Alef Logo
كشاف الوراقين
              

ضمنَ مئةِ مترٍ مربع الفصلُ الرابع

ناديا خلوف

خاص ألف

2011-01-01

أرتحلُ إلى أعماقي كلَّ يومٍ . كلّ ساعةٍ ، وكلّ لحظةٍ. الارتحالُ يعيدُني إلى الحياةِ في أغلبِ الأحيانِ . حتى هذا اليوم لم أرفعْ راياتي البيضاء . هذا ما كتبتهُ عليا في "مذكراتِ امرأةٍ بعد منتصفِ الليلِ " كتبتْ أيضاً : أبحثُ عن نفسي فلا أعرفُ من أنا ؟ أضيعُ في عالمٍ يسحبُني مرةً إلى الأمامِ وأخرى إلى الخلفِ . عالمٌ من أوهامٍ ليس فيهِ من الحقيقةِ إلا الجسد ، الجسدُ أيضاً أراه على مرآتي رشيقاً . بعد لحظاتٍ ينحني ويتكورُ فأراهُ من حكاياتِ المستقبل أو حكاياتِ كان يا ما كان. أحياناً أكونُ نفسي . أفرحُ بحضوري . أحاولُ أن أفعل شيئاً ما وفي غمضةِ عينٍ أسرحُ في مكانٍ ما ورائيّ أو لا حياتي . أعيشُ سعادةً مزيفةً أجلبُها من أساطيرِ الآلهاتِ . وأخجلُ من كوني آلهةً ، فأرحلُ إلى فقاعةٍ سوداء تحتويني . أنامُ داخلها بأمان . تقودني دونَ أن أتعبَ نفسي لأني أكونُ قد سلّمتُها راياتي .
تسألونَ ماذا يقولُ الناسُ عنّي ؟


ليس الأمرُ هامّاً . سلّمتُ أمرَ الردِّ لفقاعتي . هي تحميني مما يدعى الحياة . الحياة! لا . لا. سأتركُ الفقاعةَ جانباً لأجرّبَ الحياة مرة واحدةً فقط . سأبدأ اليومَ تجربتي .
وأنتَ حبيبي ! نقلتَ لي عدوى الفقاعة
منعتني من رؤيتكَ
اخرجْ للحظةٍ . عدْ بعدها . في الحياةِ أشياءَ تستحقُّ أن تراها
أرغبُ أن أراكَ . أسمعكَ . أحبُّكَ . اخرجْ إذنْ من فقاعتك
لا تختبئ منّي بعدَ اليوم. العالمُ لا يحبُّ الاختباء . الشمسُ تضيءُ كلَّ الأشياءِ .
لماذا الاختباءُ ؟ فغداً نزولُ . لن يبقى لنا هنا مكان .
تسألُ عن معنى الارتحال !لا تسألْ . ألستَ أوّلَ من ارتحلَ
سيكونُ ارتحالي مختلفاً . رحيلُ الروحِ إلى النورِ
رحيلُُ العقلِ إلى البصيرةِ ،والحزنِ إلى الفرحِ
رحيلُ النفسِِ إلى الطمأنينةِ ،والحياةِ إلى الاكتفاءِ والرضا
أحياناً أحيدُ عن الطريقِ . أرافقك دون أن أدري
ينامُ ارتحالي فوقَ الرعدِ . ينذرُ بالجنونِ
لا يكملُ رحلتَه إلى السماءِ . يختبئُ ضمن غيمةٍ سوداء
يعودُ صاعقةً إلى الأرضِ ، وبعدها ينزلُ المطر
في لحظةٍ يخطفُه الضياء. يسكنُ في البراري
رحيلكَ ليس ارتحالاً . هو هزيمةٌ واختباء
أظلمتَ عالمَكَ .فجّرْ فقاعتَكَ . كي تستعيدَ نفسكَ
اتركْها تتناثرُ في الفضاء . فلا أجملَ من تناثرِ الفقاعاتِ
تعالَ إلى النورِ لنحيا معاً كلَّ لحظةٍ مملوءة بالحبِّ والحنان .
حبيبي أنتَ أيُّها الوهمُ رافقتني دهراً . كنتَ جميلاً
اشتقتُ لكَ . علمتني كيف أنسجُ الحكاياتِ وأبني الأحلام
عشتَ معي زمناً . كنت صديقي . تألّقت في عالمي .
من طبعي الوفاءُ . كنْ مثلي وفياً مخلصاً لتستمرّ الحياة .
داهمْني اليومَ في خلوتي. دعنا نتقابلُ في الطريقِ إلى السماءِ
أرغبُ أن لا تتوقف عندي الأحلام . أن تزداد كلما دارتِ الأيّام


هذا كلّهُ مدوّنٌ في مذكراتي .أتحدُُّ ث فيها عن حبيبٍ سيوجدُ يوماً لأنّ ثلاثةً منهم رحلوا ، أو طردتُهم من حياتي . لن أسمحَ لحبيبي في المستقبل أن يكونَ حزيناً كي لا تنتقلَ العدوى لي . سعيدٌ كان مملوءاً بالطاقةِ السلبيةِ . عندما يصلُ إلى المنزلِ . يصطحبُ دخّاناً ينطلِقُ من سحبٍ سوداءَ . ليس فيها مطرٌ ولا حياة . يضيقُ صدري . أشعرُ بالموتِ قادمٌ على صهوةِ حصانٍ أسود . أتحدُّثُُ قليلاً ثمّ أصمتُّ فلا يمكنُ أن أتحدّث إلى الجدران . أصبحتُ في الفترةِ الأخيرةِ أهربُ من عناقه وقبلاته . أتمنى أن يصبحَ ما بيننا صداقة عادية . ربما أطمحُ أن يكونَ لي طفلٌ وينتهي كلّ شيء . يبدو أنّهُ تحقّقَ ما أريدُ .
مشاعري متناقضةٌ حوله . الحبُّ والكرهُ. يمتزجانِ . في مراتٍ كثيرةٍ كنتُ أتمنى لسعيد الموت . ماتَ كما تمنيتُ
اعتقدتَ يا سعيدُ أنّكَ عاقلٌ حكيمٌ. صمتُك كانَ يقتلُني . رأيتُ مظلّتكَ الداكنةَ وأنتَ تعومُ فيها . صنعتُ واحدةً مثلها.. ضقتُ ذرعاً بها .انفجرت من غضبي . رحلتَ من عالمي إلى الأبدِ .
عندما أعودُ قليلاً إلى ذاكرتي . تخبرُني بالانطباعاتِ لديها عن كلِّ الرجالِ الذين أحببتهم . اخترتُهم متشابهين . كي أسبِّّبَ لنفسي الألمَ . أحبّبتُ أن أعيشَ أوهاماً عن انتظارِ التغيير . الرجالُ لا يتغيرونَ تجاهَ المرأةِ . تقدمُ نفسَها كمحبةٍ طائعةٍ لأوامرهم . . تبقى كما قدمت نفسها أوّلَ مرةٍ . الرجلُ يقدّمُ نفسه سيداً لهُ ً خطوطهُ الحمر. ويبقى هو أيضاً . الفرقُ بينهما أنّ أكثرَ الرجالِ يقرؤون المرأة جيداً ، وأكثرَ النساء تخطئنّ في هجاء حروفِ الرجل .
أعطي عمري كلّهُ من أجلِ حبٍّ حقيقيٍّ .
إنّني أنثى ترغبُ أن تبقى أنثى . تحبُّ دون شروط
أشعرُ بصوفيةِ الاندماجِ والتوّحدِ وارتحالِ الروحِ إلى سماءِ الحب.
لا أشنُّ هجوماً عليكَ حبيبي . أنت الذي ستأتي يوماً مضرجاً بنورِ الحياة
أعاتبُ فقط . أردتُ أن تكونَ فارساً لأحلامي
بطلاً لأيامي . كنْ . ماذا يمنعكَ ؟
لو كنتَ حبيبي . لجعلتُ السماءَ تمطرُ على كلّ الزروعِ
وصنعتُ في الكونِ خصباً . حلّ الأمانُ . كنتُ سأحرقُ كلَّ الحروبِ والدروعِ .
قتلتَ فيّ أجملَ الأشياء عندما أدرتَ ظهركَ للعهود .
سأجعلُ منكَ عنواني لو شئت . اجعلني أعودُ إلى الحياةِ من جديد
لماذا أقرأُ تلكَ المذكراتِ ؟ لن أفكّرَ بمعانٍ كتبتُها يومَ كنتُ في الجزيرةِ . أموري اليوم أفضلُ . هاني سيأتي بعد أسبوعٍ . أنهى دراسته الجامعيةِ . أصبح مهندسَ عمارةٍ . سيبحثُ عن عملٍ هنا في المدينة التي أعيشُ فيها . هي مدينةٌ هادئةٌ جميلةٌ قربَ البحرٍ
عندما كتبتُ مذكراتي . لم أكتبْها على أوراقٍ . كتبتُها على الريحِ
اعتقدتُ أنّ الجزيرةَ ستنتهي من حياتي إلى الأبد . .
لم أعرفْ أنّها ستعلقُ بي . هي عالقةٌ بقلبي وعقلي وثيابي
عليّ التوقفِ عن الذكرياتِ عن الحديثِ مع أشخاصٍ من الأثير وعنِ الحديثِ معَ نفسي .
الحديث مع نفسي جعلني أكتشفَ خطئي . وهؤلاءِ الرجالِ كانوا ضرورةً في مرحلةٍ انتقاليةٍ من حياتي . حتى لو كنتُ مخطئةً فقد أصبحَ هذا ماضٍ لن أعودَ له . يجبُ أن أحرقَ الدفاترِ العتيقة . أو أن أسمحَ للريح أن تبعثرَها فلا أعودُ لها . كانت ذكرياتٍ من قلبِ العواصفِ والثلوجِ .
لن أتذكرَ أكثر .الذكرى تعيدُني إلى حالاتي . إلى آهاتي .
تزيدُ من وجعي . تسرقُ منّي حياتي . هي انتكاسٌ في عمري
إذا كانتِ الذكرى فرحاً أهلاً بها .وإلا سأحذفُها
وإن كانتْ همّاً سأزيلُ كلّ آثارها . أمحوها من ذاكرتي
بعد قليل سوف تأتي سونيا مع ابنتها ألانا . نحن الآن جيران . انتقلتُ من منزلي لأنّ صاحبتَه باعته . مازلتُ أعملُ في مطعمِ الذوقِ الرفيعِ بأجرٍ أكبر . كما أنّني أدرّبُ بعضَ الفتياتِ على صنعِ فطائري الوطنيةِ .
لم أعدْ أخجلْ من عملي . أرى أنّهُ يمتّعني . يسعدُني .
عملي يجعلُني حرةً . يقيّدُني أيضاً . أشعرُ تجاههُ بالامتنان .
بعدَ قليلٍ ستأتي سونيا وابنتها .
أنهتْ ألانا دراستِها الجامعيةِ منذ عدةِ أشهرٍ . وجدتْ لها عملاً في المسرحِ . هي سعيدةٌ بعملها .
لم يعدْ وايتي يملكُ بيتاً مخصّصاً له . يعيشُ معنا على الشرفةِ وضمنَ المنزلِ عندما نعودُ معاً . يشعرُ بالضيقِ أحياناً . نذهب معاً إلى حديقةٍ قريبةٍ . يعودُ له الهدوءُ . لا أعرفُ ماذا أفعل . وايتي أصبح يلزِمُني بأشياءَ لم أكن في الماضي أعرفُها . التزامٌ يشبه التزام الأمِّ بالطفل الصّغير .
أحياناً يعوّضني هذا الكلبُ عن البشرِ . يفهمُ إحساسي . يراعي أوقاتي . يحدّثني . يطيعُ أوامري
أحياناً أفكّرُ أن أتخلصَ منهُ، وأعطيهِ لأحدٍ ما يستطيعُ العنايةَ به
أتراجعُ على الفور . لا يمكنُ أن أخذلهُ . عالمُ الكلابِ عالمٌ قائمٌ على المحبةِ والوفاء . الكلابُ من أشدِّ المخلوقاتِ تأثّراً بقراراتِ الإنسان .
سأبقى وفيةً لوايتي . هو يذكّرُني بالماضي . اسمُه على اسمِ كلبنا . يذكرني بالسيد الذي أنقذنا لي ولهاني . كنْ مطمئناً أيّها الكلبُ لن أفارقكَ أبداً .
أتتْ سونيا مع ابنتها يرافقهما شابٌّ وسيم .
- أهلاً بكم .
- أقدّمُ لكِ صديقي علي .
- أهلاً بكَ يا علي .إنّني عليا .
- تشرفتُ بمعرفتكِ
- علي كما يبدو من اسمه ولهجته . من مناطق قريبةٌ من بلدتكم . لكنّهُ ولدَ هنا . يعملُ في شركة عقاريةٍ ضخمةٍ "شركة الأحلام "
- شيءٌ جيد . تستحقين يا ألانا أفضلَ رجلٍ في العالم . أنتِ شركةُ أحلامٍ كبيرةٍ . عرفتَ كيف تختارُ فتاتكَ أيّها الشاب. إياكما أن تفرطا بالحبِّ . الحبُّ أعظمُ هديةٍ في هذهِ الحياةِ .
- سأذهبُ معَ عليّ لحضورِ مسرحيةِ سندريلا . قبلَ ذلك سنرقصُ معَ وايتي. وايتي أحضرت لك أغنيةً جديدةً وقطعةً من البيتزا .
تعالَ أمسكْ يدي . أمسك بيد علي أيضاً ، سأعلّمه كيف يحبُّ الحيواناتِ . أمّي . خذي آلة التصوير . اسحبي لنا صوراً .
لماذا لا ترقصين معنا يا أمي أنتِ وصديقتك.
سنرقصُ . تعالي يا عليا.
- لم أرقصْ في حياتي . ولم أتعلمْ الرقص .
- اقفزي كيفما اتفق .


أمسكتْ ألانا بيدي . علمتني بعض الحركاتِ . لأوّلِ مرةِ أشعرُ أن طيفاً يمسُ أعماقي . قد يكونُ حالةُ فرحٍ صغيرة . هل الرقصُ يعطي سعادة؟
- أمتعَنا رقصكم . إنّكِ ماهرة بالتدريبِ أيّتها الشابةُ الجميلة . درّبتِ وايتي . ودربتِني . أدخلتِ السرور إلى قلبي .
- عندما أذهبُ إلى المسرحِ سأجعلُ وايتي يرافقني في بعض الأحيانِ . في الأسبوعِ القادمِ سأدعوكم جميعاً لحضورِ المسرحيةِ التي سأمثّلُ فيها . مسرحيةُ روميو وجولييت لشكسبير .
- ما زالوا يمثّلون روميو وجولييت ! شاهدتُها منذُ أكثر من عشرين عاماً .
- ستبقى هذه المسرحية خالدةً . وفي كلّ مرةٍ ستتجدّدُ . على كلِّ في يومِ الافتتاحِ . سأصحبُ وايتي فأنا أتفاءلُ بهِ .
- علّميهِ التمثيلَ أيضاً .
- سنذهبُ الآن . وداعاً . وداعاً وايتي
- رافقتكما السلامة .
كلّما أتتْ ألانا . تدخلُ السرورَ إلى قلبي . ما إن تذهبْ حتى يعودُ السكونُ . أعودُ إلى حزني .
لم أكنْ على ما يرام . شعرتْ صديقتي بذلك
أردتُ أن أكونَ طبيعيةً . لم أستطع . فجأةً أحسستُ بحبلٍ يضغطُ على عنقي .
- لماذا يبدو عليك الحزن دائماً ؟ لم تعودي تخافين من شيء . ابنكِ أنهى دراسته . أي أنّ مسؤولياتكِ أقلّ الآن . لديكِ ما يكفي من المالِ . عيشي الحياةَ دون أن تفكّري كثيراً .
الحياةُ جميلةٌ تستحقُّ أن نعيشها .
نحنُ من يصنعَ الحياةَ ، ومن يصنعُ الفرحَ أيضاً .


- قد لا تصدقين لو قلتُ لكِ أنّني مازلتُ عالقةً في ذكرياتِ بلدتي . عائلتي . أمي، وسعيد . أشعرُ أنّني اختطفتُ من تلكَ البلدةِ في غفلةٍ مني، ورمي بي في تلكَ الجزيرةِ بخطةٍ مدبرةٍ محكمةٍ . أفكّرُ أنّ الموقدَ الذي حدّثتُكِ عنهُ لا يخصُّ والدةَ سعيدٍ . بل امرأة أخرى غرّر بها. لم أكنْ أفهمُه. الآنَ عرفتُ سرَّ صمتِه الدائم . قد لا يكونُ أحبّني كما توهمتُ . أرغبُ أن أضعَ حداً لتلكَ المشاعر التي تتصارعُ في داخلي . ولا يمكن أن أضعه إلا إذا فهمتُ الحقيقة .
الحقيقةُ تقعُ في بلدةٍ منسيةٍ هناكَ . صدري يزدحمُ بأفكارٍ عن الماضي عندما كنتُ ساذجةً . ليتني بقيتُ كما كنتُ . غيّرتني هذهِ البلدة الغريبةُ التي أصبحتْ موطناً لي . تعلّقتُ بها . بعملي الذي كنتُ متردّدةٌ في قبولهِ . تخلصتُ من كثيرٍ من الأفكارِ الساذجةِ . حلّتْ مكانها أفكارٌ أقسى وأصعب . القلقُ والاكتئابُ لم أكنْ أعرفهما . كنتُ حزينة أدعمُ نفسي في كلّ لحظةٍ كي يعيشَ هاني وننجو .الآن لا أعرفُ ما بي . لم أعدْ على سطح تلكَ الجزيرةِ لكنّني على الدوامِ موجودةٌ فيها . عندما أخبزُ فطائري أتخيّلُ أنّني أصنعُها على موقدي هناك .أحسدكِ يا عزيزتي . أنتِ لست ضائعةً مثلي .
أعيشُ في دوّامةٍ تشبهُ متاهةً في صحراءَ تغزوها عواصفَ من رمالٍ .
أحياناً أرغبُ بالنجاةِ وأحياناً أخرى أسعدُ بالموتِ
النجاةُ والموتُ أنا . لم أعدْ أعرفُ من وكيفَ أكونُ

- الحياةُ قاسيةٌ يا عزيزتي . لم أكنْ أفضل حالاً منكِ ليتني عشتُ مثلكِ في جزيرةٍ بعيدةٍ لكانَ الأمرُ أفضلَ. قد تجدينَ يوماً . أنّ أيامَ الجزيرةِ كانت سعيدةً .
أستيقظُ في نومي . أمشي بينما عقلي لا يزالُ نائماً . أخرجُ إلى الشارعِ . أصرخُ .منذُ فترةٍ أصبحتُ أربطُ نفسي إلى السريرِ عندما أنام . كي لا تأتيني تلكَ الحالات . ذهبتُ إلى الطبيبِ مراراً . أخبرَني أنني أحتاجُ إلى راحةِ بالٍ ، ونومٍ كافٍ .لا أنامُ كفايةً . مازال الماضي عالقاً بي أيضاً . طفولتي في عائلةٍ مزعزعةٍِ الأركان . زواجي . كلّ ما مرّ معي .أحتاجُ إلى معالجٍ نفسيّ على الدوام وإلا انهارَ عالمي .
- كأنّ في أحوالِنا تشابهٌ معَ بعضِ الاختلافِ .
- التشابهُ : أنّنا لا نشعرُ بالأمانِ ، والاختلافُ في طريقةِ الحزنِ .
- ما رأيكِ أن نأخذَ إجازةً من العملِ لمدةِ أسبوعٍ؟ نقضي بعضها على تلكَ الجزيرةِ . أحنُّ إليها كثيراً . هي ليستْ بعيدةً من هنا . والأمواجُ ليست مرتفعةً هذهِ الأيام . هل بإمكانِ قاربكَ أن يقودَنا إلى هناك ؟
لو وجدتِ الوقتَ الكافي سنذهبُ ، أو يمكنكِ إيصالي ثمّ العودة ثانية . عليَّ أن أفهمَ كيف عشتُ في تلك الجزيرةِ .
هلْ يمكنُ أن يبتكرَ الإنسانُ طعاماً إن لم يكنْ موجوداً ؟
ابتكرتُ من أصنافِ الأطعمةِ الكثير . وكم خفتُ أن يكونَ بعضُها ساماً .
- فكرةٌ جميلةٌ . سأكتبُ غداً يافطةً أمامَ مكتبي : " القاربُ متوقفٌ عن العمل للصيانةِ " . قد تكونُ رحلتنا مفيدة تساعدُنا على فهم أنفسنا . من كثرةِ ما تحدّثتِ عن الجزيرةِ يخيّلُ إلي أحياناً أنّني عشتُ بها أو أنّني أنتِ . أقولُ لنفسي : مهلاً يا عليا . ثم أبتسمُ قائلةً أنني لستُ عليا .
- سأحاولُ الحصولَ على إجازتي . منذُ التحقتُ بالعملِ لم آخذ ُاستراحة . لا أشعرُ بالحاجةِ لها فماذا أفعلُ في المنزل ؟ وايتي يرافقني . ينتظرُ إلى أن أنهي عملي . نعودُ معاً هو الكائنُ الحقيقي في عالمي .
وايتي يقودُني
أمشي خلفَهُ دونَ أن أنظرُ إلى شيءٍ
في مراتٍ كثيرةٍ أتجاوزُ منزلي .
أراهُ واقفاً ينتظرُ التفاتةً مني إن كنتُ قد ضعتُ أم سأناديهِ ليتبعني . أعودُ إلى المكانِ فيتابعُ سيرهُ إلى المنزلِ .
الآنَ حانَ الوقتُ لاستراحةٍ قصيرةٍ
- غداً موعدُنا في الثامنةِ صباحاً .
سأحضّرُ من أجلِ جزيرتي كلّ الأشياءِ . سأعيشُ فيها بدلاً من العذاباتِ أحلاماً .
الجزيرةُ لن ترحلَ من ذاكرتي . كانتْ وطناً لي كنتُ فيهِ الملكةَ والشعب. لن أنسى هذا . في بعضِ ليالي عزلتي توحدّتُ معَ الطبيعةِ والإله ولم أكن بحاجةٍ لشيءٍ آخر .


في نفسي توقٌ لإعادةِ التجربة بطريقةٍ ما .
في العزلةِ أحياناً سعادة . طالما شعرتُ فيها بالجمالِ والإلهام
تماماً كما شعرتُ بالحزنِ والخوفِ من عدمِ النجاة .
الصبحُ لاحَ في الأفقِ . أشعرُ أنّني متثاقلةٌ . وعدتُ سونيا بالذهاب . لولا ذلك لبقيتُ اليومَ في المنزلِ .
الساعة ُ الثامنةُ . ها قد بانَ القاربُ . سأرى ذلكَ المكانَ الذي سبّبَ لي مأساةً على مدى أكثرِ من عشر سنواتٍ . ربما لم تكنْ مأساةً . لم تكنْ بذلكَ السوء الذي تصورتُ أنهُ الهلاك .
هيا نحمّلُ الأشياءَ . كلُّ هذهِ الأشياء كنتُ أحلمُ أن تكون عندي عندما عشت في الجزيرة . مع ذلك مازلتُ أشعرُ بطعم أعشابها عالقاً على لساني . لم أعد أشعرُ بتذوق الطعام . لا أدري إن كنت قد تغيرتُ أم مذاق الطعام هو الذي تغيرُ.
- أسرعي . اركبي . الصبحُ جميلٌ سنسابقُهُ . انظري إلى قرص الشمس يتحدّثُ لنا . هيّا إلى السباق .
- ما أجملَ هذا اليوم ! سأغني أغنيةً كنت أدندنُ بها على أرض الجزيرةِ . أغنية كلماتُها من ذاكرتي ، وألحانُها من روحي .. ردّدتُ كلماتها زمناً طويلاً . نسيتُ بعضَ تلكَ الكلماتِ .
في بقعةٍ صغيرةٍ من الأرضِِ . في جزيرتي المنسيةِ
على صخرةٍ كبيرةٍ من مئةِ مترٍ مربعٍ . وقفتْ جزيرتي صامدةً أمام الموجِِ .
في بقعةٍ من الحجارةِ تحولتْ إلى غابةٍ . عشتُ حياتي
في وسطِ بحرٍِ هائجٍ تقعُ جزيرةُ أحلامي .
سيسكنُ كلُّ البشرِ هنا يوماً . في جزيرتي . هي كبيرةٌ كأحلامي . صغيرةٌ كأيّامي .
سأعيشُ كلّ يومٍ من أجلِ حلمٍ صغيرٍ
أغني لكلّ أملٍ . لكلِّ موجةٍ ترتدُّعن أطرافِها
أرفعُ صوتي إلى السماءِ . أتضرعُ لها من أجل جزيرتي التي تنمو وتتسعُ
في بقعةٍ من أرضٍ صغيرةٍ . بقعةٌ صغيرةٌ جداً
حدّثني قمرٌ بعيدٌ . وعدني بالحبِّ
قال : أنا قمرُكِ فقطْ . لكِ أنيرُ الطرقاتِ
فوقَ صخرةٍ صغيرة في قلبِ بحرٍ تسكنُهُ الأسرارُ
أقمتُ حفلةً كبيرةً للبحرِ والحيتانِ . رقصتِ الأسماكُ على ألحاني
للموجِ والرياحِ . لموعدٍ مع النجاح
- أنغامُ أغنيتِكِ جميلةٌ ، لكنّني لا أفهمُ كلماتها .
- أليس لكِ أغنيةً؟
- نعم . أغنيتي تقولُ :
عزيزي : أيها الإنسانُ . تعيشُ معي في هذهِ الحياة . تسكنُ وجداني
دعنا نعيشُ. نعملُ من أجلِ الحبِّ . من أجلِ سعادةِ الإنسان
ليصبحَ كوكبُنا ممتلئٌ بالنورِ والحياةِ
دعِ الحيواناتِ ترضِعُ صغارَها . دعِ الفراشاتِ تلعبُ ، والطيورَ تطيرُ
دعنا نبحثُ عن الحبِّ . عنِ السعادةِ والأملِِ
نعيشُ عمرَنا . لا تطاردُنا وحوشٌ من داخلنا
لتكنْ حياتُنا بلا أحزانِ . يمكنُ أن نحاولَ
حبيبي . صديقي . عزيزي
ضعْ يدكَ بيدي . خلقنا من أجلِ العيشِ
لنبني الدنيا معاً من بلدٍ إلى بلدِ
عزيزي أيها الإنسان . لنعشْ معاً بحبٍّ وأمان .


- أوه . النغمةُ جميلةٌ والكلماتُ أيضاً . تتحدثين عن الحبّ الذي يجبُ أن يسودَ بينَ البشر . صوتُكِ جميلٌ . لماذا لا تحاولينَ أن تغني في مكانٍ ما من أماكنِ الغناءِ ؟ في مدينتي أغانيهم عن حبِّ النساءِ وعن جسدِ المرأةِ فقط . الرجالُ في مدينتي لا يتحدّثونَ إلا عن حبّ المرأةِ . حبّها هي لهم . ليس هذا فقط بل إنّ هناكَ شخصاً كنتُ أعرفه" أستاذُ الأدبِ في الجامعةِ التي درستُ فيها " هو شاعرٌ. في كلّ مرةٍ يتهّمُ نفسه بأنّ النساء الشابات يطلبن منهُ الحبّ.
كتبَ لنفسهِ قصيدةَ على لسان شابّةٍ اسمُها ليلى .
أرسلُها لنفسه بالبريد .
عندما وصلت إليهِ
فتحَها أمامَ أصدقائه .
قرأها لهم . ردّ على الفتاةِ المزعومةِ بقصيدةٍ أخرى معتذراً عن حبّها بدأها :
" لن تستطيعينَ إغوائي . صامدٌ أنا في وجهِ الرغباتِ "
صفقَ لهُ أصدقاؤهُ عندما ارتجلَ قصيدتَهُ التي لم يرتجلُها في الحقيقةِ فقدْ أعدّ لها من قبل .
تحدّث لي عن هذا . صديقه الذي يدرّسُ معه في الجامعةِ .
قالَ: الشاعرُ أو الكاتبُ أو الرسامُ ُتعرفُ خطوطهُ وأسلوبه . الكلماتُ والأسلوب هما لصديقنا . هو الفتاة التي أحبته ، والفتى الذي أحبّها ، الذي يعتذرُ عن حبّها .
- أعجبتني الفكرةُ . إن لم يكنْ هناكَ أحدٌ يحبُّنا فلنتوهمْ ذلكَ . ما العيبُ ؟ يساعدُنا الأمرُ على العيشِ . إنّني أشبهُ ذلكَ الأستاذ الجامعي . أقفُ أحياناً أغنّي . أتخيلُ الجمهورَ يصفّقُ لي . أشعرُ بالحماس .أكونُ أنا المطربةَ والجمهور .
عندما كنتُ في الجامعةِ . غنيتُ معَ فرقةٍ .أغانيها تضمنتِ الرحمةُ بالحيوانِ ، ومحبةُ الحياة . والدفاعُ عن البيئة . كنّا ننوي أن نستمرّ . لكن ظروفي العائلية لم تسمحْ . الآنَ فقط أشعرُ برغبةٍ في تحقيقِ حلمي . الزمنُ تأخر بي قليلاً . لا بأسَ أعتبرُ نفسي ولدتُ قبلَ عشرين عاماً فقط . الفرقةُ كلّها لم تعدْ موجودةٌ كلُّ شخصٍ بينهم فتّش عن حياته في مكانٍ آخر
- ها قد وصلنا . أرى الأشجارَ . أستغربُ كيف نمتْ على جزيرةٍ في وسطِ البحرِ أكثرُ مساحتها من الصخور . أشجارٌ ظليلةٌ عليها طيور تغرّدُ. كأنّ الجزيرةَ مملوءةٌ بالبشر . هي عالمٌ كاملٌ . كيفَ استطعتِ أن تصنعي هذا الجمال ؟
- قد تكونُ غريزةُ البقاءِ يا عزيزتي . عندما قدمتُ إلى الجزيرةِ كانت الأشجارُ أقلّ . كانَ هناك امرأة قبلي عاشت هنا . قد يكونُ غرّر بها سعيد . قد تكونُ أمّه . هي من صنعَ هذا الجمال . أكملتُ جهودها بجهودي لأكثر من عشرِ سنوات .علمتني الجزيرةُ الصبرَ والتروي والأمل .
- أنتِ مثلُ هذه الجزيرةِ التي يتلاطمُ على أطرافِها الموجُ . أتمنى لو كنتُ مثلك . يبدو أنّني أحتاجُ لعزلةٍ مثل عزلتكِ كي أتأملَ هذه الدنيا ويسكنُ في داخلي ذلكَ الصراعُ الذي يفزعني .العملُ أخذني من الحياةِ . نسيتُ نفسي . سأعيد التفكيرَ بما عليَّ فعله . أما الآن
فأشعرُ بميلٍ للنومِ . أولُّ مرةٍ أرغبُ أن أنام . كأنّ هواءَ الجزيرةِ فيه فيروسٌ يساعدُ على النوم . هذا أفضلُ أمرٍ في الجزيرة . كلّما أصابني القلقُ . سآتي إلى هنا أنامُ ليلة ثمّ أعودُ .


- نامي قدرَ ما تشائين . سأستعيدُ بعضَ ذكرياتي . أفتشُ الأماكن أستعرضُ حكايتي مع سعيد ، وذكرياتي مع هاني . سأضرمُ النّارَ بالموقد اشتقتُ إلى موقدي الذي صنعَته امرأةً قبلي . سأجلسُ قربَ النارِ أتحدُّثُ معها عن تلكَ المرأةِ .
أيتها النارُ المقدسةُ: كم مرةً جلسنا معاً هنا ؟ كم مرةً وضعتُ عليكِ القدر ولم أجد طعاماً فاقتلعتُ الحشائش ووضعتها في القدر ثم التهمتُها . كنتِ صديقةً لي على مدى أكثرِ من عشرِ سنواتٍ . هل تعرفين المرأةَ التي صنعتْ هذا الموقد ؟ ماذا أرى ؟ سأنبشُ هذهِ الحفرةَ . إنّه كيسٌ صغيرٌ . قد يكونُ كنزاً . سأفتحُه لأرى ما بهِ . صورةُ امرأةٍ شابةٍ مع سعيد . لم أرَ ذلك خلالَ العشر سنواتٍ التي قضيتُها هنا .ربما عواملُ الطبيعةِ خلال هذه المدةَ كشفتْ عن هذا السرِّ . سأحتفظُ بالصورةِ . لابدّ أن أعرفَ الحقيقةَ . لم أبحثْ يوماً عن حقيقةِ الأشياءِ . أردتُ أن أتجاهلَها عن عمدٍ .
اليومُ حانَ الوقتُ . سأتغيّرُ كي أستمرَّ
اعملْ أيّها الدماغُ النائمُ منذُ عقودٍ . كفاكَ راحةً
عوّضْ لي عن تكاسلِكَ في هذه الحياةِ .اختصرْ زمناً من عمري
أعدْني جديدةً متجدّدةً بالأمل .
يبدو أن صديقتي قد استيقظتْ .
- كانَ نومي عميقاً . استيقظتُ للتوِّ . رأيتُكِ تتحدثين مع نفسكِ . لم تنتبهي إلى وجودي . أحياناً عندما أقودُ قاربي . أتحدّثُ مع نفسي بصمتٍ . فذاكرتي هي من يقودني عبرَ البحر . يدورُ في رأسي صراعٌ بينَ الماضي والحاضرِ تتعالى الأصواتُ ، ويحتدمُ النقاشُ فإذ بي وصلتُ ، وإذ بالركاب ينزلونَ .
- تراودُني أفكارٌ حولَ نفسي . أشعرُ بحاجةٍ ماسّةٍ أن أعودَ إلى بلدتي . عليَّ أن أكتشفَ أشياءَ كثيرةً . لا يمكنُ أن أسكتَ عن غفلتي لخمسين عاماً مضت . إن لم أعرفْ نفسي لن أستطيعَ أن أتخلصَ من هذا الحزنِ الأزلي


- كأنّ الجزيرةَ أعادتْ إليكِ همومكِ . هل ترغبينَ بالعودةِ ؟ إذا كانَ الأمرُ يضايقُك سنرحلُ الآن . لا أحبُّ أن أراكِ حزينةً . تجاوزتِ مرحلةَ الجزيرةٍ . عليكِ بالنسيانِ .
- ليس قبلَ أن أذهبَ إلى بلدتي . السيدةُ التي بنتْ هذا الموقد كانت شابةً جميلةً . انظري إلى صورتِها . على الأغلبِ أنّ سعيداً أحضرَها إلى هنا . لستُ متأكدةً . هذا ما أشعرُ بهِ فقط . سنبقى على الجزيرةِ اليوم ، وغداً نعودُ . سأطعمكِ بعض الطعامِ مثل ذلك الذي كنتُ أطبخُه في الماضي . نعيشُ لحظةً جميلةً ريثما نرحلُ .
انظري هنا . جلبتُ هذهِ الرمالَ من قلبِ البحر
دفنتُ فيها حبةُ من البطاطا تبقتْ معنا عندما رحلنا منذ أكثر من عشر سنواتٍ . تكاثرت .أصبحتْ كومةً كبيرةً . سنسلقُ القليلَ منها ،وبعضَ الأعشابِ التي كنتُ أعجبُ بطعمِها .
- بعدَ أن نأكلَ سنقومُ بجولةٍ نرى فيها معالمَ هذا المكانِ الصغيرِ . تتحدثين خلالَ جولتنا عن كلّ الأشياءِ التي آلمتكِ والتي أفرحتكِ .
- انظري ما أجملَ لونَ الجمرِ في الموقدْ . لم أكنْ أطبخُ إلا على وهجِ الجمرِ . بدأَ الطعامُ يغلي . دقائق ويصبحُ جاهزاً
- خذي هذا الصحن من الطعامِ .
- كم هي لذيذةُ الطعمِ . سنأخذُ بعضَها معنا عندما نغادرُ المكانَ
يجبُ أن تتذوّقُ ألانا طعمَها . في المرةِ المقبلةِ سنجلبُها . هي تحبُّ هذه الحكاياتِ التي تأتي من الأعماقِ . تعتقدُ أنها أساطيرٌ وروايات . قد تفيضُ بالشّرحِ عن ذلكَ . تضيفُ له من مشاعرها . تصبحُ روايةٌ أو أسطورةٌ تتناولُها الأجيال .
- انظري إلى هذهِ الشجرةِ . كنتُ أقصُّ أغصانها النحيلةِ بسكينٍ أحضرناها معنا من أجلِ تحضيرِ الطعامِ . نسجتُ من تلكَ الأغصانِ حصيرةً متينةٌ استعملتها كأرجوحةٍ لهاني أضعه فيها وأغني لهُ أغانٍ من كلماتي التي أبتكرُها لهُ عندما يضحكُ ويبكي وينامُ . اعذريني دموعي تنزلُ رغماً عنّي .
الجزيرةُ تطلبُ منّي أن أفسّرَ ما جرى لي . تصفعُني . تطالبُني بكلّ الحقائق .
تلاحقُني . تطلبُ تبريراً لما جرى .
- لا أحدَ في هذهِ الدنيا ليس لديه ألمٌ . المعاناةُ تختلفُ من شخصٍ لآخر فقط . معاناتي معَ آندي كانتْ كبيرةٌ . لا أرغبُ أن أتذكّرها .
- لكنّكِ وضعتِ حداً لها .
- مازلتُ أدفعُ الثمنَ نوبات ذعرٍ . كان يحملُ مسدّسهُ ويصوّبه نحوي ونحو ألانا إلى أن أعطيهِ كلّ ما معي من نقودٌ . مازال يرسلُ لي تهديدات .
ألانا تلكَ الملكةُ الجميلةُ. لم يطلبْ والدُها رؤيتَها ولا مرةً واحدةً
هي دائماً تسألُ عنهُ . تحبّهُ . تتمنى أن تعانقَهُ .
لا أتحدّثُ أمامَها عنه .
لن أمنعَها من زيارته . هو الذي لا يرغبُ .


- علينا أن نتخلّصَ من ماضينا ، أو على الأقلِّ نضعُهُ في صندوقٍ مغلقٍ بإحكامٍ . سأفعلُ هذا عندما أنتهي من معرفةِ ذلكَ الماضي
كلُّ ما أسعى لهُ : معرفةُ الحقيقةِ . حقيقةُ الذينَ كنتُ على احتكاكٍ معهم ، وحقيقة نفسي .
- أشعرُ بالتوازنِ . كنتُ بحاجةٍ لهذهِ الرحلةِ وهذه الإجازة من العمل .إنّ يوماً واحداً بينَ أحضانِ الطبيعةِ أعادَ إليّ إحساسي بالحياةِ .
السكون وصوتُ الأمواج ساعداني على النوم .
علينا أن نغادرَ المكانِ . مهما كانت الطبيعة جميلةٌ تكونُ باهتةٌ بدون حضور الإنسانِ .
لو كان في هذه الجزيرةِ الصغيرةِ مكاناً للسهر مثلاً ، لامتلأت بالناس . رأيتُ قمر الزمان الذي تحدثتِ عنه ينزلُ بمركبته الفضائيةِ
- يقولُ :" سمعتُكِ تغنين فجئتُ أعزفُ لك لحناً من كوكبِ الإكليل " عاهدتُه أن أستعيدَ قدرتي على الغناءِ . سأغني أغنياتي من ألحانِه .
- قمرُ الزمانِ أتاكِ من خلالِ ذاكرتي . تذكرتُه اليومَ .
قالَ لي وأنا أطرّزُ ثيابَ هاني : " إبرتُكِ . خيوطُكِ يشبهان سمفونيةً يعزفها قلبي على ألحانكِ "
سأتعلمُ العزفَ كي أشعرُ بنفسي أكثرَ . قد أؤلفُ الأغاني .
قمرُ الزمان كانَ كذبةً . مضى كحلمٍ . لم يكنْ من أي كوكب . حضورُه في حياتي ساعدني كثيراً . سهرنا حتى الصباحِ في بعضِِ الأحيانِ . كانَ رهنَ إشارتي وكما أردتُه . انتهى من حياتي إلى الأبدِ أيضاً .
فكرةُ الغناءِ تعجبُني تبدو كحلمٍ غريبٍ عن ذهني . في بلدتي لا تستطيعُ النساءَ الغناءَ إلا إذا قبلنَ أن يكنَّ في نظرِ المجتمعِ ساقطاتٍ منبوذاتٍ. الرجالُ ينحنونَ لهنّ . يفضّلوهن على زوجاتهم . ينظرون لهنّ كفتياتِ ليلٍ . تعودن على رأيّ الرجالِ .
من يسيرُ في طريقٍ يحبّهُ قد يدفعُ ثمناً . هذا هو الثمنُ
- سنعودُ إلى مدينتنا . أشعرُ بالتجدّدِ والشبابِ . لم أصلْ إلى الستين بعد . وبإمكاني تجاهل عشرين عاماً منها .
العمرُ ليس سنواتٍ . بل ما نشعرُ نحنُ بهِ
أشعرُ أنّني في العاشرةِ أو أكثرَ بقليلٍ
انظري إليّ كيفَ أقفزُ وأغني . نسيتُ من عمري أعواماً
سأنسى أعواماً أخرى . كي أقفزُ أعلى
أرقصُ وأغني الفرحَ . الأيامُ تصبحُ أحلى
- مادامَ الأمرُ كذلكَ . سأحجزُ زاويةًً في مطعمِ "الذوقِ الرفيعِ" من أجلِ الاحتفالِ بنجاحِ هاني . أنتِ وألانا وعليٌّ مدعوون للحفلِ في يومِ الجمعة القادم . طبعاً سيكونُ الحفلُ في المساءِ .
أدخلُ السرورَ إلى قلبكَ يا بني . أنتَ عمري الذي انقضى
حياتي التي ستستمرُّ من خلالكَ
روحي الخالدةُ . آمالي . عنواني .
هاني سيكونُ الدنيا التي لوّنتها بألواني .
- إنني سعيدةٌ من أجلكِ يا عليا . سأعملُ صلاتٍ معَ أصدقائي في فرقتِنا السابقة . إن وافقوا. سنحاولُ إحياءٍ حفلٍ على الشاطئِ أمامَ المطعم .
- كم سيكونُ الأمرُ جميلاً . نجاحُ هاني يترافقُ معَ نجاحكم . لو كانَ سعيدٌ حيّاً لحضرَ هذهِ الحفلةِ . حفلةُ ابنه . ليته لم يمتْ ! قد لا يكونُ ميتاً . يمكنُ أن يكونَ قد تخلى عنّا لا أكثر من ذلكَ. أفكّرُ أن أسافرَ إلى بلدتي بعدَ الانتهاءِ من الحفلِ .
كلُّ هذهِ الذكرياتِ كتبتُها في " مذكراتِ امرأةٍ بعدَ منصفِ الليلِ " ومعَ أنّها سقطتْ في البحرِ ، أو رحلتْ معَ الريحِ . ما نسيتُ كلمةً واحدةً عن بلدتي " السراب "
لم أنسَ أيضاً عندما عادَ هاني وهو يلوّحُ لي بشهادتِه . لمْ أنسَ الحفلةَ والثوبُ الذي صنعتُهُ من أجلِ الحفلةِ ، ولا فرقةُ سونيا التي . عزفت موسيقى بلادي . رقصتُ على وقعِ ولادةِ أسرةٍ جديدةٍ تضمُّني معَ هاني . يومها امتزجتْ سعادتي بالألمِ عندما تحدث هاني للجمعِ عن والدهِ . تأسّفَ لأنّهُ ماتَ ولم يستطعْ مشاركته في الفرحِ بالنجاح . نزلتْ دموعُ هاني . شعرتُ أنّها تخترقُ قلبي لتقولَ : أنتِ مسؤولةٌ عما جرى . تحدّثَ عن صديقتِهِ حوريةُ البحرِ " سيرينا " لم يتحدّثْ لي عنها من قبل . سرينا هذه أحبّته ، وأحبّها . أخفيا السرّ عنّي .
- قالَ : "الحبُّ هو الذي يجعلُنا نستمرُّ . عندما أحبّبتُ سرينا الحورية . كنتُ في الثامنةِ من عمري . كانتْ تأتي من كهفها في البحرِ . نجلسُ معاً على الرمالِ . ذيلُها يبقى داخلَ البحر . تتكلّمُ وهي مملوءة بالحبِّ والجمالِ . شكراً لكِ يا سيرينا "
- سنسمي الفرقةََ إن نجحنا في الاستمرار باسمِ حورية هاني كي تعيشَ سرينا من خلالها . "فرقة سرينا للغناء "
أصبحت سيرينا فرقة حقيقيةً . تزدادُ قيمتُها يوماً بعد يوم .
في تلكَ المذكراتِ تحدّثتُ عن عملِ هاني في مكتبِ الأحلامِ الذي بدأ يحقّقُ لهُ بعض الأحلامِ . وكانَ أصعبُ ما تحدّثتُ عنهُ رحلتي إلى بلدتي " السراب " بلدتي لم تتغيرْ . أولُ شيءٍ لفتَ نظري في شارعِ المحبةِ الذي تعرفتُ فيهِ إلى سعيدٍ عدّدُ المتسولين ، فقبل أكثر من عشرين عاماً لم يكنْ هناك سوى متسولةٍ واحدةٍ . لم أرَ النساءَ والرجال يمشونَ فيه . رأيتُ الناسَ كأنّهم تائهونَ أكتافهم متهدلةٌ ينظرون إلى الأسفلِ وكأنّ شيئاً حدثَ لهم . يمشونَ على غيرِ هدى .
كانَ في الشارعِ أيضاً فتياتُ ليلٍ . تأتي سياراتٌ فارهةٌ تقلُّهم .


في بيتنا الذي ترددتُ كثيراً عندما طرقتُ جرسَ بابهِ . خفتُ من المواجهةِ . ليس لديَّ عذرٌ . للحظةٍ حضّرتُ نفسي للاعتذارِ من أمي وأبي. اعتقدتُ أنّني سأراهم . عندما ظهرَ أمامي ذلك الرجلُ الملتحي الذي بدا لي أنّه من أهلِ الكهفِ . لم أعرفْه في البدءِ . عرفَني . إنّهُ أخي سامر .
- عليا ! هل أنتِ على قيد الحياةِ ؟ بحثتُ عنكِ كثيراً . أصابَني الحزنُ الشديدُ عليكِ . اعتقدتُّ أنّكِ متِّ أيضاً . بعد موت أخي في حادثِ سير . بحثتُ عنكِ ليلَ نهارَ . سعيد كان يبحثُ معي أيضاً . أتى إلى المنزلِ ولم يركِ . هل صحيحٌ هذا ؟ لم أصدّقهُْ .
يبدو لي كاذباً . دخلَ السجنَ بدعوى الاحتيالِ . زوجتُه ديدي هي من أقامَ الدعوى ضدهُ . صرفَ مالَها على الملذاتِ . المالُ الذي جمعتهُ من عملِها في نوادٍ ليليه . زوّرَ بعضَ الأوراقِ. فتاةٌ أخرى تزوجها اختفتْ مثلما اختفيتِ .
- مازال على قيدِ الحياةِ ! يا للهولِ ! هلْ يعني أنّهُ تركني في تلكَ الجزيرةِ كي أموتَ . لا أصدّقُ نفسي . السيدةُ صاحبةُ الموقد صارعتْ كثيراً من أجلِ العيشِ . قد لا تكونُ قد نجتْ . سترى منّي الويلُ أيها المجرمُ .
تخليتَ عن طفلكَ ببرودةِ أعصابٍ . هل أنتَ إنسانٌ ؟
- عندما زرتُهُ في السجنِ واتهمتُهُ بأنّه يعرفُ طريقكِ .
قالَ : " أختك ساقطة . ابحثْ عنها معَ رجلٍ آخرْ . إن كنتَ لا تصدقني انظرْ إلى الوثائقِ الرسميةِ . ليس لديّ غيرُ زوجةٍ واحدة هي " ديدي "
- من أجلِ هذا أتيتُ . الآنَ فهمتُ ما كان يجري .
أردتُ أن أذهبَ إلى السجنِ لأقولَ له : تستحقُّ ما يجري لك . تراجعتُ . لن أذهبَ إليهِ . لن أعاتبَهُ . ما جرى لي انتهى . العقوبةُ تنتظرُه .
سنرتاحُ هذهِ الليلةِ ثم نسافرُ غداً . بعدَها أشرحُ لكَ كلّ التفاصيلِ . عاهدْني أن لا تتفوهَ بشيءٍ عن هذا الموضوعِ أمامَ ابني هاني .
لا يعرفُ هذهِ الأمورِ عن أبيهِ
يعتقدُ أنّهُ غرقَ في البحرِِ .
جعلتُ صورةَ والدَهُ مضيئةً
لا أرغبُ أن تتغيّرَ تلكَ الصورة .


أسألكَ عن حالكَ . تبدو مثلي. تعيشُ في منزلنا الذي لا تتجاوزُ مساحته المئة مترٍ مربع .
- اعتزلتُ الحياةَ فلا شيءَ جميلٌ فيها . لم يكنْ أمامي أملٌ عزفتُ عن الزواجِ وعنِ الحياةِ . عشتُ داخلَ كهفٍ مظلمٍ أحلمُ بالنور . سيكونُ الخلاصُ على يدكِ . آسفُ على كلّ عملٍ قمتُ بهِ وسبّبَ لكِ الألم .
- لا تلمْ نفسكَ كثيراً . لم تؤذِني . الظروفُ التي أحاطتْ بنا هي المسبّبُ في كلِّ شيءٍ . نسيتُ كلَّ شيءٍ عن الماضي . سأسامحُ سعيداً أيضاً . لن أراهُ ولن أعاتبَه . ما نفعُ العتاب ؟ عليّ أن أنساهُ حتى أستطيعَ العيش . سنذهبُ إلى هناكَ . ستعملُ وتتغيّرُ حياتك . أحبُّ أن نخرجَ الآنَ لنمشيَ في شوارعِ مدينتِنا . اشتقتُ لها . .
أرغبُ أن أرى مدرستي . مدينتي . ذكرياتي
أن أشكوَ آلمي للحيِّ الذي ولدتُ فيهِ .أتخيّلُ طفولتي
المدينةُ ما زالتْ تتذكّرُني . كلّ النساءِ حزيناتٍ مثلي
شوارعُها مرسومةٌ بأدقِّ التفاصيلِ في وجداني . أحبُّها
هنا عشتُ أجملَ لحظاتي . أقسى كوابيسي . لحظاتُ السعيّ إلى الحريةِ
- سنفعلُ ذلكَ الآن وتحتَ جنحِ الليلِ .
ندورُ في كلّ شارعٍ . نسمعُ من كلِّ منزلٍ شكوى . الآنَ يا عليا نضيعُ في شوارعٍ نستْ من نحنُ . لم ننسَ شيئاً . لن تجدي في المدينةِ وجوهاً تضحكُ . كما أنّكِ لن تري شباباً . الكلُّ يعيشُ حالةً من الشيخوخةِ يسميها نضجاً .
في مدينةٍ فاجرةٍ سرقتْ قلوبنا .. . حاولنا أن نعيشَ
عبستْ المدينة في وجهنا . تخلتْ عنّا . أرغمتنا على العزلةِ .
في ليلِ مدينتا . نختبئُ من الحياةِ . لا شيءَ لدينا كي نعيشَ من أجلِهِ تلك الحياة
-آه يا سامرُ . مهزومةٌ أنا مع الليلِ على الدوامِ . يتركني أتقلبُ على سريري . كان الليلُ لي صديقاً وفيّاً . في كلِّ ليلةٍ أتذكرُكم جميعاً . أعاتبُ نفسي لأنّني لم أستطعْ إنقاذكم من ذلكَ الظلم الذي لم نكنْ نعرفُ كيفَ نخلصُ منهُ .
أناجي طيورَ البحرِ والسهلِ والجبلِ أن تعيدكم إليّ .
- كفاكِ ألماً . لم تنظري حتى إلى الشوارع .
- هل أمشي في مدينتي الآنَ ؟ هذا المكانُ غريبٌ عليَّ .
لا يمكنُ أن تكونَ مدينتي بألوانٍ رماديةٍ ليس فيها ذلكَ الجمالُ الذي كنتُ أبحثُ عنه .
دعنا نعودُ إلى المنزلِ نشعلُ شموعاً من أجلِ عائلتِنا التي لم يبقَ منها سوانا .
- سنعودُ بعدَ قليلٍ .مادمتُ ذاهباً معكِ .
سنتحدّثُ عني وعنكِ .


عن نفسي التي عذبَها ذلكَ المفهوم عن الرجالِ ، فالرجالُ لا يبكونَ . لا ينهارون . خلقوا من أجلِ الصّعابِ . تربيتُ على هذا الكلامِ . في عزلتي التي لم أخترْها طوعاً. فكّرتُ : هل أنا رجلٌ مثلَ كلِّ الرجالِ . رجعتُ إلى ذاتي اكتشفتُ ذلكَ الرجلُ الذي تربى على أن لا يهزمُ .وجدتُه خائفاً أكثرَ من النساء .دموعُهُ أكثرُ حرقة . وشوقهُ أكثرُ من حكايةِ ألمٍ . وعمرُه شقاء . فكّرتُ بكِ . بأمّي لو كانتْ مازالتْ على قيدِ الحياةِ . تحضنُني بينما أضربُ رأسي وأبكي . ماذا فعلتُ بالحياةِ ؟ أرغبُ بحضنِِ أنثى . . لا أحدَ قربي . انسحبتُ من إلى هذه المساحةِ الصغيرة التي لا تتجاوزُ المئة متر مربع . أخرجُ في كلّ صباحٍ . أحياناً أرى عملاً وأحياناً لا أرى . لم يعدْ من صفاتِ الرجالِ بي سوى ذقني التي أطلقتُها ، لأعلنَ لنفسي عن حالاتِ الإحباطِ التي تصيبُني وأنّني مازلتُ رجلاً . كلّما رأيتُ نفسي في المرآة عن غيرِ قصدٍ . يرعبُني منظرُ من أراه .أقولُ : يا لكَ من وحشٍ في غابةٍ ! لم أكنْ أقدّرُ أهميةَ وجودِ النساءِ .
- كفاكَ تجريحاً لنفسِك . ما أردتُك إلا أن تكونَ رجلاً يتمتعُ بالقوةِ . كم كنتُ أحتاجُ إليكَ يا أخي في تلكَ الليالي الصعبة التي عشتُها !لا تكن مهزوماً . لا عيبَ في أن تكونَ إنساناً يفرحُ ويحزنُ . رجلاً يبني الحياة . كم حلمتُ أن نمشي معاً . أن نتشاركَ في دعمِ أسرتنا المفكّّكة . كانَ كلُّ واحد منها يسيرُ في وادٍ . لم نجتمعْ إلا على الحزنِ . ربما لم يكن بمقدورِنا فعلُ أكثرَ مما فعلنا . أن نتصالح مع الماضي أمرٌ هامٌّ . عليكَ أن تبدأَ من جديد .
- عقدةُ الذنبِ تتملكُني . لم أبذلْ ما أستطيعُ لإنقاذ تلكَ العائلة . لم أقّدمْ المالَ . كنتُ عبئاً . لا تزالُ صورةُ أمّي عالقةً في ذهني عندما كانَ أبي يقذفُها بالكؤوس ِ . يشتمُها . في مراتٍ كثيرةٍ غضبتُ منه عندما كنتُ طفلاً ، وعندما كبرتُ أصبحتُ مثلَه . أصبحتْ أمي تخافني مثلما تخافُ أبي . تهربُ منّي مثلما تهربُ منه . رحلتْ معَ آلامها . خجلتْ من الفضائحِ. امتدحتْ أبي . امتدحتني . سمعتُ مواويلَها الحزينةِ التي ترثي بها نفسها . لا يمكنُ أن أغفرَ لنفسي .
- لا تزدْ عليّ الوجعَ . سنتغيّرُ لنصبحَ كما أرادتنا . نرسلُ لها محبّتنا . إنّها تسكنُني يا أخي . عذاباتُها هي عذاباتي .
- فقط أردتُ أن أتحدّث بما قلتُه لأحدٍ ما . كادَ الكلامُ يخنقُني . أشعرُ بالراحةِ الآنَ . أشعرُ أيضاً بالأمانِِ . في حياتي أختٌ كنتُ أبحثُ عنها ، فإذ بها تبحثُ عنّي .
- لا أصدقُ عينيّ . سامر أخي يرافقني في جولةٍ في مدينتي " السراب " الحياةُ تبتسمُ لي من جديد . أخي سامر وابني هاني سيكونان منذُ اليومَ ضمنَ عالمي . بدأتِ الحقائق تظهرُ في حياتي . تخرجُ الظلمةُ ويدخلُ بدلاً منها نورٌ يشعُّ . العذرُ ليس في سعيد ، ولا حتى في سرحان أو قمرُ الزمان . العذرُ فيّ أنا . اخترتُ عالمي . فكان كما أردتُ . عندما تركني سرحان . سرقَ مذكراتي . رأيتها في يدهِ .
لوّحَ بها : "أنتِ ساذجةٌ يا عليا . لن أعودَ لكِ أبداً "
سرحان خيالٌ استغلّ طيبتي ورحلَ . هذهِ الحالةُ ليستْ طيبةٌ . إنّها سخفٌ . عندما ودّعني قمر الزمانِ عائداً إلى كوكبِ الإكليل كما كانَ يدّعي .
- "توقعتُ أنّكِ قويةٌ . إنّكِ امرأةٌ ضائعة "
- ما بكِ يا عليا . بماذا تفكرين ؟
- أفكّرُ في الماضي . كنتُ مغفلةً عندما رحلتُ معَ سعيد . ألا ترى ذلك ؟
- سعيد شخصٌ محتال . ليس كلُّ الرجالِ مثلَهُ . احتالَ على زوجته أمّ أولاده التي أنفقتْ عليهِ من مالها زمناً . لم تكوني مغفّلة . كانت أسرتُنا مليئةً بالعنفِ . أم نسيتِ عندما كان أبي يثملُ ؟ كان يثير بيننا حالةَ رعبٍ . لم تعرفْ والدتنا كيف تتصرفُ . هي قريبتُه ولا تريدُ أن يسمعَ الناسُ قصصنا . نشأنا خائفين . إنّني رجلٌ عانيتُ ما عانيتِ. لم نتعلمْ من الحياةِ لأنّنا لم نمارسْها . انظري إلى حالي . ألا ترينَ أنّ أمراً كبيراً حدثَ لي ؟
- كلُّ ما تقوله صحيحٌ . أبي كان مريضاً يحتاجُ للرحمةِ والعلاج . لم نكن نفهمُ ذلك . لو فهمنا أيضاً لم يكنْ لدينا القدرة على النفقاتِ . نتحدّثُ وقد رحلوا .
سامحتُ الجميعَ منذ كنتُ في تلكَ الجزيرة .


- كانَ والدي ينتظرُ أن نقدّمَ له الدعمَ في آخر حياته . عندما كان يصحو في اليوم التالي ، يحاولُ الاعتذار منّا ومن والدتنا. أحزنُ عليهِ . عاشَ وماتَ وهو على هامش الحياة . كان بإمكانه أن يكون شخصاً أقوى . انسحبَ بإرادتِه .
- هل أنتَ كحوليٌّ يا سامر .
- أبداً . عاهدتُ أمي أن لا أشربَ الكحولَ أبداً . مازالتِ الصورةُ ماثلةٌ أمامي . إنّني شخصٌ جيدٌ . يحتاجُ إلى فرصةٍ تعيدُ له الحياة مرةً ثانية .
- عجيبٌ أمرُ الإدمانِ هذا . يؤثّرُ حتى على الأطفال . الأمُّ التي تدمنُ في الأسابيع الثمانية للحمل يأتي طفلها مدمناً .رأيتُ برنامجاً على التلفزيونِ في المدينةِ التي أقيمُ فيها تحدّثَ الطبيبُ فيهِ عن إدمانِ الكحولِ والمخدرات .
- النساء في مدينتنا لا يشربون الكحول إلا ما ندر .
- تحدّثتْ لي صديقتي عن زوجِها . تصرفاتُهُ أقسى من تصرفاتِ أبي . كان يصوّبُ السلاحَ تجاهها وتجاهَ ابنته .
ما بكِ تسردينَ مذكراتكِ عن ظهرِ قلبٍ ؟ تعيدينَ قراءتها في كلّ يومٍ مراتٍ ومراتٍ .
لن أكتبَ بعدَ اليومِ مذكراتٍ كي لا أقرأها .
إذا كتبتُها سأكتبها في الصباح كي أرى ما كتبتُ .
سأضيفُ لها بعضاً من أشعةٍ من الشروقِ .
وأجعلها بلونِ آخرِ نجمةٍ عانقتِ النهارِ
لن يكونَ بين ألواني رمادي
ولا بنيّ
كلّ ألواني التي أزخرفُ فيها مذكراتي . ستكونُ أرجوانيةٌ
في مذكراتِ امرأةٍ بعد منتصفِ الليلِ . كتبتُ عن سوادِ الليلِ
لم أكنْ أرى القمرَ والنجوم .
في الليلِ ومن بينِ السوادِ يطلُّ القمرُ . يبدّدُ ذلكَ الظلامَ ، وتلمعُ النجوم .
سأضعُ بعدَ الآنِ مساحاتٍ بيضاءَ منيرةً . أراها في منتصفِ الليلِ ، أو بعدَ المنتصفِ بقليلٍ .














تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

هذا العالم ضيّق، وليس له أبواب

04-تموز-2020

"الفظائع الآشورية التي تجعل داعش باهتة أمامها"

19-كانون الثاني-2019

هذا العالم ضيّق، وليس له أبواب

10-كانون الأول-2015

السّوريون ظاهرة صوتيّة تقف على منّصة ليس أمامها جمهور

19-تشرين الثاني-2015

الزّلزلة

05-تشرين الأول-2015

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow