سيكولوجية الدولة الشمولية
2013-07-31
حواس محمود
إن سيطرة الدولة الشمولية في العالم العربي لفترة تقارب أو تزيد عن نصف قرن، وممارستها خلالها شتى صنوف القهر وأنواع الاستبداد والعسف والفساد، (ومع اندلاع ثورات الربيع العربي بنجاح بعضها واستمرار المخاض الثوري في بعضها الآخر وتعثر بعضها الآخر)، تُثار الأسئلة العديدة حول ماهية نظام الدولة العربية، الذي يأخذ في معظمه نمط النظام الشمولي "التوتاليتاري"، وهنا سنحاول الكشف عن ممارسات النظام الشمولي وتحليل سيكولوجيته في تعامله مع المواطنين وشؤون المجتمع.
يعتبر كارل فريدريك أول كاتب كان له السبق في تحديد المعالم الكبرى للشمولية، وقد بين ذلك في أربع نقاط أساسية هي :
أ- الاعتماد على أيديولوجية تنبؤية تحتكم إلى شكل من أشكال فلسفة التاريخ.
ب- الاعتماد على الحزب الجماهيري الواحد.
ج - احتكار وسائل الإعلام.
د - الرقابة البوليسية العنيفة.
ولقد استعمل العديد من علماء الاجتماع هذا النموذج لوصف وتحليل النظم الشمولية، ومنهم عالم الاجتماع الفرنسي ريمون آرون في كتابه "الديموقراطية والشمولية" وتبعه في ذلك كلود لوفور وكورنيلوس كاستريادس وغيرهم كثير .
وبحسب آرون فإن الشمولية تعني أولاً نظاماً سياسياً وثانياً نظرية سياسية وفلسفية وأيديولوجية، تعمل على توحيد أو تجميع الحياة العامة الدينية والاقتصادية والسياسية والفنية في نوع من أحادية السلطة ورؤية العالم، وذلك باستعمال جميع الوسائل بما فيها القمع والترهيب، وتلجأ الدولة لتحقيق ما تريده إلى احتكار مضاعف لوسائل القوة والإقناع كالإعلام مثلاً، وتتبع الأنشطة الاقتصادية للدولة الشمولية، وتشكل جزءاً لا يتجزأ منها، وتصطبغ بصبغة الحقيقة الرسمية للدولة، وحدوث أي خطأ في مجال من المجالات يعتبر بمنزلة خطأ ايديولوجي، ولهذا تقوم الدولة بعملية تسييس مكثفة مستعملة جميع الوسائل بما فيها الإرهاب البوليسي والأيديولوجي(1)
لكن حنَّة ارندت تختلف مع آرون في الذهاب إلى أن الدولة الشمولية هي نفي كامل وشامل للسياسي.
وبحسب ارندت فإن النظام الشمولي يعمد إلى القضاء على كل الجماعات المخالفة او المغايرة له، ويؤسس للإرهاب المنظم الذي اتخذ شكله الهائل والمرعب في "معسكرات الاعتقال" كما مورس ويمارس تماماً في بعض الدول العربية ذات النمط الجمهوري الانقلابي .
ويتحول الفرد في الدولة الشمولية إلى رقم أو عدد داخل الحشد أو المجموعة، إنه ليس أكثر من ممثل لنوعه مثله مثل بقية المخلوقات، حيث يتحدد بشكل خاص بأنه خالٍ وفارغ من كل معنى سياسي، وذلك أن الشمولية بعكس ما تدعيه تعتمد على الرعاع والحشد وليس على الجماهير والمواطنين، من هنا فإن طبيعتها تتمثل في رفضها للعمل السياسي وهي تعمد إلى تذرير المجتمع، وإلى المحو التدريجي للرأي العام أو الحس العام أو كما تقول حنة أرندت "محو للوعي بالعيش مع الآخرين في فضاء مشترك"(2).
وهذا ما مارسته الدولة الشمولية العربية من خلق الحزازات والحساسيات بين المواطنين المنتمين إلى أديان وقوميات ومذاهب مختلفة، فبالرغم من ادعائها أنها تمثل كل المواطنين ولا تفرق بينهم لكنها مارست بشكل فظيع كل أشكال التفرقة والتشتيت والتشكيك المكوني تشكيك مكون من مكون آخر وذلك لضمان سيطرتها على مقاليد الدولة والمجتمع "الحزب القائد للدولة والمجتمع".
وما يميز الشمولية هو اعتمادها على الرعاع وقدرتها على الشر "لقد كان النازيون مقتنعين بأن الشر يُمارس في عصرنا قوة جذب مرضية، وتلك نقطة تشاركهم فيها الدعاية الشيوعية في روسيا والخارج، إذ تقوم على تأكيد أن البلاشفة لا يعترفون بالمعايير الأخلاقية المعتمدة"(3).
كما أنَ الحشد والرعاع قد أثبت أنه يفتتن بالشر والجريمة ولا يبالي المنخرط في الحركة الشمولية بالجريمة أو الشر على العموم، قد يكون هذا تفسيراً لما تمارسه الدولة الشمولية العربية من تحشيد قطاعات معينة من الشعب في خدمة أجندتها الشمولية وفي مواجهة قوة الشعب الثورية بعد بزوغ ثورات الربيع العربي. وإن الأفراد التابعين للدولة الشمولية والمنخرطين في ممارساتها العنفية وغير العنفية يتميزون بالولاء الأعمى والدعم اللامحدود للدولة الشمولية، وتعتمد الشمولية على مبدأ القائد الأوحد والزعيم المقدس، والحزب القائد يعتمد على أقلية منظمة وأغلبية متعاطفة والاعتماد على جهاز المخابرات والإكثار من الأجهزة المماثلة له أي الإكثار من فرق القمع وأنواعها (وهذا ما هو حاصل بالضبط في الدولة العربية الشمولية) وأهمية هذه الفرق شبه العسكرية تأتي من "إنشائها باعتبارها أدوات في صراع الحركات الأيديولوجية ضد النزعة السلمية التي شاعت في أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى"(4).
إن التجربة العربية الحية في ثورات الربيع العربي عبر الحركات الاجتماعية السلمية والتي جوبهت بقمع شديد بقوى أمنية عديدة، ومن ثم بلجوء الدولة إلى الجيش، ماثلة أمام أعيننا وما زلنا ندفع ثمنها دماراً وخراباً للبلدان، وسجوناً ومنافي وتشرداً للملايين من المواطنين، أضحت مشكلة محلية وإقليمية ودولية وإنسانية هائلة وخطيرة في آن.
إنَ تحليل حنة أرندت للدولة الشمولية يكاد يماثل تماماً الحالة العربية بصورة شبه تامة .
إنَ الدولة الشمولية العربية هي التي مارست التضليل الأيديولوجي الإعلامي وهي التي نادت بالقضايا الكبرى، وهي التي أغلقت منافذ الديموقراطية والتنمية وحريات التعبير بحجة التفرغ لقضية فلسطين والأراضي العربية المحتلة، وهي التي بذرت بذور الشقاق والخلاف والتناحر بين مكونات المجتمعات العربية، وهي التي كمت الأفواه وزجت بخيرة المناضلين الوطنيين بغياهب المعتقلات، وهي التي تغولت في المجتمع وجردته من السياسة وحولته إلى جثة مشلولة، لا حراك بها ولا نبض، حتى جاءت لحظة الحقيقة الثورية فانكشف الغطاء القمعي عنها وسقط القناع عن القناع كما يقول الشاعر الكبير محمود درويش، ولكن بعد أن دمرت المجتمع والإنسان، ركنا الدولة الأساسيان .
إن الدولة العربية الشمولية هي الحقبة السوداء القاتمة في التاريخ العربي المعاصر، فهل سيتم الإجهاز الأخير على آخر حصن من حصونها القمعية الشرسة ؟ هذا ما ستجيب عليه الشهور والسنين القادمة.
الهوامش :
(1) د. الزواوي بغورة "الشمولية والحرية في الفلسفة السياسية المعاصرة" عالم الفكر ملف الحرية والتحرر- عدد 3 يناير مارس 2005 مجلد33 ص 28
(2) د. الزواوي بغورة مصدر سابق ص 34
(3) حنة ارندت أسس التوتاليتارية ترجمة انطوان أبو زيد دار الساقي 1993 ص 12
(4) حنة أرندت مصدر سابق ص 116
عن جريدة المستقبل.
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |