"باياس" لليونكافالو: اليوميّ وفجائعه على خشبة أوبرالية / ابراهيم العريس
2013-06-30
انتهت المهزلة!». من المؤكد ان هذه العبارة ليست الأكثر مرحاً وفنيّة في حوارات أوبرا «باياس» (أو «إي باغلياتشي») للموسيقي الايطالي ليونكافالو، لكنها العبارة التي تبقى في اذهان المتفرجين اكثر من أي عبارة اخرى بعد انتهاء العرض. وليس ذلك، فقط، لأنها هي التي تختتم هذه الأوبرا، بل ايضاً وخصوصاً لأنها تكاد تعبّر عن ذهنية هذا العمل الذي ينتمي الى نوع من الأوبرا الطبيعية، اي الأوبرا المضادة للنزعة الرومنطيقية. والحال انه حين كتب ليونكافالو «باياس» ووضع لها موسيقاها، كان الزمن لا يزال زمن رومنطيقية فاغنر والعواطف المشبوبة. ومن هنا جاء بعض الموسيقيين، الايطاليين خصوصاً، خلال المرحلة الفاصلة بين القرنين التاسع عشر والعشرين، ليضفوا على فن الاوبرا طابعاً يربطه بعادية الحياة اليومية، رابطاً إياه بالنزعة الطبيعية (او «فن الحقيقة») كما كانت بدأت تتجلّى في الفنون والآداب كافة، وتحاول ان تتسلل الى الفن الذي كان عصيّاً عليها: فن الاوبرا. ومن هنا، فإن لهذا العمل الذي وضعه ليونكافالو اوائل العام 1892، قيمة تاريخية بصفته من اوائل الاعمال التي نقلت ذهنية الحياة اليومية الى خشبة المسرح الغنائي. ولعل من ابرز مظاهر هذا النقل انه فيما كان مؤلفو الاوبرا يستقون مواضيعهم من الاساطير القديمة او المسرحيات او القطع الادبية او الفولكلور الشعبي، استقى ليونكافالو موضوع «باياس» من حادث قتل وغيرة، حدث حقاً في ذلك الزمن، وكان من العسير على اي كان ان يتصوّر إمكان تحويله الى عمل غنائي، بل بخاصة الى عمل غنائي يعجب الناس ويعيش بينهم طويلاً. والمعروف ان «باياس» لا تزال تعتبر حتى اليوم من اشهر الاعمال الاوبرالية الايطالية، وتكاد وحدها تحمل الى الآفاق شهرة مؤلفها، على رغم انه وضع الكثير من الاعمال الأخرى. فما الذي يجعل لهذه المسرحية المغناة كل هذه المكانة؟ ولماذا يحلو لكثر أن يطلقوا عليها اسم «مسرحية مغناة» بدلاً من اوبرا، علماً ان المعنيين ليسا شديدي البعد عن بعضهما بعضاً؟
> من الواضح ان الجواب متضمّن في موضوع هذا العمل وفي اسلوبه. ذلك ان «باياس» اذ تقدّم فوق خشبة المسرح شريحة تراجيدية من الحياة، تقدّمها في قالب يختلط فيه العمل الفني بالحياة اختلاطاً تاماً حيث لا يعود المرء مدركاً اين يبدأ هذا وأين تنتهي تلك... خصوصاً ان ما يحدث في الفصل الثاني على خشبة المسرح داخل المسرح، يكاد يكون هو هو ما كان حدث في الفصل الاول على خشبة مسرح الحياة.
> وأوبرا «باياس» تتألف من فصلين، ومقدمة. ولافت هنا حقاً ان المسرحية تنبّهنا منذ تلك المقدمة الى ان «المؤلف انما سعى لكي يقدم اليكم شريحة من الحياة». وبهذا لا يترك ليونكافالو، اي مكان للشك: انه خلال الفصلين التاليين سيضع متفرجيه في مواجهة أحداث قد تحدث كل يوم في الحياة اليومية، أحداث تتعلق بالغيرة والحب والحياة الزوجية. وهو لئن كان اختار المسرح داخل المسرح ميداناً لأحداث عمله، فما هذا إلا ليزيد من صدقية ما يحدث، بعيداً من كل مشاعر الرومنطيقية وقصص الحب التي تنتهي إما بفاجعات التضحية وإما بالزيجات السعيدة. ففي الفصل الاول، وبعد تلك المقدمة التمهيدية، نجدنا في ساحة قرية ريفية صغيرة تدعى مونتالتو وتقع في منطقة كالابريا الايطالية. والزمن عند نهاية القرن التاسع عشر، اي الزمن الذي وضع فيه ليونكافالو عمله. ولدينا هنا كورس من اهل القرية ينشد فرحه بالحياة، حين يصل فجأة عدد من الممثلين المهرجين ليقدموا عملاً فنياً أمام أهل القرية. ويأتي كانيو (المهرج باياس على المسرح لاحقاً) ليعلن للسكان ان العمل الفني الذي ستقدمه لهم الفرقة، سيقدم عند الحادية عشرة صباحاً. ويجابه السكان ذلك الاعلان بشيء من السخرية ثم تتركز سخريتهم على الاهتمام الذي يبديه الممثل طونيو إزاء نيدا، بطلة الفرقة وزوجة كانيو (والتي ستقوم لاحقاً بدور كولومبين). وعلى تلك السخرية يرد الزوج كانيو، قائلاً ان مثل هذه المواقف قد تكون مسلية فوق خشبة المسرح، لكنها ستكون فجائعية جداً في الحياة الطبيعية. وهو، اذ يقول هذا، يخرج ساعياً خلف شيء من الراحة. وهنا تدخل نيدا المسرح يتبعها طونيو الذي يحاول ان يبثها لواعج هواه، لكنها لا تستجيب اليه على الاطلاق، بل تنهره وتطرده ضاربة اياه بالكرباج. وبعد خروج طونيو، يدخل المسرح سيلفيو احد شبان القرية الذي سرعان ما ندرك انه هو العشيق الحقيقي لنيدا. وبعد حوار رومانسي بين نيدا وسيلفيو، يقنع هذا الاخير عشيقته بالفرار معه ليلاً. لكن طونيو يكون قد سمع كل شيء. اما سيلفيو فإنه، ما ان يطل كانيو، حتى يهرب من دون ان يتمكن هذا الاخير من معرفة هويته. لكنه اذ يكون طونيو اخبره بالأمر، يعبر عن شكوكه تجاه زوجته طالباً منها ان تسرّ اليه باسم العشيق. وفيما هما يتجادلان بعنف، يدخل بيبي، رئيس الفرقة (والذي سيلعب غداً دور آرليكان) فيفرق بينهما مهدئاً من غضب كل منهما، مذكّراً اياهما بأن عليهما ان يكونا على استعداد، اذ إن العرض سيبدأ خلال لحظات يسيرة.
> في الفصل الثاني، نجدنا امام خشبة المسرح القروي الذي سيقدم هؤلاء الممثلون عملهم عليه. وها هو كل شيء يبدو معداً لتقديم عمل مسلّ، وها هم القرويون قد جاؤوا متجمعين ليتفرجوا على العرض. ويبدأ العرض بالفعل، لنفاجأ بأن ما يعرض انما هو شبيه تماماً بالفصل الحياتي الواقعي الذي كنا شاهدناه في الفصل الاول، حيث ان الادوار التي يلعبها الممثلون فوق خشبة المسرح، تكاد تكون هي هي الأدوار التي يلعبونها في الحياة، مع بعض الفوارق الطفيفة على أية حال: ففي المسرحية داخل المسرحية لدينا ارليكان (بيبي) الذي يعشق كولومبين (نيدا)، وها هو يغني لها نشيداً هائماً حين يصل باياس (كانيو). وما ان يشاهد هذا، مشهد الغرام بين «زوجته» و «عشيقها» حتى يستبد به الغضب ويتشاجر بحدة مع كولومبين التي يعبّر لها عن شكه الحاد في أنها تخونه، وبكلمات تشبه تماماً الكلمات التي كان استخدمها في الشجار الحقيقي مع زوجته الحقيقية في الحياة. ويستبدّ الغضب بباياس (أو حقيقة بكانيو) الى درجة ان يلتقط سكيناً كان يحمله ويطعن به زوجته (حقيقة لا تمثيلاً)، وإذ يسرع سيلفيو الذي كان بين المتفرجين، لإنقاذ المرأة قافزاً من الصالة الى المسرح، يسارع كانيو بطعنه هو الآخر طعنة قاتلة. وإذ ينتهي المشهد على هذا النحو، يقف من تبقى من ممثلين ليتوّجهوا الى الجمهور قائلين بحسرة واستسلام: «لا كوميديا أي فينيتا».
> كتب روجيرو ليونكافالو، موسيقى هذه الأوبرا خلال خمسة أشهر عند نهاية العام 1990 منطلقاً من حكاية حادثة حقيقية رواها له أبوه وهو صغير وظلت عالقة في ذهنه. وهو كتبها خلال حقبة بائسة من حقبات حياته، وبعد أن كان أخفق في الكثير من محاولاته السابقة. فليونكافالو، المولود في العام 1858 في نابولي، كان بدأ كتابة الأوبرا منذ العام 1876، حين كتب عمله الأول «تشاترتون» بعد دراسة موسيقية باهرة، لكنه في الوقت نفسه كان منكباً على دراسة الأدب جامعاً بين اللغة والموسيقى على غرار فاغنر الذي كان مثلاً أعلى بالنسبة اليه، غير أنه في البداية فشل في تقديم «تشاترتون» فغاص في بأس جعله يعتاش من عزف البيانو في المقاهي ومن اعطاء دروس في العزف، في مدن عدة، ولقد قاده ذلك الى مصر حيث عاش لفترة بدءاً من العام 1882. لكنه بعد تلك البدايات الصعبة التقى ناشراً شجّعه على كتابة أوبرا ثانية فوضع «آل مديتشي» التي كان يشاء لها أن تكون حلقة في ثلاثية عن عصر النهضة الايطالية. لكن الناشر رفض هذا العمل مشجعاً اياه على كتابة نص «مانون ليسكو» لكي يلحنها بوتشيني، ففعل، لكن بوتشيني لم يقبل العمل. فيئس صاحبنا من جديد، وظل على ذلك النحو حتى العام 1890، حين اكتشف أوبرا «كافالييرا روستيكا» لماسكايني فأعجب بواقعيتها، ورأى انه، أخيراً، اكتشف طريقه، فلحّن «باياس» التي حين عرضت، حققت على الفور نجاحاً كبيراً في ميلانو. وإذ شجعه هذا النجاح على استعادة مشروعه القديم بتقديم «آل مديتشي» عاد الفشل ليكون من نصيبه مجدداً فتخلى نهائياً عن مشروع الثلاثية. وهو بعد فشل آخر في منافسة بوتشيني حين لحن بدوره أوبرا «البوهيمية» عاد ليعرف النجاح في العام 1900 بفضل أوبرا «زازا» ثم غنى كاروزو واحدة من أغانيه فعوّض عليه بنجاح كبير مكّنه من أن يقوم بجولة ناجحة في الولايات المتحدة، ووضع بعد ذلك عملين كبيرين ناجحين هما «شباب فيغارو» و «مالبروك» ما جعله ناجحاً وشهيراً آخر أيامه وحتى رحيله في العام 1919.
عن جريدة الحياة.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |