لما كان البيان فعالية لغوية فى أساسه فإن وجوده وتطوره فى حضارة ما مرتبطان كاللغة بالفكر البشرى ، وبالتاريخ والمجتمع من جهة أخرى .

ولأن القرآن الكريم يعد من أهم العوامل التى تدخلت فى تكوين الحضارة العربية الإسلامية ، اذ يعده بعض الباحثين مثل نصر حامد ابو زيد هو النص المحورى فى الحضارة العربية وبين هذا فى كثير من أعماله الفكرية خاصة " مفهوم النص" فالقرآن الكريم هو اهم كتاب أثر فى تكوين البيان العربى وفى صياغة قواعده ومقاييسه العامة الأساسية ، اذ نجح فى اثارة الانبهار الجمالى اللغوى (1) وقد استطاع القرآن الكريم تهميش الشعر بعد ان كان يمثل مركز الصدارة فى الثقافة العربية قبل ظهور الإسلام .

ومع بداية الدولة الأموية كثرت الخطابة السياسية وظهرت الفرق الدينية ،وتطورت الحياة الإجتماعية لتأخذ مجرى جديدا لاختلاط العرب بأبناء الأمم الأخرى ، ونشأت طبقة جديدة من المثقفين الذين يتناولوا العلوم والثقافة بلغاتهم الأولى ، وأتقنوا اللغة العربية ، فقاموا بإدخال أساليب لم يعهدها العرب من قبل على اللغة العربية . ولأهمية التعليم وأثره الهام فى وجود البيان العربى ، اذ كان على المعلمين من النحاة واللغويين أن يرودوا تلاميذهم بالاسس البيانية الضرورية لفهم الشعر والأخبار العربية التى كانوا يعلمونهم اياها ، وفى مقابل هؤلاء كان هناك فريق أخر من المعلمين والخطباء والوعاظ تعنى بمسائل البيان من جانب آخر هو الخطابة والجدل، ونعنى بهؤلاء المتكلمين ، الذين بدؤوا منذ أواخر القرن الأول الهجرى يصبحون فرقا كلامية ، فنشأ علم الكلام وتركت الجهود التى بذلها المعتزلة أثرا مهما فى المجال الجدلى ، فقد أدخلت كثيرا من التغيرات على مفهوم البيان العربى .

بداية الخطاب الجدلى الإحتجاجى

اذا كانت موضوعات علم الكلام فى القرنين الثانى والثالث الهجريين ولدت لترد على حاجات المجتمع الإسلامى الدينية والسياسية والفكرية والإجتماعية والإقتصادية ، وتطورت بتطور المجتمع فى حينه، فان من الطبيعى أن تتراجع هذه الموضوعات لتترك المكان لموضوعات أخرى أقدر منها على الرد على الحاجات المتجددة والتى طرأت على ذلك المجتمع ، وان القيم والحاجات الجمالية ، ترتبط ارتباطا مباشرا بالبناء العام الذى تكونه عناصر التركيب الحضارى لأى مجتمع . وان تغير هذه العناصر وتطورها يترافق مع تبدل القيم والحاجات الجمالية .

انطلاقا مما تقدم يمكننا ان نتتبع الخطاب اللغوى بتطور فكر المجتمع وبظهور الحاجات والقيم الجديدة. وبعد ان مر علم الكلام بأهم أدوار حياته وهو دور تحرره من الفقه، اذ يرجع الفضل فى حدوث هذا التغيير إلى المعتزلة الذين كانوا طوال القرن الثالث الهجرى يعالجون مسائل كلامية محضة ، وفى ظل هذه الظروف وذلك العصر ظهرت رسائل اخوان الصفا التى تعتبر استمرارا لتلك الحركة الفكرية وتوجيها لتلك التيارات التى ظهرت فى العالم الإسلامى فى ذلك الوقت .

وقد تميز هذا العصر بكثرة الترجمات لمختلف الفلسفات والثقافات الفارسية والإغريقية والهندية وغيرها مما ساهم فى تكوين الفكر الإسلامى الذى كان يرتكز على اربعة مجالات رئيسية هى : الفقه، وعلم الكلام ، والفلسفة ، والتصوف. بعد ان تمكن العرب من تحقيق انسجام ما بين تلك العلوم الدخيلة وبين ما جاء به الإسلام فأبدعوا من خلالها نتاجا فكريا موسوعيا باللغة العربية والتى لاقت رواجا وانتشارا لم تصل إليها من قبل. فقد كانت رسائل اخوان الصفا دليلا على نضج الثقافة الإسلامية وثمرة يانعة من ثمرات التفكير الإسلامى الذى بلغ ذروة تألقه وتطوره فى تلك الفترة التى ظهرت فيها الرسائل .

وقد انعكس هذا التطور الفكرى والغنى الثقافى على الاساليب الفنية واللغوية التى كانت مستخدمة عموما والتى كان يستخدمها اخوان الصفا خصوصا، لإيصال أفكارهم إلى القراء فقد تطور الخطاب اللغوى العربى بتطور هذا الفكر ، فاستحدث اخوان الصفا مصطلحات جديدة ، وأصلوها لتشكل نتاجا لغويا يدخل فى نسيج الثقافة الأم ، وأظهروا من خلال ذلك عظمة اللغة العربية وقدرتها على استيعاب ومواكبة كافة انواع العلوم والثقافات والذى تجلى واضحا فى تطور الخطاب وتعدد انواعه . فمن المعترف به انه كان سائدا فى العصور الأولى للحضارة العربية الخطاب البيانى " البلاغى" الموجه إلى مخاطبة المشاعر والأحاسيس والوجدان ، ثم ظهر الخطاب الدينى مع ظهور القرآن الكريم الذى لعب دورا اساسيا فى صياغة اسس البيان العربى الجديد، وصارت العلوم فى غالبيتها تتمحور فى نطاق القرآن الكريم ، وبعد ذلك تطورت لغة الخطاب بتطور المجتمع العربى الإسلامى ، فاصبح الخطاب معبرا عن القضايا الفكرية الجديدة ، فظهر الخطاب الإجتماعى الذى يخاطب العقل باستخدام الأساليب التعبيرية الملائمة كالحوار والحجة والبرهان .

فالخطاب يقوم بشكل اساسى على اللغة وسيلة للتواصل ، ولكن اللغة فى الخطاب الإحتجاجى ليست وسيلة التواصل فقط وانما هى أداة للتأثير فى الفكر ووسيلة للإقناع (2) وتعتبر رسائل اخوان الصفا خير مثال على نشوء هذا النوع من الخطاب العقلى الذى يعبر عن الروح الجديدة للفكر العربى فى تلك اللحظة التاريخية وقد تجلى هذا من خلال الموضوعات الفكرية والعلمية والفلسفية التى تناولها اخوان الصفا ، وحاولوا إيصالها إلى القراء بمختلف طبقاتهم ومستوياتهم العلمية بأسلوب خاص متميز يجمع بين الخطاب العقلى والبيان ليحقق غايتى التأثير الفكرى عن طريق الإقناع والإمتاع الجمالى عن طريق التأثير فى ذوق القارئ .

الخصائص الأسلوبية

لقد تنوع الأسلوب فى رسائل اخوان الصفا لتنوع موضوعاتها وذلك لتميزها بمضمونها الموسوعى فى الفلسفة والفكر والأدب والدين والتربية . فنجد فى الرسائل الاسلوب العلمى الذى يعتمد على التحليل والشرح والتقرير والعرض ، وهذا مما يناسب الموضوعات العلمية والفلسفية التى لا تتطلب الكلام البلاغى . كما تحتوى الرسائل على الأسلوب الأدبى المشوق الجاذب للقارئ لانه يعتمد على الإكثار من التشبيهات والصور ، والأقوال المشهورة لايصال المعلومة الفلسفية إلى ذهن القارئ. كذلك نجد ان رسائلهم ذات طابع أدبى انشائى ، وهذا لا يقلل مجال من أهمية المحتوى الفلسفى والعلمى ، بل يمكن ان نعتبر استخدام هذا الاسلوب اثراء للرسائل ووسيلة ضرورية وجمالية فى الوقت ذاته، لإيصال أفكار ذات مضمون فكرى وفلسفى وعلمى إلى أكبر شريحة من القراء ، خاصة غير المتخصصين والشباب. ونجدهم حينا أخر يهتمون بدراسة وعرض الفكرة نفسها والمفهومات ذاتها بأساليب مختلفة، لذلك لا يمكن ان تعتبر لجوءهم إلى التكرار عيبا ، بل أنهم أرادوا التنبيه على بعض الأمور والقضايا فذكروها فى مناسبات مختلفة وحسب ما يقتضيه الموقف الفلسفى أو المعرفى . وتتشابه الرسائل جميعها وعلى اختلاف موضوعاتها بالصياغة الفنية وبوحدة الأسلوب الإنشائى ، وبطريقة عرض الأفكار . فاسلوب الرسائل يجرى على نسق واحد لا اختلاف فيه ،ى مثال : أسلوب البداية والختام فى كل رسالة حيث تتصدر الرسالة غالبا عبارة " الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى الله خير أما يشركون " ثم تبدأ بعبارة " اعلم ايها الأخ ايدك الله وايانا بروح منه" وكما تختم الرسالة غالبا بعبارة " وفقك الله وايانا إلى طريق السداد وهداك وإيانا وجميع اخواننا حيث كانوا فى البلاد سبيل الرشاد انه رؤوف بالعباد" (3) كما لا تخلوا الرسائل من اسلوب الإستطراد ، اذ يتكلم اخوان الصفا على موضوع ما ، ثم ينتقلون إلى توضيح موضوع أخر له صلة بما يتحدثون عنه ، ثم يعودون إلى الموضوع الأول ، كما أن ظاهرة التكرار واضحة فى الرسائل ، وقد استدل بعض الباحثين بهذه الظاهرة أنها رسائل ليست من تأليف شخص واحد وانما شارك فى وضعها العديد من المؤلفين (4) وتمكن اخوان الصفا من تبسيط الموضوعات الفكرية والفلسفية والادبية داخل الرسائل فجاءت بأسلوب سهل واضح لتثقيف شريحة واسعة من الناس ، وهذا ما يميزهم عن الفلاسفة ، ويؤيد هذا الرأى طه حسين الذى يرى انه ليس بإمكان كل الناس ، بل كل المثقفين ان يتصرفوا فى فلسفة الفارابى وابن سينا ، وانما هذه الفلسفة وقف على الأخصائيين لأنها كتبت لهم ، فى حين ان رسائل اخوان الصفا كتبت لعامة المثقفين ، وقصد بها ايجاد الثقافة الفلسفية الصالحة ، فهى ادنى للعقول ، وايسر على النفوس ، وهى مقدمة صالحة لدرس الفلاسفة الأخصائيين (5) هكذا ساهم اخوان الصفاء فى التنوير العربى وايصال الفكر العلمى والفلسفى إلى شباب الأمة العربية والإسلامية حتى تكون بداية تنويرية حقيقية لهذه الأمة .

1- حسين الصديق ، مقدمة فى نظرية الأدب العربى والإسلامى ص178

2- نفسه، ص 186

3- على سبيل المثال ، رسائل اخوان الصفا ج 3 ص 242، ج4 ص 81، ج1 ص 330

4- أحمد امين ، ظهر الإسلام ص 148

5- طه حسين ، مقدمة رسائل اخوان الصفاء ج1 ص14

حسام الحداد

26/8/2013