Alef Logo
دراسات
              

مدخل إلى تاريخ الشرق القديم / صلوات وتراتيل مصرية

فراس الســواح

2008-02-04

للإله الواحد(1)
1- ترتيلة إلى آمون- رع:
لم يكن الإله آمون معروفاً على نطاق واسع في مصر خلال عصر المملكة القديمة، ولا يظهر اسمه في نصوص الأهرامات في هيليوبوليس عاصمة المملكة القديمة إلا أربع مرات؛ وكان إلهاً لمدينة طيبة عندما كانت مجرد بلدة صغيرة في الولاية الرابعة لمصر العليا. في عصر المملكة المتوسطة، أخذت أهمية طيبة بالتزايد حتى غدت في عصر المملكة الحديثة عاصمة مصر الكبرى، وعلا شأن إلهها آمون وتم دمجه بإله الشمس القديم رع، تحت اسم آمون- رع، الإله الخالق، الذي أنجب نفسه بنفسه وخلق فيما بعد الآلهة والعالم والكائنات الحية.
والترتيلة التالية التي سنقدم مقتطفات منها تنم عن اتجاهات توحيدية في الديانة المصرية، سابقة على الإصلاح الديني لأخناتون
الثناء لك يا آمون- رع،
سيد عرش القطرين، المترئس على الكرنك؛
ثور أُمه، الحاكم على فلوات الأرض وحقولها؛
ذو الخطوة الواسعة، الحاكم على مصر العليا؛
سيد أرض المدجوى وحاكم بلاد البونت؛
كبير السماء وبكر الأرض؛
سيد ما هو جوهري ودائم في كل الأشياء؛
ثور التاسوع الإلهي المقدس، وسيد كل الآلهة؛
رب الحقيقة وأبو الآلهة جميعاً؛
الذي صنع البشر وخلق الحيوان؛
رب الموجودات، الذي خلق الشجر المثمر،
وصنع الكلأ لحياة الأنعام؛
الذي صنع كل ما في الأسفل وكل ما في الأعلى؛
الذي ينير القطرين، ويقطع السماوات في سلام؛
ملك مصر العليا والسفلى: رع المنتصر؛
الشديد القوي، الرب المبجل؛
المهيمن الذي صنع أقطار الأرض.
طبيعته الفائقة تسمو على بقية الآلهة،
وكلهم يبتهج بجماله؛
الصبوح الوجه الذي يبزغ (من الشرق)، أرض الآلهة؛
يتمسح الآلهة بقدميه ويعلنونه رباً؛
إنه الرب المخوف، الرب المرهوب؛
إنه الجبار ذو الطلعة المهوبة؛
العميم الخيرات، الكثير العطاءات؛
الثناء لك يا من صنع الآلهة،
ويا من رفع السماوات وبسط الأرض؛
مين- آمون، الذي يصحو (كل صباح) في صحة وعافية؛
رب الأبدية الذي صنع الديمومة؛
القوي القرنين، الجميل الوجه؛
رب الأشعة، الذي يصنع الضياء؛
يفتح ذراعيه لكل من يحبونه؛
ويلتهم كل مبغضيه بنار آكلة.
الثناء لك يا رع، يا رب الحقيقة؛
يا صاحب الهيكل المخفي، يا رب الآلهة؛
أنت خيبري المبحر في زورقه؛
الذي بكلمته الآمرة أظهر الآلهة إلى الوجود.
أنت آتوم الذي صنع البشر،
وميز طبائعهم ووهبهم الحياة،
وفصل الألوان بعضها عن بعض.
الذي يسمع صلاة المأسورين،
وصاحب القلب الكبير الذي يصغي إلى المستجيرين،
وينقذ الخائفين من جزع القلوب.
الذي ينصف الضعيف والمظلوم،
رب البصيرة النافذة وصاحب الأمر الماضي.
الذي من محبته فاض نهر النيل،
ومن ملاحته انبثق النور.
الذي بجماله يبتهج الآلهة،
وتحيا قلوبهم لمرآه.
أي رع، أيها المعبود في الكرنك،
صاحب التجلي العظيم في هيكل العمود الحجري،
الهيليوبوليتاني رب القمر الجديد المشرق،
الذي له تقام له احتفالات اليوم السادس، والربع القمري.
السلطان، له الحياة والصحة والازدهار، سيد الآلهة،
إليه ترنو أنظارهم وهو على خط الأفق.
سيد أرض أهل الصمت (= الأموات)،
الذي أخفى اسمه عن أبنائه.
إنه آمون: الخافي،
رب الفرح، المهوب في ظهوره.
كم يحب الآلهة النظر إليك،
وفوق جبينك التاج المزدوج (تاج القطرين).
إن محبتك تسود عبر القطرين،
وفي ظهورك خير للأنام،
وعندما تشرق تتمطى الأنعام تحت أشعتك.
محبتك مزروعة في السماء الجنوبية،
وحلاوتك مبثوثة في السماء الشمالية،
وجمالك يأسر القلوب في كل مكان،
وتلهو لمرآك عما سواك.
أنت الواحد الذي صنع كل ما هو موجود،
أنت الواحد الأحد الذي خلق كل ما هو كائن.
من عينيك صدر البشر،
ومن فمك وُجد الآلهة طراً.
أنت الذي أخرج الحَب والمرعى للماشية،
وأنتح الشجر المثمر لبني الإنسان،
وقيض للأسماك في النهر ما تقتات به،
وللطيور السابحة في الجو أيضاً،
ويسَّر الهواء للصوص في بيضته،
ووهب الحياة لوليد الحلزون،
وقيض للبعوض ما تعيش عليه،
وللديدان وللذباب أيضاً،
وأمد الفئران في جحورها بما تحتاجه،
ويسَّر الحياة لكل ذي جناح على الشجر.
الثناء لك يا من فعل كل هذا،
أيها الواحد الأوحد ذي الأذرع الكثيرة؛
أنت الذي يسهر في الليل والأنام نيام،
ليقوم على رعاية مخلوقاته جميعاً.
الكل يوجه إليك الحمد قائلاً:
الثناء لك، لأنك أتعبت نفسك لأجلنا،
سلام لك، لأنك قد أوجدتنا.
الثناء لك من كل أصناف الحيوانات،
الثناء لك من كل قطر أجنبي،
ثناء لك بعلو السماوات وسعة الأرض،
ثناء لك بعمق البحر العظيم الأزرق.
إن الآلهة ينحنون أرضاً أمام جلالتك،
يبجلون عظمة الذي صنعهم،
ويبتهجون لقدوم الذي أنجبهم.
كلهم يقول لك: تعال في سلام،
يا والد آباء الآلهة طراً،
يا من رفع السماوات وبسط الأرض،
يا من صنع ما هو كائن وخلق كل موجود،
أننا نثني على عظمتك بما أنك صانعنا،
دعنا نبذل لك لأنك أوجدتنا،
ونرفع آيات الشكر لمن أتعب نفسه لأجلنا.
الثناء لك يا من صنعت كل ما هو كائن؛
رب الحقيقة وأبو الآلهة؛
الواحد الأحد الذي ليس له ند ولا شبيه؛
والذي يعيش على الحقيقة في كل يوم؛
الذي يسكن الأفق، إنه حوروس الشرق؛
الذي تُنتج له الصحارى فضة وذهباً،
ولازورداً خالصاً لأجل محبته.
آمون- رع، رب عرش القطرين،
ذو الأسماء الكثيرة التي لا عد لها.
الذي يطلع من الأفق الشرقي،
ويمضي لكي يستريح في الأفق الغربي.
الذي قهر أعداءه طراً؛
الذي يجدد ميلاده صباح كل يوم؛
رب قارب المساء ورب قارب الصباح؛
بهما يقطع مياه الأعالي في سلام.
ها ملاحك مبتهج القلب،
لأنك قضيت على التنين المتمرد.
لقد مزقتْ السكين جسده، والتهمته النيران،
أتت على روحه أكثر مما أتت على جسده.
ذلك التنين قد أُخمدت حركته،
فابتهج ملاح رع وفرحت الآلهة،
لأن أعداء أتوم قد بادوا جميعاً.
الثناء لك، آمون رع، يا رب عرش القطرين
2- ترتيلة كونية إلى الشمس:
لقد كان من نتيجة تأسيس الإمبراطورية المصرية على يد فراعنة الأسرة الثامنة عشرة (1550-1350 ق.م)، والتي امتدت من نهر الفرات إلى شلال النيل الأول، حصول تغير في التصورات الدينية المصرية دفعها أكثر فأكثر نحو الكونية والشمولية، والاقتراب من مفهوم التوحيد العالمي، على ما يتجلى في هذه الترتيلة التي تعود على الغالب إلى عصر أمينحوتب الثالث، والد الفرعون أخناتون.
الثناء لك يا رع الجميل، رع كل نهار.
الذي يرتفع في الأفق دوماً دون توقف؛
خيبري الذي يتعب نفسه بالكد دواماً.
أشعتك تسكن الوجوه دون أن يُسبر غورها،
وتفوق الذهب الخالص في بريقها ولمعانها.
أنت الذي صنع نفسه وصور جسده بنفسه؛
أنت الصانع الذي لم يصنعه أحد؛
أنت البعيد الفريد في طبيعته؛
أنت الذي يتجاوز الأبدية.
عندما تقطع السماء، كل الوجوه تنظر إليك،
وعندما تغيب تخفي نفسك عن الكل.
تعلن عن نفسك في كل صباح،
وفي رحلة ثابتة يحمل زورق السماء جلالتك.
في النهار القصير تقطع ملايين الفراسخ،
فالنهار تحتك لحظة، ما إن تنقضي حتى تغيب،
وبعدها، دون توقف، تنظم ساعات الليل، وتخرج إلى عملك.
كل العيون ترى من خلالك،
وعندما تغيب جلالتك تبقى في ترقب ولهفة،
ثم تحث نفسك للشروق مجدداً في الصباح،
فتفتح العيون الناعسة.
وعندما تختفي وراء الجبال الغربية،
يهبط عليهم النوم كأنه الموت.
الثناء لك يا أتون، قرص شمس النهار،
خالق الكل وصانع معاشهم.
الذي لم يولد، بل خلق نفسه بنفسه.
حوروس، الابن البكر في وسط السماء،
إليه تُرفع التسابيح في ظهوره وفي غيابه.
خالق كل ما تنتجه التربة.
إنه «خنوم» و «آمون» بني البشر؛
القابض على القطرين، من صغيرهم إلى كبيرهم.
إنه الأم الرؤوم للآلهة وللبشر؛
إنه الحِرَفي الصبور، صانعهم بلا عدد؛
إنه الراعي المقدام، يسهر على قطيعه، ويؤمن معاشه.
أيها الراكض، المسابق، الواسع الخطو؛
ميلادك كان مميزاً وجمالك يرصع جسد إلهة السماء.
أنت الذي ينير القطرين بقرصه؛
الذي صنع نفسه وتملى في الذي سيصنعه؛
الرب الواحد الذي يصل نهاية الأقطار كل يوم،
ويرى كل من يطأ عليها جيئةً وذهاباً؛
الذي يصعد السماء ويتخذ شكلُه هيئة الشمس؛
الذي يصنع الفصول بعلامات الشهور؛
يرسل حراً حين يشاء، ويرسل برداً حين يشاء؛
وكل البلدان تلهج بذكره عند شروقه، وتسبح بحمده.
ترتيلة إلى عدد من الآلهة مجتمعة في شخصية واحدة:
يتجلى النزوع التوحيدي في هذه الترتيلة في توجهها إلى عدد من الآلهة المصرية الرئيسية باعتبارها إلهاً واحداً. وهي من تأليف كاتب في المعبد اسمه مير- سيخمت، يأمل من خلالها أن يمن عليه الإله بدفن لائق يعين روحه على الانعتاق والعيش مع الآلهة:
إليك أرفع أغنيتي وأنا منتش بجمالك،
وأصابعي تعزف على قيثارة المغنين.
وها قد علّمت المنشدين الصغار،
كيف يتملون ويعبدون وجهك الأخاذ،
لعلك تمن علي بدفن لائق،
لعلك تكافئ هذا المغني الذي يرفع إليك الأناشيد،
فيغادر الأرض بروح طيبة ويرقى ليرى سيد الآلهة.
الثناء لك يا: آمون- رع- أتوم- حاراختي،
الذي نطق فمه فظهر إلى الوجود
كل البشر والآلهة والأنعام طراً،
وظهر كل ما يطير، وظهرت أجرام السماء جميعاً.
لقد خلقْتَ أقطار هار- نيبوت (آسيا الغربية) وأعمرْتَ مدنها،
وخلقت المروج المعطاء التي تخصبها مياه نون،
وصدرتْ عنك كل الأشياء الحسنة، بلا حدود، لمعاش الكائنات.
أنت الراعي المقدام الذي يرعى خرافه دائماً وأبداً؛
جمالك يملأ كل النفوس، وكل العيون ترى من خلالك؛
الأرامل تقول: «أنت زوجنا»، والصغار: «أنت أمنا وأبونا»؛
يتفاخر الأغنياء بجمالك، والفقراء يعبدون وجهك؛
يلتفت إليك المأسورون، ويتضرع إليك المرضى،
وإليك يؤوب الكل ويرفعون إليك صلواتهم،
أسماعك مفتوحة تصغي إليهم وترعاهم.
أي بتاح، يا من يحب ما صنعت يداه؛
أيها الراعي الذي يحب قطعانه؛
الذي يكافئ القلوب التي تحب الحقيقة بدفن لائق؛
والذي تتجلى محبته بالقمر الوليد الذي يحييه الجميع بالرقص،
وعندما يتجمع المتضرعون أمام وجهه يطَّلع على القلوب،
وتستدير النباتات الخضراء نحوه تستمد من جماله،
وأزهار اللوتس تبتهج بحضوره.
تتجلى محبته في ملك الآلهة الحاكم على الكرنك،
صاحب هيكل الرياح الشمالية، والنيل بين أصابعه،
النيل الذي يجري من السماء ليسقي علالي الجبال.
تتجلى محبته في حراختي الذي يشرق في أفق السماء،
الكل يثني عليه وكل القلوب تسبح بحمده،
وفيه شفاء لكل عين مريضة.
أي آمون، إن أمك معات إلهة الحقيقة،
معات الفريدة بين كل ما هو موجود؛
إنها تهرع إليك وتحرق بالنار مناوئيك.
أي آمون، أيها الإله الجميل؛
في النهار تبحر عبر السماوات بشكل عجائبي،
وفي الليل تقيم شعائر العالم الأسفل،
وكل الآلهة يأتون إليك يمجدون الأشكال التي تتخذها.
كم هو جميل شروقك في الآفاق لتجديد حياتنا؛
هانحن ندخل في نون (المياه البدئية) لتحيينا؛
هانحن نخلع عنا طبيعتنا القديمة لنكتسب طبيعة جديدة،
والحمد والثناء لوجهك الجميل.
ترتيلة إلى آمون الواحد:
جاءت هذه الترتيلة من عصر الأسرة التاسعة عشرة، أي إنها تعود إلى ما بعد عصر أخناتون، وفيها تظهر التوجهات التوحيدية المصرية في أصفى أشكالها.
هو الذي ظهر إلى الوجود في الأزمان البدئية؛
هو آمون الذي ظهر إلى الوجود في الأزمان البدئية.
طبيعته خفية، وغامضة، ولا يُسبر غورها.
لم يأتِ إلى الوجود إله قبله، ولم يكن معه أحد؛
لم يكن معه في ذلك الوقت إله ليخبرنا عن شكله.
بلا أم ينتسب إليها، بلا أب يقول: ها أنذا.
صنع بنفسه البيضة التي خرج منها.
روح غامضة في ميلادها؛
صنع جماله بنفسه وصنع بقية الآلهة؛
كل الآلهة جاؤوا إلى الوجود بعد أن ابتدأ نفسه.
مُكتَنَف بالأسرار، متألق في الظهور؛
إنه الإله الرائع ذو الأشكال المتعددة؛
يتفاخر الآلهة بانتمائهم إليه، ويظهرون من خلال جماله؛
هو أتوم العظيم المقيم في هيليوبوليس، ورع متوحد بجسده؛
ومن أشكاله أوجدود، الذي أنجب الآلهة البدئية التي ولدت رع،
ثم كمل نفسه على شكل أتوم المتواحد معه في شخص واحد.
إنه الرب العظيم، بداءة كل ما هو كائن.
روحه في السماء، وهو في العالم الأسفل، ويحكم المشرق.
روحه في السماء، وجسده في الغرب، وتمثاله في هيرموتيس يتجلى من خلاله.
واحد هو آمون، وخاف عليهم جميعاً؛
محجوب عن الآلهة ولا يعرفون حتى لونه؛
إنه بعيد عن السماء، ولا يُرى في العالم الأسفل؛
لا يعرف أحد من الآلهة شكله الحقيقي؛
صورته لا ترسمها الكتابة، وما له من شهود؛
طبيعته سرية لا يمكن الإفصاح عنها؛
أكثر عظمة من أن يتساءل الإنسان عن ماهيته؛
أكثر سمواً من أن تعرفه العقول؛
مَن تَلَفَّظ باسمه السري، سهواً أو عمداً، يموت لتوه
ولا يعرف أحد من الآلهة كيف يدعوه بهذا الاسم؛
إنه الواحد الذي أخفى اسمه وفق ما تميله طبيعته الغامضة.
جَمْعُ الآلهة ثلاثة (في واحد)، ولا ثاني لهم:
آمون، ورع، وبتاح.
فهو الخفي باسمه آمون،
وهو الظاهر باسمه رع،
وهو المتجسد باسمه بتاح.
مدنهم قائمة في الأرض إلى الأبد:
طيبة وهيليوبوليس وممفيس.
إنه: آمون ورع وبتاح، ثلاثة معاً.
الفهم قلبه، والأمر شفتاه.
عندما يلج من الكهفين اللذين تحت قدميه،
يتفجر النيل من تحت صندله.
روحه شو، وقلبه تيفنوت.
إنه حاراختي الذي في السماء.
النهار عينه اليمنى، والليل عينه اليسرى،
وهو الواحد الذي ييسر أمور الناس في كل سبيل.
جسده نون، وما فيها من نيل يهب الحياة للموجودات؛
ودفؤه يهب الأنفاس لكل الأنوف؛
الأقدار والحظوظ معه يوزعها على الجميع؛
زوجته الحقول الوافرة التي يخصبها؛
بذوره الشجر المثمر، وسائله الحبوب؛
وجوه البشر والآلهة ترنو إليه،
إنه الفهم والإدراك.
صلوات وتراتيل مصرية للإله الواحد (2)
تــراتـيــــل أخـنــــاتــون

خلال فترة حكمه التي امتدت ست عشرة سنة (1369-1353 ق.م) قام الفرعون أخناتون (أمينحوتب الرابع) بتحويل الإرهاصات التوحيدة في الديانة المصرية التقليدية إلى عقيدة توحيدية صافية تدور حول إله خاف يتجسد في العالم من خلال قرص الشمس آتون، هو إله للعالم أجمع ولكل بني البشر. وقد قاده إيمانه هذا إلى منع عبادة الآلهة المصرية التقليدية، وأغلق كل معابدها وصرف كهنتها من الخدمة. وعندما تآمر كهنة آمون، الإله القديم، مع القادة العسكريين على إقصاء أخناتون عن العرش، عملوا على محو آثاره في كل مكان، ولم يبق من تراتيله التي ألَّفها في مديح إلهه إلا ترتيلتين، الأولى معروفة بالترتيلة الطويلة، والثانية بالترتيلة القصيرة.
1- الترتيلة الطويلة:
كم هو جميل شروقك في أفق السماء،
أي آتون الحي، مبتدأ الحياة.
عندما تظهر في الأفق الشرقي،
يملأ جمالك كل قطر.
أنت فاتن وعظيم ومتألق ومطل من علاليك على كل أرض.
تحيط أشعتك بكل مكان إلى أقصى حدود خليقتك،
وكل المخلوقات بين يديك تطوقهم بمحبتك.
أنت في الأعلى البعيد، ولكن نورك ضافٍ على الأرض،
أنت في الأعلى البعيد، ولكن آثار خطوك تصنع النهار.
وعندما تغيب في الأفق الشرقي من السماء،
تغيب الأرض في ظلام كأنه الموت،
وكل الأنام تأوي إلى مضاجعها وتغطي رؤوسها،
تهدأ أنفاس البشر، ولا يرى الواحد منهم الآخر،
حتى أن ممتلكاتهم تُسرق من تحت رؤوسهم ولا يدرون.
كل الأسود تخرج من عرينها،
وكل الزواحف تخرج من جحورها لتعض،
الظلام يسود ويعم الأرض سكون،
لأن الذي خلقها يستريح في أفقه.
وعندما تشرق على هيئة آتون النهار،
تضج الأرض بالضياء، والظلام يتبدد أمام أشعتك،
ويبتهج بك القطران في كل يوم.
الناس يفيقون وينتصبون، لأنك أيقظتهم،
يتحممون، ويضعون ثيابهم،
ويرفعون الأذرع يسبحون ظهورك،
وكل واحد يمضي إلى عمله في طول البلاد وعرضها.
تفترش الأنعام مروجها، وينتعش كل شجر ونبات،
تطير الطيور من أعشاشها وترفع أجنحتها بالصلاة إليك،
تنهض القطعان على قوائمها، وكل ذي جناح يحلق،
كلها تحيا لأنك طلعت عليها.
القوارب تبحر في الاتجاهين، شمالاً وجنوباً،
وكل الطرق مفتوحة لأنك أشرقت.
الأسماك في النهر تقفز أمامك،
وشعاعك يخترق أعماق البحر الأزرق العظيم.
أنت خالق الخصوبة في المرأة، وصانع بذور الرجل.
أنت من يعطي الحياة للجنين في رحم أمه،
وتهدئه فلا يبكي، وتعطي أنفاس الحياة لما خلقت،
وعند خروجه من الرحم تفتح فمه وتقسّم له رزقه.
الصوص في بيضته يسقسق، وبداخلها تمده بالهواء،
فإذا كبر نقر قشرتها وخرج يصيح بأعالي صوته،
يجري على قدميه ساعة خروجه.
ما أكثر صنائعك يا رب، إنها خافية علينا.
أيها الإله الواحد الذي لا مثيل له،
لقد خلقْتَ العالم وفق ما ترغب وتشتهي، عندما كنت وحيداً.
خلقْتَ الأنام طراً، وخلقْتَ الأنعام وحيوانات البرية،
وكل ما يدب على الأرض بأقدامه،
وكل ما يطير في الأعالي بأجنحته.
في أرض سورية، وفي النوبة، وفي مصر (وفي كل مكان)،
أعطيت لكل مكانه، وقسمت له نصيبه، وعددت أيامه.
شعوب ميزتها بألسنتها وطبائعها وألوانها، فجعلتها أمماً مختلفة.
فَجَّرْت نيلاً تحت الأرض وأجريته، وفق ما تشتهي، لحياة الناس،
