الفيلسوف شاعرا نيتشة نموذجا / خيري منصور
2013-07-29
لم تكن الفلسفة ذات ابداع في التاريخ خارج مدار الشعر في اكثر أبعاده صفاء وتأملا وأقرب الأمثلة الى عصرنا ما قدمه الفيلسوف مارتن هايدجر من خلال اعمال الشاعرين هولدرلن و ريلكة، خصوصا وان ريلكة يصنّف مدرسيا على انه ميتافيزيقي، وشعره تأملي يبدأ بسؤال الوجود ولا ينتهي عند سؤال العدم، فالشاعر في هذا المثال يلهم الفيلسوف لكن بطريقته غير المباشرة وبإيحاءاته التي تختزل كثافة الفكرة بالصورة .
اما الفيلسوف الألماني هيجل فرغم ان شهرته في الأوساط غير المتخصصة فلسفية الا أنه عالم جمال بامتياز وكتب عن الشعر والتصوير والنّحت تحليلات عميقة، وهو ايضا شاعر ، له قصائد تعبّر عن رؤاه في الكون والتاريخ، لكن كتاباته في الفلسفة والديالكتيك صرفت الانتباه عن شعريته رغم رصانتها، لكن ثقافتنا العربية التي هيمن عليها لزمن طويل تصور غنائي للعالم عزلت الشعرية عن مجالات المعرفة وما يؤكد ذلك التصنيف الاتباعي والأفقي لشاعر كأبي العلاء المعري، فقد وُصف بأنه فيلسوف الشعراء واحيانا شاعر الفلاسفة وكلا الوصفين لا صلة له بواقع الابداع الا اذا سلّمنا بأن هناك تضاريس ثابتة وخرائط، فالمعري شاعر لكن شعريته تمرّدت على مجرد الغناء، واقتاده سؤال الوجود الى تخوم كانت شبه محرّمة، على الشعراء وحين قيل انه متشائم جاء هذا القول ليفتضح رؤى قاصرة للحياة، لأن ثنائية البشير والنذير في شعر ابي العلاء هي من صميم هذا العالم ومن صلب الشرط البشري .
وقد تضرر الشعر العربي من تلك التضاريس التي عزلت الجبال عن الأنهار والماء عن الصحراء، بحيث اصبح لقب شاعر مهددا بالحذف اذا اتجه من يملكه الى آفاق معرفية، ومن الامثلة المعاصرة أدونيس الذي رأى بعض الاتباعيين والنقاد السكولائيين في اطروحاته الفكرية تهديدا لشعريته، رغم ان ما حدث هو العكس، فقد غذّتها وعمقت ابعادها، وأضافت الى الصورة الشعرية سواء كانت بصرية او سمعية بعدا فكريا هو شحنة وليس فكرة معلقة على القصيدة .
وقد يكون للقب شاعر في موروثنا الثقافي والاجتماعي سحر وجاذبية جعلت بعض الشعراء يحرصون على تأطير أنفسهم وأنشطتهم الذهنية في مشهد محدد، هذا بالرغم من ان ما علق بصورة الشاعر في موروثنا خلق اشكالية واشتباكا يصعب تفكيكه، خصوصا ما يتعلق بسطوة المناسبة على القول، او الإرتهان لتعريف تقليدي للشعر يختزله في الموزون المقفى، اضافة الى ارتباطه بالكدية والتكسّب، لهذا اختلط حابل النظم بنابل الشعر، وهناك آلاف مؤلفة من القصائد او ما يسمى كذلك عبر مختلف الأزمنة في تاريخنا يتحقق فيها شرط الموزون المقفى لكنها قد تكون كما يقول لوركا لحم وعظم لكن بلا نخاغ !
ولعل ما سمّاه نقادنا القدامى الندى او الماء في الشعر هو هذا النخاع لدى لوركا، اي ما يتجاوز الشكل والمضمون معا الى الرّوح والخلق .
* * * * * * *
مناسبة هذا التداعي حول الفلسفة والشعر هي ديوان فريديريك نيتشة، الذي ترجمه الى العربية محمد بن صالح وأصدرته منشورات الجمل .. بالطبع لم يكن نيتشة في مجمل ما كتب بعيدا عن الشعرية، خصوصا في تأملاته وكتابه الأشهر ‘ هكذا تكلم زراديشت ‘، لكن صدور قصائده متجاورة في كتاب يتيح للقارىء ان يتجول داخل أروقة قلعة شاهقة كان قد مرّ بها لماما.
نيتشة كشاعر عصيّ على التصنيف في خانات من طراز فيزيقي او ميتافيزيقي فهو حسيّ احيانا حدّ النزيف من كل مسامات الجسد، وهو تأملي أيضا لهذا كما يفعل الشعراء العصيّون على التصنيف المدرسي يعبر نيتشة الحدود بين الحسي والتجريدي . يقول نيتشة تحت عنوان المسافر وظلّه :
ماعادت العودة ممكنة
ولا مكان منه نتقدم
لا ممرّ حتى لظبي الجبل
اذن هنا سأنتظر
وبحدة اضم ما يمكن للعين واليد ان تُمسكا به
خمسة اقدام من التراب اضاءها الفجر
ومن تحتي الكون والانسان والموت …
تلك اذن هي الاقانيم التي طالما شيّد منها الفيلسوف الشاعر ملكوتا أبديا هي حسب نيتشة الكون والانسان والموت .
* * * * * *
حسيّة نيتشة فاضت لتضيف القدم الى اليد كي تكتب، فهو يحذف الفارق بين الحقل والدفتر , وهذا ما عبّر عنه بشكل آخر والت ويتمان حين سخر من الفارق بين الورقة العشب والورقة الدولار .
يقول نيتشة :
من كل ما كتب لا احب الا ما كتبه المرء بدمه … اكتب بدمك
ولكي لا يساء فهم هذا الوصية النيتشوية فليس المقصود بها ما تردد ذات يوم من شعارات سياسية تطالب الشعراء بالكتابة بدمهم، لأن الدم بالمعنى الذي اراده نيتشة وكما يتضّح من سياقه هو الروح .
وما كتبه تحت عنوان الساحرة :
هل أسأنا الظن ببعضنا
كنا بعيدين عن بعضنا
لكننا الان في هذا السجن الضيّق
مكبلين بنفس القدر، فكيف نقدر على البقاء اعداء
أليس علينا ان نحب بعضنا
حين لا نستطيع الهروب ؟
هذه الكلمات التي كتبها شاعر تحت برق الجنون الخاطف استبقت نصوصا لأشهر الكتّاب الاوروبيين في عصرنا، وهي تذكرني على الفور بمسرحيتين على الأقل، الأولى الحلقة المفرغة لسارتر والثانية بانتظار جودو لصاموئيل بيكيت، ففي العملين ثمة تواطؤ قسري مع الآخر حيث لا سبيل الى الهروب من القدر البشري .
ان ترجمة اشعار من هذه السلالة سواء كانت لنيتشة او هيجل او ريلكة او هولدرلن بالغة الضرورة لتحرير الشعرية من تضاريس مدرسية وخانات تحولت الى مسلمات نقدية في مناخات النقد الكسول والذي لا يغامر كالنحل في الذهاب بعيدا نحو الرّحيق !!!
عن القدس العربي.
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |