حديث الذكريات- حمص.
عبد الكريم عمرين
خاص ألف
2021-05-22
لم أعد أطيق العمل في دكاننا فالعمل متعب ولاينتهي ولاوقت للراحة, عدا عن أنّني مللت من بعض نماذج البشر, البقالية تعرِّفك على شتى صنوف البشر, أقول شتى ليس في أشكالهم وأعمارهم فحسب, بل في نفسياتهم وطبقاتهم الإجتماعية أيضاً, إن أردت أن تكون عالم نفس فاعمل في بقالية, إن أردت أن تكون ممثلاً, فناناً, أديباً فاعمل في بقالية, إن أردت أن تكتب في علمي الاقتصاد أو الاجتماع, فاعمل في بقالية.. مرّت نماذج كثيرة من البشر في بقاليتنا, البخيل والكريم, الفقير والغني, اللص والمتعفف, الجميل والقبيح, السامي والوضيع, ولأنني أردت الابتعاد عن كل هذه النماذج, فقد قررت أن أعمل في عمل آخر, سأكون حراً من جديد بعد تجربة رحلتي البائسة إلى بيروت, قلت بقي حوالي شهر أو أكثر لافتتاح المدارس, و سأعمل خلال هذا الوقت, اشتغلت حداداً, أو بمعنى أدق عند حداد قرب بيتنا, كان شاباً في حوالي الثلاثين من العمر, قصير القامة, أحمر الشعر والوجه, حين يتكلم مع الناس, الزبائن أو الأصدقاء أو الجيران, كان يتحدث ببطء, وعيناه تتقافز إلى وجوه مستمعيه ليطمأن إن كان حديثه أو قوله قد لقي استحساناً من قبل الآخرين, أما حين يستمع وهو يضع يديه في جيوب بذلة العمل الكحلية المتسخة والمرقعة, فكان فاغر الفم دائماً, جامد قسمات الوجه, أما حين يكون وحيداً في دكانه, فقد كان يجلس على كرسي واطيء من الحديد, صنَّعه بنفسه من بقايا الحديد, فكان هذا الكرسي لوحة حديدية من الغواش, بألف قطعة مختلفة الأنواع والتقطيع.
وقفت قبالته وقلت: عمو بتشغلني عندك؟ حدَّق بي وفغر فاه لبعض الوقت, وكررت سؤالي: عمو بدك شي صانع؟ هز رأسه على طريقة أرسين لوبين حين يكتشف المجرم: أنت ابن أبو هشام جارنا؟ أجبت: إي عمو. قال: ماعرفتني؟ بحياة الرسول ماعرفتني؟ لك أنا جاركم من بيت الحلواني, بالعلامي أنتواا دكانتكم هوني باللفّي, قالها بلهجة حمصية غميقة, المهم: أنت اشتغلت شي بالحدادة من قبل؟ سألني وأجبت: لا والله ياعمو, وتابع: لكن كيف بدك تشتتغل حدَّاد؟ هاي شغلة منيحة, وبدها فهم وذكاء ومعلمية, ثم نهض من كرسيه وأخذ بيدي: طيب تعال لشوف, أول شي اكنس المحل, ليك هاي المقشة بالزاوية, وهاي سطل الزبالة, لشوفك نضايفي؟.
كانت أرض الدكان من بيتون سيء الصب, فكنت ترى الأرض محفرة هنا, أو مائلة قليلاً هناك, ماجعل المكنسة لاتسير سيراً حسناً, هو جلس يراقبني على كرسيه من رصيف دكانه, صرخ: إياك أن ترمي أية قطعة حديد مهما صغرت في الزبالة, كله بيلزم, كله له شغل, ودون أن ألتفت إليه قلت له: حاضر, نفخ صدره وأصدر إلي بتعليمات جديدة: بتقول حاضر معلمي, شووو؟ حاضر معلمي, قولها لشوف, استعذت بالله من الشيطان الرجيم, للحظة أردت أن أن أضرب رأسه بالمكنسة وأغادر, لكن قلت لنفسي: اصبر ياولد, هنا ليس دكان أبيك لتفعل وتأمر على هواك, صرخ وأيقظني من شرودي: شوووو؟ شبك؟ مابتعرف تحكي؟, قلت: لابعرف عمو, صرخ: إي قول حاضر معلمي, يلا لشوف, وقفت أتأمله وأنا أتكيء على مكنسة صنعت كلها من الحديد وبصوت خافت قلت: حاضر.. حاضر معلمي, ولك ارفع صوتك, شو لسانك آكلو القط؟ واقتربت منه, رفعت المكنسة في وجهه غضباً وصرخت: حاضر معلمي. ابتسم ببلاهة ولم يفهم احتجاجي وقال: إي هاه خليك نمر.
مضى النهار وزبائن الحداد من أهل الحي أو من الجوار, هذا لديه كرسي يحتاج إلى نقطتين من اللحام, وذاك أتى بقطعة حديد عتيقة أراد أن يقصها وهكذا, وقبل أن يذهب معلمي إلى الغداء, أمرني أن أفرز قطع الحديد الكثيرة جداً المخبوءة تحت الطاولات, أفرزها وفق تشابهها, حديد الزوايا, الحديد المبسَّط, المبروم, كان عملاً شاقاً بحق, لكنه العمل, العمل هو العمل, جاء معلمي مساء, بعينين منفوختين بعد قيلولة طويلة, أمرني أن أكنس المحل من جديد, قلت له: حاضر, صرخ في وجهي: ولك قلت لك بتقول حاضر معلمي, أنت مابتفهم؟ لك شلون قاعد بالمدرسة مابعرف؟ كيف عم ينجّحوك الأساتذة؟ عم تنجح شحط يعني؟ بغضب عدت إلى مكنسة الحديد, نظفت المحل على عجل لكن بإتقان, وأسندت ظهري إلى طاولة ارتاحت فوقها ملزمة كبيرة, أسندت رأسي إلى الملزمة, كان معلمي يلعب بالنرد مع جاره بائع زيت السيارات, صوت دحرجة النرد, وصياح معلمي وجاره: دوشيش, هبة يك, دوبارة هاهاه, هاي الجولة إلك ياحلواني.. وغفوت لاأعرف كم استغرقت غفوتي. أيقظني معلمي وقد اقترب أذان العشاء: قوم ياولد نايم؟ هيك اللي بدو يشتغل بنام؟ جيل عاطل اللهم عافينا. روح ع داركم, خلص دوامك اليوم, بكرة بكِّر هاه, الساعة الثامنة صباحاً بتكون هون, بتنتظرني لأفتح الدكان, فهمت؟ لم أرد عاد وكرر ماقاله: لك شووو؟ فهمت؟ أجبت وأنا شبه نائم: فهمت معلمي, واستدركت: حاضر معلمي.
في البيت كان استقبال أمي لي, أنا الحداد, رائعاً على طريقتها, صرخت: شو هاد؟ اشلح تبابك قبل ماتفوت, روح اشلحهم بالدهليز, وفوت غسل رجليك لركبتيك وإيديك لكتافكك, ووجهك ورقبتك, أكرم بدي شم ريحة الصابون من جسمك هاه؟ قلت لها: حاضر معلمتي, ضحكت أمي: شووو؟ هي جديدة, بتقول حاضر أمي, حاضر يامو, يلا راح حضر لك غداك وعشائك بين ماتخلص.
هكذا مضى أسبوع كامل عند الحداد, وفي البيت, أنتظره صباحاً في الثامنة عند باب الدكان, يحضر هو في التاسعة أو العاشرة, في اليوم الثاني بعد تنظيف المحل طلب مني أن أقوم بفرز الحديد فرزاً جديداً, فحديد الزوايا, قمت بفرزه من جديد بحسب سماكاته, ثم بحسب أطواله, في اليوم الثالث, فرزت الحديد المُبّسَّط, في اليوم الرابع, الحديد المبروم.... وكل يوم يجب علي أن أكرر كوبليه: حاضر معلمي عشرات المرات حتى تطرب أذن ابن الحلواني, ثم في المساء أغفو على برميل, أو أسند رأسي إلى مقص الحديد الضخم, صوت النرد, وقم روح ع داركم, هيك اللي بدو يشتغل؟ بكرة ع الثامنة هاه...
إلى أن جاء يوم الخميس, قلت أخيراً سآخذ خميسيتي, أجرتي الأسبوعية, لم أغفو مساء كعادتي في مساءاتي كحداد, كان يلعب بالنرد ككل يوم, صرخ: اعملنا كاسة شاي ياولد, على نار بابور الكاز وضعت إبريقاً من الألمنيوم, صنعت الشاي وقدمته له ولجاره بائع الزيوت, كان العشاء قد اقترب, وقفت أمامه بلا حراك بعد أن قمت بصب الشاي, قلت بصوت خفيض: معلمي, لم يرد, وربما لم يسمع, كررتها بصوت أعلى: معلمي, توقف جاره عن اللعب وقال له: شوف شو بدو صانعك يازلمة, بعد أن حرَّك معلمي حجر الطاولة بغضب التفت إلي: شو بدك؟ بدك تروح؟ الله معك؟, لم أتحرك, ولك شبك مهبول أنت؟ ماعم تسمع؟ روح ع داركم, السبت بكّر هاه؟ قلت له: حاضر معلمي بس.. بسسس مشان الجُمعية, أجرتي يعني, ضرب النرد فوق الطاولة والتفت إلي: شو؟ بدك أجرة؟ لك أنت مابتستحي؟ أنت لازم تعطيني أجرة لأني عم علمك صنعة دهب, صحيح جيل مابيفهم وقليل أدب.. لم أعرف ماذا أفعل؟ تعب أسبوع يضيع سدى, أسبوع وأنا أتحمَّل هذا الغبي, أسبوع من التنظيف والفرز والجوع... تمنيت أن ألكمه في فكه, لكن قدمي سارعت إلى الفعل ضربت طاولة النرد إلى الأغلى فصدمت وجهه, وتناثر الحجر والنرد, ووقع معلمي على الأرض بينما جاره استغرق في ضحك مميت, وهكذا قدمت استقالتي له مع عبارة: الله لايوفقك.
وقررت أن أعمل في مهنة أخرى....