لأنك صنعتهم واختصصتهم بك.
أنت ربهم جميعاً، الذي يُتعب نفسه لأجلهم.
أنت آتون النهار المبجل في كل قطر بعيد، ومصدر حياتهم.
فجرت لهم نيلاً في السماء ليمطر عليهم،
تسيل مياهه على الجبال وفي البحر الأزرق العظيم،
فتسقي كل مدنهم وحقولهم.
كم هي رائعة خططك يا رب الأبدية.
جعلت نيل السماء لأجل الشعوب الأجنبية،
ولأجل كل حيوانات البراري التي تدب على أقدامها،
ولكنك جعلت نيل مصر يخرج من تحت الأرض حياة للبلاد.
شعاعك ينعش كل مرج وبستان،
عندما تطلع عليها تحيا، وبك تنمو.
أنت من صنعَ الفصول لأجل خلقه.
في الشتاء تأتيهم بالبرد،
وفي الصيف يتذوقون دفئك.
لقد خلقت السماء البعيدة لتشرق فيها،
وترى من علاليك كل ما قد خلقْت.
أنت وحدك المشع في هيئة آتون الحي.
تُشرق، وتتوهج، وتذهب بعيداً ثم تؤوب.
صنعت من نفسك ملايين الأشياء والأشكال:
مدناً، وقرى، وحقولاً، وطرقاً، وأنهاراً.
كل العيون تراك أمامها وتتملى بهاءك،
لأنك أنت آتون النهار فوق كل أرض.
أنت في قلبي، ولا يعرفك حق المعرفة، إلا ابنك أخناتون.
وقد أعطيته فهماً ليدرك طرقك وجلائل أعمالك.
العالم كله بين يديك، وأنت خالقهم.
عندما تسطع عليهم يحيون،
وعندما تغرب عنهم يموتون.
بك حياة المخلوقات، يتملون جمالك حتى تغرب،
وعندما تغوص نحو الغرب، يضعون عنهم كل أعمالهم،
وعندما تشرق ثانيةً ... ...
لأنك منذ أن وضعت أسس الأرض،
قد هيأتها لابنك الذي ولد من ماهيتك،
ملك مصر العليا ومصر السفلى،
الذي يعيش في الحقيقة، سيد القطرين:
نيفر- خيبرو- رع، دان- رع
ابن الشمس الذي يعيش في الحقيقة، رب التاج،
أخناتون الطويل العمر،
ولزوجته الملكية العظيمة، محبوبته،
سيدة القطرين: نيفر- نيفرو- آتون، نيفرتيتي،
لهما الحياة والازدهار والعمر الأبدي
2- الترتيلة القصيرة:
إنك تشرق بجلال يا آتون الحي، رب الأبدية.
كم أنت متألق وعظيم وجميل،
وكم هو حبك واسع وعميم.
إن نورك المتعدد الألوان يسحر كل الوجوه،
وبشرتك المتلألئة تحيي كل قلب.
أنت تملأ أرض القطرين بحبك.
أنت الذي صنع نفسه وصنع كل الأصقاع،
وخلق كل ما عليها:
رجالاً ونساءً وأنعاماً ووحوشاً،
ونباتات تنمو في كل جهة، وكلهم يحيا بشروقك.
أنت الأب، وأنت الأم لكل ما صَنَعَتْهُ يداك،
عيونهم تتابعك شاخصة كلما أشرقت،
ويملأ ضياؤك في الصباح كل الأرض.
كل القلوب تخفق لمرآك، وأنت تصعد رباً لها،
وعندما تهجع في الأفق الغربي من السماء،
يستلقي الجميع في مضاجعهم كأنهم أموات، ويغطون رؤوسهم،
تتباطأ أنفاسهم حتى لتنكتم إلى حين ظهورك في الأفق الشرقي؛
عندها كل الأذرع ترتفع إليك في ابتهال وصلاة.
جمالك ينعش كل قلب، جمالك حياة؛
وعندما ترسل أشعتك يصير الكون في عيد؛
المغنون والمغنيات والجوقات تهلل لك في معبد المسلة،
وفي كل معبد في مدينة «آخيت آتون» مقر الحقيقة
الذي يُسر به فؤادك، وتقدم فيه إليك التقدمات،
ويؤدي لك ابنك الطاهر ما ترغب به من طقوس،
عندما يقود المواكب الاحتفالية في مواعيدها.
كل ما صنعته من مخلوقات يثب إليك فرحاً،
ويفرح بك قلب ابنك الذي شرَّفته،
يا آتون الحي الذي يظهر في السماء كل يوم،
والذي ولد ابنه المبجل «وا- إن- رع» (أخناتون) على شاكلته،
ابن رع الذي يستمد من جماله.
أنا ابنك الذي يعمل لمرضاتك، ويبجل اسمك.
قوتك وعظمتك راسختان في قلبي،
أنت آتون الحي وفي إشعاعك الأبدية.
لقد صنعْتَ السماء العليا لتشرق فيها،
وتطل من عليائك على كل ما قد خلقت.
إنك واحد، ومخلوقاتك التي تمدها بالحياة لا تحصى،
وفي تَمَلِّي أشعتك حياة لكل الأنام.
لصعودك تتفتح البراعم أزهاراً،
والزروع في الأرض اليباب تبرعم أغصاناً جديدة،
تشرب من شعاعك وتنتشي أمام طلعتك.
كل الحيوانات تقفز على أرجلها،
وكل ذي ريش يطفر من أعشاشه،
ويصفق بالجناح ويحوم مسبحاً آتون الحي.
ترسم هاتان الترتيلتان ملامح عامة لمعتقد ديني على درجة عالية من البساطة والتجريد. فإله الديانة الأتونية كما يبدو هنا، هو عبارة عن قوة إلهية غير مشخصة، وطاقة صافية تأبى على التشكل في هيئة إله ذي ملامح محددة وشخصية مرسومة، فهو القدرة التي صدر عنها الكون بكل أجزائه وتفاصيله وأشكال الحياة المنبثة فيه، والتي تتجلى في عالم الظواهر بقرص الشمس آتون. ويستتبع ذلك ابتعاد المعتقد الأتوني عن التعبير عن نفسه من خلال الميثولوجيا، فهاتان الترتيلتان تخلوان من أي إشارة إلى أساطير الخلق والتكوين وغيرها من الأساطير الأساسية في الديانة المصرية. كما ويأتينا التوكيد على خلو المعتقد الآتوني من الميثولوجيا، من نصوص القبور التي تركها أفراد حاشية الفرعون، والتي تبتعد عن الإشارة إلى أساطير تتعلق بالموت والعالم الآخر ومصير الروح، مما هو معروف في غيرها من نصوص القبور المصرية.
ولعلنا واجدين في الأعمال التشكيلية التي تركتها لنا فترة حكم أخناتون برهاناً إضافياً على ذلك. فالإله آتون لم يصوِّر أبداً في هيئة مشخصة، وإنما اكتفى النحات أو الرسام بالإشارة إليه من خلال رمزه الذي يتكون من قرص الشمس وقد انبعثت منه في كل اتجاه أشعة ينتهي كل منها بيد تنشر الخير والبركة. وفيما عدا ذلك، فقد خلت أعمال الفن التشكيلي من المشاهد الدينية ذات الخلفية الأسطورية، واقتصرت على تصوير المشاهد الدنيوية البحتة. ويبدو لعين المتفحص لهذه الأعمال أنها قد قامت على فلسفة جمالية تحتفل بالجمال الأرضي وتجعل من الإنسان بؤرة اهتمامها.
إن غياب الميثولوجيا في الديانة الآتونية، هو أمر تستدعيه طبيعة معتقدها؛ فالوظيفة الدينية للأسطورة تتمثل في توضيح صور الآلهة، وتزويدها بسيرة حياة، وتاريخ، وشجرة نسب، وتوضيح علائقها مع بعضها بعضاً ومع عالم الإنسان، أما إله أخناتون، فعلى الرغم من نعته بالإله الواحد مجازاً، فإن كل طرائق التعبير عن وجوده وطبيعته، تشير إلى كونه طاقة صافية غير مشخصة، ومبدأً كامناً عند جذور عالم الظواهر؛ ومثل هذه الألوهة تستبعد بطبيعتها أي نظام ميثولوجي، لأنها لا تتطلب التشخيص والتمثيل.




تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

دراسات في علم الأديان المقارن: تاريخ المصحف الشريف

22-أيار-2021

هل كان موسى مصرياً

08-أيار-2021

هل كان موسى مصرياً

01-أيار-2021

الديانة الزرادشتية وميلاد الشيطان

24-نيسان-2021

في رمزية حجر الكعبة الأسود

13-شباط-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow