مناهج البحث العلمي وأسس الفكر الليبرالي عند كارل بوبر
2008-02-02
في المُلتقى العالمي للفلسفة الذي عُقِد بمدينة اسطنبول، ألقى الفيلسوف الإيطالي جانّي فاتيمو (Gianni Vattimo)، مُحاضرة بعنوان استفزازي (كلام فاتيمو) "هايدغر فيلسوف الديموقراطية" . وللتدليل على ديمقراطية هايدغر فإنه أجرى مقارنة بين أفكار شيخ الليبرالية كارل پوپر (Karl Popper)، من خلال كتابه "المجتمع المنفتح وأعداؤه"، وبين أطروحات هايدغر انطلاقا من محاضرته "نهاية الفلسفة ومُهمّة الفكر".
وقد اعترف فاتيمو، منذ البداية، بأن الجَمع بين مفكر مثل كارل پوپر مشهور بتعصّبه للنظام الّليبرالي، وبين فيلسوف كاره للديمقراطية مثل مارتن هايدغر هو من الخلف بمكان « خصوصا وأن هايدغر لا يَبدو، طبعا، مفكرا ميّالا إلى الديمقراطية .
أين يَكمُن التوافق بين پوپر وهايدغر؟ يقول فاتيمو بأن « الأسباب التي حرّكت پوپر لمناهضة
أفلاطون هي نفسها، وبالأساس، الأسباب التي حرّكت هايدغر في صراعه ضدّ الميتافيزيقا . فاتيمو يعترف، مرة أخرى، بأنه يُفكّر في صُلب المفارقات ويلتجئ إلى ما أسماه بالعنف التأويلي (violenza ermeneutica)، وهذا العنف التأويلي مُتأتٍّ، أساسا، من تقريبه بين مصطلحات ومفاهيم تبدو، للوهلة الأولى، بعيدة كلّ البعد عن بعضها: مثل عبارة پوپر "مجتمع منفتح" بـ"حدث" (Ereignis) الهايدغارية. ولطمأنة القارئ الرّيبي يقول: « إننا لا نخون أغراض پوپر ولا هايدغر، على الرغم من أنه لا أحد منهما يقبل بهذا العنف التأويلي الطفيف».
فاتيمو يؤيّد موقف پوپر من أفلاطون حينما اعتبره أحد الأعداء الخطرين للمجتمع المنفتح، ذلك لأنّ أفلاطون، كما بيّن ذلك پوپر، لديه « تصوّر مَاهَوي للعالم (concezione essenzialista del mondo) . وطبقا لهذه النظرة فإن كلّ ما هو واقعي يَخضع لقانون مُعطَى كبنية ثابتة للوجود، وبالتالي فإن المجتمع ذاته عليه أن يَنصاع إلى ذاك التصوّر الماهوي. وبما أن الفلاسفة فقط هم الذين يَستطيعون تَعقّل ذاك النظام الدائم للأشياء، فإن مُهمّة قيادة المجتمع تعود إليهم بالدرجة الأولى. هذه المهمّة التي يزعمها الفلاسفة ـ اليوم العلماء وأصحاب الإختصاص ـ مرتبطة وثيق الإرتباط بالإقتناع المبدئي التالي: ألا وهو أنّ بالنسبة للفرد والمجتمع ينبغي عليهما أن يتطابقا دائما مع نظام مُعطى موضوعيا يَصلح أيضا كمِعيَار (Norma) أخلاقي؛ الوحيد الممكن. فاتيمو، على لسان پوپر، يُمعن في المفارقات والإستفزاز، يقول بأن هناك مبدأ محوريا في الحقل السياسي ـ التشريعي مفاده أن « "السلطة، وليست الحقيقة، هي التي تسنّ القوانين" (auctoritas non veritas facit legem)»، هذا المبدأ ـ يُضيف فاتيمو « كان دائما عُرضة للنقد العقلاني ذي النفس الميتافيزيقي». فالعقلانيون، حسب هذا الطرح، يتعاملون مع أمور السياسة بذهنية علمية، راغبين في التوصل إلى حقائق نهائية وادراك الأشياء كما هي في ذاتها. لكن، حسب أطروحة فاتيمو، هذا هو الخطأ الأكبر الذي يداهم الممارسة السياسية، ذلك لأنه « كُلّما أولِجَ مطلب الحقيقة في السياسة، إلاّ وبرز أخطر أنواع التسلّط (الاستبداد autoritarismo)، أي الإنغلاق الذي حذّر منه پوپر .
2 ـ الحقيقة والسلطة في المجتمع المنفتح:
أطروحة پوپر ـ فاتيمو التي ترى أن السلطة وليست الحقيقة هي مبدأ التشريع، مقبولة إلى حدّ ما. فعلا، لا أحد ينكر، مبدئيّا، أن السلطة الشرعية هي التي تسنّ القوانين، والأمر يَنبغي أن يكون كذلك. لكن السلطة ليست هي بالإرادة العمياء التي لا همّ لها سوى الحفاظ على سيادتها وإعادة إنتاج ذاتها باستعمال كل الوسائل حتى اللاأخلاقية منها. بل يجب أن تكون محكومة بالعقل ومُقيّدة بمبادئ العدل والحقّ. المبدأ الذي أشاد به فاتيمو، إن أخذ على حرفيته، يؤدي فعلا إلى عكس النتائج التي يود الوصول إليها، لأنه يبرّر الأمر الواقع، ولا يعترف إلاّ بالأقوى وبالتالي فهو يَصلح كذريعة لكلّ الأنظمة الشمولية الدكتاتورية التي لا ترى نفسها مُجبَرة على التقيّد بمعايير الحقيقة والحكمة.
أمّا بخصوص أفلاطون، فما كتبه پوپر هو كاريكتور أفلاطون، لقد أصبح النقد العشوائي لهذا الفيلسوف شبيها بالرياضة الروحية التي يتعاطاه الكثير من المفكرين المعاصرين. وبسبب هذا المنحى الجدالي فإن التطاول عليه أخذ يتجذر في أذهان المفكرين بجميع مشاربهم، وأصبح أفلاطون حجر عثرة يجب إزاحتها قبل أي تنظير سياسي . لكن، في حقيقة الأمر، پوپر سقط في نفس تلك الشناعات التي نسبها إلى أفلاطون، ويكفي تتبّع مساره الفكري، ورصد مواقفه السياسية كي نتحقق من ذلك.
الحصيلة السلبية لكل أعمال أفلاطون يَرسمها في كتاب "المجتمع المنفتح وأعداؤه" على هذا النّحو: « لقد رفض سقراط الاخلال باكتماله الشخصي. لكن أفلاطون، مع كل صرامة تنظيفه للواجهة، كان مدفوعا نحو طريق أخلّت باكتماله في كل خطوة أقدم عليها. كان مدفوعا نحو التهجم على الفكر الحرّ والتوصّل إلى الحقيقة؛ دَافَع عن الكذب، المعجزات السياسية، المحرّمات، انتزاع الحقيقة، وفي النهاية، العنف الشرس. ورغم تحذير سقراط من كره البشر وكره العقلانية، فإن أفلاطون كان عديم الثقة بالإنسان ويهاب البرهان العقلاني. وعلى الرغم من كرهه للطغيان، كان مدفوعا لرؤية الطغيان كمساعد ممكن والدفاع عن الاجراءات الأكثر طغيانا .
كل هذه السلبيات التي لفّقها على كاهل أفلاطون حاضرة في پوپر سواء من خلال سيرته الذاتية أو من جهة تنظيره الفكري السياسي: اكتماله الشخصي أصابه الخلل في كثير من جوانبه سواء بتناقضاته أو بولاءاته السياسية المشكوك في نزاهتها؛ تهجّم على المثقفين اليساريين المخالفين لنهجه السياسي؛ رفَضَ أن يكون العلم مُوصلا إلى أية حقيقة ثابتة؛ المعجزات السياسية يؤمن بها أكثر من أي فيلسوف آخر، أعني الليبرالية الشرسة واقتصاديات السوق؛ أما الدفاع عن الكذب فيمكن إرجاع هذه التهمة عليه لأنه أنكر أبسط الحقائق العلمية التي أثبتت التلازم السببي بين التصنيع والتلوث البيئي؛ لديه نوع من كره للبشرية، أعني عنفا تجاه كل من يتجرّأ على نقد أفكاره أو رَفضَ الانزواء تحت راية الليبرالية الاستعمارية؛ يَهاب البرهان العقلاني لأنه أنكر أن تكون نظرية التكذيب خاضعة هي بدورها للتكذيب؛ أخيرا إذا أبدلنا كلمة الطغيان، التي اتهم بها أفلاطون، بكلمة حرب، فإننا سنحصل على صورة قريبة جدّا من مواقفه إزاء السياسة العالمية وحروب أمريكا: على الرغم من كرهه للحرب، كان مدفوعا لرؤية الحرب كمساعد ممكن والدفاع عن الاجراءات الأكثر حربية.
ليس هذا فقط بل إن في نفس الكتاب، الذي اعتُبر مانيفستو الليبرالية وإدانة، بدون رجعة، للطغيان والتقوقع المنافيان للإنفتاح الديمقراطي، فإن پوپر يصدمنا بقناعته النّخبوية، وبتأكيده على وجود أفراد لهم ميزات عالية ترفعهم على مستوى الناس العاديّين. ولا يُغنِي عنه شيئا القول بأن هؤلاء الرجال الخارقين للعادة لا ينبغي عليهم أن يُطالبوا بامتيازات سياسية خاصة: « أودّ أن أعبّر عن اقتناعي بأن السموّ الشخصي، سواء كان عرقيا أو فكريا أو أخلاقيا أو تربويا، لا يمكن أبدا أن يُبَرِّر مطلب امتيازات سياسية، حتى وإن كان ذاك العلوّ شيئا متحقّقا . فعلا تلك النخبوية هي شيء معاين في الواقع على الرغم من أن « الكثير من الناس اليوم في البلدان المتحضرة يُسلّمون بأن العلوّ العرقي هو أسطورة». پوپر لا ينقض هذه الأسطورة ولا يودّ معارضتها على الرغم من أن الكتاب نشر في سنة 1942 حيث كانت تعتمل في صلب ذاك العالم الذي أسماه بـ"العالم المتحضّر" جدّا، أفكارا عنصرية تُروّج لفكرة علوّ العرق الآري والمطالبة بحقه في ريادة العالم. پوپر يَكتفي بالقول بأن ذاك السموّ، حتى وإن افترضنا أنه أمر متحقق على أرض الواقع، فهو لا يُحتّم امتيازات سياسية خاصة. ماذا يحتم إذن؟ « مسؤوليات أخلاقية مُناطة بأصحاب الرّفعة. ونفس هذا الخطاب يُقال على أولئك الذين يَتسامون ذهنيا، أخلاقيا وتعليميا . أما الرأي النقيض، أي رأي الذين يُنكرون أي نوع من أنواع التفاضل بين الناس، ويحاولون التمسّك بمبدإ المساواة اللامشروط فإن پوپر، كعادته في سلاطة اللسان، يتهجّم عليهم قائلا: « أعتقد أن الادعاءات المخالفة، لبعض المثقفين والأخلاقيين لا تبرهن إلاّ على نقصان الجدّية في تعليمهم، نظرا لأن [تعليمهم] لم يُمكّنهم من الوعي بمَحدوديتهم ونفاقهم (فِرّيسيّتهم) . هذا الصنف من الردود تعجّ بها كُتبه ومقالاته طوال حياته الفكرية.
پوپر لا يلتقي مع هايدغر في التمسّك بأسس الديمقراطية، بل في العداء للعلوم الصحيحة وللعقلانية الوضعية. لقد أثنى على نفسه مدّعيا بأن الفضل في قطع رأس فلسفة الوضعية المنطقية لمجموعة فيينا، يعود إليه هو بالذات. لكن الكثير من مؤرخي الفلسفة شكوا في هذه المعلومة؛ فمعارضته لمجموعة فيينا لم تكن من الجدّة والتفرّد بحيث أنها تستحق هذه الإشادة الذاتية. ومجمل نقده كان مركّزا على منهج الاستقراء، وهو الركن الأساسي في منهجية الإكتشاف العلمي. انتقاداتها للإستقراء أفضت به إلى معارضة أي رأي يقول بإمكانية التوصل إلى حقائق علمية ثابتة، وفي هذا الشأن فإن پوپر، كما قدّمتُ أعلاه، سقط في نفس الشناعة التي لفقها على كاهل أفلاطون: « أنا أستخدم عبارة الجوهرانية المنهجية لوصف التصوّر، الذي اعتمده أفلاطون والعديد من أتباعه، من أن مهمّة المعرفة المحضة أو "العلم" هي اكتشاف وإدراك الطبيعة الحقيقية للأشياء، يعني واقعها الصميمي أو ماهيتها . قد يكون هذا هو النص المحوري الذي اعتمده فاتيمو في تحليله أعلاه، وهو في حقيقة الأمر يُصوّر ابستيمولوجيا پوپر الريبية: ابستيمولوجيا ليست فيها يقينيات البتة، وخالية من مطلب الحقيقة. لقد اعترف هو نفسه بهذا المنعرج الريبي المدمّر وقال: « ثمة اتهام آخر كثيرا ما يُوجّه ضدي...أعني اتهامي بأنني ارتيابي»، لكنه لم يفعل شيئا لدحضه، هذا إن لم يعمل على ترسيخه بقوّة. الديناميكية العلمية، لا تسير بحسب نمط تراكمي، بل هي سلسلة لا متناهية من التكذيبات المُتتالية، إلى درجة أن تاريخ العلم يغدو كما قال جيمس وارد (J. Ward) « مَقبَرة نظريات علمية . ليس هناك يقينيات البتّة وإنما توجد مشاكل مطروحة للحل لا نخلص منها إلاّ إلى مشاكل أخرى وهكذا دواليك: « العلم يبدأ بمشاكل ذات علاقة بتفسير سلوك بعض جوانب العالم أو الكون. الفرضيات القابلة للتكذيب يقترحها العالم من حيث هي تُقدّم حلولا للمشكل. وبعد ذلك يتمّ نقد التنبؤات واختبارها. فسرعان ما يتم اقصاء بعضها بينما يبدو البعض الآخر أكثر نفعا. وهذه الأخيرة ينبغي اخضاعها لنقد أكثر صرامة ولاختبارات. وعندما يتم تكذيب فرضية اجتازت بنجاح جهازا من الاختبارات الصارمة، يظهر مشكل يُؤمَّل فيه أن يكون بعيدا جدّا عن المشكل الأصلي الذي تمّ حلّه. وهذا المشكل الجديد يؤدي إلى صياغة فرضيات جديدة يتلوها النقد والتجريب مجدّدا. ولا يُمكن أبدا أن نقول عن نظرية بأنها صادقة حتى وإن اجتازت، ظافرة، اختبارات صعبة. إنما يمكن أن نقول، دون أن نجانب الصواب، بأن نظرية حالية تتفوّق على النظريات التي سبقتها، بمعنى أنها تستطيع مواجهة الاختبارات التي كذبت تلك التي سبقتها .
لقد صرح پوپر، وأعاد تصريحه في العديد من مؤلفاته، بأنه استمد قناعته المعارِضَة لما أسماه بالجوهرانية المنهجية من مطالعته العميقة لكتب الفيلسوف الألماني عمانويل كانط، ومفادها أن القوانين العلمية التي يكتشفها العالم ليس لها وجود في الواقع الخارجي وإنما هي مجرّد إسقاطات لقوالب ذهنية إنسانية على الطبيعة، ولا تكشف فعلا عن الأشياء في ذاتها .
پوپر يُعارض ما أسماه بالجوهرانية المنهجية، أي تلك النظرية التي ترى أن مهمّة النشاط العلمي هي الكشف عن ماهيات الأشياء ووصْفِها عن طريق تعريفات ثابتة، بنظرية أخرى في الطرف النقيض منها، أي بما دعاه "الإسمية المنهجية": « عوضا عن إرادة اكتشاف ماهية الأشياء الواقعيّة وتعريف طبيعتها الحقيقية، الاسمية المنهجية تضع هدفها في وصف كيفية تصرّف شيء ما في ظروف مختلفة، وخصوصا، معرفة هل هناك انتظام في تصرّفه. بعبارة أخرى، الاسمية المنهجية ترى أن مهمّة العلم هي توفير وصف للأشياء والحوادث التي تقع تحت تجربتنا واعطاء "تفسير" لتلك الحوادث، يعني رسمهما بمساعدة قوانين كلية. وهي تعتمد على نظام لغتنا، وخصوصا على القواعد اللغوية التي تميّز الجُمَل وتبيّن الاستنباطات المستَخرَجة بدقة من مجرد كومة بسيطة من الكلمات، من حيث أنها الوسيلة الكبرى للتفسير العلمي؛ فالكلمات طبقا لهذا الطرح تغدو وسائل مساعدة مرتبطة بهذه المهمة، عوضا عن أن تكون أسماء ماهيات .
إذن، عوضا عن الأحداث العينية ومحاولة استقرائها عن طريق الملاحظة والتجربة للوصول إلى حقائق علمية ثابتة، الباحث عليه أن يكتفي فقط بالوصف التقريبي مستخدما الكلمات المُجمَع عليها، لأن النظريات العلمية هي مجرد اصطناعات اعتباطية مفروضة من طرف الذاوات العارفة ومحدودة بنظرتهم للعالم، وهي على كل حال نظريات في طريقها إلى التكذيب، وإن لم تكن قابلة منذ البداية للدحض والتفنيد فهي ليست بنظريات علمية: مجرد استيهامات خارجة عن مجال العلم، وبالتالي فهي إيديولوجيا مثل الماركسية أوالتحليل النفسي.
إن هذه العدمية النظرية التي اخترقت تفكيره وغدت عنده كقناعة ثابتة غير قابلة للدحض، أدت به إلى التشكيك في مطلب الحقيقة العلمية، الشيء الذي استفز حذاق القوم من العلماء الذين يباشرون بالفعل دراسة الظواهر الطبيعة واكتشاف قاونينها. وهنا أقدم شهادة/اعترافا للعالم الكبير شرودنغر (Schrödinger) تضرب في العمق ادعاءاته العلمية، وتبيّن أن الرجل لم يحز حتى في المجال الفلسفي على مصادقتهم. في رسالة بعث بها فايرباند (Feyerabend) إلى لاكاتوس (Lakatos) سنة 1974 قال له فيها: « أنتَ تقول بأن السيد كارل پوپر همّش إشكالية هيوم. هذا بالضبط ما قاله شرودنغر وكنتُ حاضرا حينما قاله. إنها حكاية جدّ مُهمّة. كارل كان يرغب في إهداء الطبعة الإنجليزية من "منطق الاكتشاف العلمي" إلى شرودنغر، وقد أعطاه الكتاب كي يقرأه وكان يريد بفارغ الصبر أن يعرف رأيه فيه. كارل كان جالسا في رواق الـ(Böglerhof) يرتجف من الجزع، شرودنغر كان مُعكّر المزاج، جالسا في مطعم آخر بـ(Alpbach) [فقال لي]: " پوپر هذا! يعطيني كتابه المشوّش ويريد مني أن أمنحه الرخصة كي يضع اسمي على أول الصفحة. يقول بأنه توصل إلى نتائج بخصوص إشكالية هيوم؛ لكن ليس صحيحا، يُثرثر، يثرثر، يثرثر وكفى، وإشكالية هيوم دائما غير محلولة" .
پوپر لم يكتف بتبني تلك العدمية لنفسه، بل إنه نسبها أيضا إلى الفلاسفة اليونانيين القدامى وقرأ على ضوئها تاريخ الفلسفة برمّته. ثم كعادتها، فإنه تحيّز إلى الجانب الذي يوافق مساره الفكري ويتماشى وخياره اللاعقلاني. لقد أعجبه من سقراط خطابه الذي جاء في "الدفاع" حيث يقول: « الحقيقة هي أن الإله وحده هو الحكيم، وأنه يقصد بإجابته أن يبيّن أن الحكمة الإنسانية قليلة أو معدومة القيمة. عندما تكلّم عن سقراط، فقد استعمل اسمي على سبيل المثال، كما لو أنه قال " إن أحكمكم هو مَن، مثل سقراط، يعلم أنه بالمقارنة مع الحكمة الحقيقية، فإن حكمتكم لا قيمة لها . أو الأخرى التي أوّل فيها قولة العرافة بأن سقراط أعلم من الآخرين لأنه "يعرف أنه لا يعرف".
لكن هذا القول لا يُبرهن على أن صاحبه يَتبنّى مواقف ريبية تامّة، لأن سقراط يَعلَم الكثير من الأشياء ومتيقن منها، أو على الأقلّ مُتيقن من نجاعتها العملية . المثال المضادّ لپوپر يُمكن استمداده من أقوال سقراط الصريحة، حسب ما أورده عنه أفلاطون في محاورات الشباب، حيث يتبنّى هذه الحقيقة الأولية التي شيّد عليها كل فلسفته: الفضيلة هي العلم. ما كان لسقراط أن يتفوّه بهذا القول وأن يَصمد على فكرته هذه لو أنه فعلا تشبث بمدإ "أنا لا أعرف شيئا، أو لستُ متيقنا من شيء". فعلا، لو لم يكن لديه يقين تام بأن العلم يساوي الفضيلة وبأن هذه الفكرة تُعبّر عن حقيقة أوليّة لأصبحت حياته برمتها كارثة: بما أنه جاهل فهو فاقد للفضيلة، وبالتالي فإنه فاقد لأسباب السعادة. كيف يمكن لسقراط ، إذن، أن يكون مقتنعا بامتلاك كليهما (الفضيلة والسعادة) وهو لا يعرف شيئا في هذه الدنيا؟
أنا متأكد من أن سقراط ليس هو بالصورة العدمية التي رسمها له پوپر، فهو على الأقل يمتلك حدّا أدنى من اليقينيات التي لم يَتخلّ عنها طوال حياته، والبعض منها كان محدّدا في مسار حياته الفكرية والعملية، مثل اقتناعه الشديد من أنه لا يعرف الأشياء الغيبية، ولكنه بالمقابل فهو يملك معرفة إيجابية مبنية عن قناعة صادقة، ومفادها أن: « الجور والتمرّد على مَن هو أفضل منّي، إن كان إلاها أو إنسانا، هو أمر خبيث وشرّير (الدفاع، 29ب 6 ـ 7)». وكما يُعلّق فلاسطوس (Vlastos) أحد إختصاصيي الفلسفة القديمة: « هذا المقطع فقط، منظور إليه في جوهره، قد يكون كافيا للبرهنة على أن سقراط يَنسب لنفسه مَعرفةَ حقيقةٍ أخلاقيةٍ ما . لكن پوپر افتتن بالأطروحة النقيض، أي باعتراف سقراط بالجهل، على الرغم من أن الفيلسوف اليوناني اعتبر حالة من هذا القبيل منبعا للشرّ في الإنسان، وحائلا دونه ودون تحقيق الفضيلة ونيل السعادة.
لقد جعل پوپر من هذه الأطروحات التشكيكية في قدرة الإنسان المعرفية محور فلسفته، وسنرى كيف أنها أنقذته، في نهاية المطاف، من مفاراقات عَمَلية وسياسية رهيبة. فعلا، حسب رأيه: « حَدسُ سقراط حول لا معرفتنا ... له معنى عظيم . ولكن أوّل مَن همّش فلسفته وخرج عن طاعته، هو تلميذه أفلاطون الذي « تَخلّى عن أطروحة سقراط حول عدم معرفتنا وضرورة التحلّي بالتواضع الفكري، الذي نصح به سقراط. فسواء بالنسبة لسقراط أو أفلاطون، كلاهما يفترضان في رجل السياسة أن يكون حكيما؛ لكن "حكيما" يعني لكل منهما شيئا مختلفا للغاية. فحكيم بالنسبة لسقراط يعني أن رجل الدولة يجب أن يكون واعيا بلامعرفته؛ بالنسبة لأفلاطون يجب أن يَتمَرّن بعمق وبأعلى درجة: يجب أن يكون فيلسوفا متمرسا .
إذن، الكل يُرَدّ إلى مواقف شخصية، والنصيحة هي ضرورة التحلي بروح التواضع في ادّعاء المعرفة. فنظرية العلم، بالنسبة لپوپر، لا ينبغي أن تتموقع في حقل النظر المتفائل، أي تلك التي تزعم قدرة الإنسان على معرفة العالم، ولا هي من باب التشاؤم، أي عدم إمكانية المعرفة إطلاقا؛ مثاله الابستيمولوجي يكمن بين الطرفين، ولكنه منحاز إلى الجانب الريبي التشاؤمي أكثر منه إلى الجانب المتفائل. لقد عبّر عنه، حسب زعمه، فيلسوف يوناني عاش منذ ألفين وخمسمائة عام، وهو كسينوفان الذي قال: لا نملك أي معيار للحقيقة، أية معرفة أكيدة؛ ومع ذلك نستطيع البحث، وبمُرور الزمن يمكننا أن نعثر على ما هو أفضل.
كما يلاحظ القارئ، پوپر يتفادى ذكر كلمة الحقيقة بمعناها الإيجابي؛ لا يقول بأن بعد البحث نحصل بالفعل على حقيقة ما، بل على ما هو أفضل، ولا ندري أفضل من ماذا، وهل هناك معيار موضوعي نقيس به الأفضلية. من الواضح، كما يقول أحد الفلاسفة الإيطاليين، أن باتّباع منهج بحث من هذا القبيل « فإنه لا مكان اطلاقا حتى لفكرة الوصول إلى "اكتشاف" يَخلص إلى معرفة علمية .
لستُ أدري ماذا تُقدّم هذه الابستيمولوجيا من مواساة للباحث، وهل أنها تبثّ في العارف روح الفضول النظري والإقدام على دراسة الطبيعة إن وَضَع في ذهنه مسبقا، أنه متعذر عليه الحصول على حقيقة ثابتة. البديل الوحيد الذي يمكن تقديمه على أنقاض القناعات العلمية، هو الاعتباط الشخصي، أو على أحسن حال التخمين الذي لا يصل إلى نتيجة نهائية. منطوقات الملاحظة، أو ما يمكن تسميته بالقاعدة الامبيريقية التي يُبنى على أساسها أي تنظير علمي، هي نفسها يعتريها الاعتباط « إن قبولنا للمنطوقات الأساسية يترتب عن قرار أو اتفاق، وبهذا الاعتبار تكون هذه المنطوقات مواضعات». وهذه الصفة التي يضفيها على العلم قد شدّت انتباه النقاد الذين رأوا فيها نوعا من التناقض مع المقدمات. يقول شالمرز: « إن الاهتمام الذي يُوليه پوپر لقرارات الأفراد الواعية، لَيَحمِل عنصرا ذاتيا في تضادّ مع الصفة اللاحقة التي سيخصّ بها العلم واصفا إياه بأنه: "فعل من غير فاعل" .
رغم كل الضمانات التي حاول تقديمها،
08-أيار-2021
13-تشرين الثاني-2010 | |
19-تشرين الأول-2010 | |
24-نيسان-2009 | |
18-آذار-2008 | |
الإحترام والتسامح بين المسيحية والإسلام / جوليو تشيبلوني ــ ت |
18-آذار-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |