البداوة ومحاولة سحق المدينة في الاسلام
خاص ألف
2013-06-29
حين بشر محمد "صلعم"بالإسلام في الجزيرة العربية لم يكن نشر الإسلام فقط مايحثه على نشر الدين الجديد, بل كان " أو هذا ما أقترحه"الانتقال بالعرب من البداوة إلى الحضارة, ومن القبيلة إلى المدينة والمدينية, ألم تنزل الآية القرآنية تقول " والأعراب أشد كفرا ونفاقا" والتي لاتعني إلا التنفير من البداوة والتحريض على التحول إلى المدينية , ولذا سمى محمد "صلعم"المستوطنة الأولى "يثرب" التي أخضعها للدين الجديد" المدينة "والمدينة لغويا هي اسم المفعول من فعل "دان "أي خضع للدين ـ القانون, ولنلاحظ أن تصريف الفعل دان هو يدين ودائن ومدين ومؤنث مدين هو مدينة, أي الخاضعة للدين ــ القانون بلغتنا المعاصرة, واستتباعا نقول إن كلمة قانون هي كلمة يونانية وليست عربية, أما الكلمة المراد فة "ناموس" فهي يونانية أيضا, ثم لدينا الكلمة الفارسية دستور, وهكذا نصل إلى أن الكلمة العربية الوحيدة التي تتحدث عن علاقة الفرد بالآخر مواطنا كان أم حاكما هي الدين, ولكن المشكل أن العلاقة بالدين هي علاقة ليست أرضية, بل هي علاقة تتم عبر السماء, كما نصل أيضا إلى فقر اللغة العربية المريع في المصطلحات السياسية, فليس فيها كلمة واحدة تتحدث عن تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم, وبين المحكوم والمحكوم, بشريا أوتوافقيا, وما الثورات التي كانت تتم بين الفترة والأخرى في الأربعة عشر قرنا الأخيرة إلا احتجاجات لدى الله فقط على انحرافات الحاكم, أو احتجاج على توليه سلطة لايستحقها, فهو ليس حفيدا للنبي المورث الشرعي, أو ليس الإمام صاحب الزمان, وما ثورات القرامطة, وثورة الزنج, وثورات الخوارج إلا احتجاج أمام الله على انحراف الحاكم, فلم تجرؤ واحدة منها على إعلان مطالبها البشرية, بل كانت تتغلل دائما بانحراف الحاكم عن شروط العقد بينه وبين الله, والذي بموجبه وصل الحاكم إلى سدة الحكم, فهو حين كان يسرق لم يكن يسرق قوت الناس, بل كان يخالف العقد المبرم بينه وبين الله بألايكون السارق, وحين كان يثخن في قتل الناس لم يكن يعتدي على أرواح البشر دون وجه حق فقط, بل كان يخالف العقد المبرم بينه وبين الذات الإلهية, وهو,أي الحاكم لم يكن يقبل بالتالي أن يحاسبه الناس على جرائمه, فالمحاسب الوحيد الذي يحق له أن يحاسبه هو الله.
وهكذا تعقدت العلاقة بين الحاكم والمحكوم, فهي ليست علاقة بين بشر, أي علاقة تتم مباشرة عبر البرلمان أو الحكومة, أو عبر السلطة الرابعة ــ الصحافة, كما يتم ذلك في الحكومات المعاصرة, والحكومات الديموقراطية حيث هناك أكثر من قناة للتواصل بين الحاكم والمحكوم لاتحيج الناس إلى اللجوء إلى العنف, أي إلى الثورة التي تدمر كل شيء, بل علاقة غريبة ذات قناة غريبة مفتوحة بين الفرد والسماء, ثم بين السماء وبين الحاكم, وهكذا انتشرت العبارة" شكوتك إلى الله",فالشكوى لاتكون إلا للله...وربما لهذا السبب أوجد المخيال الشعبي المصري آلية استعجال تدخل الله في القضايا بطيئة التنفيذ, فلجأوا إلى رفع شكاواهم إلى الإمام الشافعي, ووضع الشكاوى في رسائل موجهة إلى"مقامه في ضريحه", أو إلى الست أم هاشم رئيسة الديوان لتسريع البت في القضية,.كما يحدثنا الباحث الاجتماعي سيد عويس.
حين وصل الإسلام إلى الشام كانت الشام تغلي بالأفكار المائجة بين الرؤى المسيحية, وبين الرؤى السابقة للمسيحية من غنوصية وهيلينستية وثنية متخفية, وكان على الإسلام وهو الدين الجديد الذي لم يدخل معتركات الإيديولوجيا والجدليات الدينية بعد, كان عليه أن يجد لنفسه مقعدا في هذا المعترك, وهذه المعارك هي العالم الذي تعيش فيه الأديان وتتطور, وكل دين يتوقف عن التبشير, وعن محاولة كسب مهتدين جدد, فهو دين سائر إلى التحول إلى دوغما, وإلى عقيدة مغلقة لن تلبث أن تضمحل وتذوي, وهكذا شهد الإسلام أروع فترات انتشاره وتآ ليفه في علم التوحيد" الثيولوجيا أواللاهوت الإسلامي", وعلم الكلام في القرون الأربعة الأولى من انتشاره حين كان عليه أن يشتبك مع الأديان والفلسفات السابقة, وكان الخلفاء الأمويون والعباسيون الأوائل هم من يحرض على الجدل, وعلى الترجمات عن اليونانية والسريانية, فظهرالاعتزال وهومذهب انطلق من أن العقل هو السيد, وهو الملجأ, وأن الله الحكيم لايمكن أن يأتي إلا بكل ماهو منسجم مع العقل, وكان الرد عليه في المذهب الأشعري وهومذهب قائم على النقل, وكان الصدام الأكبر بين القائلين بخلق القرآن وبالتالي حدوثه كما لدى المعتزلة, وبين القائلين بقدم القرآن كما لدى الأشاعرة, وكان المأمون يستدعيهم للجدال أمامه في البلاط, وكان المعتزلي يتجرأ بحضور المأمون على مخاطبة الأشعري بالقول: لندع كتاب الله جانبا ولنبدأ الجدال! الأمر الذي لايجرؤ عليه مفكرونا في أيامنا هذه.
هذا الغنى والثراء العقلي الذي عاشه الإسلام, والذي استطاع عبره امتصاص أجمل ما في الحضارات السابقة غير مكترث لعدم إسلامها, أو لعدم اتفاقها مع الرؤية الإسلامية, فقد كانت الحضارة الإسلامية واثقة من عقيدتها, غير خائفة من انحراف, أو تشتت أبنائها لو اطلعوا على فكر الآخر, وهو ما أنتج المفكرين, والكلاميين, والباحثين أصحاب الرؤى الأخرى, وهذا ماأغنى الحضارة, فجعلها تنتشر وتنشر عقيدتها دون سيف ودون قهر, بل بالموعظة والإقناع حتى وصلت إلى بلاد سنعرفها باسم اندونيسيا, والفيليبين, وأفريقياالعميقة, وهي بلاد انتشر فيها الإسلام دون حرب أوسيف, بل سلما وتبشيرا قام بأكثره المتصوفة والمتطوعون, والحق أن أفريقيا هي القارة الوحيدة التي يمكن اعتبارها القارة المسلمة, وما أسلم جزؤها الأسود إلا تبشيرا.
وكان القرن الخامس والسادس الهجريان قرنا دخول الأمم البدوية الآسيوية للإسلام, وهي أمم من البدو الرعاة الذين يختلفون اختلافا كاملا عن قريش البدو التجار أساسا, فالتاجرالقرشي يعرف قيمة البضاعة التي سيستولي عليها, وهوحريص على صيانتها لإحسان الاستفادة منها, ولو أعدنا قراءة وصية أبي يكر لأسامة بن زيد في طريقه إلى الشام غازيا : لاتقطع شجرة, ولاتقتل راهبا, وأبعدنا القدسية عن تفكيرنا, وقرأناها قراءة اقتصادية لاكتشفنا أن أبا بكر كان يوصي أسامة بألا يخرب البنية التحتية للبلد, فنحن سنسكن فيه ونعيش, وحين حافظوا على البنية التحتية, فقد حافظوا أيضاعلى البنية الفوقية " الأفكار", وبهذا كانت الحضارة الإسلامية تطويرا واستمرارا لكل الحضارات السابقة.
أما البدو الرعاة فقد تصرفوا كغزاة بداة, فالبدوي المتسرع بطبعه حين يصل في غزوه إلى قدر من اللبن, فهو يكشط القشدة, ويرمي ماتبقى, فليس لديه صبر المديني والريفي الذي يصر على الاستفادة من كل ما يقع بين يديه, وهكذا فحين وقعوا على ما وصلت إليه الحضارة الإسلامية من امتصاص لكل ما سبقها من الحضارات, والأفكار, والجدليات رأوا أن هذا كله ليس إلا ثرثرات وإضاعة وقت, فما يهمهم من كل هذه الجدالات والمذاهب والقراءات!, فاعتمدوا كشط القشدة على طريقتهم, ورموا بالباقي, وهكذا تحول الإسلام إلى مانرى, دين واحد بمذهب واحد, ورؤية للعالم الأرضي واحدة, ورؤية للعالم الآخر واحدة, ولهذا العالم رب واحد, وحاكم واحد, وخليفة واحد, وكل من يخالف هذا أوينشق عنه فهو كافر يستحق القتل, ألا يذكرنا هذا بما آلت إليه حياتنا السياسية في أيامنا هذه, حزب واحد, وأمة عربية واحدة, وحاكم نصف مؤله أو مؤله على استحياء واحد, وكل من يخرج عن هذه الواحدية فليس أمامه إلا القتل, أو الاعتقال الطويل بحيث لن يترك وراءه أي تأثير يفتت نضال الأمة إلخ
كان الإسلام دينا مدينيا موجها إلى بداة يطلب تحضيرهم, وقد تحضر أكثرهم في اختلاطهم مع الأمم المفتوحة المتحضرة, وكانت ذروة هذا التحضر قد كتبت في رسالة ابن فضلان عن رحلته إلى بلاد الرس"روسيا " باسمها المعاصر, ورحلاته إلى بلاد الخزر" اليهود المهتدون إلى اليهودية تبشيرا " "وليس إنسالاُ سامياٌ كما يدّعون في أيامنا هذه "وهم, أي الخزر, من الأقوام التركية التي سنعرفها فيما بعد باسم اليهود الإشكناز", ثم ...البلغار , وكان البلغار قبيلا من الترك المسلمين استنجدوا بالخليفة العباسي لينصرهم على قاهريهم وقاهري الروس والسلاف في بلاد الشمال, أي اليهودالخزر, وقد طاردت البلغار المسلمين الذين لم يستطع الخليفة العباسي إنجادهم , طاردتهم الزحوف التركية, فأجلتهم من الفولغا إلى البلقان حيث سيصبحون من السلاف لغويا, ومن الأرثوذكس دينيا, وسنرى ابن فضلان القادم من سرة الحضارة بغداد, وهو يكتب اشمئزازه من العادات الروسية القذرة في استقبال يومهم بغسيل وجوههم وأفواههم في الطست نفسه بعد أن يغسل الملك فيه وجهه وأنفه, ثم يعطيه لمن بعده, فالتالي, ثم التالي حتى يعلو وجه الطست رغوة من المفرزات الفموية, ثم كان الاستغراب الكبير لعقوبتهم للسارق إذ يعلقونه على شجرة ليموت ويتحلل أمام عيون الشعب معلقا عليها, أما ذروة الدهشة والاستنكار فكانت في صحبة الزوجة لزوجها بعد موته إلى الموت بعد إشباع كل شهواتها الدنيوية علنا, ثم إحراق الزوجين في سفينة واحدة تذكيرا بأصول الرس من الفا يكنغ.
وكان المأمول والمطلوب الذي لم يعلن عنه حجازيا, وإن كان شهوة مضمرة شاميا ــ هو إعادة المجد للهيلينستية وديموقراطيتها وتسامحها الديني ــ حين تخالطت الشعوب والأمم في حرية وتساو لاتكترث بما تعبد, بل تكترث بما تنجز, وما تفعل, وما تقدم من منفعة للأجيال القادمة من علم وتكنولوجيا, وأفكار تخرج بهم من حمأة الصراعات الدينية إلى رحابة المدينية مطلب الرسول الكريم الأساسي.
في سورية الآن حالة ثورية, وهي بكل المقاييس ثورة اجتماعية ذات مطالب سياسية, وهي ثورة منسجمة مع الثورة المحمدية في جذرها والتي كان منطلقها الخروج بالأعراب من بداوتهم إلى الحالة المدينية, أي إلى الحالة التي تجعل فيه من القانون ــ الدين هدفا, فكان لابد لهم من الاصطدام مع من أرادوا العودة بالمجتمع الشامي المتحضر إلى البداوة, إلى العشائرية التي سموها مذهبية وطائفية, وليست إلا البداوة والأعرابية بأسوأ حالاتها حيث العشيرة ــ المذهب ــ هي الدين, ولكن القائمين على الحكم بالإضافة إلى أكاديميي الحكم الذين درسوا العقل السوري خلال الخمسين سنة الماضية دراسة معمقة, وأدركوا تاريخية فعالية حكم السماء على الأرض والأرضيين لديهم, فأصروا, و ألحوا على تغيير البوصلة التي توجه المطالبين بحقوقهم السياسية الأرضية المشروعة إلى ما يريدون لها أي أن تكون"السماوية", الأعرابية, وتجاهل الأرضية منها والمدينية فيها, ورغم أن الثوار, وهم من كانوا يعلنون ويعيدون " سلمية ,سلمية " ويكررون " الشعب السوري واحد ", لكن باحثي النظام من سوريين وغير سوريين أصروا على استدعاء السماوية, ولو المزيفة, والمصطنعة في مخابر النظام, فجاؤوا بمتطرفين خرّجتهم مخابر المخابرات تحت اسم النصرة والقاعدة, وصدّروهم فجأة ساحة الإعلام, وبطريقة ما أخذ الثوار ممن لايكرهون أحدا كراهيتهم لمضطهدهم التاريخي, مغلل الطائفية بالعلمانية "البعث", فأخذوا يبحثون عن رموز ينتخون بها, ولما لم يكن لديهم من رموز لم يشوهها الدعائيون البعثيون بادعائها من قبل, فقد لجأوا إلى الرموز الإسلامية يسمون بها كتائبهم وألويتهم, وعندئذ صرخ النظام ودعائيوه في نشوة " يوريكا", لقد وجدت ما كنت أعلنه دائما : الثورة طائفية, إنهم يحاربوننا لأنا مختلفون عنهم طائفيا .
لم تكن بثينة شعبان مخترعة للذرة حين أعلنت أن الثورة السورية هي فعل طائفي, وربما كانت, وكان النظام على حق في ادعائه هذا, فكل محاسبة له على مظالمه السياسية والاقتصادية التي كان يفعلها مدفوعا بتعليمات المعلم كيم إيل سونغ, ومن قبله تشاوشسكو, وهما رجلان ينتميان إلى طائفة كان يجب أن تكون قد انقرضت منذ قرون, إنها طائفة الطغاة دون مرجعية أو محاسبة من الأرض أو من السماء, وهو أمر للحقيقة مغر : اليد المطلقة بلا حساب, والنهب المطلق بلا مراجعة, و...لكن الدفاع ...عن تهور كهذا لابد له من عصبية تلتصق به, وتستميت في الدفاع عنه, وكانت العصبية جاهزة, إنها المذهب المختلف عن مذهب الأكثرية, المذهب المحروم لقرون, والذي يجمعه مع سيد النظام فتات كان يلقيه لهم بين الحين والآخر, فتات ربما كان حقيقيا حينا, وربما كان وهما أحيانا, فهولايكف عن تذكير أبناء الطائفة المظلومة, والتي ستكون الأكثر" ظلما في عهده " بمظلوميتهم التاريخية, وأنه من رفع عنهم الظلم, ثم يطلب إليهم ثمنا لأفضاله هذه التحول من المتصوفة الذين كانوه"والمذهب الجنبلاني مذهب صوفي أساسا"إلى القتلة والجلادين والشبيحة, وبذا يغرقون في بركة الدم معه, أما هو فسيستطيع ركوب طائرته مع المقربين إليه والهرب بعيدا عن المحاسبة, وأما هم المساكين سابقا ولاحقا, فما المصير الذي ينتظرهم ؟. أترى هذا ما يجعلهم ملتصقين بنظام لم ينصفهم يوما, وآخر ما فعله أو سيفعله هو التخلي عنهم ليحاسبوا على جرائم لاتنتمي للعصر!!
عامر جابري
2013-06-30
مقال غاية في الأهمية والدقة ..سوريا ولادة بالعقول يا جماعة
08-أيار-2021
06-شباط-2021 | |
28-تشرين الثاني-2020 | |
22-آب-2020 | |
15-آب-2020 | |
09-أيار-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |