Alef Logo
كشاف الوراقين
              

روايات مرشحة لجائزة البوكر / حياة قصيرة لرينيه الحايك – مقتطفات

ألف

خاص ألف

2011-02-14

الأمطار تضرب زجاج السيارة. تقوى ، لا أرى أمامي. أنتظر منذ عشر دقائق في مدخل موقف السيارات ، يحين دوري أخيرا ، العامل يقف بمشمعه الأصفر ملوحا بكلتا يديه إلى خلف ، لا مكان لسيارتي. أي لعنة هذا الموعد. يتكرر الأمر في مرآبين آخرين. الآن علي أن أجد واحدا حتى لو كان بعيدا عن المكان الذي أقصده. تأخرلات ثلث ساعة. المطار العمنيفة تصعب خروجي من السيارة. ما إن أضغع قدمي خارجها حتى يمتلئ حذائي ىبالماء. ىالمظلة بلا فائدة ، تتعالى قضبانها ملتوية نحو السماء ، كأنها كأس كبيرة. أقفز متجنبا السيول ، أصطدم بامرأة. أعتذر بكلماتىغير مفهومة . أنتبه فجأة ، هذه يارا. كانت تكمل سيرها عندما ناديتها تكرارا " لم أعرلافك.. أقصد تغيرت كثيرا". أحنت رأسها كأنها مترددة ، تريد أن تكمل سيرها ، لكنها مرتبكة ، غير قادرة على تجاهلي. في العادة يفرح الناس عندما نقول لهم إنهم خسروا وزنا ، لكن ليس في حالة يارا. قضت عمرها تحاول كسب بضعة كيلو غرامات.
تلعثمت حين لفظت اسم ريتا. هي أيضا ، ارتبكت. تباطأت في خطواتها كأن السماء لا تفرغ فوق رؤوسنا هذه الأنهار. لم أسمع كلماتهتا كلها. لكنني فهمت ما يكفي. سرنا متجاورين. بنطلوني تبلل حتى حدود الركبة. حملت عنها حقيبة قديمة تخرج من سحابها غير المغلق أطراف أثواب سوداء.
المصعد لا ينزل إلى الطابق ىالأرضي ، يتوقف عند كل طابق وقتا طويلا. سرت خلفها في الممرات الطويلة ، قلبي ينبض في رأسي كأنني سأقع. وجوه غائمة ، أصوات ، أطباء ، بالمبذل الأبيض ممرضة تجر سريرا نقالا ، مريض يحاذر في خطوه البطيء محاذيا الجدار ، مكبرات الصوت تستدعي طبيبا مكررة اسمه.
رأيتها في السرير. عيناي تسمرتا باتجاه هذا الجسم القليل فوق الملاءات البيضاء. أقف جهة الستارة التي تفصل بينها و بين المريضة المجاورة. لا أكلم أمها حين أنتبه لجلوسها قريبا من قدمي ابنتها. تواصل مسح دموعها بمحرمة قماش مطرزة. يخرج صوتي مبحوحا حين أكرر ندائي " ريتا ... ريتا ". لا أجرؤ ، أضيف على ذلك أي كلام. لا ترتدي ثياب النوم كالمرضى. ألبسوها مبذلا أبيض عليه نقوش. كأنها في مريول مدرسة. ذراعاها رمليتا اللون ممدتان. أرى العروق الزرقاء كلها. أصابعها ثخينة بعقد كبيرة تتعارض مع رقة ذراعيها. أرغب في النظر إلى راحتها. أتأمل بثبات اليد التي أعرف أدق خطوطها. ترتفع يدها في الهواء ثم تخبط السرير. ينسحب الملقط الذي يمسك إحدى أصابعها. ترتسم علامة ثمانين بالمئة ثم ترتفع لتصل إلى تسعين بالمئة.
الجيوب الداكنة اللون تحت عينيها اختفت. وجهها نحيل كأنه خسر استدارته. عين واحدة نصف مفتوحة. الثانية مغلقة تماما. لكن الجفن متورم عليه كدمة حمراء و زرقاء. أنظر إلى الشق في عينها لأرى إن كانت تعلمك أنني هنا. أسمع همهمة خافتة تطلع من أعماقها كأنها احتجاج. " ماذا ترين يا ريتا "؟ أنبوبان يخرجان من فتحتي الأنف. كمامة أوكسجين فوق الفم ، اليد ترتفع ثانية كأنها تريد قول شيء أو خائفة تحاول التمسك. هل تحلم كعادتها أنها تهوي من مكان شاهقالعلو؟ ماذا تسمع؟ أهي في غيبوبة حقا؟ أتسمع النشيج الخافت ، همس يار ا الخجل؟ لو أكون وحدي فأكلمها. كيف يمكن أن أطلب شيئا مماثلا؟ بأي حق؟ من أكون؟.
الحشرجة تعلو في حنجرتها كأنها بكاء مخنوق. الأم يرتفع بكاؤها ، يارا تنهرها. تهمس " ريتا لا تعرف يا ماما. ما بك؟".
تدخل الممرضة برفقة الطبيب ، تأمرنا بالخروج. تبقى يارا لصق الباب لتحكي مع الطبيب حين يخرج. ألتفت ، لا أرى أمها. أسير تائها تماما وسط الممرات. في القاعة التي لم أنتبه لها ساعة دخلت ، أرى وجوها أعرفها. زميلان لريتا ، أولاد عمومة ، هناك من لا أعرفه أبدا. تحية سريعة نتبادلها بإيماءة من اليد أو الرأس. لكن صديقتيها اللتين كانتا تعرفانني جيدا اقتربتا مني لمصافحتي. كنت أفكر أن ما قالته يارا مبالغ فيه. ماذا لو بدأت بالتعافي. أعرف كثيرين عانوا من ضعف في عضلة القلب ، لم تصنف حالتها بالشاذة؟ البواب السابق في الشركة لديه عضلة قلب ضعيفة ، أنجب أولادا و عمل حتى تقاعد و لم يمت. ألتقي به أحيانا برفقة زوجته ممسكة بيده أو بذراعه. صحيح أنه لا يتمكن من أن يسير كالبشر و لا أن يبذل مجهودا ، لكنه على قيد الحياة. لا يهم تاريخ العائلة و مشاكلها. نحن في القرن الواحد و العشرين. الطب تقدم. ربما طبيبها غير بارع بما يكفي.. لمن أقول ذلك؟ رن هاتفي ، تذكرت الموعد ، نظرت إلى الرقم و أخرست الهاتف نهائيا. لا أريد أن يحكي معي أحد. تسللت قريبا من مودي صديقتها. مكثت واقفا قربها بانتظار أن تفرغ من حديثها مع ابنة عم ريتا. قلت لها : " هناك أمل أليس كذلك"؟ أردت أن تكذب ما أخبرتني إياه يارا ، أن أمحوه. لم أهتم لشروحاتها و لأسماء الأطباء المعروفين الذين عاينوها و لا لتشبيهها عضلة قلب ريتا بورقة خس مسلوقة. " مسألة ساعات أو أيام" قالت.
أعود أدراجي وسط ممرات متشابهة. لم أحفظ رقم غرفتها ، استدللت عليها من أمها و أختها المستندتين إلى الجدار . كأن أمها أقصر الآن مما عرفتها. لا تزال ترتدي الأسود. ليس حدادا على زوجها ابن عمها فقط بل على ابن ثم ابنة لم يتجاوزا الثانية عشرة. كلهم ماتوا بسبب مرض وراثي يتعلق بقصور في القلب.
تلحق يارا بالطبيب بعد أن يخرج. تسرع خلفه ، تسأله فيما يواصل سيره ، يكلمها دون أن يلتفت أو يتوقف. أفكر أنه لا يعرف ريتا حقا.
تجلس أمها على الكرسي العريض نفسه ، تشير إلى الكرسي الخشب الفارغ لأجلس عليه. لا أفعل. أقف لصق الستارة. أريد أن أمد يدي لجس جبينها و ذراعها. لا أجرؤ. تنتفض بقوة أكبر. ذراعاها يتحركان معا نحو السقف ثم تخبطهما بالسرير ، تحركهما ثانية يمينا و شمالا. الصوت الطالع من داخلها يشبه الغضب . ينفلت أنبوب موصول إلى يدها.
قطرات دم تنقط على الملاءة البيضاء. تثبت الممرضة الأنابيب ثانية ، تضيف حقنة و دواء إلى الأمصال. تقول : " الآن ستتحسن و تهدأ ، لن تشعر بشيء". على جهاز التنفس أقرأ : 63 % .
تذكير للزوار بضرورة مغادرة المستشفى. يتكرر النداء عبر المكبرات عدة مرات. الأقارب يحاولون إقناع الأم بالراحة هذه الليلة في بيتها. لا ترد. كأنها لا تسمع. تستمر في جلوسها. تمسح طرف عينيها بالمحرمة القماش. تهمس شيئا لريتا ، لا يسمعه أحد.
أخرج حين ينسحب الجميع. أدخل إلى المصعد. بالكاد أجد لي مكانا فيه. شتول و هدايا يحملها بعضهم لأخذها للبيت. طبيب يتحرش بممرضة ، ترد عليه بتهكم. محادثات تختلط ببعضها على التلفونات المحمولة.
أقف أمام واجهة المستشفى الزجاجية ، المطر توقف. مصابيح الشارع مطفأة. أفكر : لو أبقى هنا. أسير طلوعا باتجاه الشارع الرئيسي. رذاذ خفيف يعاود الهطول ، يبرد الحرارة التي اختزنها جسدي بفعل التدفئة الخانقة. لا أذكر في أي موقف تركت سيارتي. أشعل سيجارة ، أستند إلى حائط دكان مقفل . أدخن متأملا الأنوار البعيدة للمستشفى. الداخلون إلى المستشفى قلائل ، من هنا يبدون صغارا ، لعلهم أطباء أو ممرضون. أتذكر المرة الوحيدة التي أتيت فيها إلى المستشفى نفسه مع ريتا . كان ذلك منذ خمسة و عشرين عاما. كان عصرا صيفيا ، لا أذكر منه سوى أن ابن ناصر ابتسم حين حملته ريتا ، و استغرب يومها الجميع كيف يفعل ذلك و عمره لم يجاوز اليومين. ينطفئ عقب السيجارة ما إن يلامس الأرض الرطبة. المارة يقلون ، كذلك السيارات. صوت سيارة إسعاف تتجه نحو مدخل المستشفى. المطر يطرطق فوق ظلة الحديد التي أحتمي تحتها. منذ نصف ساعة لم أر أحدا يدخل أو يخرج من المستشفى. لا أدري لم أمكث في وقوفي. بعد قليل سيكون علي أن أتحرك باتجاه سيارتي ، لم يبق معي سوى سيجارة واحدة.
- هذه المختارات من رواية ( حياة قصيرة ) لرينيه الحايك ، المرشحة للبوكر العربية في قائمتها الطويلة لهذا العام . صدرت عن المركز الثقافي العربي ببيروت و الدار البيضاء في طبعة أولى عام 2010 . الكاتبة لبنانية و قد صدر لها من قبل عدد من المؤلفات الروائية من أهمها : صلاة من أجل العائلة ، أيام باريس ، بلاد الثلوج ، بورتريه للنسيان ، و غير ذلك. و هي في جميع كتاباتها تدمج تفاصيل من حياة أفراد في مجتمع ساكن لا يتحرك ، و لكن تدور في الخلف الأحداث الجسيمة كالحرب الأهلية و النزاع بين الدول و ما يترتب على ذلك من إحساس بالتشاؤم و النوستالجيا. تعتبر رينيه الحايك اليوم من أفراد الجيل الضائع الذي أفرزته الحرب الأهلية و التراث الفني الطبيعي و لا سيما تراث توفيق يوسف عواد في رائعته ( طواحين بيروت ).

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow