الخيار المر....دولة الطائفة أم دولة سايكس بيكو
خاص ألف
2013-09-18
في واحدة من ذكرياتي الطريفة عن الوطن الثاني لكل العرب مصرأني كنت أمر من حي الحسين ,و كنت طالبا ...حين علا صوت شجار مفاجئ, فتوقفت يدفعني الفضول لأرى امرأة في منتصف العمر, وكانت تعمل جزارة, وهي تشتم وتلعن زبونا كان يحتج على سماكة ورقة اللف المصنوعة من الكرتون, وبذا تختصر من وزن اللحم الذي اشتراه الزبون ما يزيد على الربع, ولما كان ما اشتراه لايزيد على النصف رطل, والرطل المصري وقبل التحول إلى الكيلوغرام يساوي ما يقارب النصف كيلو, وهكذا رأى الرجل في ورقة اللف الكرتونية إجحافا كبيرا بحقه, ولما ازداد الجدل إذا بالجزارة تشهر ساطورها مهاجمة ومهددة ليرعوي, ولما لم يرعو, بل وقف على مقربة من الدكان يحاجّها صارخا كما تصرخ, ومستنجدا بالحضور ليروا الظلم الذي توقعه به, وحين صارت الملاسنة مؤذية لسمعة المحل ولسمعتها الشخصية هاجمته بالساطور, فهرب, ولكنها لم تتركه, بل صممت على مطاردته, ولكنه أمعن في شتمها والرد على شتائمها هاربا وهو يرميها بما يقع في يديه من حجارة أو سقط المتاع, فما كان منها إلا أن توقفت قليلا, و لدهشتي الصارخة قامت بخلع ثوبها السابغ الطويل لتتبدى كاملة العري شديد ةالبدانة مشهرة ساطورها المرعب وهي تردد الشتائم مقسمة على قتله.
هذا المشهد ما يزال يلح عليّ بعد أكثر من ثلث قرن, فأنا أذكره في أيامنا هذه كثيرا وأتساءل : أهذه الأوطان الجديدة علينا, والتي لم نتعب تعبا حقيقيا للحصول عليها, وهذه الأعلام , والأناشيد الوطنية, والحدود, أتراها ليست إلا ثوبا فائضا نستطيع خلعه ورميه عند الغضب الأول كما فعلت جزارة الحسين لنبدأ رحلة الغضب البدوي الذي سيكون ضحيته الأولى الجغرافيا المفاجئة, والوطن المفاجئ, والراية المفاجئة, والنشيد الوطني المفاجئ, وأعود إلى البدايات.
حين أدرك للويد جورج رئيس الوزراء البريطاني, وصانع جغرافيا المشرق العربي للقرن العشرين, وبعض من الحادي والعشرين, ولزمن الله وحده يعلم متى ينقضي, حين أدرك أن كابوس أوربة للخمس مئة عام مضت ــ وأعني الدولة العثمانية ــ سائرة إلى الهزيمة والتفكك السريع, فكل المؤشرات تشير إلى ذلك, وجد أن عليه الإستعداد للآتي, فطلب من القائمين على الأرشيف والخطط لقادمات الأيام أن يأتوه بأرشيف المنطقة التي سموها بالليفانت, فلم يكن اسم الشرق الأوسط أو الشرق الأدنى قد طرح في التداول بعد, وأقام على دراسته لزمن لابأس به, فأدرك ما لم يدركه حكام المنطقة الآتون, وهو أن هذه المنطقة التوأم للبلقان كابوس أوربة للقرن التاسع عشر وللعشرين منذ بداياته, وأن هذه المنطقة الحائرة المحيرة لم تستطع يوما أن تنشئ دولتها الموحدة الكبرى, والأنكى أنها لم تستكن أيضا لحاكم ينتمي إليها, فتاريخها تائه ما بين دويلات المدن "الآرامية, والسلجوقية , والأتابكية بعد تحللها", وما بين الانضمام إلى واحدة من الإمبراطوريات الإقليمية أو الخارجة عن الإقليم, فقررمخدوعا بأوربيته التي صنعت دولا من شعوب مختلفة ومذاهب مختلفة في أوربة, فقررأن فرصة تكوين جغرافيا الليفانت لدول حديثة على الطريقة الأوربية قد حانت, وكان قرار إقامة دولة ليهود العالم في فلسطين مغريا, ولابد له من جوار يشبهه, وهذا ما عبر عنه لورنس داريل في روايته" رباعية الإسكندرية" حين قال أحد أبطال الرواية بكل صراحة مدافعا عن إقامة دولة لليهود في ما كان يدعى "مملكة بيت المقدس الصليبية "جنوب الشام: إن قيام دولة لليهود في فلسطين سيكون الأمان والحماية لكل أقليات الشرق الأوسط, والمانع لنشوء دولة للأكثرية تضطهد الأقليات!!! وهذا بالإضافة إلى أن كثيرا من الكتاب والمصرفيين وصناع الرأي الأوربين كانوا يدعون إلى إقامة دولة لليهود تحرر أوربة من عبءاليهود من أصول سلافية من الثوريين, والمصرفيين من أصول تسفارادية" اسبانية"ممن امتصوا الدماء من عروق الأوربي العادي.
استدعى للويد جورج سكرتيريه ومساعديه, وأخذوا يتناقشون في مصير هذا الليفانت, وحدق للويد في الخارطة أمامه طويلا, ثم سأل واحدا من مستشاريه: ماذا تقترح من اسم لهذا الجزء من الليفانت؟, فأجاب خبير التاريخ الليفانتي بأنها كانت تدعى سورية في الزمن السلوقي, فمط ّشفته في رضا, وقال: فلتكن سورية ! ثم وضع أصبعه على الخارطة, فصارت سورية, وتابع السؤال: وهذا البلد ماذا تقترحون له من اسم؟, وأجاب السكرتير الثاني : إنها كانت تدعى في التوراة فلسطين, فصارت فلسطين, وهكذا استمرت تسميتها باسم فلسطين للعرب واليهود معا للنصف الأول من القرن العشرين حتى يقرر بن غوريون ومن حوله أن يتنازلوا عن اسم فلسطين الموجود على العملة والطوابع والأوراق الرسمية, ويستبدلوه باسم اسرائيل قبل بضعة أسابيع من إعلان الدولة اليهودية فقط.
تنازل اليهود عن اسم فلسطين, ولكن العرب تمسكوا به رغم أن بلا د الشام كلها ليس فيها اسم لأسرة شامية واحدة تحمل اسم عائلة الفلسطيني مع وجود عشرات العائلات المسماة بيت الغزاوي والنابلسي والخليلي والصفدي إلخ, وكذا كان الأمر للبنان التي ورثت اسمها من الاسم الآرامي لجبالها التي بيّضها الثلج الأشبه باللبن فصارت لبنان, ولكن الأردن هي ما حيرت للويد جورج الذي سماها تبعا للنهر المقدس الأردن, ثم تحير اسم هذا البلد ما بين عبر الأردن إلى شرق الأردن , و...إلى المملكة الأردنية, وليس في المنطقة الشامية كلها من يحمل اسم السوري أو اللبناني أو الأردني.
وكما علّم الرب آدم الأسماء, فصارت أعلاما, علّم للويد جورج سكان الليفانت أسماءهم الجديدة, فصارت أعلاما لهم, ثم تذكر أن هذا الإقليم المستعد للثورة على الدولة العثمانية لابد له من راية ونشيد وطني, فأمر سكرتيرا ثالثا في مكتبه بوضع علم لهذه الثورة, فخلا الشاب في مكتبه مع قلم رصاص وورقة وعلبة ألوان, ثم قدّم بعد نصف ساعة العلم للسيد رئيس الوزراء الذي أبدى إعجابه بالتحفة الفنية المنجزة, ثم حولت التحفة إلى صانعي الرايات المحترفين الذين سيصنعون معجزة الثورة العربية الكبرى" راية الثورة"التي سيمشي العرب إلى دولتهم القادمة تحت ظلالها وخلف الأمير فيصل, وحين تخفق الثورةالعربية الكبرى بمداعبات ماكماهون الشهيرة للشريف حسين لايختفي العلم الجديد معها, بل سيعتمد الحزب الذي سيولد من الرحم الأوربي أثناء الحرب الثانية, والذي سينادي بالأمة العربية الواحدة من المحيط إلى الخليج, سيتبنى هذا العلم, دون أن يجد من يسائله من أين جئت بهذا العلم, ومن صنعه لك! وسنعيش بقية القرن العشرين تحت راية حزب البعث العربي نهتف :من المحيط إلى الخليج, وأمة عربية واحدة سماها لنا للويد جورج, وصنع لنا علمها للويد جورج , وصنع حدودها لنا للويد جورج, ثم رسم حدودها لنا للويد جورج.
حين وصل الحلفاء المنتصرون إلى إقليم الليفانت فكروا بطريقة ما لاقتسامه , فرأوا الرجوع إلى التاريخ الذي عرفوه قبل قيام الدولة العثمانية "الضد" فلم يجدواأقرب من الحروب الصليبية التي خرج الغرب منها مهزوما للمرة الأخيرة أمام الشرق الإسلامي, فأعادوا قراءة جغرافيا الليفانت الذي نعيش فيه, فرأوا الإمارات الصليبية التي لم تستطع أبدا أن تتوحد لتصنع دولة كبيرة يمكن لها الوقوف أمام المسلمين الذين عرفوا أخيرا طريق الوحدة ليجدوا أن الإمارة الصليبية الأولى كانت إمارة أورفة , ثم كانت هناك إمارة أنطاكية , ثم إمارة طرابلس ,ثم إمارة الكرك , ثم مملكة بيت المقدس , وكانت هناك إمارة متأرجحة مابين الدويلات الإسلامية والدويلات الصليبية وهي إمارة صلخد, وعلى الجانب الإسلامي كانت هناك إمارة دمشق, وإمارة حلب, وإقطاعيات مثل شيزر, وأفاميا, وعين طاب إلخ
تشرشل الذي خلف للويد جورج في شهوته لصناعة الدول صنع دولتين كما يصنع الطباخ الفطائر, أي بخلط اللحم مع البصل, والفطر, والأعشاب العطرية ,وكان المأمول إنتاج فطيرة شهية تلذ للآكلين ,فصنع العراق العربي, فالعراق العجمي كان محكوما بالشاه صديق البريطانيين, ولم يكن من التركة العثمانية, ولذا كان لقمة عصية, فاكتفى بالعراق العربي ليصنع منه دولة على النمط الأوربي فجمع فيه السنة مع الشيعة والكرد والتركمان , وكان مثل للويد جورج يؤ من بإمكان صنع دولة ناجحة بإرادة العيش المشترك, والاقتصاد المشترك , واستيراد النظام الديموقراطي الجاهز من الغرب , وتطعيمه في هذه الدولة التي لم تفارق البداوة بعد , البداوة التي فرضتها عليه قرون من الغزوات المغولية والعثموصفوية.
لم يكتف تشرشل بالعراق , وكان من سيحبون تسمية أنفسهم بالسوريين قد أمّروا عليهم ملكا هو فيصل بن الحسين, وفي هذا البلد صنعوا فطيرتهم الخاصة متجاهلين قرون القهر والتجهيل وما ترك في النفوس من غضب ومرارة سيدفع ثمنها الأجيال التالية, وهكذا صنع تشرشل مستعينا بالأمر الواقع الذي صنعه السوريون تحت إمرة فيصل"مملكة فيصل".
وصل الفرنسيون مطالبين بحصتهم من الغنيمة, فكان أن طرد فيصل إلى العراق بعد معركة رومانسية أكثر منها معركة عسكرية حقيقية" ميسلون", وفجأة ـــ لست أدري إن كانت فجأةـــ تذكر الفرنسيون تاريخهم في الحروب الصليبية, وتذكروا الجغرافيا السياسية التي كانت قائمة آ نذاك, فقرروا نسخها, ترى أكان هذا النسخ مفروضا بقوةالجغرافيا, أم بالرغبة في بعث الطائفية وتأبيدها.
إقليم أورفة أعطوه لتركيا منذ البدايات, أما إمارة أنطاكية الصليبية, فقد أقاموا مكانها دولة العلويين, ثم جعلوا من إمارة طرابلس دولة جبل لبنان الكبير, ثم جعلوا من إمارة الكرك دولة الأردن, ومن مملكة بيت المقدس فلسطين التي ستكون الجرح النازف كما كانته زمن الحروب الفرنجية , وعلى الجانب الإسلامي أقاموا دولة دمشق ودولة حلب, وأخيرا جعلوا من إمارة صلخد دولة سموها دولة جبل الدروز, وبذلك استعادت الجغرافيا الصليبية شكلها القديم .
جيل الآباء استطاع التغلب على الجغرافيا الصليبية, فقامت سورية السياسية التي عرفناها ونعرفها, ولست أدري إن كان البعض سيكون انتحاريا إلى درجة تمزيقها خضوعا للنزعة التي زرعها الجنرال غورو فينا, فصارت سوريتناالأبدية ليست الوطن, بل صارت سورية ثوب المصرية الجزارة التي كلما ضايقها الثوب نزعته غير مبالية بعري سيدمرها هي قبل الجميع .
سمية بغدادي
2013-09-21
مقال مرعب من أديبنا الذهبيولكن هل تعتقد أن الفرضية بعيدة ،هل تعتقد أن التاريخ سيهزم الجغرافيا والديمقراطية ستصنع بلدا بني على الفرقة
عزة البحرة
2013-10-17
شكرا لك .. مرور سريع مختصر يوضح فعلا تاريخ المنطقة ومامرت به على مدى أكثر من قرن .. وللأسف السياريو سيعاد من جديد وعلى أيدي أحفاد وورثة "لويد جورج "ممن خلفوهم وراءهم من العرب السوريين وبرؤية استعمارية جديدة..ولكنها تستخدم ذات الآليات والأسلوب..
08-أيار-2021
06-شباط-2021 | |
28-تشرين الثاني-2020 | |
22-آب-2020 | |
15-آب-2020 | |
09-أيار-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |