Alef Logo
كشاف الوراقين
              

القــوقعـة / يوميات متلصص / مصطفى خليفة ج4

ألف

خاص ألف

2012-08-12

16 تشرين الثاني
منذ الصباح يعم ضجيج مكبرات الصوت. أرجاء السجن وما حوله تبث الأناشيد الوطنية والأناشيد التي تمجد رئيس الدولة وتسبغ عليه صفات الحكمة والشجاعة وتصفه بأوصاف عديدة، فهو المفدى، القائد العظيم، المعلم، المُلهِم... تذكر أفضاله العميمة على جميع أبناء الشعب ، فلولاه لما بزغت الشمس ،وهو الذي يمنحنا الهواء لنتنفس ، والماء لنشرب ...
نحن السجناء جميعاً نقف في الساحات في صفوف منتظمة، ولأول مرة منذ مجيئي الى هنا سمحوا لنا بالوقوف ضمن الساحة مفتوحي الأعين. أعطوا واحداً من السجناء ورقة، ومما هو مكتوب عليها يهتف... فنهتف وراءه : بالروح...بالدم سنفدي رئيسنا المحبوب والمعبود !.
قبل قليل انتهى الاحتفال. أعادونا الى المهجع. أشعر الآن ان صحتي أصبحت جيدة، لقد مضى الآن أكثر من ستة أشهر ونصف على اللحظة التي أعدت فيها فتح عيني على رأس حليق "على الصفر"، ينحني الشخص ذو الرأس الحليق فوقي وبيده مزقة قماش مبللة بالماء يحاول أن يمسح بها بعض جروح جسدي، لاحظ صحوتي فابتسم لي، قال :
ـ الحمد لله إنك صحيت، أنا الدكتور زاهي ... لا تحكي ولا تتحرك .. والحمد لله على سلامتك، يا أخوي انكتب لك عمر جديد، احمد الله سبحانه وتعالى. لم استطع لا الكلام ولا الحركة. لزمتني ثلاثة أيام أخرى بعد صحوتي الأولى لأتكلم، وأكثر من شهر حتى أستطيع الحركة. وطوال هذه الفترة لازمني الدكتور زاهي بعنايته الفائقة، وبلهجة المنطقة الشرقية المحببة كان يشرح لي بما يشبه التقرير الطبي أن وضعي كان خطراً لسببين: الأول أن أذية بالغة قد أصابت إحدى الكليتين وأنني بقيت فترة لا بأس بها أتبول دماً. أما الثاني فهو أن مساحة الجلد المتهتك في جسدي قد اقتربت من حد الخطر. وإن تفاوتت النسبة حسب المنطقة. تهتك جلد الظهر بكامله تقريبا ، قسم من البطن ، الجهة الأمامية من الفخذين، القدمان من الجهتين العلوية والسفلية. أما جلد القدم اليسرى فقد انكشط من الجهة العلوية وبانت العظام. أخبرني زاهي إنني بقيت ستة أيام غائباً عن الوعي ومعلقاً بين الحياة والموت، كان الملح هو المادة المعقمة الوحيدة المتوفرة، بالملح عالجني الشيخ زاهي، كما كان يحب أن ينادى متنازلا عن لقب دكتور بكل طيبة خاطر وكان يشربني الماء وقليلا من المربى المذاب والمخفف بالماء. وكما شرح لي وضعي الصحي فإنه أخبرني عن المعلومات التي وصلتهم من المهاجع الأخرى والتي تقول إن عدد أفراد دفعتنا كان / 91 / شخصاً، قتل منهم ثلاثة في الساحة الأولى أثناء الاستقبال وهؤلاء لم يدخلوهم إلى المهاجع، وخلال فترة غيابي عن الوعي مات عشرة آخرون متأثرين بجروحهم وإصاباتهم البليغة، واثنان من الدفعة أصيبا بشلل دائم نتيجة أذى كبير بالعمود الفقري، واحد فقط أصبح أعمى بعد أن تلقى ضربة كرباج فقأت عينيه، وبعد أن انتهى زاهي من سرد هذه المعلومات قال:
ـ والحمد لله على سلامتك .. احمد الله يا أخوي احمده.. و رغم أن الصلاة ممنوعة بس أنت تقدر تصلي سراً ركعتين لوجه الله !.


الحلاقة
بعد تسعة أيام من صحوتي وقف رئيس المهجع في الصباح وقال مخاطباً الناس في المهجع:
ـ يا إخوان .. اليوم دورنا بالحلاقة، اصبروا وصابرو، سيعيننا الله .. احملوا المرضى ويللي ما بيحسن يمشي على البطانيات، كل بطانية يحملها أربعة فدائيين ... وقدر ما فيكم أسرعوا، السرعة أفضل.. و الله يقوينا!
فتح الباب، وقف الجميع، حملني أربعة أشخاص، قال لي أحدهم بحماس :
ـ لا تْخافْ يا أخي لا تخاف.. راح نحميك بأجسامنا.
صفان من الشرطة على جانبي الباب، بين الشرطي والآخر حوالي المترين، كل شرطي يحمل كرباجاً، ما أن يصل السجين إلى الباب حتى يبدأ الركض، تتلقاه كرابيج الصف اليميني للشرطة من الأمام، الكرابيج اليسارية تطارده من الخلف، من يتعثر أو يقع .. قد يموت فهو يكون قد كسر التناغم وإيقاع الضرب، يقف الصف من خلفه وتجتمع عليه الكرابيج جميعاً، فإذا كان ذا بنية قوية واستطاع النهوض رغم عشرات الكرابيج المنهالة عليه.. فقد نجا. أما الضعيف فستبقيه الكرابيج لصيقاً بالأرض إلى الأبد. حوالي الثلاثمائة سجين من مهجعنا ركضوا بسرعة، تلقوا الضربات السريعة والكاوية، اصطفوا في الساحة ووجوههم إلى الحائط وأعينهم مغمضة، نحن المرضى وضعونا في منتصف الساحة، الكثير من عناصر الشرطة، الكثير من البلديات وفي أيديهم أمواس الحلاقة للذقن وماكينات حلاقة الشعر على الصفر. اللؤم ....؟!! كانت هذه هي التجربة الأولى للحلاقة، وسأجربها في القادم من الأيام كثيراً، ولكن منذ المرة الأولى ونتيجة لوضعي كمريض مرمي في وسط الساحة يستطيع أن يراقب كل ما يجري فيها رغم أن عينيه مغمضتان! طرقت ذهني تساؤلات إنسانية كثيرة :
البلديات سجناء مثلنا، مقهورون مثلنا، صحيح إنهم مجرمون، قتلة ولصوص ولوطيون، ولكنهم يعانون من قهر السجن مثلما نعاني، ولا تعني لهم السياسة شيئا... ولكن من أين تنبع هذه القسوة اللئيمة والضرب المبرح اللذان يكيلهما البلديات للسجناء أثناء الحلاقة؟!
وكنت دائما أتساءل بذهول: هل من المعقول أن يكون الإنسان لئيماً إلى هذه الدرجة ؟!! وهذا اللؤم المجاني ؟!!
حلاقة الذقن عملية تشريح أو حراثة للوجه مصحوبة بالبصاق والشتائم، وكان بعضهم يتلذذ بافتعال السعال قبل البصق على وجه السجين كي يكون البصاق مصحوبا بالمخاط !!! وتلتصق بصقة البلديات بالوجه ! ويمنع السجين من مسحها.
حلاقة الرأس .. مع كل سحبة ماكينة على الرأس، وبعد أن ينفض البلديات الشعر المحلوق، ضربة قوية بالماكينة نفسها على المكان المحلوق وهو يصر على أسنانه ويشتم:
ـ يا عرص يا ابن العرص .. منين جايب كل هالقمل؟!
ـ ولك يا منيك ... شو عامل راسك مزرعة قمل؟!
ومع كل ضربة ماكينة، إما أن ينفر الدم، أو تظهر كرة صغيرة في الرأس مكان الضربة!!.
الكثير من السجناء عرف الكثير من البلديات، هم من نفس قراهم وبلداتهم ومدنهم وأحيائهم، وتبقى نفس الأسئلة مطروحة: ولكن لماذا؟ .. لماذا هو لئيم بهذا القدر؟.. ما هي دوافعه النفسية؟.. هل القسوة و السادية المتأصلة أو العارضة يمكن أن تنتقل بالعدوى؟ أم هي روح القطيع؟!.
" وددت لو تتاح لي فرصة محادثة احدهم ".
بعد أن انتهى أحد البلديات من حلاقتي بضربة قوية على رأسي الحليق، قال:
ـ يا كلب يا ابن الكلب .. كسرتلي ضهري!! .. عامل حالك ما بتحسن توقف!!.
أدخلونا جميعاً إلى المهجع بين صفي الشرطة والكرابيج تنهال أكثر ما تنهال على الرؤوس الحليقة!! استلقيت في الركن المخصص للمرضى. إمارات السرور والفرح بادية على كل المساجين: " هاهي حلاقة أخرى .. تمر بسلام .. لا زلنا أحياء !! ".

المهجع
خلال استلقائي أكثر من شهر في هذا الركن أتيح لي أن أعاين وأفهم الكثير من الأشياء والأمور في هذا المهجع الكبير. يبلغ طول المهجع / 15 / خمسة عشر متراً، وعرضه حوالي ستة أمتار باب حديدي أسود، في أعلى الجدران نوافذ صغيرة ملاصقة للسقف و مسلحة بقضبان حديدية سميكة، لا يتجاوز عرض النافذة خمسين سنتمتراً وطولها حوالي المتر. أهم ما في المهجع هو الفتحة السقفية، وهي فتحة في منتصف السقف طولها أربعة أمتار وعرضها متران، مسلحة أيضا بقضبان حديدية متينة، هذه الفتحة ويسمونها " الشراقة " تتيح للحارس المسلح ببندقية والذي يقف على سطح المهجع أن يراقب ويعاين كل ما يجري داخل المهجع وعلى مدار ساعات الليل والنهار، فوق كل مهجع في السجن الصحراوي حارس مسلح من الشرطة العسكرية.
ساعات اليوم هنا جزءان لا ثالث لهما، اثنتا عشر ساعة نوم إجباري، اثنتا عشرة ساعة جلوس إجباري، كل سجين يملك ثلاث بطانيات عسكرية فقط، يطوي واحدة ويمدها على الأرض فتصبح فراشاً ويتغطى باثنتين، من يملك ألبسة زائدة عن الثياب التي يرتديها يطويها ويجعلها وسادة أو يضع حذاءه كوسادة، ومن يكن مثلي لا يملك ثياباً أو حذاءً فإنه ينام بلا وسادة.
وعلى كل سجين أن يتقيد بالتعليمات، من السادسة مساءً إلى السادسة صباحاً يجب أن يكون نائماً لا يتحرك، من السادسة صباحاً إلى السادسة مساءً يجب أن يطوي البطانيات الثلاث ويجلس عليها لا يتحرك. الذهاب إلى المرحاض يتم وفق نظام خاص، بحيث أن الشرطي الحارس في أي ساعة يخطر له أن ينظر داخل المهجع يجب ألا يرى أكثر من شخص واحد يمشي داخل المهجع، ورئيس المهجع وهو سجين أيضاً يجب أن ينظم كل هذا تحت طائلة المسؤولية.
لدى أي خلل../ إذا تحرك النائم حركة غير طبيعية مثلاً، إذا كان اثنان يتحدثان إلى بعضهما ليلاً، إذا كان هناك أكثر من شخص يمشي، إذا كان جالساً بطريقةً لا تعجب الحارس/ يصيح الحارس برئيس المهجع:
ـ رئيس المهجع .... ولا كرّ !!
ـ نعم سيدي.
ـ علمّ ...هالكلب.
وهكذا يكون قد تم تعليم السجين.
نوبة كل حارس ساعتان. وعدد الذين يتم تعليمهم تابع لمزاج كل حارس، وكل حارس يبلغ من يليه في الحراسة بعدد الذين علّمهم، وفي الصباح يكون المجموع عند الرقيب الذي يحضر إلى الساحة وبصحبته عدد كبير من عناصر الشرطة العسكرية والبلديات، ويصيح:
ـ ولا ... رئيس المهجع يا حقير ... عندك تلاتة وتلاتين معلِّمين .... طالعهن لبره لا شوف!.
ويخرج الفدائيون!.. جزاء وعقوبة التعليم أصبحت عرفاً: خمسمائة جلدة.
الطعام
ثلاث وجبات في اليوم، رغيفان من الخبز العسكري لكل سجين، الطعام يأتي في أوان بلاستيكية، العشاء على الأغلب شوربة عدس، الغداء برغل ومرق البطاطا، البطاطا تطبخ مع رب البندورة بدون أن تغسل أو تفرم، ولذلك دائماً هناك عدة سنتمترات من التراب الراقد في أسفل جاط المرق، الفطور لبنة أو زيتون وأحياناً بيض مسلوق.
يجلب البلديات جاطات الطعام، يضعونها أمام المهاجع ويذهبون، أكثر من ستمائة رغيف خبز، حوالي العشر جاطات بلاستيك مليئة بالبرغل ومثلها من المرقة، كلها تكوّم أمام المهجع.
ثلاث مرات في اليوم يفتح الباب الحديدي الأسود لإدخال الطعام، وفي كل مرة يكون الفدائيون واقفين خلف الباب، ما أن يفتح حتى يصبحوا جميعاً وبلمح البصر عند الطعام، وبسرعة البرق يحملونه، فدائي واحد لكل جاط برغل، جاط المرق يحمله اثنان، الخبز يكومونه على البطانيات وكل بطانية يحملها أربعة أشخاص، طوال الوقت الذي يستغرقه إدخال الطعام تكون كرابيج الشرطة قد فعلت فعلها، يتفنن عناصر الشرطة ويبتدعون أساليب جديدة:
أمام جاط شوربة العدس الغالي، أمسك الرقيب بالفدائي الذي هم بحمل الجاط. قال:
ـ أترك الجاط على الأرض ... ولا شرموط !
ترك السجين الجاط ووقف.
ـ وهلق ... غطس إيديك بالشوربة لشوف !
وخرجت اليدان من الشوربة مسلوختين. وأجبره بعدها أن يحمل الجاط بيديه المسلوختين إلى داخل المهجع.
كل بضعة أيام يقتل واحد أو أكثر أثناء إدخال الطعام إلى المهاجع.
الفدائيون
يوجد هنا أناس من كل الأعمار، رجال في الثمانين من عمرهم، فتيان لم يتجاوزوا الخامسة عشر، يوجد مرضى، ضعفاء، ذوو عاهات سواء كانت في الأصل أو حدثت جراء التعذيب.
الفدائيون مجموعة من الشباب الأقوياء ذوي الأجساد المتينة، تطوعوا من تلقاء أنفسهم للقيام بالمهام الخطرة التي تحتاج إلى قوة تحمل أو سرعة، مثل إدخال الطعام إلى المهجع، أو إذا تم " تعليم " أحد المرضى أو الشيوخ من قبل الحراس، فإن أحد الفدائيين ينوب عن هذا المريض في تلقي الخمسمائة جلدة، لا يعرف أحد أي مهجع في السجن كان السباق إلى ابتداع هذه الفرقة الفدائية، ولكن في لحظة ما تبين أن لدى كل مهجع في السجن فرقة فدائية، "اكتشفت الشرطة في السنوات اللاحقة هذا الأمر، ففي أحد الأيام كان الحراس يتسلون بمراقبة أحد المهاجع وتعليم السجناء، وأصبح عدد الأشخاص الذين تم تعليمهم يفوق عدد أعضاء الفرقة الفدائية، وأصر بعض الفدائيين على الخروج مرة ثانية لتلقي خمسمائة جلدة أخرى، وفوراً اكتشف عناصر الشرطة آثار الضرب والكدمات الحديثة على أرجلهم ولكنهم رغم ذلك لم يفعلوا شيئا حيال الأمر".
سمعت أحد الفدائيين يقول إلى زميله:
ـ نحن مشروع شهادة.
وهم صادقون في سعيهم إلى الاستشهاد، وقد أنقذت الفرق الفدائية حياة الكثير، وعملهم يتسم بالإخلاص والاندفاع الشديدين النابعين عن إيمان عميق.
في مرة أخرى سمعت دعاء أحدهم بعد الصلاة التي أداها جالساً:
- اللهم انك قادر على كل شيء، باسمك الجليل هبني الشهادة، وخذني إلى جنتك حيث النبيّون والمؤمنون الأخيار.
بعضهم كان يقوم بعمله بتواضع شديد وصمت، وعلى بعضهم الآخر كنت ألاحظ نبرة زهو وتشوف في حديثه.
الحمّام
نحن في المهجع ستة مرضى لا نذهب إلى الحمام، أنا وزميلي في الدفعة الذي بقي غائباً عن الوعي طوال الفترة التي كنت لا أستطيع الحركة فيها، "وكان قد دخل إلى هذا المهجع من دفعتنا ثلاثة، واحد مات بعد يومين، أنا صحوت بعد ستة أيام، أما الثالث فقد بقي شهرين يتأرجح بين الموت والحياة، صحا بعدها وشفي" وأربعة مشلولون، اثنان منهم بالأصل شلل أطفال ، الثالث أثناء الاستقبال، أما الرابع فقد شل نتيجة التعذيب بـ " المظلة ".
الحمام إجباري للجميع إلا الذين لا يستطيعون الحركة، خاصة وقد كتب على بابه إن النظافة من الإيمان، ذهب المهجع إلى الحمام مرتين خلال فترة الشهر التي بقيت فيها لا أستطيع الحركة، يخلعون كل ثيابهم يبقون فقط بالسراويل الداخلية.
بعد شفائي نسبياً وقدرتي على الحركة ذهبت مع المهجع إلى الحمّام!.
الكيلوت الذي كنت ارتديه عند مجيئي إما أنه تقطع أثناء الاستقبال أو أنه ضاع، صحوت بعد ستة أيام فوجدت نفسي مرتدياً سروالاً داخلياً يصل إلى الركبتين وثيابي مكومة إلى جانبي، وبهذا السروال وقفت بالصف داخل المهجع بانتظار الذهاب إلى الحمّام. الكل متوجس، الكل خائف، نقف خلف الباب الأسود تحيط بنا الأدعية والابتهالات إلى الله، خلفي اثنان يتحادثان حول أبواب السجن، كلها حديدية وكلها سوداء، أحدهم يروي للآخر عن سجينة اسمها "ترفة" كانت قد قطعت عهداً على نفسها نتيجة لكثرة الاستفزازات التي كانت تشكلها الأبواب السوداء لها بأنها بعد خروجها من السجن ستحضر نجاراً يخلع لها كل أبواب بيتها، هي لا تريد أبواباً مغلقةً أبداً.
فتح الباب ... خرجنا ركضاً، اثنين اثنين، حولنا من الجانبين الشرطة يحملون الكرابيج التي ترتفع عالياً وتهوي على من تصادفه، الكل حفاة " كانت قدماي لما تشفى جيدا بعد "، من الساحة السادسة عبرنا ثلاث ساحات أخرى حتى وصلنا الحمام، بناء مستطيل يحوي العديد من المقاصير، وهو من مخلفات الحقبة الفرنسية، أدخلونا كل اثنين إلى مقصورة بلا باب، وزعوا الصابون العسكري ضرباً على الرأس، لكل واحدا لوح من الصابون .. صياح ... شتائم ... تركيز شديد في هذا الصياح وهذه الشتائم حول موضوع ألا نستغل فرصة وجودنا في الحمام ونلوط بعضنا بعضا !!، وأنهم يعرفون أننا كلنا لوطيون وأننا نفعل كذا وكذا ببعضنا.
الماء النازل من "الدوش" يغلي، البخار يتصاعد، تعديل حرارة الماء غير ممكنة، بالكاد دهنّا أجسادنا بالماء، دقيقة واحدة قد تزيد أو تنقص بضع ثوان، نخرج بعدها تحت وقع الكرابيج، الضرب على الأجساد المبللة ذو وقع مختلف، يلسع لسعاً، نعود إلى المهجع ركضاً نحمل آثار الضرب فقط.
" سوف يلغى الحمّام بعد فترة نتيجة اكتظاظ السجن وسيتم تحويله إلى مهجع يوضع فيه المعتقلون الشيوعيون ."
تابع الدكتور زاهي العناية بي وبالمرضى الآخرين، جروحي كلها على وشك الشفاء عدا الجرح على وجه القدم اليسرى، و نتيجة لأن عظام مشط القدم قد بانت بعد انكشاط الجلد عنها فقد خشي الدكتور زاهي من مضاعفات أخرى، حضر مرة ومعه شخص آخر وعرف به على أنه طبيب أخصائي جلدية، وقد أخبرني هذا الطبيب أن بمهجعنا فقط يوجد ثلاثة وعشرون طبيباً من مختلف الاختصاصات.
زميلي في الدفعة قاوم الموت أكثر من شهرين، أخذت في نهايتها صحته في التحسن، أيضا بفضل عناية وسهر زاهي، ثم بدأ يصحو من غيبوبته تدريجياً، وعندما أصبح بإمكانه تحريك رأسه ... نظر باتجاهي وفوجيء بي تماما !! أصيب بالدهشة الشديدة لثوان قليلة حتى أن زاهي الذي كان جانبه سأله إذا كان قد رأى ديناصوراً؟! ولكنه تململ ولم يجب.
خلال الشهرين الأولين كانت قد نشأت بعض العلاقات بيني وبين بعض السجناء، فعلاقتي مع زاهي تعتبر جيدة، لقد جلسنا عدة مرات سوية نتحدث عن السجن والحرية، بثني العديد من همومه الطبية والعائلية حتى، كشف لي عن خشيته من تفشي وباء ما داخل السجن، وأمام انعدام الأدوية والوسائل الطبية فإن أي وباء سيكون قاضياً، سألته مرة عن تاريخ سجنه ومجيئه إلى السجن الصحراوي، قال:
ـ بعد المجزرة مباشرة !!
ـ وأية مجزرة تعني؟!
ـ ولو يا رجل !!! ... معقول ما سمعت بالمجزرة يا أخوي؟
ـ لا والله .. ما سمعت .. أناما كنت بالبلد، كنت بفرنسا.
بعدها سرد علي تفاصيل ما حدث، أو ما سمي بمجزرة السجن الصحراوي :
ـ كان في هذا السجن قرابة الألف سجين إسلامي، وفي يوم حزيراني قائظ، حطت طائرات الهليوكوبتر محملة بالجنود الذين يقودهم شقيق الرئيس، مدججين بالأسلحة، نزلوا من الطائرات في ساحات السجن، دخلوا على السجناء في مهاجعهم وبالرشاشات حصدوهم حصداً! جمعوا قسماً منهم في الساحات وقضوا عليهم جميعاً. زاهي أتى إلى هذا السجن بعد المجزرة تماما ،كانت الدماء والشعر الآدمي ونتف من اللحم والأدمغة لا زالت لاصقة على جدران وأرضية المهجع الذي أدخلوه فيه.
يتوقف زاهي قليلاً عن السرد، ينظر عاليا خلال الشراقة نظرة ساهمة ... ويتابع :
ـ رحمهم الله جميعا ... الجميع استشهد، كانوا أبطالاً من الرواد الأوائل، عليهم رحمة الله، تصور يا أخوي ... انه خلال المجزرة هجم كم واحد من الشباب المسلم على العساكر المسلحين، واستطاعوا انتزاع بعض الأسلحة... هم يعرفون أنهم راح يموتون على كل حال... ليش ما يقاومون ؟!.. وظلوا يقاومون بالأسلحة هاي ... حتى استشهدوا أو نفذت ذخيرتهم ... كبدوا العساكر خسائر كبيرة ... عليهم رحمة الله ... الغريب انك ما سمعت بهذي المجزرة.. يا أخوي!!. وخلال هذين الشهرين لم يسألني أحد عن ديني، فلم يكن يخطر على بال أحدهم أن أكون غير مسلمٍ ، خاصة وأن اسمي لا يوحي بذلك، وبعد التجربة التي مررت بها في مركز المخابرات لم أخبر أحداً بذلك خاصة انه سيكون خارج السياق.
بعد يومين من دهشة زميلي في الدفعة عندما رآني، كان المهجع كله قد عرف أنني :
ـ نصراني، ملحد، وجاسوس!!
ظهرت النتائج فوراً. قوطعت مقاطعةً تامة من الجميع، لم يعد أحد منهم يحييني، إذا قلت لأحدهم صباح الخير أشاح بوجهه إلى الطرف الآخر عكس تعاليم نبيهم التي تقول: "ردوا التحية بأحسن منها".
في اليوم الثالث للدهشة، تظاهر زاهي بأنه يريد الكشف على قدمي. قال لي وهو منهمك بفحصها:
ـ أن تكون نصراني... هذا مو مشكلة، إنت من أهل الكتاب !.. شغلة أنك تكون جاسوس للنظام .... هاي ماتخرط لا بالعقل ولا بالمنطق ... أنت كنت راح تموت بالتعذيب... وهذول الكلاب ما يقتلون جواسيسهم !!... بس قولي ... صحيح انك أعلنت قدام كل الناس بفرع المخابرات انك ملحد ؟! .
ـ صحيح يا دكتور... ولكني قلتها تخلصاً من العذاب والسجن.
ـ هذا مبرر غير كافي، لكنني أظن أنك رجل جيد، لذلك أقول لك ... خليك حذر...انتبه!! بهذا المهجع جماعة من المتشددين... يفكرون انه من واجبهم قتل الكفار "حيثما وجدوا"، وأنت صار معروف للجميع إنك كافر!!... وشغله ثانيه أرجو انه ما تحاول تحكي معي... فأنا لا أستطيع أن أكون شاذاً عن الجماعة!
ـ شكراً يا دكتور... على كل شيء.
ـ لا شكر على واجب.
مضى أسبوع دون حوادث تذكر، وذات يوم خرجت من المرحاض وأنا أعرج، أحاط بي فورا حوالي عشرة أشخاص كلهم شباب في بداية العشرينات من عمرهم... صرّت كلمات من بين أسنان أحدهم :
ـ وقف ولك ... يا نجس .. يا كافر ... هذي هي نهايتك يا كلب.
تجمدت مكاني، ذهلت... لأجزاء من الثانية نظرت إلى العيون المحدقة بي، فائض من الحقد والكراهية ينفجر من هذه العيون، العزم.. الإصرار..!.
تضيق الدائرة حولي ... استسلام كلي، بل شلل بالتفكير.
طوال الفترة الماضية لم أكف عن الخوف، الخوف من المخابرات، الخوف من الشرطة العسكرية، الخوف لدى قرقعة المفتاح في باب المهجع، الخوف من الضرب والألم والموت ... أما الآن .. إنني أرى الموت يحدق بي من خلال الأعين المحيطة بي ..! هل خفت ؟ ... لا أدري، لقد كنت حجراً... قطعة خشب مجردة من الأحاسيس والمشاعر، لا تفكير.. لا رد فعل... جمود كلي... واستسلام تام...!!.
صمت رصاصي ثقيل يخيم على الفسحة الصغيرة أمام المرحاض، وهي مكان لا يستطيع الحارس على السطح أن يراه من شراقة السقف، كان اقترابهم مني بطيئاً، خطواتهم صغيرة جداً نحو مركز الدائرة الذي هو أنا، هل تعمدوا تعذيبي عبر إطالة عمر خوفي وفزعي؟!.. هل كانوا خائفين من ردود فعلي؟!.. هل هم لم يحزموا أمر موتي بعد؟!.. لست أدري!.
فجأة كُسر الصمت... وكُسر محيط الدائرة البشري حولي، قفز شخص كبير السن وأحاطني بيديه، التفت إلى المحيطين بي وبصوت هادئ أجش قال:
ـ من يعتدي على هذا الشخص فقد اعتدى علي!.
قالها بالفصحى. بوغت المهاجمون... توقفوا، قال أحدهم:
ـ يا شيخ محمود ... يا شيخ محمود، نحن نحترمك ، لكن ... ما إلك علاقة بهذا الأمر!.. أنت شيخ دين، ولازم تكون معنا في القضاء على الكفر والكفار!.
ـ لا... لست معكم! قال الله تعالى: "لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق".
ـ لكن... هذا الشخص كافر يا شيخ محمود!.
ـ الله وحده يعلم ما في النفوس وسرائر القلوب.
ـ لكنه نصراني... وجاسوس!
ـ وجادلهم بالتي هي أحسن، ولا تأخذوا الناس بالشبهات.
كل الناس بالمهجع يراقبون ما يحدث، ولكن لم يتجمع حولنا إلا عدد قليل، خمنت أن أكثرهم من أنصار الشيخ محمود، فجأة رأيت الدكتور زاهي إلى جانبي، التفت إليه الشيخ محمود وقال آمراً:
ـ يا زاهي ... خود هالشخص لمكانه.
سحبني الدكتور زاهي أو جرني من كتفي، انفتحت الدائرة حولنا دون أية ممانعة، أوصلني إلى فراشي وقال لي :
ـ اجلس مكانك ولا تحكي أية كلمة!.
مكان رئيس المهجع إلى جانب الباب حيث يكون جاهزاً دوماً عند فتح الباب لمخاطبة الشرطة، وعلى الطرف الآخر من الباب وضعوا فراشي بدلاً من الشخص الذي كان يحتله. يبدوا أنهم رفضوا أن أكون بينهم، الباب على يساري، الشخص الذي على يميني وهو الجار الوحيد لي أبعد فراشه عن فراشي أكثر من ربع متر رغم الاكتظاظ والازدحام، ولم يحتج أحد.
أضحت مقاطعتهم لي تامة، التهديد لا زال مسلطاً، جلست على فراشي ساهماً أتحاشى النظر إلى أي اتجاه محدد.
مع الأيام بدأت تنمو حولي قوقعة بجدارين :
ـ جدار صاغه كرهم لي. كنت أسبح في بحر من الكراهية والحقد والاشمئزاز، وحاولت جاهداً ألا أغرق في هذا البحر.
ـ والجدار الثاني صاغه خوفي منهم!
وفتحت نافذة في جدار القوقعة القاسي وبدأت أتلصص على المهجع من الداخل، وهو الأمر الوحيد الذي استطعته.

نهاية الجزء الرابع .
إعداد : ألف /
يتبع .

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow