Alef Logo
ابداعات
              

قصة / دوخة

هدى الجهوري

2006-04-10

هذا الصباح مكتئب دون أن أدري عما تساقط مني مترنحا وحزين..!! هنا يمكنني أن أشعل الصباح باصبعي وأن اطفأه باصبعي وأنا أندس تحت البطانية بحجة البرد، في المدن التي لا أقارب لي فيها ولا زوجة تلتصق بالشبابيك في انتظاري، ولا بكاء أطفال لأن الحفاضات من نوع ردئ وتسبب الحكة، ولا حتى لكوني كائن تعيس.

أرتب الحكاية تحت سقف غرفتي قبل أن أخرج لتقبيل وجه المدينة، أحاول التمايز بقدرات فولاذية على الكذب، حين أشتري المقصات التي أبتر بها شتيمة العالم من حولي، كان هذا آخر ما نصحني به صديقي (ابن الجنية) وهو يكرع غرشته في المزارع البعيدة. هنا ما يزال القرص الخفيف بنبئ أن ثمة غبار وحكة عالقين في المسافة بين بيتي الصغير وجسد الرقصة. يطفر الحنين من عيني وأنا ألامس طيف (جود) ابنتي الصغيرة، والضحكة الباكرة في نزهة الشمس، تركض صوب حضني متسلقلة ذراعي ثم ما تلبث أن تختفي في الجدران، تنتابني رغبة حارة في أن أمشط الدمية التي تخصها، وأن أنتهز فرصة مواتية لأشتري لها (الهامبرجر) أكلتها المفضلة التي تطلبها كلما صحبتها معي إلى المدينة ..لا شئ أكثر ..هذا احتياجي الذي أرممه الآن بالصور، وبالبقاء صامتا دون أن أتحرك من السرير أو أن أغير لوني الفضي الشاحب، ودون أن أثير في العالم الراقص حولي بلبلة، أكتفي بأن أتمعن في انتصاب الوقت الذي لا يصاب بالخذلانات، وأراه ينوس ليدير مروحة البرد على أعصابي. يبدو أنني ارتعش، ولا شئ يكف عن إيذائي الآن، وأنا أقع في الجحيم على قشرة بشر تافهين لا يستطيعون سوى أن يلقوا دعاباتهم الثقيلة التي تدفعني للصمت أو التشرنق. أخرج لأبعد من الغرفة الضيقة لأصافح المدينة الكبيرة المترفة بالزحام وبالبشر، مكتنزاً في معطفي الشتوي، ويدي مغروستان في جيبي بنطلوني الفارغين، ولا أجد ثمنا لسيجارة إضافية. ما زلت أفكر في الراقصة، وفي ابتعادها الحاد عني، في فناجين القهوة الصباحية بالقرب من المدفأة، والدمعة التي أهدتني إياها وأنا أعقد الحقيبة الرياضية على كتفي وأدير ظهري لها، أفكر أيضا في ارتباكات القبلة الأولى، والفخاخ التي تلتها...
(عليك أن تعيش الأشياء على شفرتها لتبدو نزقة ولذيذة، عليك أن ترفل بالحكايات والتفاصيل قبل أن تتخلص منها في أقرب مهملات من ذاكرتك ...) هذا ما كان يردده على مسامعي (ابن الجنية)، ولا استطيع التجانس معه...
أسير وحيدا لأشق شوارع المدينة الصاخبة، رائحة عوادم السيارات تزيد من حساسية أنفي، والبرد يقرص أطرافي، أفكر وأنا أتحسس القشعرية الراكضة في جسدي بسيجارة واحدة أسكب بها الغيم، وأضئ وحشتي...فقط واحدة لأزف التعب لمسافة أبعد من صدري...
امتطي جدار الكورنيش المطل على البحر، أخلع نعلي، وأطوي ساقي لصدري الملوث بالحزن، أفتح عينيي الضيقتين على اتساعهما لأراقب السفن التي تمخر دمي، بينما تقف هي في المسافة الأخرى التي لا تتقاطع معي لأفكر عما يتكاثر تحت معاطفنا أكثر من أغاني فيروز، وعما لمع بين أضلعنا حين لم يكن الهواء يجد متسعا ليمر بيننا...أفكر أيضا أن الانثى كالسيجارة لا تتكشف روعتها إلا عند احتراقها تحت أصابعنا. كان ذلك حين عثرت عليها في أحد الحانات التي دلني عليها (ابن الجنية) كنت أثرثر دونما انقطاع عن كل شئ دفعة واحدة، وكانت هي منشغلة بالتفكير إن كنت سمينا تحت المعطف الشتوي الكحلي الذي كنت أرتديه، أم أنني ضئيل الجسد على عكس ما أبدو، في حين أن الهمس الذي كان يدور خلف كتفيها كان يؤثث خلفية المشهد ويقفز كالضوء فوق الزرقة. تشرد بذهنها وأنا أعقد منديلا خمريا على عنقها كمن يغرز نصل شهوته ليكون أقل نفاقا، وأكثر وسامة، كم كنت أدلل الوقت بالهدايا الباذخة، لأنحني بالغياب...
هذا ليس زمن الخبز الحافي ... علي ترتيب الأشياء داخلي كما أفعل عادة مع ذقني، ومواعيدي لأتماهى في تضاريس الجسد. أتجشأ وأنا أعد أولادي السبعة في غنج جسدها الممتلئ.. كان صوت الطبلة يخرب علي العد، أكرع كأسي، واعاود العد من جديد. أنسى أسماءهم ...تختلط وجوههم ..اخطئ العد من جديد..أحاول أيضا تذكر زوجتي بكل ملامحها القروية البسيطة، ابتداءا من خشونة يديها وقدميها السمراوين، وصوتها المنخفض وانتهاءا بقلبها الكبير الذي لم يكن كافيا لأشعر بالسعادة ..أقع على بياض الراقصة، ولا أتذكر أي شئ ...
رأسي ثقيل ..الصداع يتصاعد كالوخز المؤذي ...لا أعرف كيف تنشغل المرأة الواقفة أمامي بجسدها عن الآخرين..كانت تبدو كمن يصلي أو يمتطي أرجوحة من غيم، والضوء ينتشر في البقعة التي تضرب عليها بقدمين تعرفان تماما أين تقعان، كما يعرف الخلخال الفاره في النعومة كيف يستدير ليبدو أكثر إبهارا ...كم كان عددهم خمسة...ستة... سبعة ...!! كيف كانت وجوههم !!هل يحملون خشونة أمهم السمراء أم أنهم يشبهونني بأنفي المفلطح ...ياإلهي كيف سقطت أسماءهم ووجوههم هكذا بغتة من رأسي .... لم أعد استطيع التعاطى سوى مع هذا الوجه المستدير والممتلئ بالبياض والشعر الملفوف بعناية فوق كتفيها الممتلئين، وعينيها اللتين لم تكن لأحد ... لكن لمن كانت تنظر؟؟ وفمها لماذا لا يفتر عن ابتسامة لأي أحد منا...؟؟الجميع منشغل بالجسد المتمايل ... بالتأكيد لم يفكر أحد من السكارى بعينيها الغائبتين وفمها الذي لايمنح شئ لأي أحد ... الجميع مأخوذ بالرقصة ومتشاغل بتغضن الجسد بمهارة ...التفت يمينا ويسارا ...جميعهم كانوا يهزون رؤوسهم بغباء وثمة منهم من كان يعلق بالكلمات البذيئة كلما فضح الفستان المشقوق تفاصيلها الناتئة ....
هل كانت مشغولة بالتركيز في جسدها المطوق بالأعين الشرهة ..أم أنها كانت تقع في ارتباكات الرقصة الأولى ...لا لا ..لايبدو أنها مرتبكة، لأنها أكثر جرأة مما ينبغي كما أنني استبعد فكرة أن تشعر بالحياء لأنها بالتأكيد لاتحمل إرث قبيلتي ...ولأنها لاتشبه زوجتي التي تخجل من ظلها ...
ما الحكاية إذا ...........؟؟
لن أشغل رأسي ...الدوار سيوقع بي ...أشير باصبعي للجرسون بكأس آخر يبادلني الجرسون ابتسامته المعتادة وهو يصب في الكأس الفارغة ..
هذا الجسد خدعة لاشعال اللذة، ركزي في جسدك الأبيض البض ..دعيه يرقص على نصل اشتهائهم ..لست معنية بأحد ..فقط بالتماهي في تكسراتك...دعيهم يعتقدون أنك ستقعين من أعلى الرقصة ...امتطي بردهم وجوعهم ... ستتعالى شهقاتهم ...هنا البشر منشغلة بالكلام والسكر....دعي جسدك بلون الطبلة وصوتها، تمايلي بدلال مبالغ، واضربي الأرض ...تضرب على الأرض ثم ما يلبث أن يشق فخذها فتحة الفستان ليخرج ممتلئا ...ركزي في جسدك ..غذيه بالموسيقى يمكن لهؤلاء السكارى أن يدفعوا باحترام لهذا البياض.
يمكن للروح أن تنسجم مع كتلة اللحم الأبيض في رقصة تدفعها لنزف العرق من مسامات الحزن ..
بطنها مشدود وسرتها تلمع بالنجوم الصغيرة الناعمة ...ربما تشعر في أحيان كثيرة أن الرقصة تنبت من سرتها ومن ثم تنتشر في باقي الجسد أو أن الرقصة تنبت من ابهام قدميها لتتسلق ساقيها وتستدير على محيط خصرها وتنمو على ردفيها الناعمين ....هذا الاهتزاز المدروس لا يعدو أكثر من غضب وثورة أو حزن قديم. تستدير تمتلك قدرة هائلة على هز مؤخرتها، وصوت الطبلة يتعالى ..يتعالى ... التصفيق والصيحات المترنحة لا تمنعها من التركيز في جسدها الملثوم برغبة التملص من وجع يأكلها قطعة قطعة، ركزي في جسدك ..ستصحو مدن نائمة وسيتساقط المطر على أماكن فارقها الخصب ركزي في جسدك في مياله وفي اهتزازه وفي تفردك بكل هذه العيون التي تأكل انثناءاتك، وعلى السكارى أن يتلذذوا بدوران رؤوسهم حولك كالفراشات أو في انفلاتهم في تكور صدرك المشدود والنصف مكشوف. جبينك حقل موسمي، ليتك تستطيعين مداعبة شعر ذقني النابت بعشوائية لتمتصي أرق القرى من عظمي ..ليتك تحاولين الانسراب كالضوء بداخلي لأدفأ، وانا أختبئ من العالم فيك... لو أتقاسم معك البكاء، الطرقات المزركشة بالأحلام...يااااه أنا أقع في الدوخة والصداع
يفت مؤخرة رأسي ...
لا شئ أكثر من شعوري الدائم بالدوخة، والمدن تكبر على أعصابي، وتتسلقني كالكلس لتهرم بسرعة، ويمتد الوجع تحت عجلات الوقت المزعج دونما انذارات سابقة بالتساقط. أنا بعد لست متأكد من شئ، الكلام يبدو كالفضيحة حينما يلمع دون أن يكممه شئ، والرقصة تشير لأشياء كثيرة خصوصا بما يتعلق بتلك الأكاذيب الصغيرة التي تعلق عادة برأسي حول كوني كائن حزين فوق ما احتمل. أحاول الأن أن أفتح عالمي على جسدها كما يفتح الموج قبلته على امتداد الشاطئ، والزبائن يتكاثرون الليلة كمفرقعات العيد. أتساءل مع نفسي: لماذا جئت إلى هنا ..لأتفوق على تعب القرية وأولادي السبعة، أو لأن صديقي الذي كان لا يجيد شئ سوى قراءة الكتب عند الفلج أخبرني أن في المدن خيارات واسعة ...(ابن الجنية) كان محقا فكم تتسع المدن بامتداد الخطوة، وهذه المرأة التي تبدو كالحورية التي نشف ملح البحر على ظهرها ليهبها كل هذا البياض اللامع، تبدو كملائكة لا يستدل على سمائها إلا بالرقص. أن تصبح امرأة مثلها طفلتي، وجنتي، وناري، وبحري، ولوني الأزرق الذي أحب، امرأة مثلها كلما تكسرت أمامي فر مني الكلام كدجاجة بللها المطر، وكفئران تقرم أطراف التفاحة البائتة على مخدتي الحزينة منذ البارحة.. لكن ماذا أريد أن أعرف عنها؟ وأنا لا نقطة بداية أعرف ولا نقطة انتهاء. كل شئ يتداخل معها في هذا الزمن القصير الذي لا يعدو الرقصة... أتراها كانت تلاحظ أنني أبكي فوق ما استطيع وهي هناك تتحد مع الفراغ لينزاح الهواء عن كتفيها الغضين! ألا تذوق غصتي وأنا تجرحني المسافة ويسري الشوق في جسدي كالكهرباء ..ماذا أيضا عن حلم يدعك أطفالي بالشامبو، وحفاظات البامبرز، وبيتنا بالمعقمات ..ماذا عن نميمة الجيران التي ما إن يلامس آذانهم اسمها الراقص حتى يبدأوا بشتيمة أمي وتربيتها الفاسدة لي، كما لن يتورعوا عن شتيمة صديقي (ابن الجنية) الذي يكلمني عن الروايات والكتب التي لا تعنيني بشئ، ورغم ذلك اجدني متورط بها ..هذا ربما ما أراد قلبي قوله، وخذله لسان جبان لأبرر انزعاجي من من زوجتي السمراء ذات الأطراف الخشنة، والنيات الطيبة، وأولادي الذين تتفاقم احتياجاتهم كلما ازداد طولهم واتسعت أكتافهم ..يكفي زوجتي ان تتكور كرشها كل عام لتحظى بإيماءة رضا من رؤوس أهل الحارة وتحظى بانزوائي في الردهة التي أعد عليها خيباتي...كم أنا غاضب من نفسي واحتاج إلى هذه الكأس وهذه الرقصة قبل الوقوع في الخذلانات ... يااااه كم توجد أطراف مسننة للفرح. تربكني قسوتي على امرأة منحتني كل شئ، ويربكني أكثر حنيني لهذه الأخرى التي لم تمنحني سوى الدوخة وأنا استدير حول خصرها. لكن ماذا عساي أفعل بهذا الجانب الأيسر واللعين من صدري، وأين أسرب هذا الكم الهائل من القرف، ربما سأتسلل إلى رمشي عينبها وجسدها المدهون بالقشطة ...لأدوخ ...وأدوخ ... ومن ثم لاأجد تتمة للكلام ..
تفو...تفو.. على كل شيئ البصاق والتقيؤ والكلام البذيئ يشبه تكسرك على اللاشيئ، يشبه الغيمة التي تركض في البعيد عقيمة حيث يمكنك أن تلحظ حياءها لأن كرشها لا تحبل بالمطر، الكلام كثير ..تفو ..تفو ...البصاق أكثر، وهو الشيئ الوحيد الذي أبرر به تكسري على هذه الطاولة المتعبة...هكذا انتفخ كبالون غاضب وأبصق دوختي والرقصة إلى أقرب مهملات من ذاكرتي ....


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow