نقد / عندما يُكتب النص على الجسد
2006-04-10
على أوربرا مالمو:
مسرحية الـ DNA... نصوصٌ مكتوبة على الجسد قبل مرحلة ألأداء
وكانت هي الإحالة!
مرة أخرى ألتقي بمسرح الفنان العراقي الموهوب (حسن هادي). مرة أخرى التقي بتلك الحورية الجهنمية وهي تحرق كل شرايين الكون بآهاتها العميقة، تلك الآهات التي ترجم سداً مطلياً بزفير صعاليك المدينة، وسُكارى الحانات المُعطَّلة مصابيحُها الليلية، ويتامى حربٍ، لا ندري لماذا بدأت، ولا وندري لماذا لا تنتهي.... (سالي/ الممثلة: عايدة)... تلك الهبَّة النارية المتوقدة على مسرح (Verkstan)، تسقي محنة الحب الإنساني سر عزائه خوف أن نموت جميعا.
بدأتْ... ولكن كيف بدأت؟
واستمرتْ... ولكن كيف استمرت؟
وانتهتْ...
ولكن هل انتهى صراخها المُشتق من ذاكرة معطوبة بوعي مثقوب، ينازع صلاحيته في الوجود، تتربَّص به تجاربُ علمٍ ينطوي على مشروع شهرة، وليس مشروع حياة؟
بدأت ترفع احتجاجها ضد الكون كله عبر استمناء عضوها الذكري الذي كان يزاحم عضوها الأنثوي، تنتظر دورها من رعشة الحياة ...
بلا جدوى!
أليس الأجدى أن تكون لعبة يدينْ وليس لعبة يد واحدة؟ كي تُخرجَ صرختها المكبوتة من أعماقها الملتهبة بشهوتين، فيستكمل العالم دورته، ونستريح من عناء المخرج (حسن)، الذي أبى إلاَّ أنْ يحرِّق كل ما تبقى فينا من حثالة وجودية متهرئة.
لا...
فإن اجتزاء الشهوة البشرية بداية المعضلة... كان الواجب ـ وهو ما حصل ـ أن لا تصل اليد الأخرى إلى العضو الموازي في تلك المنطقة المحصورة بين الفخذين، العضو الملتهب بلحظة العبث المنظم في جوفه الروحاني، لأن ذلك نذر راحة أبدية، وعندها سوف يغلق المسرح أبوابه، ونخرج من حرمه مسترخين اليدين، ويهرب المخرج بعيدا عن الأنظار.
كانت (سالي) مجموعة من التصدعات الوجدانية، أشبه بمكعبات تمارس لعبة تبادل الأدوار، في خلايا مخٍ مُتعَب بهمومه حتى اللعنة..
وجدان خارج مملكته الأولى قهراً، يحاول العودة إلى حقه من الحضور، في سياق شدٍّ بين قوتين شرستين ... هما ذاكرة الحرب وحرب الذاكرة...
( كانت أثنين في واحد...).
ولكن هذا المركب المزدوج، المركب القلق، كان هذا المركب موزَّعاً بين عاطفة ساذجة من جهة ومشروع تقنيةٍ صلفْ من جهة أخرى، يقوده ضمير أجوف، لا يعرف غير المشرط وقطعة قطن، لا ندري ماذا في أحشائها؟ لعله ذلك السر الذي كان يحمله في حقيبة أمنياته المجنونة منذ أمد بعيد.
كانت نهباً موزعاً... مبعثراً...
هنا... هناك...
(كانت واحداً في أثنين ...).
هنا تبدو قدرة الفنان الموهوب على رسم معادلة الصراع داخل هذه الدائرة من الأوتار المتقاطعة، دائرة تحفها من الداخل شبكة من الأوتار، بين استقامة واعوجاج، بين رفض للدائرة ومحاولة للخروج من لعنتها المدمرة ...
صاخبة كانت الدائرة...
ملعونة كانت...
من الصعب على صانع العمل (المخرج) أن يوِّزع عبقريته الفنية بالتساوي على كل عناصر العمل.. الممثلين... خشبة المسرح... الصوت... الضوء...
تُرى ألهذا السبب كانت (سالي/ عايدة) هي مصممة الحركة في الأساس؟
أعترف أني و في لحظة جنونية طاغية أنساق مع (جاك دريدا)، حيث تصل بي النوبة أن أنفي كل إحالة، خاصة في لحظات الألم القصوى، والألم لصيقي طوال حياتي، ولكن في لحظات العودة إلى مدرسة (فيثاغورس) أستعيذ بالله، وأتجول في عالم الحدث أبحث عن نقطةٍ جوهرية، وهناك أغرز معولي، أفتت النقطة الجوهرية، ولكن ليس إلى أجزاء، فذلك يشوه الحدث، بل إلى جزيئات كي أحافظ على النقاء الأول.
لقد كنت أتفحص الأداء بكل روحي، وأنا أتلفع بمعطفي الثقيل، أحمل هموم روحي التي لم يشاركني بها أحد أراقب... أرصد... أتشوف... كنت أبحث عن إحالة لهذا الكم الهائل من الحركة على مسرح الفنان العراقي هادي حسن، لم أجد سوى الفكرة في المقام الأول، وفي المقام الثاني كانت هي ... هي بعينها... إنها عايدة / سالي... سالي / عايدة...
قرر المخرج مسبقا، إن حركة (الطبيب رونا بيركمان Rune Bergman) لا تحددها حمولة النص على لسانه، بل هي مقررة سلفا في فعل (عايدة / سالي) ... إنها كامنة هناك؟
هل كانت حركة الممرضة (اوسا اهلاندر إsa Ahlander ) مرهونة بجنون (عايدة Aida / سالي Saly) الفني؟
هل كانت مقتربات الصوت والضوء قد صممها المخرج وفق خارطة جسدها المسرحي، وهي تصرخ، وهي تضحك، وهي تُفرِّج بين أعضاء جسدها الطبيعي لتفكك فكرةَ نصٍ، أو تلملم أعضاء هذا الجسد كي تكثف فكرةً نصً آخر؟
بدأتْ...
بعد أن فشلت في الحصول على ذروة الاستمناء الذكري، هرعت إلى فضاء مجهول، ترتدي ثياب مسحورة بظاهرها البسيط، ولكن (سالي/عايدة) كانت مصفوفة من التصدعات... تتقابل... تتشابك... تتوازى... ثم يكون الانفجار، وما أدراك من انفجار… بدأ ولم ينته…
عندما يُكتب النص على الجسد
مدرسيِّاً، تمر العلاقة بين النص والممثل بأربعة مراحل… قراءة أولية… فهم… مران... أداء... وهي مراحل منطقية بطبيعة الحال، ولكن يبدو لي هناك مرحلة أُخرى تُضاف إلى هذه المراحل، وذلك بالنسبة لـ (سالي/ عايدة)، تلك هي مرحلة كتابة النص على الجسد...
لقد كتبت الفنانة (عايدة Aida) النص على جسدها بعد مران صعب ومضني، كتبت النص على جسدها بريشة تارة، وبقلم مسنون بالحقد على الزمن الرديء تارة أُخرى، وبسكين لطخة بعار العالم تارة ثالثة، فاستسقى جسُدها ماء النص، تحولت إلى جسد نصِّي ونص جسدي، كان النص هو الذي يقود الجسد، ينزلق على الجسد في حالة لحظة هيجانه المسعور، فيتكور جسد (سالي / عايدة)... يتفكك... يتكور... يعلو... يهبط... يعلن... يهذي. ينغرز في لحم الجسد عندما يشتد الصراع بين ذاكرة الحرب وحرب الذاكرة، يهرول في ساحة الحياة، يفتش عن لغز ضائع، يتقافز النص فرحا على الجسد في لحظة إشراقً يتيمة، ولكن سرعان ما تنطفئ، فما زال القناص هو الذي يملك زمام الساحة!
كان القناص هو الحقيقة الوحيدة في هذا العالم بالنسبة لـ (سالي/ عايدة)... ذلك هو... يتربص بها الموت... في كل زاوية... في كل شرفة... في الطرقات... في الحانات... في المساجد... في الصوامع.. في السماء... على الأرض... لا ينفك القناص يعيش في وعيها المطرز بثقوب رصاصات الحرب ، يوم خربوا بغداد ... يوم عبثوا في الأسرار الخفية لأجسادنا...
كان النص يتحرك على الجسد، والجسد يستجيب، حركة تضارعُ إعصار الريح العاتية، وسكون يخيفُ السكونَ مِن أن يفقد صلاحيته في هذا الوجود، تزحف (سالي /عايدة) على يديها وركبتيها، تتقافز إلى الأمام، تزيح ظهرها باتجاه الرأس، فيهتز الرأس بعنف وشراسة وجنون ووجع، تلتهم خطوات الموت، تدفع برأسها ليلامس ذقنها الأرض، علامةً على وصول الذروة إلى المأساة، وتصرخ بالإله الرخو، ليفيق العالم من وهدته القذرة.
هي...
هي نفسها...
ذلك أن النص كان قد كُتِب على الجسد... كانت قد حفرته (عايدة) على الجسد... كانت قد سهرت الليالي تشقق الجلد، وتُخرِِّم اللحم، وتثقِّب العظم...
أيها المشاهدون مالكم قد عميت أبصاركم!
ألا ترون الحروف على جسدها تلهث... تبكي... تصرخ... تضحك... تسخر... تلعن... تتناسخ... تتواصل... تتقاطع... تستمني بكل ما أودعها الله من خزائنه.
اختلط النص بالدم... هناك... هناك كان نهراً من جنون يشق طريقه المتعرجة إلى السماء السابعة يعزيها باجتزاء الشهوة...
ــ (هذا العالمُ أسلاكٌ شائكةٌ حولَ الكلماتِ،
فحاولْ أنْ تتسللَ.
راوغْ موتَكَ كي تحيا.
راوغْ شرطيكَ كي تكتبَ.
واحذرْ مهما كان مراوغةَ القلبِ)...
هذه العالم السِلكي الآلي، العالم الذي يمنع تسرب الكلمات إلى خارج حريمها، هذا العالم يحتاج إلى جسد يعرف كيف يرقص ألماً على هذه الأسلاك، يرقص وجعاً حول هذه الكلمات المعتقلة، وإذا كان المخرج الرائع قد نجح في رسم المعادلة التي تساوي بين الجسد والعالم، فأن الممثلة (عايدة) نجحت بجدارة فائقة في التطابق الحي بين الجسد والنص!
ــ أنا لماذا أنطق بهذه الكلمات الغريبة الآن؟ ما الذي جرى؟ أراني غيري... فمن أنا؟
أي جسد يتطلب هذا النص؟
يتطلب جسداً منشطراً، يتطلب جسداً ينطوي على زمنين في لحظة واحدة، ينطوي على ذاكرة تتأرجح بين غياب وحضور، وقد كان المخرج موفقاً في تشظية الجسد من خلال حركات متنازعة الاتجاه، ولكن لا ننسى، أن (عايدة) كانت كرة من نار، تتطاير منها كرات، تتنازع موقع السيطرة على الجسد من بعيد، ففرَّجتْ عن ساق، ولمَّتْ ساقها الأخرى، وكورَّت رأسها بذراعيها، وتلوَّت من جهة اليسار، تضغط على خصرها الملكوتي النحيف، لتعتصر النص باتجاه اليمين، وكان عالم يتأجج بنار الله ...
مسرح الموت
أنه مسرح الموت، فهذه الثياب البيضاء خادعة، هناك جسد تتقاسمه روحان... تاريخان... وجدانان... وهناك مشرط ينتظر دوره بتشقيق خزانه من الأسرار، وهناك أم ساذجة ائرة، وهناك سرير يتحرك ليس طبقا للمنطق الذي يجب أن يسود في معترك الحياة، وهناك جسد، بل كائن يخبر عن نفسه بأنه مجرد ورق (ورقةٌ للمحاسبِ/ ورقةٌ للفتاةِ العابرةِ/ ورقةٌ للغشِ في الإمتحانِ/ ورقةٌ للقصيدةِ العنيدةِ/ ورقةٌ للتمزيقِ/ ورقةٌ للبكاءِ/ ورقةٌ للـ…/ ماذا أفعلُ لهذهِ الفوضى التي يسمونها حياتي/ وأسميها حماقاتي).. أنه مسرح الموت، ففي هذه المسرح أفرغ الجسد من شهوته الحقيقية، تمسِّد الممرضة (الأم) جسد ابنتها سالي، لتعيد لها شهوة قد افتقدتها حينما كانت تحرك بأحد يديها وهماً بين فخذيها، كانت هناك شهوة مقتضبة، ولكن في هذه اللحظة شهوة ميتة... تتحسس الأم صدر (سالي) لتعيد إليه أسراره المفقودة بسب أزيز الطائرات، ولعنة السياط، تحرك فيه شهوة ناعمة، تمسد فخذيها... بطنها... ظهرها... تلامس بيديها الحانيتين الشهيتين كل مكامن الإثارة الكونية المخزونة سراً في ضمير الإله، ولكن دونها شهقة الشهوة المكتملة، لأن القناص... قناص الحروب، ما زال ملك الساحة في هذا العالم.
تشعر بارتياح ولكن ارتياح العاجز وليس ارتياح المطمئن إلى التشبع عن رغبة عميقة، في سياق من وعي الحياة ورسالة الحياة، بل هي شهوة عابرة، خلقتها يد خارجة عن حريم الجسد الممزق.
كانت هناك شهقة ولكنها شهقة مستهلكة، شهقة الحرص على تسمية الأشياء بأسمائها...
ــ أش ... تخيلي وأنا أمسد لك عضوك... أريدك...
ــ (إنكفأت... فبين المفوض، والقحبة المستريحة، فوق الأريكة،
كنت أفتش عن وطني).
ــ أش ... أتركي هذا الألم وأنصتي لانصياع رغبتك...
لم ترتعش (سالي)... كانت رعشة خوف، وليس رعشة شهوة، وعندما يحل الخوف محل الشهوة تموت الحياة، ويعلن الفناء سيطرته على كل ذرة من ذرات المعمورة.
لا رغبة مع ضياع الوطن...
لا رغبة مع ضياع الوطن... حتى إذا تكورت يد ناعمة على نهد ناعم، يحلم بأن تكون أسراره الداخلية خارج دوائر الرقابة الأخلاقية المصطنعة.
كان مسرح القناص، ذلك هو القناص، سواء كان وهما أو حقيقة، ماثلاً في كل مكان، مسرح ضاع فيه الوطن على لسان واع، فيما ينزلق باستمرار على لسان مريضة تعاني من مرض نفسي مريع ، فهل هناك أكثر من هذه الفاجعة الكبرى؟
مسرح الموت.. .
الفنان حسن هادي أشاع الموت في أعيننا بمشاهده، أشاع الموت في أسماعنا بنصوصه المختارة والمعدة عن: (مقاطع من "نشيد أوروك" للشاعر العراقي عدنان الصائغ، ونصوص للشاعر السويدي ارنه زارنك Arne Zaring)، تشيعها موسيقى حزينة تبكي حتى الصخور (التأليف الموسيقي للفنان علي السيد)، وضوء مجنون كما هي (سالي)... كما هي (عايدة) وقد ضحت بشعرها الطويل كي تؤدي دور الجسد المشطور بين ذكر وأنثى... (السينوغرافيا: اماندا ويكمان Amanda Wickman. إدارة الإنتاج: منال مصري.
ترجمة النصوص: ملاك مظلوم، وآرنه زارنك، ونادين، وعايدة. التقنيات المسرحية: إسامة عليان، وتقنيات الكمبيوتر: سلام سميسم).
حرص المخرج الكريم أن تكون حركة المؤدين هندسية منظّمة، كان النظام يسيطر بوضوح على حركة الممثلين الثلاث، توزعت الحركة على أشكال هندسية مدروسة، تغلب بها الشكل الدائري على غيره من الأشكال، خاصة بالنسبة لسالي، فهل كان ذاك تعبيراً عن دوران الوجود في ذهنها بشكل مقلوب؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن من المعقول جداً أن يكون للحركة التي لا تخضع لأي شكل هندسي رسمي دورا جوهريا في تصميم الحركة بشكل عام، فقد قال الفلكيون القدامى بل وحتى ارسطو أن الدائرة أكمل الموجودات، فيما كان هناك وجود تحول إلى سلطان على الشهوة التي هي سببه القصي.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |