حسيب كيالي أوحشتنا
خاص ألف
2013-09-25
أنا أعرف أن الكثيرين ممن يكتبون باللغة العربية في أيامنا هذه يعتقدون بأن اللغة التي يكتبون بها هي اللغة العربية الأزلية نفسها التي وجدت منذ بدء استعمال اللغة العربية , أما القلة من الأكاديميين, ومن المتعمقين باللغة العربية, والمتعصبين لها, فيعتقدون بأن اللغة العربية قد تعرضت على أيدي المعاصرين من كتاب وصحافيين أنصاف متعلمين!! إلى تشويه وحط من مقامها العالي يحيث وصلت إلى ما نرى من اضطراب وضعف أمام اللغات الأجنبية والدخيل من المفردات!!, ولكن الواحد منهم لاينسى الإشارة إلى استعارة اللغات الأوربية الكثير من مفرداتها من اللغة العربية, ألا يكفي هذا دليلا على عظمتها, وبالتالي عظمتنا, وعظمة حضارتنا, وصوابية خياراتنا, ودناءة المؤامرة التي لم تتوقف على ديننا وحضارتنا, وأذكر من طفولتي أن مدرس اللغة العربية كان يتحدث في فخر عن لغتنا العربية التي استعارت اللغات الأوربية منها كلمات كالاسطرلاب, والاسطبل, والاسطوانة إلخ رغم أني سأعرف مع التقدم في العمر أن الكلمات الثلات هي كلمات يونانية أصلا, وإن دخلت إلى العربية منذ بواكير الترجمة في العصر العباسي عند عجز المترجمين السريان عن ايجاد المقابل الدقيق للكلمة اليونانية كمافعلوا مع الطراغوذيا والقوموذيا المقابلتين للتراجيديا والكوميديا اليونانيتين, فاحتفظوا بها في صيغتها اليونانية حين عجزوا عن ايجاد بديل عربي لها.
والحق إن الحكمة القديمة التي تقول "إن نصف العلم أسوأ من الجهل " كلمة تضاهي الحقيقة, فنصف العلم وخاصة في ثقافة تؤمن بالحفظ دون إعمال العقل, والتساؤل, والشك, الأمر الذي لا بد أن يقود إلى هذا الحس المبالغ فيه بأهمية الشيء الوحيد الذي يشعرنا بالتماسك, وأعني اللغة, العامل الوحيد الذي يعطينا الهوية, فهي العماد الوحيد الذي تبقى بعد انهيار مناحي الحضارة القديمة, وقد رأيت شيئا يشبه ما أقول لدى الكرد, وهم يتشاركون مع العرب في نزعة التعلق باللغة بديلا لكل إسهام في الحضارة الانسانية, فيحولون جذرأية كلمة تتشابه صوتيا مع كلمة كردية إلى اللغة الكردية, ويأخذون في ليّ عنق الكلمات لتتطابق مع كلمة كردية ما, فقد حدثني أحدالأكراد مرة عن كلمة "الزبداني" وهو اسم لمدينة في ريف دمشق بأنها كلمة كردية, وأن منطوقها بالكردية هو" سيف داني "وعن كلمات أخرى لم أعد أذكرها, قالها طبعا في إعجاب بعظمة التاريخ واللغة الكرديين, وفيما بعد وعند نضجي قليلا سأضحك كثيرا من سخف وسذاجة العرب والكرد اللذين أخفقا في صنع شيء ذي أهمية معاصرة إلا في استرجاع بقايا عسكرية لم تستطع إنجازحضارة معاصرة ذات قيمة, فتحولوا إلى تحويل سبطانات أسلحتهم إلى الداخل, أي إلى الانتحار, وسيقول الكثيرون إن الكرد لم يقعوا في المطب العربي حتى الآن, وأنا أقول إني أتمنى ألا يقعوا, و....لكن .من يدري ماذا تخفي لهم الأيام, ونعود إلى أهمية كون الكلمة مستعارة من لغة أخرى, فأ قول وما المهم في هذا, وما قيمة كون الكلمة كردية أو هندية, فالحضارات والاحتلالات تخللت العالم كله, وكل عابر في بلد ما سيترك بصمته اللغوية فيها, فهل يعني هذا تفوق شعب ما لأنه ترك اسما عربيا أو هنديا في بلد ما, في زمن ما, والولايات المتحدة هي الشاهد الأكثر تحديا وصرامة في امتصاصها في اعتزازلكل من مر بأرضها منذ فجر الحضارة وحتى يومنا هذا, ولنذكر الميسيسيبي الهندية الأصلية في اميريكا, ولويزيانا الفرنسية, ونيو امستردام الهولندية إلخ.
ونعود إلى ما افتتحنا به مقالنا عن الذين يعتقدون بأن اللغة العربية المستخدمة في أيامنا هذه هي لغة العرب منذ أن تكلم بها العرب رافضين أن يعرفوا أن اللغة كائن حي يتطور كما الإنسان فتوة, فشبابا, فشيخوخة, فموتا, وهناك الكثير من اللغات مامات واختفى, ولنتذكر اللاتينية والديموطيقية المصرية في مصر القديمة والتي حاول الأقباط طويلا الحفاظ عليها, والآرامية ثم عاميتها السريانية, ولكن... هذه هي سنة الحياة, وكانت اللغة العربية بعد أفول مجدها واستكانتها تحت الحكمين المملوكي والعثماني, وابتعاد الشعلة الحضارية عن بابها وطريقها وسمائها قد أخذت تنحل, وتتقزم, وتفتقر حتى تحولت إلى لغة خدمات لدكنجية بلا أحلام إلا حلم البقاء وحفظ النوع, وإلى شعراء نظامين وصل الإبداع بهم إلى كتابة شعر عن الخيار والقثاء واليقطين, ولو أن باحثا معاصرا أتعب نفسه, وحسب عدد المفردات التي كتب "البديري الحلاق" فيها مذكراته الشهيرة, ودرس في هذه المذكرات هموم هذا الرجل الممثل للشعب بأكمله لعرف إلى أي منحدر وصلت هذه اللغة, وحتى لو حاول هذا الدارس أن يحسب عدد المفردات التي استخدمها عالم أزهري, وأعني الجبرتي, والرجل من نخبة النخب في عصره, فاكتشف الفقر المريع في نوع وعدد المفردات المستخدمة في هذا السفر المرجع. ... وإذن ما الذي حصل لأحفاد الهمذاني, والحريري, والجاحظ, والتوحيدي ؟
ربما كان العطب الحقيقي في اللغة العربية هو أنها لم تحظ بمجموعة من العلماء, أو بهيئة ممولة من دولة غنية يتفرغ فيهاهؤلاء العلماء لوضع ولو كتاب أولي عن تاريخ اللغة العربية, تاريخ المفردات فيها, تاريخ معاني الكلمات, وتطورها, وكيفية تحولها, ومن من المبدعين أدخل هذا المعنى أو ذاك, ثم.... سيطورأجيال من المراجعين والمعترضين على هذا الكتاب الأخطاء الممكنة التي وقع فيها المؤلفون, وبذاسيبدأ التنقيح, و سنعرف متى دخلت هذه المفردة أو تلك إلى اللغة العربية, وكيف تطور استخدامها عبر العصور, وكيف تطورت المعاني على أيدي المبدعين حتى وصلت إلينا كما نعرفها الآن, ومتى دخلت هذه المفردة إلى العربية, ومن أي لغة أصلية, وعبر أية لغة وسيطة تسربت, وما المعاني التي حملتها في رحلتها تلك, وبذا تصبح المفردة بنت عائلة معروفة النسب, أما, وأبا, وتاريخ حياة, أما في عربيتنا المعاصرة, فالكلمات إما أن تنحدر من جد جاهلي يعتد به, وإما ان تكون لقيطة, دخيلة انسلت من العجمية أو النبطية إلى الحرم العربي, والعجمة والنبطية اتسعت حتى شملت كل ماهو ليس بدويا خالص البداوة ,وهذاأمر غير مقبول في أيامنا هذه حيث لم يعد هناك لغة نبيلة ولغة منحطة, فاللغات تتقارض وتستعير, والمبدع ا لحق هو من يفرض مصطلحه ولغته.
والآن ما علاقة كل هذه المقدمة بالعنوان الذي يحن إلى حسيب كيالي ويخاطبه بصيغة أوحشتنا؟ ......المشكل في سورية أنها إقليم كان يتنكر دائما لمبدعيه إن لم يستضيئوا بالسلطان, وربما كانت هذه النزعة ملتصقة بالحضارة الإسلامية ككل, فمركز النور الوحيد والأساس في هذه الحضارة هو السلطان, وما الآخرون ممن يعيشون في مملكته إلا بعض أفضاله على الأمة ........لقد سمح لهذا العبقري بالعيش والظهور, ولكنه لن يسمح له أبدا بالخروج عن حدود مملكته "فيكبر رأسه "كما فعل نزار قباني , وعمر أبو ريشة مثلا.
كان بدء تعرفي على حسيب كيالي في التقاطي مجموعة قصصية له كانت تحمل اسم "أخبار من البلد "التقطتهاعن سوق الكتب القديمة في سور الأزبكية, ولم أكن قد سمعت به من قبل, ليس لخمول في ذكره, أولضعف في تأثيره في الساحة الأدبية في سورية, ولكن لأني غادرت سورية قبل التشرف بالتعرف على كاتب في أهميته, وبالمناسبة نستطيع من خلال هذا المثل المخبري لحسيب كيالي أن ندرس مسيرة الكتابة والأدب في سورية, وخاصة في الزمن البعثي, ويكفي أن نعرف أن متسلقا كعلي عقلة عرسان استطاع وبجرأة مرعبة في حق الأدب والتاريخ أن يطرد كاتبا بأهمية حسيب كيالي من اتحاد الكتاب العرب, وأن يظل يضايق عيوننا وأذواقنا وجيوبنا لأكثر من ثلاثين سنة مجدبة في رئاسة اتحاد لايجوز له أن يكون عضوا تحت الاختبار فيه, ولكنها المشيئة الإلهية لحزب البعث الممسك بمقاليد ومداخل ومخارج الشعب السوري, وهي المشيئة نفسها التي تخلت عنه حين انتهى دوره الحزبي, فاختفى كأن لم يكن!.
أذكر أني كنت أمسك خواصري بصعوبة وأنا أقرأ سخرية حسيب الهادئة, والحنون من شيخ الجامع الأمي, ومن قبضاي الحارة, ومن الولد المفسود الذي يغني "اوه مامي مامي"وعن وجوب تغنيه ب...ياصاح الصبر وهى مني.... وفيما بعد سأقرأ سخريته الجارحة والهادئة من شاعرسوري مقذع اللسان, شديد السخرية, سريع البديهة, وتوقعنا جميعا أن نقرأ سلسلة من المناقرات التي ستحرك الجو الأدبي, ولكن الشاعر اشترى السلامة بالصمت وتجاهل السخرية منه, وخسرنا قطعا من الأدب الساخرحتى من نفس المبدع!
أما اللغة العربية والتي بدأنا مقالتنا بالحديث عن ضعفها وشيخوختها المربكة والتي كانت المبررلكتابة هذا المقال, واستشهدنا ب" البديري الحلاق" واستشهدنا بالأزهري المؤرخ الجبرتي, أما أبو البقاء البدري واضع الكتاب الجميل "نزهة الأنام في محاسن الشام "وهوأنشودة في التغني بجنة الله في الأرض دمشق, ويبدوأنه كان منتشيا لقيام دمشق من دمار الوحش الآسيوي المختنق بالحقد الطائفي تيمور لنك, وهاهي بعد نصف قرن فقط تقوم من موتها, وتعود إلى سيارينها" نزهاتها" الخلوية, وإلى تغني شعرائها بزهورها وفواكهها, ولكنه وهو يصف لنا مغاني المدينة, ويسجل لنا شعر شعرائها يجعلنا نقرأ الانحطاط الروحي الذي أوصلتها العزلة والفرح الساذج بالقدرة على الانتصار على الدمار الذي أراده لها الوحش الطائفي, انحطاط روحي لم يكن يخطر لتا ببال, فالشعراء الذين فقدوا روح الكفاح وروح التحدي والمغامرة, واستسلموا إلى مجرد لذة العيش ولاشيء إلا العيش, فقرأنا لهم شعرا في الخيار والقثاء والسفرجل, أما النثر الذي غرق في السجع لإخفاقه في الشغل على اللغة كأداة لكشف أستار الروح لضحالة الروح أصلا, فلم يكن خيرا من الشعر.
وجاء القرن العشرون, وجاء معه الغرب البورجوازي, وأدبه, ومسرحه, ثم سينماه, ووجد المبدع العربي نفسه يدخل العصر مع لغة محنطة مكتفة بالسجع والمحسنات البديعية, وكان لابد من ثورة, وكانت المحاولة الأولى مع المنفلوطي الجسر مابين السجع والمحسنات البديعية, واللغة المرسلة المعبرة عن المعنى دون زيادة أو نقصان على الطريقة الأوربية, فكان الجسر اللغة المنفلوطية العاطفانية البكائياتية التي فتنت جبلا بأكمله, وكان المعلمون مستميتين في تعليم التلا ميذ جمالية الإنشاء, وجمالية الإنشاء في حاجة إلى نماذج يقرأها, ويحتذيها التلاميذ, وكان النموذج صارخ الحداثة لدى المنفلوطي !! وكان هناك لمن لم يعجب بعاطفانيات المنفلوطي, نموذج آخر إنه "أوراق الورد" لمصطفى صادق الرافعي, ولغة الرافعي صحيح أنها ليست في عاطفانيات المنفلوطي, ولكنها لشدة تأنقها, وتعملها, وتصنعها تثير الرغبة الشديدة في الغثيان.
بعد انغماس جيل كامل في النوسان بين هاتين المدرستين قفز إلى الساحة جيل عرف وتعلم على أيدي اللغات الأوربية, فعرف من أسرارها الاختصار والصرامة وتطابق المبنى والمعنى دون زيادة أو نقصان, وكان في مقدمتهم العلم الكبير نجيب محفوظ في مصر, وابراهيم المازني, أما في سورية, فكان الرجل الكبيرحسيب كيالي الذي تجرأعلى مقامه العالي اللبلابة البعثية علي عقله عرسان فضيحة انحطاط سورية الثقافية والفكرية والذي لم يكتف بطردحسيب من الاتحاد السوري للكتاب لأنه أخضعه لسخريته من الانتفاخ الهائل الذي أوصلته إليه انتهازيته البعثية حين سماه مرة بالكاتب الكبير ع ع ع, بل ضايقه في عمله ورزقه مما اضطره إلى الهجرة إلى دبي حيث عاش إلى أن توفي بعيدا عن أرضه ووطنه., وما يزال عرسان يرتع في نعيم البعث في سورية إلى أن يفرجها رب الفرج.
08-أيار-2021
06-شباط-2021 | |
28-تشرين الثاني-2020 | |
22-آب-2020 | |
15-آب-2020 | |
09-أيار-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |