Alef Logo
كشاف الوراقين
              

القــوقعـة / يوميات متلصص / ج 12 مصطفى خليفة*

ألف

خاص ألف

2013-03-24

5 حزيران
قيل قديماً إن الله خلق للإنسان فماًً واحداً وأذنين اثنين حتى يسمع أكثر مما يتكلم ، أما أنا فقد كنت طوال هذه السنوات بلا فم وبعشرات الآذان .
كلام ... كلام ... كلام ... بيادر وأهرامات مكدسة من الكلام ، انقل إذناً الى زاوية المهجع البعيدة لأسمع بم يتحدثون ، الاذن الاخرى انقلها الى حائط المورس ، ماذا يرد رسائل من المهاجع ، لا أحرك عيني ، فقط اذني ، الأذن الثالثة تنتقل إلى حيث حلقة حفظ القرآن ، " لقد حفظت الكثير جداً من القرآن !"، والأذن الرابعة ... الخامسة .
فمي مقفل ، أحن إلى الكلام ، أشتاق إلى أن أسمع صوتي أنا ، حتى عندما يجلس يوسف عندي لا أتكلم ، لأنه ببساطة لا يتيح لي المجال حتى اسأله شيئاً ، ما أن يجلس حتى يبدأ الكلام ، أحياناً تكون الجمل مترابطة ، أحياناً مجرد تخاريف ، لكن لا فواصل ولا توقفات ، وعلى الاغلب ينهض مغادراً وهو يتابع الحديث .
كلام ... كلام ... كلام ... الجميع يتكلم والجميع يسمع ، ولأن الكلام دائماً يكون همساً أو بصوت خافت فإن مجموع هذه الهمسات يتحول إلى شيء لا هو بالأزيز ولا هو بالطنين ، لا بالفحيح ولا بالهسيس ... هو شيء من كل هذا ، يدخل الاذنين ومنه الى الرأس الذي يتحول آخر اليوم إلى ما يشبه الطاسة الفارغة ، شيء ما كالطبل ، أنقر على رأسي بأصابعي فأسمع الرنين ، حتى بعد ان ينام الجميع وتسكت الاصوات كلها تبقى هذه الضجة المكتومة تحوم داخل الاذن وتقرع جدران الرأس.
أحلم أحد أحلامي الصغيرة ، وقد صغرت كل أحلامي :
ـ أحلم ... أن أعيش ولو ليوم واحد فقط في زنزانة انفرادية ، في صمت مطبق ، لا ضجيج ، لا نظرات عداء ، لا نظرات احتقار ، وأنام خلاله نوماً عميقاً .
ـ أحلم ... أن أستحم ولو لمرة واحدة فقط في حمام السوق ، محاطاً بالبخار والمياه الساخنة المتدفقة ، والمكيس والمدلك .
ـ أحلم ... أن اقف على الرصيف امام محل للفلافل ، آكل سندويشة واشرب العيران .
ـ أحلم ... أن اسير في شارع هادئ ظليل ، سيرَ شخصٍ عاطل متبطل ٍ ، لا يقصد مكاناً محدداً ، وغير محدد بزمن معين .
ـ أحلم ... بأمي وهي توقظني صباحاً ، وأنا ارفض دلالاً أن أستيقظ مغطياً رأسي باللحاف .
ـ أحلم ... بشخص ... أي شخص ، يقول لي صباح الخير .
كلام ... كلام... كلام..، منذ عشرة ايام كل الكلام يدور حول موضوع واحد هو الزيارة !.
منذ عشرة ايام قرب اثنان من السجناء في المهجع رأسيهما من الجدار الذي ترد منه الرسائل عادة ، يسمعان النقرات ويبلغانها لأربعة اشخاص خلفهما :
ـ فاء – ياء " في " ، ا- ل – م – ه – ج – ع " المهجع " ، وهكذا إلى أن اكتملت الرسالة – البرقية - :
" في المهجع الواحد والعشرين أحد الأخوة أتته زيارة ، وقد حضر كل أهله !" .
في البداية كان الذهول سيد الموقف ، بعد ان أذيعت الرسالة على الجميع ساد الصمت ، البعض ينظر الى البعض ، اعقبتها نظرات ساهمة ، تذكر الجميع ماكانوا قد نسوه لمعظم الوقت ، او أُجبروا على نسيانه ، قاموس حياتهم اصبح يحتوي على عشرات المفردات فقط ، تبدأ بالمرحاض والحنفية والطهارة والنجاسة ، وتنتهي عند الكرباج والاسماء المحلية للشرطة ، اما الصلاة والقرآن، على ما فيهما من غنىً لغوي ، فيصبح تردادهما آلياً لا يستدعي اشغال الفكر .
تذكر الجميع أن هناك حياةً اخرى خارج هذا المكان ، وخارج هذا القاموس اللغوي الضئيل ، وانها هي الاصل ، وما هم فيه طارئ عابر .
يذهب الخيال الى حيث الأهل والاحبة ، تحضر المرأة بقوة مهيمنة ، المرأة الزوجة ، المرأة الام ... الاخت ... الابنة ، ويسود وجوم رمادي حامض ، تثور التساؤلات الممضة والحارقة عن المصائر ؟!.
الزمن في السجن زمنان ، يستتبعهما احساسان متناقضان ، الزمن الراهن ... ثقيل بطيء ، والزمن الماضي ، ما مضى من ايام وشهور وسنين السجن ... زمن خفيف سريع ، تنتبه فجأة وتسأل نفسك :
ـ ماذا ؟ ! ... اصبح لي في السجن خمس سنوات ، سبع ، عشر ؟! الحقيقة لم اشعر بهذا الزمن ، يا إلهي كيف مضت هذه السنون بسرعة البرق !!.
تفكر ، وتعرف ان هذا الاحساس ناتج عن انه في زحمة التفاصيل اليومية قلما يتاح لك الوقت لتعد الايام والسنوات ، وهذا كالجلد بالكرباج ، اذا بدأت عد الضربات حتماً سوف تضعف ، وكذلك اذا بدأت عد الايام وتسجيلها خطاً وراء خط على الحائط ، حتماً سوف تضعف ، أو ... تجن !.
كسر أبو حسين الصمت بعد دقائق قليلة ، نادى أحد جماعة المورس وطلب منه الاتصال مع المهجع الواحد والعشرين والاستفسار عن الزيارة ، كيف اتت ، هل فتحت الزيارات للجميع، أم هي بالواسطة ، ام الرشوة ... كيف تعامل الشرطة مع الامر ، هل أحضر الأهل أغراضاً ... الخ؟ .
وجاء الجواب ، لا يعرفون شيئاً عن آلية الزيارة ، هناك الكثير من الاغراض ، البسة واطعمة ونقود ، السجين ذهب الى الزيارة وعاد دون ان يضربه احد .
بعد ثلاثة ايام ألقى مدير السجن خطاباً ، تحدث فيه عن انسانيته ورحمته وان قلبه ينفطر ألماً عندما يرى ابناء وطنه في هذه الحالة !! وقال :
ـ كل من تأتيه زيارة منكم عليه ان يطلب من أهله إخبار كل من يعرفون من اهالي السجناء الاخرين لكي يسعوا الى زيارته وبنفس الطريقة .
لكن ماهي الطريقة ؟... لم يعرف احد ، ولم يجرؤ على السؤال احد ، وكانت المرة الاولى التي يخاطبنا فيها وعيوننا مفتوحة ورؤوسنا ليست منكسة الى الاسفل .
اليوم اتت زيارة لشخص من مهجعنا ، ابو عبدالله ، نادوه باسمه الثلاثي ، وهنا قلما يعرف الاسم الثلاثي لشخص ما ، فالكل ينادون بعضهم بـ " ابو " ، ابو حسين ، ابو عبدالله ، ابو علي ، ابو احمد ...
طلب الشرطة من ابو عبدالله ان يلبس ثياباً جيدة ، وتبارى الجميع لإلباس ابو عبدالله افضل ثياب في المهجع ، ذهب ابو عبدالله وعاد بعد اكثر من نصف ساعة ، عاد لاهثاً مخضوضاً يتصبب عرقاً ، وقف بمنتصف المهجع يتلفت وينظر الى الجميع ، ولكن يبدو كمن لا يرى احداً ، باب المهجع لايزال مفتوحاً والبلديات يدخلون الاغراض بجاطات بلاستيك ، بعد ان اغلق الشرطة الباب قال شخص لآخر :
ـ ما شاء الله ... ما شاء الله ، خمسة وثمانون جاطاً !!.
ابو عبدالله يتلقى التهاني من الجميع وهو لازال واقفاً كالمأخوذ :
ـ مبروك ابو عبدالله ... مبروك الزيارة .
ـ الله يبارك فيكم ... عقبال عندكم .
- مبروك ابو عبدالله ... كيف الاهل ؟.
- الحمد لله بخير ... يسلمون على الجميع .
قطع ابو عبدالله سلسلة " المبروك " والتفت فجأة الى ابو حسين ، قال :
- كيلو ذهب ... كيلو ذهب يا ابو حسين !! ... الله وكيلك كيلو ذهب .
فوجئ ابو حسين ، نظر الى ابو عبدالله بتمعن ، وزن الامور قليلاً ، ثم سأل :
- خير ابو عبدالله ... خير ، شو قصة هـ الكيلو ذهب ؟.
- الزيارة يا ابو حسين الزيارة ... كل زيارة بكيلو ذهب .
فارتفعت عدة اصوات متسائلة الى جانب صوت ابو حسين :
- شو !!... كيلو ذهب كل زيارة ؟
- نعم كيلو ذهب ، سألت اهلي قالوا لي ، لازم امك تروح لعند ام مدير السجن تأخذ معها كيلو ذهب ، وام مدير السجن تعطي ورقة زيارة !!.
اراد ابو حسين ان يهون على ابو عبدالله :
- ولو ابو عبدالله ... كيلو ذهب فداك ... المهم انو شفت اهلك وشافوك وتطمنوا عليك ، ايه هـ الشغلة بتساوي اموال الدنيا كلها ، الله يلعن الذهب وابو الذهب... المال وسخ ايدين بروح وبيجي ، المهم انت وصحتك واهلك ، الذهب مو مهم المهم البني ادم اللي بجيب الذهب .
- ايه والله صحيح ... ايه والله صحيح يا ابو حسين !.
يومها انا دخت ... سكرت ... حتى ان عيني قد غامتا ... تشوشتا ...!.
البلديات كانوا ينقلون الجاطات حتى باب المهجع ، يخرج الفدائيون ويأخذون الجاطات منهم ... دون أي ضرب !... يفرغونها داخل المهجع ويسلمونها للبلديات ... الكثير من الالبسة ، خاصة الملابس الداخلية الصيفية والشتوية ، كأن هناك من أسرّ بأذان الاهل عن حاجاتنا ، والكثير ... الكثير من الخضار والفواكه التي يمكن ان تؤكل نيئة .
ما اسكرني ... كان الخيار ... الخيار بلونه الاخضر ، انسابت روائحه وعطوره الى انفي ، ثلاثة جاطات من الخيار أفرغوها وسط المهجع غير بعيد عني مشكلة تلاً صغيراً اخضرَ ، الى جانبه تل صغير احمر من البندورة ، رائحة الخيار ملأت المهجع ، الجميع كان فرحاً ، ابو عبدالله كان مذهولاً من اثر الزيارة ، ودون ان افكر او اعي بما اقوم به مشيت وجلست الى جانب تل الخيار الاخضر ، انحنيت وشممت بعمق ، انها رائحة الطبيعة ... انها رائحة الحياة ، اخضراره هو اخضرار الحياة ذاتها ، امسكت واحدة وادنيتها من انفي وتنشقتها بعمق ، اغمضت عيوني واعتقد ان ملامحي كلها كانت تبتسم .
كان كل هذا اشبه بزلزال ، ارتج كيانه كله ، فتحت عيني واذ بغابة من العيون تحدق بي ... لم اعبأ ، القيت الخيارة على كومة الخيار ، مشيت الى فراشي ، تمددت ، غطيت رأسي ... وبكيت بصمت .
بقيت عدة ساعات تحت البطانية ، لا اريد أن أرى احداً ، لا اريد ان ارى شيئاً ، البكاء اراحني قليلاً ... ولم البث طويلاً حتى نمت ، استيقظت عصراً رفعت البطانية وجلست ، كان امام فراشي مجموعة متنوعة من الاغراض ... " نصف خيارة ، نصف حبة بندورة ، رغيف خبز مدني ، قطعة بقلاوة فاخرة ، بعض انصاف حبات الفاكهة ، ولكن الاهم كان الالبسة ... بيجاما رياضية ، غيار داخلي شتوي من الصوف ، غيار داخلي صيفي ، جوارب صوفية ... ثم شحاطة !".
طوال كل هذه السنوات ومنذ ان اخذوا حذائي بمركز المخابرات لم انتعل بقدمي شيئاً ، وقد تشكلت على كامل قدمي من الاسفل طبقة سميكة من اللحم الميت المتقرن المتشقق ... والان ها هي شحاطة !.
نظرت حولي ، واضح ان حصتي مساوية لحصة أي سجين اخر منهم ، لا اكثر ولا اقل .
( هم جميعاً يكرهونني ، هم جميعاً يحتقرونني ، بعضهم يريد قتلي ... كل هذا صحيح ، ولكن في الامور الحياتية ... كانوا عادلين معي ) .
اخذت الاغراض ، رتبتها كوسادة ... اكلت ، ولكن لم اشأ ان اكل نصف الخيارة .
6 حزيران
البارحة كان يوماً حافلاً ، لم استطع النوم الا في ساعة متأخرة واستيقظت كالعادة صباحاً ، فاجأني وجود قطعتين من الخيار " نصفين " الى جانب النصف الخاص بي ، ثلاثة انصاف ... واستنجت ان هناك شخصين قد تنازلا عن حصتهما من الخيار لي !!... ظنا انني احب الخيار !... لم يعرفا ان الخيار برائحته ... لونه ... قد استحضر الحياة بكل ثقلها الى نفس كانت قد نسيت الحياة !.
اثنان منـ "هم" يتعاطفان معي ! ... ولكن لا يجرؤان على اظهار هذا التعاطف !.
داخلي قليل من الراحة والاطمئنان ، نظرت حولي ، هل أستطيع تمييزهما ؟ .
كل الوجوه مغلقة ، كل العيون كابية .

8 اذار
كالعادة أخرجونا اليوم الى الساحة ، أوقفونا أمام مهجعنا ، وهكذا بقية المهاجع ، إذاعة السجن تصدح منذ الصباح بالأغاني التي تمجد رئيس الدولة وتتغنى بحكمته وشجاعته وبطولاته ، اعطوا ورقة مكتوبة الى احد السجناء بها بعض الشعارات والهتافات يصرخ بها ونردد نحن وراءه : سنفدي الرئيس بالروح والدم ، يسقط الاخوان المسلمون عملاء الامبريالية ...
لم يكن السجناء يرون أي غضاضة بالهتاف ضد انفسهم ، او على الاقل لم تبدر منهم اية اشارة او ممانعة تدل على ذلك ، كانوا يهتفون بأصوات عالية جداً لا يستشف منها أي شيء من هذا . هذه الاحتفالات تجري كل عام مرتين او ثلاث مرات ، واحتفالات هذا العام تختلف عن غيرها في ان السجناء اليوم كانوا لا ينفكون يحكون ويهرشون اجسادهم : انه الجرب. بين تصفيق وتصفيق ، بين هتاف واخر ، يمد السجين يده ليحك جسده .
بدأ الجرب منذ خمسة اشهر تقريباً ، وكنت قد نجوت من التهاب السحايا ومن السل الا انني كنت من اوائل المصابين بالجرب ، الذي سرعان ما عم وانتشر ليشمل السجن كله ، والغريب في الامر ان الاختلاط بين المهاجع ممنوع منعاً باتاً ، فكيف يمكن ان ينتشر وباءٌ ما يبدأ في احد المهاجع ليعم السجن كله !!.
والاغرب من هذا ان مستوى النظافة هنا يعتبر جيداً ، فالمساجين عموماً يهتمون بالنظافة كثيراً ، خاصة نظافة الجسد والثياب لأنها شرط ديني للطهارة والصلاة ، فكيف يمكن لأشياء مثل القمل والجرب ان تنتشر بهذه الكثافة ؟!.
بدأ الجرب فجأة عند بضعة اشخاص وانا منهم ، ظهر اول ما ظهر بين الاصابع ثم امتد الى ثنيات الجسم الاخرى ، كان عذاباً مضنياً كالنار عندما تسري في الجسد ، كل يوم يمر يزداد عدد المصابين ، وواضح منذ البداية ان اية عملية وقاية لا جدوى منها ، مهما كانت الاحتياطات المتخذة من قبل الشخص السليم فهي عبث لا طائل تحته .
منذ اليوم الاول حدد الدكتور غسان الامر ، هذا الدكتور وهو زميل البورد الامريكي للأمراض الجلدية ، له مؤلفات كثيرة ويعتبر عالماً في اخصاصه على المستوى العالمي ، شخص محترم هنا كثيراً ، لا يتدخل في أي مسألة لا تعنيه ، يترفع كثيراً عن الصغائر، وهو المرجع الاخير في الطب لكل الاطباء الذين في المهجع .
فحص الحالات الاولى للمرض ، قام بهدوء من مكانه واتجه لعند ابو حسين ، وقف بين فراشي وفراش ابو حسين ، القى التحية :
- السلام عليكم يا ابو حسين .
قفز ابو حسين احتراماً وهو يرد التحية :
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، اهلاً وسهلاً ... اهلين دكتور ... تفضل ... تفضل ... استريح .
جلس الدكتور غسان ، وبمنتهى الهدوء بلغ الامر لأبو حسين ، ختم حديثه قائلاً :
- هذا الجرب سريع العدوى ، خلال ايام راح نكون كلنا جربانين اذا ما عالجناه ، والعلاج بسيط ، اخي ابو حسين ... خذ اجراءاتك ... بس انا خليني بعيد عن هـ الساقط طبيب السجن !، ماني طايق احكي معه ولا كلمة ... مفهوم ؟.
اومأ ابو حسين برأسه موافقاً ، عندها قام الدكتور فوراً الى فراشه الذي لا يغادره ابداً ، فهو لم يشاهد جالساً عند احد ، وهذه هي المرة الاولى التي يقوم فيها بالجلوس على فراش سجين اخر وكان ذلك للضرورة .
فيما هو يغادر التفت نحوي ، سار خطوتين ثم توقف ، اتجه نحوي ، جلس على فراشي وهو يقول :
- السلام عليكم ... يا اخي .
لا ادري كيف اجبته مبهوتاً وبصوت انا نفسي لم اسمعه :
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
- ممكن ... يا اخي من بعد فضلك... تمد ايديك حتى افحصهم .
بحركة الية مددت كفيّ الى الامام ، امسك بهما، باعد بين الاصابع ثم التفت الى ابو حسين وقال كانه يتابع حديثاً انقطع :
- شايف ابو حسين.. و هاي الاخ جارك كمان مصاب !، وانا ماشي شفته عم يحك وعرفت انه مصاب .
- لا حول ولا قوة الا بالله ... اللهم اعنّا على تحمل كل هذه المحن ، اللهم لا تعطنا حملاً خفيفاً ولكن اعطنا ظهراً قوياً ، يا رب انت السميع المجيب .
بعد ان انهى ابو حسين الدعاء قال الدكتور : آمين ، ثم التفت اليّ :
- يا اخي حاول الا تحك ... مهما حكك جسمك حاول لا تحك ، وحتى يفرجها الله ويتأمن الدواء حاول انك تغسل ايديك دائماً بالماء والصابون ، وارجو لك من الله الشفاء ، ولا تخاف هذا المرض مزعج بس مانو خطير .
وذهب .
( يا الله ... ما هذه العذوبة ؟... ما هذه الرقة ؟... ما هذه الانسانية ؟... هل هو لا يعرف من انا ؟... اذا كان كذلك ، فهذا يثبت انه انسان كبير !... اما اذا كان يعرف من انا ... فهذا يثبت انه انسان كبير ... كبير ... ولا يخشى احداً ) .
مرت الايام ، ثم الاسابيع ، وابو حسين يحاول مع ادارة السجن وطبيب السجن ان يؤمنوا لنا العلاج ولكن دون جدوى ، وآخر مرة قدم فيها الطبيب قام بزجر ابو حسين وتهديده :
- العمى بعيونك ... صرعتنا ، ايه هو جرب ! ... شوية حكة وينتهي الامر ، ايه ولاك ... قاعدين لا شغلة ولا عملة ... اكل ومرعى وقلة صنعة ، خليهم يتسلوا بالحك ... احسن ما يملوا !.
وذهب .
كانت قد مرة اربعة اشهر على بداية المرض ، وظل ابو حسين يحاول .
" اما انا فقد شفيت بعد حوالي الشهر من بداية مرضي ، كيف ؟ ... لا اعرف ، كنت الحالة الوحيدة التي شفيت ، فقط اتبعت ما قاله الدكتور غسان ، كنت كل نصف ساعة اقوم الى المغاسل اغسل كل الاجزاء المصابة بالماء والصابون جيداً ، ثم اصبحت اعمد الى كشط الصابون الرطب اللين واضعه على اماكن الاصابة وأتركه الى اليوم الثاني ، لم أحك جسمي أبداً ، حتى عندما أنام أحضر سروالي النظيف وأضع كل يد في طرف من السروال ، وأظل الفه متعاكساً إلى ان يصبح السروال كالقيد ، وبذلك أتأكد انني لا أحك حتى وأنا نائم. وكما ظهر المرض عليّ فجأة اختفى فجأة. واغتنمتها فرصة بعد ان تأكدت من الشفاء لمحادثة الدكتور غسان ، ذهبت اليه وابلغته انني شفيت ، اكتفى بهز رأسه !.
تطور مرض الجرب كثيراً ، سمعت حديثاً للدكتور غسان مع مجموعة من الاطباء بحضور ابو حسين وكان حديثه موجهاً للأطباء ، فاحتوى على العديد من التعابير الطبية واللاتينية التي لم افهمها ، وبعد ان عدد انواع الجرب خلص الى نتيجة انه لا يوجد عبر تاريخ الطب ان سجلت حالات كالحالات التي يرونها هنا ، وذكر ان اقسى انواع الجرب هو ان يكون لدى المريض حوالي / 300/ بثرة ، بينما هنا سجل حالات احتوت على اكثر من /3000/ بثرة تغطي كامل الجسم ، وان هذا هو احد الاسباب التي ادت الى حدوث وفيات بالجرب ، ونبه الى حالة خطرة وهي انتشار المرض داخل الاليتين وعلى فوهة الشرج ، وانه نتيجة للحك القاسي في تللك المنطقة والذي ادى الى حدوث جروح عديدة بعدد البثرات الموجودة حول فتحة الشرج ، ونتيجة لتقارب هذه البثرات فان الجروح قد الصقتها ببعضها بعد تخثر الدم مما ادى الى انسداد الشرج ... ومن ثم الى الوفاة لاستحالة طرح الفضلات من الجسم ، وتمنى لو ان هناك امكانية لحضور احد معاهد البحث الطبي المتطورة لمراقبة ومعاينة هذه الحالات الشاذة .
طلب الدكتور غسان من ابو حسين تشكيل فرقة تمريض مهمتها ربط المرضى الذين ينتشر الجرب لديهم في الشرج من ايديهم لمنعهم من حك انفسهم ، ثم طلب منه معاودة جهوده مع ادارة السجن .
منذ خمسة ايام وفي الصباح كان أبو حسين مستغرقاً بالتفكير ، فجأة انتفض وذهب الى الدكتور غسان ، تحدث معه قليلاً والدكتور يهز برأسه ، بعدها جال أبو حسين في المهجع كله وهو يردد :
- شباب ... كل شخص اتته زيارة مدعو للاجتماع عندي ، كل اربعة ... خمسة يجوا سوا .
كان هناك حوالي ثلاثين شخص من مهجعنا قد اتتهم زيارات ، ولمعرفة الاهل ان هذه الزيارة قد تكوت استثنائية ويتيمة فانهم كانوا يحاولون تزويد سجينهم بما قد يحتاجه ولزمن مستقبلي طويل ، خاصة لجهة الالبسة والنقود ، وتبين لي أن اهالي المساجين الاسلاميين عموماً هم من الفئة الميسورة في المجتمع ، ولهذا فان أقل مبلغ أعطي لسجين كان مئتي الف ليرة ، والبعض أكثر من ذلك بكثير، ولذلك اصبح في مهجعنا ملايين الليرات ولا مجال لشراء أي شيء ، وقد استمرت الزيارات حوالي الستة اشهر ،" كان بعض الحفظة يحصون ويحفظون عدد الزيارات لكي يعرفوا كم كيلو ذهب اصبح لدى مدير السجن ، وفي الإحصاء الاخير بعد توقف الزيارات كان العدد قد وصل الى ستمائة وخمسة وستين كيلو ذهباً ".
وقد توقفت الزيارات نتيجة لانتقال مدير السجن وحلول نائبه محله في الإدارة ، ولم يكن توقف الزيارات هو النتيجة الوحيدة لانتقال مدير السجن بل كان هناك نتيجة أخرى ، اذ وردت برقية مورس من المهاجع الأولى تقول :
" لقد جمع مدير السجن الجديد جميع عناصر ورقباء الشرطة العاملين داخل السجن وابلغهم انه اعتباراً من هذا اليوم لا يحق للعنصر العادي – الجندي أن يقوم بقتل أي سجين اذا لم يكن أحد الرقباء موجودا في الساحة ، التعذيب ، الضرب ، السحل ...كل هذا ليس مشكلة، لكن الموت لا يجوز إلا بحضور أحد الرقباء "
اعتبر الجميع عندها ان المدير الجديد أفضل وأكثر انسانية من المدير القديم .
أتت أول مجموعة من خمسة أشخاص لعند أبو حسين ، بعد التحية والسلام والمجاملات وكأنهم يزورونه في بيته دعاهم للجلوس وبادرهم فورا بفتح الموضوع دون مقدمات فيما الجميع يهرشون ويحكون :
- بدنا منكم يا شباب .. تبرعات في سبيل الله .
سكت الخمسة قليلا ، ثم قال أحدهم :
- يا أبو حسين ... أرواحنا وأموالنا في سبيل الله ، بس أشرح ، قول أولا شو بدك تعمل بالأموال ، المبلغ المطلوب ... مو لازم نعرف ؟!.
- طبعا لازم تعرفوا ... لكن ما بدها ذكاء كثير ، الله خلق الأموال وأعطانا إياها منشان نصرفها ونشتري بها .
- طيب شو بدك تشتري ؟.
- بدي اشتري طبيب ... دكتور .
- دكتور...؟!!
وضحك الجميع .
- نعم دكتور ... بدي اشتري طبيب السجن ..! ما في غير هذا الطريق ... وبسلامة فهمكم بهذه الدولة ومن فوق لتحت كل واحد له سعر ، وما بظن ان هذا الدكتور غير شكل ، كلهم عم يلهطوا ، ونحن خلينا نملي جيب هـ الدكتور منشان يجيب لنا دواء للجرب ، ونخلّص أمــة محمد من هذه البلوة .
وافقه الجميع وتتالت الاجتماعات وأصبح بحوزة أبو حسين مبلغٌ محترم، عندها طلب من الرقيب عندما فتح الباب مجيء الطبيب لأمر هام !.
كان الطبيب حانقا عندما فتح الباب ، وصاح بوجه أبو حسين :
- اذا كنت طالبني منشان الجرب ... بدي كسّر عظامك يا كلب ، صار ألف مرة قلت لك ما عندنا دواء جرب ، هات لشوف ... شو بدك ؟.
- يا سيدي ... منشان الله ... بس طول بالك واسمعني شوي ... يا سيدي متل ما بتعرف نحن بالفترة الماضية اجتنا زيارات وصار في عندنا مصاري كتير ... ومثل ما أنت شايف ... نحن هون المصاري ما تلزمنا لأنه ممنوع نشتري أي شيء .
كان هذا هو الطعم الذي ألقاه أبو حسين للطبيب ، وبدأ الطبيب بالتقاط الطعم فالتفت الى الشرطة الذين كانوا يحيطون به وأمرهم بالابتعاد ، قال :
- ايه طيب ... وأنا شو علاقتي بكل هـ العلاك ... اذا كان عندكم مصاري أو ما عندكم ... شو ممكن أعملك ؟!.
- يا سيدي ... اخدمنا هالخدمه لوجه الله ... انت رجل كلك انسانية ، وساعدتنا كثير لوجه الله ... هذه المرة كمان ساعدنا ... اشتري لنا الدواء على حسابنا ... حتى لو كان من السوق السودا ... ومعليش اذا كان الدواء غالي ، نحن مستعدين نشتريه بضعفين أو حتى ثلاثة ... خدمة لوجه الله يا سيدي .
وتحولت لهجة الطبيب فورا من الحنق والغضب الى اللين الثعلبي :
- لكن ... انت تعرف أن هذا الدوا غالي كتير ؟
- معليش يا سيدي ... مهما كان غالي الثمن ، بس يكون كافي لكل هـ الناس ، لأن الكل جربانين .
- طيب ... تعال لهون شوي .
أخرج الطبيب أبو حسين الى خارج المهجع ، تكلما بصوت خافت ، وتمت الصفقة .
بعد يومين أتى الدواء بالصناديق الكرتونية ، ومنذ ثلاثة أيام وجميع الناس سواء كانوا مصابين أم لا وأنا منهم بدأوا العلاج بـ البنزوات " بناء على تعليمات الدكتور غسان المشددة ، وتحت رقابته الصارمة " .
تم تهيئة خمس مقاصير بالبطانيات يدخل الواحد خلفها ويبدأ بفرك كل جسمه بـ البنزوات .
خلال هذه الفترة القصيرة بدأت تظهر النتائج الايجابية .
تم ابلاغ المهاجع الأخرى ، والجميع أتم الصفقة مع الطبيب الذي أصبح مليونيرا، وعلق أحد الأشخاص :
- اذا سألوا طبيب السجن شي مرة ، كيف صرت مليونير ، لازم يقول : الجرب حولني من شخص جربان الى مليونير .
- بس يا أخي لاحظ ان الفساد في بعض الأحيان يكون مفيد وكويس .
23 تموز
رغم مرور كل هذه السنوات بقيت قابعا في قوقعتي أتلصص على الداخل والخارج ، داخل المهجع وخارجه ، ولكن مع مرور الأيام قل اهتمامي بكثير من الأشياء نتيجة لمعرفتي التامة بها .
حفظت القرآن جيدا ولطالما رددت بشكل عفوي آياتٍ وسوراً طويلة منه ، حفظت الصلوات كلها حتى الطارئة منها كصلاة الخوف ، صلاة الجنازة ، وصلاة التراويح ... استمعت الى خلافات الجماعات المختلفة حول الأحكام الشرعية ، آلية تفكيرهم ، ردود أفعالهم ، طموحاتهم ... آمالهم ... لكل هذا لم أعد أركز ذهني كثيرا عندما أنظر من خلال فتحة القوقعة .
كذلك عندما أطل بنظري من خلال الثقب الى خارج المهجع ، مرأى تنفس المهاجع الأخرى ... العقوبات ... التعذيب ... كله أضحى عاديا ... يوميا .
لكن كنت أداوم يوميا على النظر خلال الثقب انتظارا وتوقعا لما هو غير مألوف ... لشيء جديد ، وكان على الأغلب يوجد شيء جديد ، فالتعذيب وان كان ذا نمط معمم والكل قد تدرب عليه في مدرسة واحدة ، الا انه يبقى هناك شيء له علاقة بالذات ، ذات كل فرد ، فكل رقيب ... كل شرطي يضفي من ذاته شيئا خاصا على العمل المتشابه ، فيخلق شيئا جديدا نستطيع ان نضيفه الى خانة الإبداع ، " مسحة ابداعية بالتعذيب !! " .
منذ أكثر من سنة وخلال تنفس أحد المهاجع ، كان أحد الرقباء واقفا في ظل الحائط ، مرت فأرة من أمامه فهرسها ببوطه العسكري ، معست الفأرة وماتت ، أخرج الرقيب من جيبه منديلا ورقيا وأمسكها بواسطة المنديل من ذيلها ، اقترب من صفوف المساجين التي تدور حول الساحة ، أمسك بأحد السجناء لا على التعيين وأجبره على ابتلاع الفأرة ، ابتلع السجين الفأرة .
منذ ذلك اليوم صرف الرقباء وعناصر الشرطة جزءا مهما من وقتهم لاصطياد الفئران والصراصير والسحالي وإجبار السجناء على ابتلاعها ، كلهم قاموا بهذا العمل ولكن ابتكاره " ابداعه " عائد لأول رقيب قام بهذا العمل .

حتى الإعدامات ، رغم أنني أدمنت مراقبتها الا أنها لم تعد تحمل نفس الشحنة من التوجس والرهبة .
يقاد المحكوم عليهم بالإعدام الى أمام المشانق ، يقيدون بعد أن يتم تثبيت اللاصق العريض على أفواههم ، كل دفعة ثمانية أشخاص ، ترتفع المشانق ، تنحني الرقاب ، ارتخاء الجسد ، انزال الدفعة الأولى ، صعود الدفعة الثانية ...
كنت أراقب الجميع ، شرطة وبلديات ومعدومين ، تطورت مراقبتي من مراقبة الأفعال الى الوجوه ، الانفعالات ، ردود الفعل ... ما يرتسم على الوجه من خوف ، هلع ، حقد ، تشف ، سرور ، استمتاع ، لذة ...
"الوحش" ...
الجميع ابتداء من رفاقه البلديات الى جميع عناصر الشرطة حتى المساعد كانوا ينادونه الوحش ، شاب في الخامسة والعشرين تقريبا ، قد لا يتجاوز طوله المائة والستين سنتمترا ولكن عرض أكتافه قد يتجاوز المائة والعشرين سنتمترا ، سماكته قد تبلغ الستين أو سبعين سنتمترا ، من الأمام والخلف يبدو كمربع ، من الجانب يبدو كصندوق ، مفتول العضلات ، شاهدته في احدى المرات يرفع سجينا بيد واحدة الى ما فوق رأسه ، قوي جدا ، لا يغيب أبدا عن أية اعدامات ، ويلعب دورا فعالا فيها ، جميع عناصر الشرطة يعتمدون عليه .
في أحدى حفلات الإعدام وبعد أن أنزلوا الدفعة الأولى وضعوا الحبال في رقاب الدفعة الثانية ورفعوها الى الأعلى ، سبعة معدومين من ثمانية ارتخت أجسادهم ، وبقي الثامن يصارع ، كان يأبى أن يموت ، جسده متدل ويلعبط ، انتظر الجميع دقائق ولكن روحه كانت عنيدة ، أبت أن تخرج ، يحرك رجليه يحاول أن يرتفع بجسده الى الأعلى ، وطال الانتظار ، احساس بالاختناق وضيق التنفس ينتاب الجميع ، المساعد تلمس رقبته بيده اليمنى وفركها ، الجسد المعلق في الهواء يصارع ، أخذت ألهث تحت البطانية ... وصاح المساعد :
- يا وحش خلصنا من هـ الشغلة !.. خليه يرتاح .
تقدم الوحش ، وقف تحته وأمسك برجليه وأخذ يشده الى الأسفل ، كان السجين المعلق – كالعادة – يلبس ثيابا رثة .. أسمالاً ، ولذلك عندما شده الى الاسفل انشدت الثياب واصبح السجين عارياً بجزئه السفلي ، تابع الوحش الشد ، يشد ... ويشد ... ونجح اخيراً ، مات السجين ، لكن فور موته يبدو ان مصرته الشرجية قد ارتخت نهائياً فأفرغ كل ما في امعائه فوق الوحش الذي لا زال يشد ، وكانت كمية الفضلات كبيرة وسائلة ... غطت الوحش ، رأسه ، وجهه ، صدره ، ... رجع الوحش الى الخلف واخذ ينظر الى الجميع ، قهقه المساعد وكان اول من استوعب الامر ، قال وهو يضحك :
- كان اسمك الوحش ... بس هلق صار اسمك الوحش ابو خريه !.
ضحك الجميع كثيراً ، حتى انا ضحكت بصوت مسموع .
من يومها اصبح للوحش اسمان ، رفاقه الذين يخشونه ويخافون بطشه ينادونه الوحش ومن لا يخشاه والجنود والرقباء ينادونه بـ " ابو خريه " .
الجنود والرقباء اغلبهم من المجندين الذين يؤدون الخدمة العسكرية ومدتها سنتان ونصف ، الاغلبية الساحقة منهم هم من ابناء الجبال والساحل ، لهجتهم ثقيلة وتصرفاتهم غليظة وجلفة ، ويستحيل ان يوجد بينهم واحد من ابناء المدن الكبيرة والرئيسية ، وكونهم مجندين فانهم يتغيرون بشكل دوري ، في السنة الواحدة يتم تخريج دورتين من مدارس الشرطة العسكرية ، لهذا فكل ستة اشهر تأتي دورة جديدة ويتم تسريح دورة قديمة .
منذ اربعة اشهر اتت اخر دورة ، كانوا ثلاثة عشر عنصراً ، ثلاثة رقباء وعشرة جنود ، عندما دخلوا ساحتنا هبط قلبي بين قدميّ ، ففي المقدمة كان يسير اخي الاصغر سامر بلباس الشرطة العسكرية ، عنما اقتربوا اكثر تبينت انه شخص يشبه اخي كثيراً ، اسميته في سري " سامر" بينما السجناء الاخرون سموه " الاعوج " لأنه كان يميل برأسه دوماً الى جهة اليمين .
في البداية لا تطلب الادارة من العناصر الجدد القيام بأي عمل على صعيد التعذيب او الاعدامات ، يتركونهم حوالي الشهر فقط يحضرون ويشاهدون ما يجري وهم وقوف ، ودائماً يكون الجدد متهيبين من الامساك بالكرباج او العصي ، وحتى بعد مضي الشهر وعندما يبدؤون بمشاركتهم تكون ضرباتهم حفيفة ومرتبكة .
في الاعدامات يوقفونهم على مبعدة من المشانق، ما ان تبدأ عملية الشنق حتى يكونوا قد اقتربوا من بعضهم اكثر ، اصفرت وجوههم ، البعض يرتجف ويغض النظر والبعض الاخر يصاب بتقلصات في المعدة مما يجعله يتقيأ .
المساعد والعناصر القدماء يرون كل ذلك فيتعاملون معه وكأنهم لم يروا شيئاً ، مع حفلة الاعدام الثانية والثالثة ... يسترخون ، يتجرؤون ، يصبحون طبيعيين كباقي زملائهم .
الرقيب سامر " الاعوج " وكنت اراقبه دائماَ ، عندما حضر اول حفلة اعدام تقيأ بشدة حتى خلت انه سيخرج امعاءه ، جلس على الارض وقد غطى عينيه بيديه الى نهاية الاعدامات ، ساعده اثنان من زملائه على النهوض وقاداه من تحت ابطيه الى خارج الساحة .
اخر حفلة اعدام حضرها كان نشيطاً جداَ ، بيده عصا طولها اكثر من متر ، يمازح زملائه وعلى وجهه ابتسامة دائمة ، عند الانتهاء من اخر وجبة اعدام وقف امام احد المشنوقين واخذ يؤرجحه ، وضع العصا على الارض آخذاً وضعية الملاكم جاعلاً من الجثة المعلقة كيس رمل ، اخذ يوجه لها اللكمات ، صاح على الوحش :
- وحش ولا وحش ... تعال هون .
ركض الوحش لعنده .
- نعم سيدي .
- شوف هـ الكلب ... صار له ربع ساعة معلق من رقبته ولسا ما مات ، شده من رجليه ... خليه يرتاح .
ضحك العناصر والبلديات الذين سمعوا هذا الحديث متذكرين ما حصل للوحش ، أما الوحش فقد وجم قليلاً وهو ينظر إلى سامر .

نهاية الجزء الثاني عشر
إعداد: ألف
يتبع ...






تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow