"كتاب" البغال للجاحظ
خاص ألف
2013-07-25
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وعلى اسم الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على سيدنا محمد خاصة وعلى أنبيائه عامة.
مقدمة
كان وجه التدبير في جملة القول في البغال أن يكون مضموماً إلى جملة القول في الحافر كله، فيصير الجميع مصحفاً، كسائر مصاحف " كتاب الحيوان " والله المقدر والكافي.
وقد منع من ذلك ما حدث من الهم الشاغل، وعرض من الزمانة، ومن تخاذل الأعضاء، وفساد الأخلاط، وما خالط اللسان من سوء التبيان، والعجز عن الإفصاح، ولن تجتمع هذه العلل في إنسان واحد، فيسلم معها العقل سلامة تامة.
وإذا اجتمع على الناسخ سوء إفهام المملي، مع سوء تفهم المستملي، كان ترك التكلف لتأليف ذلك الكتاب أسلم لصاحبه من تكلف نظمه على جمع كل البال، واستفراغ القوى.
فأما الهمة وتشعب الخواطر المانعة من صحة الفكر، واجتماع البال، فهذا ما لابد من وقوعه.
فليكن العذر منك على حسب الحال، والخيرة فيما صنع الله.
وقد علمنا أن الخيرة مقرونة بالكره، وبالله التوفيق.
***
باب ولع الأشراف بالبغال
نبدأ إن شاء الله، بما وصف الأشراف من شأن البغلة، في حسن سيرتها، وتمام خلقها، والأمور الدالة على السر الذي في جوهرها، وعلى وجوه الارتفاق بها، وعلى تصرفها في منافعها، وعلى خفة مئونتها في التنقل في أمكنتها وأزمنتها، ولم كلف الأشراف بارتباطها، مع كثرة ما يزعمون من عيوبها ولم آثروها على ما هو أدوم طهارة خلق منها وكيف ظهر فضلها مع النقص الذي هو فيها؟ وكيف اغتفروا مكروه ما فيها، لما وجدوا من خصال المحبوب فيها؟ حتى صار الرجل منهم ينشد
العذال فيها كقول السعدي:
أخ لي كأيام الحياة إخاؤه تلون ألواناً على خطوبهــا
إذا عبت منه خصلة فهجرته دعتني إليه خصلة لا أعيبها
ولقد كلف بارتباطها الأشراف. حتى لقب بعضهم من أجل اشتهاره بها برواض البغال، ولقبوا آخر: بعاشق البغل، هذا مع طيب مغارسهم، وكرم نصابهم، ولذلك قال الشاعر:
وتثعلب الرواض بعد مراحه وانسل بين غرارتيه الأعور
وهجاه أيضاً الفرزدق بأمر الحجاج، ففحش عليه، حتى قال:
وأفلت رواض البغال ولم تدع له الخيل من أحراج زوجيه معشرا
وقال لشريف آخر:
ما زلت في الحلبات أسبق ثانياً حتى رميت بعاشق البغل
لو كان شاور ما عبأت بـــــــه يوم الرهان وساعة الحفل
وشاور هذا: رائض كان ببغداد، والشاعر رجل من بني هاشم، ولم يعن بقوله: ما زلت في الحلبات أسبق ثانياً: أنه جاء ثاني اثنين، وإنما ذهب إلى أنه جاء متمهلاً، وقد ثنى من عنانه.
وكتب روح بن عبد الملك بن مروان إلى وكيل له: أبغني بغلة حصاء الذنب، عظيمة المحزم، طويلة العنق، سوطها عنانها، وهواها أمامها.
وكان مسلمة بن عبد الملك يقول: ما ركب الناس مثل بغلة قصيرة العذار، طويلة العنان.
وقال صفوان بن عبد الله بن الأهتم، لعبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن المطلب، وكان ركاباً للبغلة: مالك وهذا المركب الذي لا تدرك عليه الثار، ولا ينجيك يوم الفرار؟ قال: إنها نزلت عن خيلاء الخيل، وارتفعت عن ذلة العير. وخير الأمور أوساطها.
فقال صفوان: إنما نعلمكم فإذا علمتم تعلمنا منكم.
وهو الذي كان يلقب: رواض البغال لحذقه بركوبها ولشغفه بها وحسن قيامه عليها، وكان يقول: أريدها واسعة الجفرة، مندحة السرة، شديدة العكوة بعيدة الخطوة، لينة الظهر، مكربة الرسغ، سفواء جرداء عنقاء، طويلة الأنقاء.
وقال ابن كناسة: سمعت رجلاً يقول: إذا اشتريت بغلة فاشترها طويلة العنق، نجدة في نجائها مشرفة الهادي نجدة في طباعها، ضخمة الجوف نجدة في صبرها.
والعرب تصف الفرس بسعة الجوف. قال الراجز:
غشمشم يعلو الشجر ... ببطنه يعدو الذكر
قال الأصمعي: لم يسبق الحلبة قط أهضم.
وقال يونس: كان النابغة الجعدي أوصف الناس لفرس قال فأنشدت رؤبة قوله:
فإن صدقوا قالوا: جواد مجرب ... ضليع ومن خير الجياد ضليعها
فقال: ما كنت أظن المرهف منها إلا أسرع.
قالوا: ولم يكن رؤبة وأبوه صاحبي خيل.
وقال سليمان بن علي لخالد بن صفوان، ورآه على حمار: ما هذا يا أبا صفوان؟ قال: أصلح الله الأمير، ألا أخبرك عن المطايا؟ قال: بلى. قال: الإبل للحمل والزمل، والبغال للأسفار والأثقال، والخيل للطلب والهرب، والبراذين للجمال والوطاءة وأما الحمير فللدبيب والمرفق.
قالوا: وكانت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بغلة تسمى دلدل، وحمار يسمى يعفور، وفرس يسمى السكب، وله ناقتان العضباء والقصواء.
قالوا: وكان علي بن أبي طالب، رضوان الله عليه، يكثر ركوب بغلة عبد الله بن وهب الشهباء، التي غنمها يوم النهروان.
هذا في قول الشيعة، وأما غيرهم فينكرون أن يكون علي، كرم الله وجهه، يرى أن يغنم شيئاً من أموال أهل الصلاة، كما لم يغنم من أموال أصحاب الجمل.
قال البقطري، ويكنى أبا عثمان، واسمه فهدان: لقي رجل بكر بن عبد الله المزني، فقال له: رأيتك على فرس كريم، ثم رأيتك على غير لئيم، ثم رأيتك قد أدمنت ركوب هذه البغلة! قال: البغال أعدل، وسيرها أقصد.
علي بن المديني قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثني أبي عن أبي إسحاق، قال: حدثني حكيم بن حكيم، عن مسعود بن الحكم، عن أمه قالت: كأني أنظر إلى علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهباء في شعب الأنصار.
ويروى عن عبد الرحمن بن سعد، قال: رأيت عثمان بن عفان رضي الله عنه، على بغلة بيضاء، يضفر لحيته.
ومن حديث الزهري وغيره، عن كثير بن العباس، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين على بغلته الشهباء في حديث طويل في المغازي.
وفي هذا الحديث: فحضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: " الآن حمي الوطيس " .
وهذه كلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يسبقه إليها أحد، وكذلك قوله: " مات حتف أنفه " وكذلك قوله: " كل الصيد في جوف الفرا " وكذلك قوله: " هدنة على دخن " وكذلك قوله: " لا يلسع المؤمن من جحر مرتين " فصارت كلها أمثالاً.
قالوا: وكان ابن أبي عتيق يركب البغال، وكذلك ابن أبي ربيعة وكان هشام بن عبد الملك أكثر الناس ركوباً لها.
وعن أبي الأشهب، عن الحسن قال: قال قوم وعثمان رضي الله عنه محصور: لو بعثتم إلى أم المؤمنين رضي الله عنها فركبت، فلعلهم أن يكفوا فأرسلوا إلى أم حبيبة بنت أبي سفيان، واسمها رملة، فجاءت على بغلة شهباء في محفة. قالوا: من هذه؟ قالوا: أم المؤمنين، أم حبيبة. قالوا: لا - والله - لا تدخل، فردوها.
وقالوا: وقع بين حيين من قريش منازعة، فخرجت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها على بغلة، فلقيها ابن أبي عتيق، فقال: إلى أين جعلت فداك؟ قالت: أصلح بين هذين الحيين. قال: والله ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل، فكيف إذا قيل: يوم البغل! فضحكت وانصرفت.
هذا - حفظك الله - حديث مصنوع، ومن توليد الروائض، فظن الذي ولد هذا الحديث، أنه إذا أضافه إلى ابن أبي عتيق، وجعله نادرة وملحة، أنه سيشيع، ويجري عند الناس مجرى الخبر عن أم حبيبة وصفية. ولو عرف الذي اخترع هذا الحديث طاعة الناس لعائشة رضي الله عنها لما طمع في جواز هذا عنه.
وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: منيت بأربعة: منيت بأشجع الناس يعني الزبير وأجود الناس يعني طلحة وأنض الناس يعني يعلى بن منية وأطوع الناس في الناس، يعني عائشة.
ومن بعد هذا، فأي رئيس قبيل من قبائل قريش كانت تبعث إليه عائشة رضي الله عنها رسولاً فلا يسارع، أو تأمره فلا يطيع، حتى احتاجت أن تركب بنفسها؟ وأي شيء كان قبل الركوب من المراسلة والمراوضة والمدافعة والتقديم والتأخير، حتى اضطرها الأمر إلى الركوب بنفسها؟ وإن شراً يكون بين حيين من أحياء قريش، تفاقم فيه الأمر، حتى احتاجت عائشة - رضي الله عنها إلى الركوب فيه، لعظيم الخطر، مستفيض الذكر، فمن هذا القبيلان؟ ومن أي ضرب كان هذا الشر؟ وفي أي شيء كان؟ وما سببه؟ ومن نطق من جميع رجالات قريش فعصوه وردوا قوله، حتى احتاجت عائشة فيه إلى الركوب؟ ولقد ضربوا قواديم الجمل، فلما برك ومال الهودج صاح الفريقان: أمكم أمكم " .
فأمر عائشة أعظم، وشأنها أجل، عند من يعرف أقدار الرجال والنساء، من أن يجوز مثل هذا الحديث المولد، والشر المجهول، والقبيلتين اللتين لا تعرفان.
والحديث ليس له إسناد، وكيف وابن أبي عتيق شاهد بالمدينة، ولم يعلم بركوبها، ولا بهذا الشر المتفاقم بين هذين القبيلتين؟ ثم ركبت وحدها، ولو ركبت عائشة لما بقي مهاجري ولا أنصاري، ولا أمير ولا قاض إلا ركب؟ فما ظنك بالسوقة والحشوة، وبالدهماء والعامة.
وما هو إلا أن ولد أبو مخنف حديثاً أو الشرقي بن القطامي، أو الكلبي، أو لقيط المحاربي، أو شوكر أو غطاء الملط، أو ابن دأب، أو أبو الحسن المدائني، ثم صوره في كتاب وألقاه في الوراقين، إلا رواه من لا يحصل ولا يتثبت ولا يتوقف، وهؤلاء كلهم يتشيعون.
وكان يونس بن حبيب يقول: يا عجباً للناس، كيف يكتبون عن حماد وهو يصحف ويكذب ويلحن ويكسر.
ومن أراد الأخبار فليأخذها عن مثل قتادة، وأبي عمرو بن العلاء وابن جعدبة، ويونس بن حبيب، وأبي عبيدة، ومسلمة بن محارب، وأبي عاصم النبيل، وأبي عمر الضرير، وخلاد بن يزيد الأرقط، ومحمد بن حفص وهو ابن عائشة الأكبر، وعبيد الله بن محمد وهو ابن عائشة الأصغر، ويأخذها عن أبي اليظان سحيم بن قادم. فإن هؤلاء وأشباههم مأمونون، وأصحاب توق وخوف من الزوائد، وصون لما في أيديهم، وإشفاق على عدالتهم.
ولما خرج قطري بن الفجاءة، أحب أن يجمع إلى رأيه رأي غيره، فدس إلى الأحنف بن قيس رجلاً ليجري ذكره في مجلسه، ويحفظ عنه ما يقول. فلما فعل قال الأحنف: أما إنهم إن حنبوا بنات الصهال، وركبوا بنات النهاق، وأمسوا بأرض وأصبحوا بأرض طال أمرهم.
قالوا: فلا نرى صاحب الحرب يستغني عن البغال، كما لا نرى صاحب السلم يستغني عنها، ونرى صاحب السفر فيها كصاحب الحضر.
قال الأصمعي عن جرير بن حازم عن الزبير بن الخريت عن أبي لبيد واسمه لمازة بن زبار قال: مر بنا زياد في سكتنا هذه وهو على بغلة قد لوى رسنها على عنقها تحت اللجام، ومعه رجل أو رجلان.
هذا وزياد على العراق أجمع.
قال: وتهيأ الناس لخالد بن عبد الله مقدمه من الشأم، وركب ابن هبيرة بغلته، ووقف له في المضيق. فلما طلع خالد غمز ابن هبيرة بغلته غمزة فإذا ابن هبيرة بينه وبين الذي كان يسايره، فقال: كيف أنت يا أبا الهيثم؟ وليت منا أمراً تولى الله أحسنه، ولك منا المكافأة! فقال له خالد: فررت مني فرار العبد! فقال عمر: حين نمت عن حفظي نوم الأمة! فانتهى الخبر إلى هشام، فقال: قاتله الله.
قالوا: والهداية النفيسة، والطرف العجيبة، والكرامات الثمينة، التي أهدتها بلقيس بنت ذي شرح إلى سليمان بن داود، هي الهدايا التي أخبر الله عن سليمان بن داود. عليهما السلام أنه قال: " بل أنتم بهديتكم تفرحون " ولم تكن الملكة تبتهج بتلك الهدايا وهي إلى سليمان وسليمان هو الذي أعطاه الله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده إلا وهي هدايا شريفة.
قالوا: فهذه الهدايا الشريفة إنما كانت على البغال الشهب.
وكان ممن يركبها كثيراً إسماعيل بن الأشعث وعبد الرحمن بن محمد الأشعث.
قال: وقال حوشب بن يزيد بن رويم لعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث: دعني أهيج عليك عمك أبا الفضل إسماعيل بن الأشعث.
قال: لا تعرضني له، فإنه ضعيف، فأشفق عليه. فقال: يا أبا الفضل، إن ابن أخيك زعم أن بغلتك جلالة. قال: لكن بغلته لو أفلتت ما تركت بيت زانية ولا بيت خمار، إلا وقفت عليه! قال عبد الرحمن: ما كان أغنانا عما أظهرت لنا من ضعف شيخنا.
ولما وفدت عائشة بنت طلحة على عبد الملك بن مروان، وأرادت الحج، حملها وأحشامها على ستين بغلاً من بغال الملوك فقال عروة بن الزبير:
يا عيش يا ذات البغال الستين ... أكل عام هكذا تحجين
وكان مروان أبو السمط يركب بغلة له بالبصرة، لا يكاد يفارقها. فقال الجماز وهو يهجوه:
اجتمع الناس وصاحوا: الحريق ... بباب عثمان وسوق الرقيق
فجاء مروان على بغلة ... فأنشد الشعر فأطفأ الحريق
يرمي شعره بالبرد. وكان حسده حين سمع قائلاً يقول: لم يصب شاعر قط ما أصاب أبو السمط، ولا أصاب حجام ما أصاب أبو حرملة.
وقد هجاه أيضاً فقال:
يا أبا السمط، حزيرا ... ن وتموز وآب
كن لنا منها مجيراً ... لك في ذاك ثواب
بشعير يذهب الح ... ر ويهنينا الشراب
وقال ابن سيرين لرجل: ما فعلت بغلتك؟ قال: بعتها. قال: ولم؟ قال: لمؤونتها. قال: أفتراها خلفت رزقها عندك؟.
وذكر يوسف بن خالد السمتي، عن مجالد، فيما أحسب، قال: بال بغلي فتنحيت. فقال الشعبي: ما عليك لو أصابك.
قال: وكانت لابن سيرين بغلتان: بغلة لخاصة نفسه، وبغلة للعارية.
وكتب سليمان بن هشام إلى أبيه: إن بغلتي قد عجزت، فإن رأيت أن تأمر لي بدابة فافعل. فكتب إليه: قد فهمت كتابك، وما ذكرت من ضعف بغلتك، وما ذاك إلا لقلة تعهدك، فتفقدها، وأحسن القيام عليها. ويرى أمير المؤمنين في ذلك رأيه.
***
باب نوادر البغال
ومن النوادر، قال: ادعى رجل على الهيثم بن مظهر الفأفاء أنه سرق بغلاً، فقال له الوالي: ما يقول؟ قال: ما أعرف مما يقول شيئاً! قال: أصلحك الله، إنه سكران فاستنكهه. قال: لأي شيء يستنكهني؟ أكلت البغل؟
وقال آخر يهجو رجلاً:
يا حابس الروث في أعفاج بغلته شحاً على الحب من لقط العصافير
وهذا شبيه بقول الشاعر :
رأيت الخبز عز لديك حتى حسبت الخبز في جو السحاب
وما روحتنا لتذب عــــــنا ولكن خفت مرزئة الذبـــــاب
وهذا ليس من الهجاء الموجع، وإنما الهجاء ما يكون في الناس مثلة.
قالوا لحمدان أبي سهل اللحياني: علمت أن برذون صاحب الحبس نفق؟ قال: والهفاه! كنت أرجو أن يكسد فيخسر، فإذا هو قد باع وربح. فظن أن قوله: قد نفق، من نفاق السلعة.
ومثل هذا وليس من ذكر البغال في شيء، ما سمع رجل رجلاً ينشد قوله:
وكان أخلائي يقولون مرحباً ... فلما رأوني معدماً مات مرحب
فقال: مرحب لم يمت، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام! ونظر أبو الحارث جمين إلى أتان وحش ينزى عليها حمار أهلي، فأنشد :
لو بأتانين جاء يخطبها رمل ما أنف خاطب بدم
ونظر إلى برذون يستقى عليه الماء، فأنشد:
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ففي صالح الأعمال نفسك فاجعل
هذا لو هملج لم يصبه ما أصابه.
قالوا: وكان لأبي الحارث بغل قطوف، فلما أعياه استقى عليه الماء، فرآه يوماً في الطريق، وعليه مزادة ثقيلة، وهو يمشي تحتها مشياً وطيئاً، فقال: لو مشي تحت الخفيف كما يمشي تحت الثقيل، وكان الإنسان أحب إليه من الراوية، ربح هو الكرامة، وربحت أنا الوطاءة.
قال: ونظر أعرابي إلى بغل سقاء، وقد تفاج ليبول، فاستحثه بالمقرعة، وقطع عليه البول. فقال الأعرابي: إنها إحدى الغوائل، قطع الله منك الوتين.
قال إبراهيم بن داحة: كان في طريق الموصل سكة بريد، وبقرب السكة مسجد ومستراح للمسافر، وفي تلك السكة بغل لا يرام ولا يمانع، وكان إذا انفلت من قيده وسلسلته، وقد عاين برذوناً أو بغلاً أو فرساً، اغتصبه نفسه، واقتسره اقتساراً، فلا ينزع عنه حتى يكومه، وربما قتله، لعظم جردانه، وإن كان عليه راكبه صرعه، وربما قتله، حتى جاء شيخ أعرابي على فرس له أعرابي أعجف بادي الحراقيف، حتى نزل عن فرسه على دكان ذلك المسجد، وعلق المخلاة في رأسه وحل حزامه، وترك عليه سرجه، وأخذ مخلاته، وجاء البغل قد أدلى، يريد أن يركب فرس الأعرابي، فجمع رجليه، فواتر على جبهة البغل، وعلى حجاج عينيه، فرمحه خمس رمحات أو ستاً متواليات، كلها يقع حافراً رجليه معاً، فنكص البغل شيئاً يسيراً، ثم عاوده، فنثر على وجهه وحجاج عينيه مثل ذلك العدد، في أسرع من اللحظ، وفرس الأعرابي في ذلك كله واقف لا يتحلحل، والأعرابي قد ضحك حتى استلقى فولى البغل يريد السكة، فشد عليه فرس الأعرابي من بين يديه فلحقه الفرس فعضضه وكامه الفرس ورجع الفرس إلى موضعه ودخل البغل السكة فكبروا عليه، ونثروا عليه الروث اليابس وشمت به جميع الساسة وافتروا عليه، فترك البغل ذلك الخلق وقال الأعرابي وكأنه يخاطب البغل :
ظننت فريس الشيخ يا بغل نهزة فجئت مدلاً كالهزبر تطاوله
فوليت مفلولاً وطابقت مذعناً كما طابقت للبغل يوماً حلائله
قال: وقدموا إلى سليمان بن عبد الملك جدياً سميناً، فقال لأبي السرايا وكان من مجانين الأعراب كل من شحم كليته فإنه يزيد في الدماغ. قال: لو كان الأكل من كلي الجدي يزيد في الدماغ كان رأس الأمير أعظم من رأس البغل.
وإنما قال الأمير لأن سليمان كان يومئذ ولي عهد.
وقد غلط من زعم أنهم كانوا وضعوا قدام سليمان جدياً وإنما كان يأكل ملوكهم الحملان لأنها أطيب ويسمونها: العماريس.
ولما قدم عبد الملك بالكوفة وضعوا بين يديه جدياً قال: فهلاً جعلتموه عمروساً؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، تلك عماريس الشام، فأما العراق فجداؤها أطيب وأكرم.
وتفاخر ناس بكبر الأيور، وشيخ جالس لا يخوض معهم فلما أكثروا قال الشيخ: لو كان كبر الأيور مجداً كان البغل من بني هاشم.
وشهد مزبد المديني عند قاضي المدينة بشهادة، وكان ذلك القاضي مفرط الحدة، شديد البطش، سريع الطيرة، فقال له القاضي: أعلي تجترئ وعندي تشهد؟ جرا برجليه وألقياه تحت البغلة! فلما أمعنا به نحو البغلة، التفت إلى القاضي فقال: أصلحك الله كيف خلقها؟ فضحك وخلى سبيله.
وكان نميلة بن عكاشة النميري متكايساً، فدخل دار بلال بن أبي بردة، فرأى ثوراً مجللاً، فقال: سبحان الله! ما أفرهها من بغلة لولا أن حوافرها مشقوقة.
قالوا: ورأى الطائف بالليل شخصاً عظيماً قد انخنس عنه، فشد نحوه، فإذا حمدوية المخنث قد جلس كأنه يخرأ، ولم يكن به خراء، وكان قد جلس على روث، فقال له: أنت أي شيء تصنع هاهنا هذه الساعة؟ قال: خرجت أخرأ. فنظروا فإذا تحته روثة قالوا: مالك، صرت بغلاً؟ قال: هذا زيادة عليكم كل إنسان يخرأ ما يشاء.
قال أبو الحسن: نظر جحا إلى رجل بين يديه يسير على بغلة، فقال للرجل: الطريق يا حمصي! فقال الرجل: ما يدريك أني حمصي؟ قال: رأيت حر بغلتك، فإذا هو يشبه الحاء، ورأيت فقحتها فرأيتها تشبه الميم ورأيت ذنبها فإذا هو يشبه الصاد، فقلت: إنك حمصي.
قالوا: وابتاع عبادي بغلاً، فمر بالحي، فقالوا: بارك الله لك! قال: لا تقولوا هكذا. فكيف نقول؟ قال: قولوا: لا بارك الله لك فيه! قالوا: سبحان الله! أيقول أحد لأحد له فيه رأي؟ قال: قولوا كما أقول لكم! قالوا: لا بارك الله لك فيه! قال: وقولوا: وأعضك ببظر أمك قالوا: نعم قال: إن أعرتكموه أبداً!.
وهذا يشبه حديث سندية الطحانة، وكانت تطحن بالنهار، وتؤدي الغلة وتخدم أهلها بالليل، فانكسفت الشمس يوماً، فقالت لها مولاتها: اذهبي يا شهدة، أنت حرة لوجه الله! قالت: أليس قد صرت حرة! ثم عدت من بين يديها، فقامت على باب الدار رافعة صوتها تقول: من قال لي زانية فهي زانية، من قال لي لصة فهي لصة، من قال لي قوادة فهي قوادة، هاتي الآن رحى لك!.
وأخبرني أبو الزبير كاتب محمد بن حسان قال: وقف الهيثم بن مطهر الفأفاء على باب الخيزران ينتظر رجلاً يخرج من عندها فبعث إليه عمر الكلوذاني: قد نهينا أن نجعل ظهور دوابنا مجالس، فانزل عن ظهر دابتك، فالأرض أحمل لثقلك. فقال للرسول: إني أنتظر رجلاً قد حان خروجه، فبعث إليه: أن أنزل عن دابتك، فإذا خرج صاحبك فاركب والحق به. فقال للرسول: أعلمه أني أعرج، وأنا مع هذا رجل مثقل باللحم، ولا آمن أن يسبقني الرجل سبقاً بعيداً، فلا ألحقه. فرد الرسول، فقال: يقول لك: إن أنت نزلت، وإلا أنزلناك صاغراً. فقال الهيثم: قل له: إن كنت إنما تنظر للبغل، فهو حبيس في سبيل الله، إن أنزلتني عنه، إن أقضمته حبة شعير شهراً، فسله الآن: أيما أحب إليه: ركوبي له ساعة، أو حرمان الشعير شهراً! فلما جاءته الرسالة قال: ويلكم! هذا شيطان! دعوه في لعنة الله.
قال: ونظر إليه جعفر والفضل ابنا يحيى، وهو واقف في ظل قصر من قصور الشماسية، فنظرا إلى شيخ عجيب الخلقة، وإذا تحته بغل أعجف، يكاد يسقط هزالاً وضعفاً، فقالا له: يا شيخ لو تعالج بغلك هذا حتى يعود سميناً فارهاً في أيام يسيرة، بأيسر مئونة؟ قال: بأي شيء أعالجه؟ قال: تأخذ عشرة أمناء مسك وعنبر، وتعجنها بعشرة أمناء من بان الغالية، وتطليه به طلية واحدة. فتجافى عن سرجه فولى وجهيهما ظهره، ثم ضرط ضرطة صلبة، قالا ما هذا؟ قال: هذا لكما على الصفة، ولو قد أنجع الدواء خرينا عليكم.
وحدثونا عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، قال: كان رجل عياب فأبصر بغلة تحت شريح، فقال: أبا أمية، إن بغلتك لفارهة! قال: إنها إذا ربضت لم تقم حتى تبعث. قال: لا خير فيها إذن!.
قال أبو الحسن: كان هشام بن عبد الملك يوماً على باب يزيد بن عبد الملك ينظر إلى بغال تعرض، فنظر إلى بغل منها لم ير الناس مثله في تمام خلق، وطهارة خلق ولين سيرة، وحسن صورة، فقال: ما يصنع أمير المؤمنين بهذه الدواب كلها؟ لو أن رجلاً اجتزأ بهذا البغل وحده، لكان مكتفياً.
قال فلما ولي هشام، اتخذ البراذين البخارية، والبغال الفرهة، فأذكره رجل ذلك الكلام، فقال: وأنا على الرأي الأول، ولكن تأتينا أشياء نحسد الناس عليها..
قال: وكان عند محمد بن سليمان رجل مغفل فأنشد رجزاً قيل في عمر بن هبيرة:
جاءت به معتجراً ببرده سفواء تردى بنسيج وحده
تقدح قيس كلها بزنده.
فقال الشيخ: بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم لأنه ظن حين سمع بذكر البرد والبغلة أنه النبي صلى الله عليه وسلم.
وإنما هذا كقول أبي دهبل:
تحمله الناقة الأدماء معتجراً بالبرد كالبدر جلى ليلة الظلم
ومثل قول ابن المولى لجعفر بن سليمان :
أوحشت الجماء من جعفر فجانباً عين أبي مشعر
لما غدا تحمله بغلــــــة معتجراً كالقمر الأزهر
ولما قال المديني وهو بالحجاز وذكر أبا البختري وهو قاض ببغداد وإنما ضرب به المثل ولم تكن قصيدته موجهة إليه فلما سمع قوله أبو البختري :
لو كنت تطلب شأو الكرام فعلت فعل أبي البختري
تتبع إخوانه في البلاد ... فأغنى المقل عن المكثر
قال: يا غلام علي بأربعمائة درهم، وتخت فيه أربعون ثوباً، وبغلة فأعطاه أو فبعث بها إليه.
وقال بعض المحارفين الفقراء أو الطياب الشعراء :
أتراني أقول يوماً من الدهر ... لبعض التجار أفسدت مالي
أو تراني أقول: من أين جاءت ... لدوابي بذا الشعير جمالي
أو تراني أقول: يا قهرماني ... سل غلامي موفقاً عن بغالي
أو تراني أمر فوق رواق ... لي عال في مجلس لي عالي
أسرجوا لي، فيسرجون دوابي ... فأقول: انزعوا السروج، بدالي
هذياناً كما ترى وفضولاً ... دائم النوك من عظيم المحال
ومن هذا الباب قول الآخر:
أخي قد أوب الحجيج وما ... أملك لا بغلة ولا فرساً
الله بيني وبين كل أخ ... يقول:أجدم وقائل: عدسا
وقال رجل من بني شيبان واقترض فندم بعد أن ركب البغال المقصصة بدلاً من النجائب والخيل:
بدلت بعد نجائبي وركائبي ... أعواد سرج مقصص هملاج
ووقعت في عدس كأني لم أزل ... شنقاً لقولي للنجائب: عاج
والله لولا أن أضيع غزوتي ... لرجعت منقلباً لها أدراجي
وقال الحسن بن هانئ:
غنيت بمركب البرذون حتى ... أطاح الكيس إغلاء الشعير
فحلت إلى البغال فأعوزتني ... وحلت من البغال إلى الحمير
فأعيتني الحمير فصرت أمشي ... أزجي المشي كالرجل الكسير
وما بي والحميد، الله كسر ... ولكن فقد حملان الأمـــــــــــير
وقال ربيعة الرقي:
وبلائي أن أمي ... أثقلتنــي بـــــــــإزاري
فإذا ما قمت أمشي ... هم خصري بانبــتار
كل ذا أحمل وحدي ... أين من أمي فراري
أمتا هذا وربي ... حمل برذون بخـــــاري
أمتا لست ببرذو ... ن ولا بغل مكـــــاري
وقال الحكم بن عبدل:
مررت على بغل تزفك تسعة ... كأنك ديك مائل الرأس أعور
تخايلت في جنية لتروعنا ... وأنت إلى وجه يزينك أفــــــــقر
وقال حنظلة بن عرادة:
تخيرت الملوك فحط رحلي ... إلى سلم ولم يخط اختياري
يقولون اعتذر من حب سلمى ... إذن لا يقبل الله اعتذاري
إذا مرت بجسركم بغالي ... فقوموا فانظروا في شأن داري
وقوموا ظاملين فهدموها ... والقوا من صحيفتكم صغاري
وحمل أبو دفافة بن سعيد بن سلم دعبلاً الشاعر على بغل فوجده زعم ذا عيوب فكتب إليه.
حملت على أعرج حارن ... فلا للركوب ولا للثمن
حملت على زمن شاعراً ... فسوف تكافا بشكر زمن
وخرج أبو هرمة الفزاري من منزله على بغلة فارهة، فشرب بكل ما معه واحتاج فبادل بالبغلة حمارة وقال:
خرجت ببغلة من عند أهلي ... فجئت بها وقد صارت حماره
فمن يك سائلاً عني فإني ... أنا الغاوي خليع بنــــــــي فزاره
وبادل محمد بن الحارث قينة ببرذون فألفاه صديق له صلاة الغداة وقد ركبه فقال:
عجت بالساباط يوماً ... فإذا القينة تلجم
قينة كانت تغني ... مسخت برذوناً ادهم
وقال الآخر:
يا فتح لو كنت ذاخراً أجرره ... تحتي سليم الشظا من نسل حلاب
أو كنت ذا بغلة سفواء ناجية ... وشاكريين لم أحبس عن الباب
أزري بنا أننا قلت دراهمنا ... والفقر يزري بآداب وأحـــــساب
قال أبو العتاهية في عبد الله بن معن بن زائدة:
أخت بني شيبان مرت بنا ... ممشوطة كوراً على بغل
تكنى أبا الفضل فيا من رأى ... جارية تكنى أبا الفضل
وأشعار ذكروا فيها البغال بالتهجين، ولم يقصدوا إلى أعضائها بشيء ومنها ما أرادوا بها من تحياز ركوبها قال بعضهم في هجاء الموالي:
تأملت أسواق العراق فلم أجد ... دكاكينها إلا عليها الموالــــــــــيا
جلوساً عليها ينفضون لحاهم ... كما نفضت عجف البغال المخاليا
وقال طارق بن أثال الطائي:
ما إن يزال ببغداد يزاحمنا ... على البراذين أمثال البراذيـــــــــن
أعطاهم الله أموالاً ومنزلة ... من الملوك بلا عقل ولا ديــــــــــن
ما شئت من بغلة سفواء نا جية ... ومن ثياب وقول غير موزون
وقال بعضهم في تشبيه الشيء بالشيء وهذا شعر ينبغي أن يحفظ:
وهيج صوت الناعجات عشية ... نوائح أمثال البغال النــــــــــــــــــوافر
يمخطن أطراف الأنوف حواسراً ... يظاهرن بالسوءات هدل المــــشافر
بكى الشجو ما دون اللهى من حلوقها ... ولم يبك شجواً ما وراء الحناجر
وما سمعنا في صفة النوائح المستأجرات، وفي اللواتي ينتحلن الحزن وهن خليات بال، بأحسن من هذا الشعر.
وهاهنا باب من الشعر حسن، وليس من هذا بعينه ولكنه قد يشاكله من باب. قال الشاعر :
ألا لا يبالي من جر فضله ... كما لا تبالي مهرة من يقودها
وقال آخر:
لا يحفل البرد من أبلى حواشيه ... ولا تبالي على من راحت الإبل
وقال آخر :
أهينوا مطاياكم فإني رأيته ... يهون على البرذون موت الفتى الندب
وقال آخر:
وإني لأرثي للكريم إذا غدا ... إلى طمع عند اللئيم يطالبـــــــــه
وأرثي له من مجلس عند بابه ... كمرثيتي للطرف والعلج راكبه
وقال مسلم بن الوليد في برذون ابن أبي أمية:
قل لابن أمي: لا تكن جازعا ... لا يرجع البرذون بالليت
طأمن من جأشك فقدانه ... وكنت فيه عالي الصــــــوت
وكنت لا تنزل عن ظهره ... ولو من الحش إلى البيـــت
ما مات من سقم ولكنه ... مات من الشوق إلى الــــموت
وأنشد:
بكت عيني لبرذوني السمندي ... بكاء أخي محافظة وود
وكان لنا حمولة كل زق ... وكان لكل سكبان مــــــؤدي
***
باب طباع البغال
قال: ركب صخر بن عثمان بغلاً، ليبكر عليه في حاجة، فقال له عثمان بن الحكم، وهو سيد ثقيف في عصره: إن كنت تركبه على أنه عدو فاركبه، وإلا فدعه.
وقال أبو الحسين النخاس واسمه الحارث وهو الذي يقال له مؤمن آل فرعون إنما يجمح البرذون ليصرع راكبه فقط، ألا تراه إذا سقط عنه، أو رمى بنفسه عن ظهره، وقف البرذون، إلا برذوناً واحداً، فأني رأيته شد عليه بعد أن ألقاه، يكدمه ويرمحه، وكان الناس يشدون عليه، فيتنحي عنه ويشد عليهم، فإذا أجفلوا من بين يديه رجع إليه يكدمه ويرمحه.
وقال من يذم البغال: البغل كثير التلون، به يضرب المثل، وهو مع هذا قتال لصاحبه. قال ابن حازم الباهلي:
مالي رأيتك لا تدو ... م على المودة للرجال
متبرماً أبداً بمن ... آخيت ودك في ســـــفال
خلق جديد كل يو ... م مثل أخلاق البغــــال
وقال آخر في تلون أخلاقه:
ومتى سبرت أبا العلاء وجدته ... متلوناً كتلون البغل
قال آخر:
يزيد تزري به عندي سجيته ... كالبغل، لا شاعر فحل ولا راوي
وقال عثمان بن الحكم: كان عندنا في الحي فتى ولدته امرأة مذكرة، لرجل مؤنث: فما رأيت ولا سمعت بخلق ردي من أخلاق البغال إلا وقد رأيته فيه.
وقال آخر:
الشؤم منها في ذوات الحجل ... وغرة تصدع جمع الشمل
وهو خلاف الفرس الهبل ... وكل طرف ذائل رفــــــــــل
قد حذر الناس أذاه قبلي ... وعددوا كل قتيل بـــــــــــــغل
من ناشىء غر وكهل جزل ... وسائس ورائض مـــــــدل
وكلهم قال بقول عدل ... وليس يحصى عيبه ذو عـــــــقل
إلا الذي يعلم عد الرمل ... منهم أبو الفضل أخي وشــكلي
مجرح الوجه كسير الرجل ... ومزيد وجابر المستمـــــلي
كان معبد بن أخضر المازني وهو أخو عباد بن أخضر قاتل أبي بلال الخارجي عند سعيد بن عبد الرحمن بن عتاب فخرج من عنده يوماً على بغل فصرعه، وكسر سرجه، فركبه عرياً وانصرف إلى أهله، فقال:
أما والله يا بن أبي سعيد ... جزاك الله شرا من عمـــــــيد
فلو في دار طلحة دق سرجي ... لأداني على سرج جديد
فبعث إليه طلحة بسرج.
وأما ربيعة بن أبي الصلت، فقتله بغل على باب عبد الله بن عباس ومن ولده كلدة بن ربيعة وكان شريفاً شاعراً.
وممن قتلته بغلته، خالد بن عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وذاك أن خالداً كان بالسقيا فقال: هذا يوم الجمعة، لئن لم أجمع مع أمير المؤمنين إنها للسوءة السوءى! فركب بغلة له لا تساير، فسار سبعين ميلاً فأتى المدينة في وقت الصلاة: فخر ميتاً ونجت البغلة.
وممن قتلته البغال، المنذر بن الزبير، وكان يكنى أبا عثمان، حمل على أهل الشام وهو على بغلة وردة بعد أن ألح عليه عبد الله بن الزبير يذمره، فلما سمعت البغلة قعقعة السلاح نفرت، فتوقلت به في الجبل حتى أخرجته من حدود أصحابه، فاتبعه أهل الشام، فناداه عبد الله: انج أبا عثمان، فداك أبي وأمي! فعثرت البغلة، ولحقه أهل الشام، فقتلوه. ولذلك قال يزيد بن مفرغ في هجائه لعبيد الله بن زياد :
لا بن الزبير غداة يمر منذراً ... أولى بغاية كل يوم دفــاع
وأحق بالصبر الجميل من امرئ ... كز أنامله قصير الباع
قال: وأردف عباساً المشوق الشاعر، بعض الفتيان خلفه على بغلة له، ووعده أن يهب له ويكسوه، وحزن البغل، فسقط الرجل فاندقت فخذاه، فقال المشوق:
ليت ما أمسى برجلي ... ك برجلي وبكفي
ليس للبغلة ذنب ... إنما الذنب لحرفـــــــي
وممن صرعته بغلته: البردخت الشاعر، واسمه علي بن خالد وهو الذي كان هجا جرير بن عطية، فقال جرير: من هذا الهاجي؟ قالوا: البردخت. قال: وأي شيء البردخت؟ قالوا: الفارغ. قال: فلست أول من صير لهذا شغلاً.
وكان زيد الضبي هو الذي حمله على ذلك البغل الذي صرعه فقال:
أقول للبغل لما كاد يقتلني ... لا بارك الله في زيد وما وهبــــــــــا
أعطاني الحتف لما جئت سائله ... وأمسك الفضة البيضاء والذهبا
وهو الذي كان هجا زيداً بأنه حديث الغنى، وأتاه وهو أمير في يوم حفله، فقال:
ولست مسلماً ما دمت حياً ... على زيد بتسليم الأمير
فقال زيد: لا أبالي والله! فقال هو :
أتذكر إذ لحافك جلد شاة ... وإذ نعلاك من جلد البعير
قال: إي والله! قال :
فسبحان الذي أعطاك ملكاً ... وعلمك الجلوس على السرير
قال زيد: نعم، سبحانه! فخرج وعليه فضل.
قالوا: ونفر بغل كان تحت محمد بن هارون، أخي سهل بن هارون البليغ الكاتب الشاعر.
قالوا: وإنما كان البغل ارتد فزعاً فقطع من جوفه بعض العلائق، فمات على ظهره، في وسط مربعة باب عثمان نهاراً.
وقد تصدم الدابة الدابة، فيموت الراكبان والمركوبان.
وخبرني سعيد بن أبي مالك أن غلاماً كان لبعض أهل القطيعة ينيك بغلة لمولاه، وأنها في بعض الأيام وقد أدعم فيها، فاستزادته، فتأخرت وتأخر، حتى أسندته إلى زاوية من الإصطبل، فضغطته حتى مات. ودخل بعض الغلمان لبعض الحوائج، فرأى الباب عليهما مغلقاً، فنادى باسم الغلام فلم يجبه، فقلع الباب، فإذا الغلام مسند إلى الزاوية وقد مات، وهي تضغطه، فصاح فتنحت وسقط الغلام ميتاً.
ويقولون: إنها تفضح السائس الذي يكومها، لأنها تتلمظ إذا عاينته، ولا تفعل ذلك بغيره، فهي إما أن تقتل، وإما أن تفضح.
وأنشدوا لقيس بن يزيد، في هجائه ابن أبي سبرة حين رماه بنيك بغلته قال:
نبئت بغلتك التي أتلدتها ... لا تستقر لديك ما لم تـــــــــــــسفد
تدنو بمؤخرها إليك إذا رأت ... أن قد علوت لها جدار المذود
قالوا: ولما أخذ فتيان من فتيان بني كليب الفرزدق، وأتوه بأتان، وقالوا: والله لتنزون عليها، كما رميت عطية بن الخطفي، أو لنقتلنك! قال: إن كان فهاتوا الصخرة التي كان يقوم عليها إذا ناكها، حتى أنالها! فضحكوا جميعاً من ظرفه، وخلوا سبيله.
وممن قتلته البغال: زيد بن حلق الرائض، وولد حلق معروفون عندنا بالبصرة.
وممن قتلت البغال: محمد بن سعيد بن حازم المازني، وعمرو ابن هداب أحد عمومته، قتله بغل بتستر.
ومات المهلب بن أبي صفرة على ظهر دابته بالطالقان.
ومات إياس بن هبيرة العبشمي صاحب الحمالة، على ظهر حمار. ولم يمت على ظهر حمار كريم. وكانت بغلة أعين المتطبب تصرع، وكان أعين يصرع، فصرعا مرة معاً قبالة دور بني السمهري، فقام رجال منهم فأدخلوه الدار، فنوموه على فراش، ووكلوا بالبغلة من أدخلها الإصطبل، فلما أفاق وفتح عينيه أنكر موضعه، فقالوا: إنما أنت في دار بني السمهري، وهم إخوتك وأهلك. فقال: كيف أشكركم وأنتم أعد وأيسر؟ ولكن أعلمكم بعض ما لاغنى بكم عنه: إذا أتى أحدكم الغائط فليمتسح بشقق القصب، فإنه إن كان هناك شيء من هذه الأورام حلقة واستأصله على الأيام وإن لم يكن هناك شيء لم تعرض له هذه العلة ما دام يستعمل القصب. وإن خرجت على أحد منكم بثرة فلا يحكها، وإن دغدغته ووجد فيها أكالاً، فإن ذلك الحك ربما أنفر ذلك المكان، وجذب إلى مكانه من الفاسد ما يصير به بثرة، فإن حك البثرة فربما صارت خراجاً.
وقال لي كم شئت من أصحاب القصب والبواري: نحن لا تعترينا البواسير لطول قعودنا على القصب والبواري.
***
نهاية الجزء الأول
ألف / خاص ألف /
يتبع ...
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |