عليه , فسر لها فادي ماذا يعني وكيف يكون الرسم على المرآة فيما كانت تجول ببصرها في اركان محله الصغير , معتم قليلا لكنه يبعث على الأرتياح , رتبته يد فنان بطريقة تغري أي زائر بشراء مايصنعه .
وكمن يمشي على غيم , أرتقى سلما يؤدي الى غرفة علوية يحتفظ فيها بأدوات فنه ثم هبط بسرعة :
فراشة .. سيدتي ؟
سألها بعد أن تركته يختار ماسوف يرسمه على مرآة راقها شكل أطارها وقررت شراءها . الفراشة كائن مذهل . متميزة في كل شيء , في شكلها ورقتها , في اقترابها المضطرب منا وابتعادها المفاجيء .. فهي تحب حريتها , ولطالما أحببتها . استرسل في حديثه حين أحس من ندى أهتماما أعاده الى حدائق طفولته وتذكر كيف كان يعيش متعة كبيرة وهو يمسك بالفراشة بين أصابعه ويتأمل في زخرفة جناحيها وحركة أرجلها الدقيقة محاولة الأفلات . وبعد أن يفلتها يجد انها تركت له أثرا منها , غبارا من ألوانها الجميلة .
- ربما كنت تؤلمها أثناء متعتك .
- كنت طفلا .. وبراءة الطفل لايمكن أن يكون فيها قصد للأذى .
... أصبعك الصغير هذا .. لا تضعيه فوق شفتيك . أن أكثر ايماءاتك عفوية أشدها اثارة . أنها تبوح بأسرار نفسك لهم دون أن تشعري , وأسرارك لي وحدي .
... يا لهؤلاء الرجال .. ألهذا الحد يمكن ان يثيرهم أي شيء ؟ . وهل أحبس حواسي وانفعالات جسدي , البسيطة حتى من أجلهم ؟

ذكرتها ملاحقة الفنان لحركات يديها , بوصايا باسل وانتبهت الى انه يرمقها بنظرات اعجاب صريحة لكنها خجلى , من عينين مسالمتين , وليستا عيني ذئب .
الفراشة كالمرأة الجميلة .. سيدتي .
أنا أريد المرآة هذه لأهديها لزوجي . أصالحه بها .. فهو غاضب مني .. وغائب .
سرت روح صمت بينهما لحظة . فهي لا تعرف كيف تدفقت هذه الكلمات من فمها ولماذا .. كأن واحدة اخرى , خرجت من ذاتها ونطقت بها . هي نفسها الأخرى التي خططت لكل شيء منذ الصباح وقادتها الى هنا . وشعر هو كأن شيئا خطف منه فجاة . لكنه بدا يتاملها الآن بأمعان بعد ان كان مأخوذا بظهورها المفاجيء أمامه محاطة بهالة من ضوء .
لا تبدو كأي أمراة متزوجة . ونظرة الى العينين المشعتين حياة وهدوءا معا على وجه نضر , شفتيها اللتين تبدوان عذراوين لدقتهما ورقتهما وكفي الطفلة اللتين لها , توحي بأنها ما زالت لم تكبر بعد . وزاد ذلك من جاذبيتها .
هكذا الحياة سيدتي , لا تخلو من المشاكل . وخلافاتك مع زوجك تشبه كل الخلافات البسيطة التي تحدث بين الأزواج كل يوم . وسوف تصلان الى حل لها .
لم يجد مايقوله لها ألا كلاما شائعا , يقوله الناس دون أن يعني شيئا .

***

أيه فراشتي ..
أي جمال يمكن أن يضاهي جمالك .. وما السر الذي فيك ؟ . أجدك في مرآتي , وتحلقين في سماء روحي المفتوحة آفاقها كلها لك . كيف أصفك ؟ أن أي كلمة الى جانب فتنتك تبدو بلا معنى .
مغمورا بفيض من صور أحلام واضحة يراها واقفة أمامه , في نفس المكان حيث وقفت اول مرة .. ويحدثها .
يحدث امراة فاتنة فاضت انهارها في جفاف ايامه وصارت الدنيا كلها في عينيها , ويحدث روح الطفلة البريئة فيها . لم يعد يكترث لكونها متزوجة وليس يعنيه ما حكته من قصص خلافاتها مع زوجها أو مع اهله , وما لم تعد تحكيه . لكنه يصغي اليها بكل توق فقط ليستمتع بصوتها الذي وحده يجعل قلبه ينبض بطريقة لم يعرفها من قبل . ولم يعد يرد عليها بكلام مواساة شائع , بل يحكي لها عن حياته وقصة كفاحه من أجل المعيشة وكيف أن الأيام كثيرا ما داست بثقلها على روحه وأيضا عن حاجته للحب وللسعادة .
كم مرة شكر القدر . فهو يعتقد بأنه متحالف معه أذ هداه في البدء لأختيار الفراشة التي يحتاج رسمها وقتا طويلا . وحين طلبت هي تغييرا في شكل الفراشة , وفي آخر موعد بينهما أذ سقطت المرآة على الأرض من يده ..أو من يدها , لا يذكر فقد كان مضطربا كعادته في حضورها .
لكن .. و يا لوداعتها ورقتها , فهي لم تغضب أو تبد انزعاجا لما حصل . أنها برقتها هذه تمارس عليه قهرا يجرجره بين السعادة وألم المتعة التي لا تكتمل .. لكنه يشتاقه في غيابها .
... آه لو تمنحني الحياة لحظة واحدة , نعبر فيها هذا العالم الى عالم آخر ليس فيه سوانا .. واضمك بين ذراعي .. أني لأعطي كل ما أملك .. لو تدرين .. من أجل هذه اللحظة . لقد اضأت عتمة أحلامي فهل ادعك تغيبين عني .
لكنه تعوزه الجراة ليقول لها ما في قلبه . ربما في الموعد القادم تغلب على ارتباكه وخجله وتكلم .

في الموعد القادم سوف اعطيه ثمن المرآة مضاعفا .
حدثت نفسها مستغربة سقوط المرآة على الأرض وتكسرها . ربما لأنها لم تلتقطها جيدا منه , أو لأرتعاش يده . ثم ضحكت ساخرة وهي تستحضره في خيالها حين يحدثها , برجفة صوته وتلعثم كلماته , ونزيف العرق الذي يسيح على وجهه . ما الداعي لكل ذلك .. هل يمكن أن يكون احبها ؟ تساءلت .
لم تمنحه كثيرا فرصة تبادل النظرات معها غير انها كانت تشعر وتعرف بانه يحدق بها . وعندما قال لها بأن لها وجها يشبه وجوه الملائكة في الرسوم اتي تملأ الكاتدرائيات فهو يعني ذلك حقا , لأنه فنان . حتى نظرة الأعجاب في عينيه وكانت شعلة مضطربة استحالت بعد لقائين الى نظرة حنو دافيء .. حنو أب .
لكن مواعيدها معه هي من أكثر مواعيدها بهجة وتميزا , وهو انسان لطيف ومهذب وان كانت اثارت اعجابه , وذلك يسعدها , فلا ذنب لها .. الله خلقها هكذا ولم تتصنع مرة أو تفتعل حركة لأثارته . ربما تمادى في تعاطفه معها بسبب ما حكته له .. ليس أكثر من ذلك . قالت لنفسها مستبعدة أي فكرة أخرى .

***

المرآة والفراشة هديتي لك .. فهل تقبليها ؟
رأى بعد طول تفكير ان هذا أفضل شيء يفعله ليسبق به ماظل لأيام يعد له . واليوم سيبوح لها بكل شيء , فلم يعد قادرا على دفن مشاعره وآلام قلبه .
- ولكن كيف تجرؤ ؟ ... أنسيت بانني متزوجة !
لم أقل لك بأنني تصالحت مع زوجي , لكنه هو رجلي وانا ملك له وهو ملك لي , ولا شيء يمكن ان يفصل روحينا عن بعضهما .


وقف جامدا محاولا ان يستجمع قواه , لكنه لم يقو على نطق كلمة واحدة , كأن هواءا جافا أو غبارا التصق بسقف فمه . وانتابها شعور مفاجيء بالنفور منه , زاد حين لمحت في عينيه انكسارا ونظرة تقول .. لا تؤذيني .
- كان عليك أن تفكر جيدا قبل أن تبوح بما صوره لك خيالك . وربما كنت تحلم , لكن حلمك هو المستحيل بعينه .
تمتمت بكلمات لم يسمعها قبل ان تترك له المرآة وتغادر محله غاضبة .

كيف يجرؤ .. كيف يجرؤ ؟ . ما زالت في فورة غضبها تحدث نفسها . لم استدرجه لحبي .. أو لوهمه .. بكلمة قلتها أو بنظرة . أنه لا يعرف حتى أسمي . ما ذنبي أن كان هذا قدره ؟ .
عاد اليها بعد لحظات هدوء روحها , وعاد تكبل رموشها بحلمها الجميل , حلم عودة باسل من غيبته الطويلة . فقد اتصل بها وأخبرها بانه أعد كل ما يحتاجه أي أثنين محبين يحلمان أن يتكلل حبهما بالزواج . وما عليها الا ان تحدد له موعدا مع والدها ليتقدم له خاطبا .
××××××××××××××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر ــ ألف


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

قصتان

29-كانون الأول-2017

قصتان

23-كانون الأول-2017

لك أيها النبيل

25-تشرين الثاني-2017

قصتان قصيرتان

09-نيسان-2016

قصتان

07-حزيران-2015

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow