كان نموذجا حقيقيا لجيله , ذلك الجيل الذي وجد سوريته الحلم, سورية فيصل , سورية ميسلو ن, الممزقة, المقطعة الأوصال , فجزؤها الجنوبي الذي سموه فلسطين قد احتله اليهود الاشكناز آخر موجة من الاستعمار الغربي, وجزؤها الغربي قد صنعوا منه دولة لبنان , وهاهي تجد نفسها ضائعة في وطن لم تألفه, ولم تختره , لست أدري من الذي قدم له حزب البعث الذي لم تكن قد تكشفت سوءته بعد, أو من ذا الذي دعاه إلى الالتحاق بهذا الحزب , ولكني عرفته وكان حزبيا "من جيرود في الغوطة الشرقية "محتقنا بالأحلام , أحلام الوحدة , وهذا ما كان السوريون جميعا متفقين عليه , فقد كانت سورية بحدودها المعاصرة ضيقة عليهم وهم من اعتادوا على وطن يستطيعون الإبحارفيه من بغداد إلى تطوان "هل في القراء من زار تطوان "!! حيث لا هوية ولاجواز سفر ولا تأشيرات دخول , بل هو الوطن المفتوح .
كانت تجربته المزلزلة في قبوله الإعارة ‘لى الجزائر مجاهدا في جيش التعريب هناك, وهاربا من خيبة الأحلام بعد الإنقلاب المشؤوم الذي قام به عسكري كان اسمه حافظ الأسد ,فكان انقلابا على كل الأحلام السورية عامة والبعثيين خصوصا , قال لي وكان يتحدث بصوت معظم البعثيين الذين صاروا مهددين بحريتهم و...حياتهم في كثير من الأحيان : أسافر بعيدا عن سورية لبضع سنين يكون الانقلاب فيها قد انقضى, وتكون سوريا قد عادت إلى سوريتها.
في الجزائر لم يكن السوري الوحيد الذي هرب إليها بل وجد هناك الآلاف إن لم يكن عشرات الآلاف أو مئاتهم وقد نزحوا إليها هربا من الكابوس المتوقع, وكان البعثيون تحديدا يعرفون من هو الحاكم القادم حافظ أسد خاصة وأنهم حين رفضوا الانقلاب , واعتصموا رافضين التعاون أخبرهم ببساطة أنه لن يهتم باعتصامهم , بل سيعمد ببساطة إلى حل الحزب , وإنشاء حزب جديد موال , وخاف الكثيرون من هذا التهديد , فغلّبوا بقاء الحزب على مبادئه وخياراته السياسية , ورضوا بالعودة إلى الحزب والحكم ولو بعيدا حتى عن الديموقراطية الداخلية, ديموقراطية الحزبيين فيما بينهم , فالديموقراطية للشعب كانت بعيدة عن الطرح , فالشعب ما يزال أميا عشائريا لايستطيع احتمال صدمة الديموقراطية ! ......وانا خيري الذهبي لاأستطيع فهم هذا الحس المتعالي , والأصيل في عقلية البعثيين الذي ظنوا بموجبه أنهم أفهم من شعبهم بالسياسة, والديموقراطية حين عطلوا الحياة السياسية إلا للبعثيين , ثم لأعضاء الجبهة الوطنية التقدمية أيام حافظ الأسد حين أقام جبهة من مخصيي السياسيين الذين رضوا بالانضمام إليه , ورضوا في مقابل نعم الانضمام إلى الطبقة الحاكمة , أي سيارة المرسيدس وكولوبة الحراسة أمام الباب ... هل كانت الحراسة لأمنهم أم لمراقبتهم! رضوا يألا يكون لهم أي نشاط في أوساط الطلاب وأوساط الجيش, وبذا أدخلهم في طور التجفيف الداخلي , فهم مرفوضون شعبيا لانضمامهم إلى الطاغية , ومرفوضون من مشاركيهم الايديولوجيا لعجزهم عن ضم الطلاب إليهم وهم الجيل القادم من السياسيين , وفي اجتماع لفرع من فروع الحزب الشيوعي الذي لاأذكرالآن تسميته لكثرة انشقاقات الحزب التي كان سببها الأول هو في انضمامهم إلى شريحة شهود الزور على ما حصل في سورية, لاحظت أن الحاضرين كلهم كانوا في الستينات من أعمارهم, واتضحت لي خطة حافظ أسد الخبيثة في التخلص منهم بموتهم الطبيعي.
كان إنجاز عبد النبي الروائي قد تجلى واضحا منذ روايته المبكرة الأولى العام 1970 .. قارب الزمن الثقيل ... وهي رواية حزيرانية بامتياز فقد عرض في هذه الرواية لمأساة وتمزق المثقف السوري والبعثي خصوصا وهو من انضم إلى حزب لاهم له ولامبرر لوجوده إلا بتحرير جنوبي سورية المسماة فلسطين من الاحتلال الغربي الاشكنازي والذي سيسمى بعد انتصاره على أمه الشام "اسرائيل" فإذابه لاينهزم فحسب, بل يخسر قطعة غالية جديدة من أرضه هي الجولان, هذه الخسارة التي أحيطت, وتحاط, وستحاط بكثير من التساؤلات , فلم يصدق سوري واحد بالعجز العسكري,وكان السوريون مسيطرين على التلال والجبال و الكهوف المسيطرة سيطرة تامة على شمالي فلسطين . كيف تخلوا عنها وعن سلاحهم الثقيل كله وانسحبوا كيفيا أي مشيا على الأقدام , متخلين عن سلاحهم وأحيانا عن زيهم العسكري, وأحذيتهم العسكرية إلخ .
عن هذه المأساة السورية والبعثية بالنسبة للصديق المرحوم عبد النبي استسلم لبث أحزان جيله الذي ابتلي مرتين, واحدة بالهزيمة وكان عبد النبي ضابطا مجندا فيها , فالهزيمة ليست للوطن فحسي بل هي هزيمة شخصية سيمعن فيها عبد النبي في العبث بجرح سورية وجرحه حتى الإيجاع . وأخرى للاحتجاج على الانحراف بالحزب القومي إلى مستنقع الطائفية, أكان يعلن غضبه على العسكر الذين دمروا الجيش السوري حين سرحوا خيرة ضباطه واستراتيجييه تحت اسم الانفصاليين , ثم يبدأون رحلة التصفيات الداخلية ضمن الأطياف والطوائف السورية منهينها بتصفية صلاح جديد وأنصاره حتى نصل إلى " مين ربك ولاه"
تتالت روايات عبد النبي , فبعد قارب الزمن الثقيل العام 1970 والتي نشرت قبل انقلاب حافظ أسد والذي سيفرض على السوريين تسميته بالثورة التصحيحية . ماذا صححت إلا تمكين نظام المخابرات, والاعتقال الكيفي, والاغتيال لمن يهدد النظام, ولو افتراضيا, وإنشاء دولة الرعب ,ودولة الصمت, ودولة السجون, وكان آخرها سجن صيد نايا الذي يبلغ طول ضلعه الموازي للشارع مسافة ربع ساعة بسرعة السيارةكما أعتقد, والأيام القادمة ستكشف عشرات السجون السرية التي كان يصفى المعترض فيها كما تؤكل حبات الزيتون.
تتالت روايات عبد النبي , فكتب رواية السنديانة العام 1971, ثم كتب رواية الياقوتي العام 1977, ثم الصخرة العام 1978, ثم المتألق 1980 ثم المتعدد العام 1982, وأخيرا كانت روايته الجميلة صوت الليل يذهب بعيدا , ومن الغريب أن عبد النبي كان مديرا لثانوية في القامشلي في وقت متقارب وربما مواز للزمن الذي عملت فيه بالتدريس في مدينة الحسكة , ورغم ذلك لم يكن تعارفنا في الجزيرة, بل في دمشق, وفي اتحاد الكتاب العرب, ولم يكن الاتحاد قد سعد برئاسة علي عقلة عرسان للاتحاد للثلاثين سنة القادمة بعد , ثلاثين سنة استطاع الحزب والمخابرات إحكام قبضتيهماعلى الاتحاد رقابيا ونشريا , فلا ينشر الاتحاد وهو أداة النشر الأولى والأكبر في سورية إلا ما ينسجم مع أهداف ,الثورة, الحزب, اأو الأمن.
كانت مأثرة عبد النبي في تعامله مع دولة المخابرات, وقبل انحيازه المشرف إلى الثورة, واعتقال ولديه بهراء ومحمد , هذه الجريمة التي أعتقد أنها أثرت تأثيرا مرعبا على صحته وربما كانت السبب في تسريع وفاته المشرفة , ولكن هذا الانحياز لم يكن مفاجئا لمن عرف عبد النبي عن قرب ,ففي اواخر السبعينات أو أوائل الثمانينات تمت انتخابات في اتحاد الكتاب العرب وكان رجل الحزب والأمن القوي علي عقلة عرسان يشرف على هذه الانتخابات وكان النظام مصرا على السيطرة الكاملة على الاتحاد وقد سمحوا للمستقلين بترشيح أنفسهم خارج قائمة الجبهة الوطنية التقدمية !!! وهم أحرار كيف يسمون أنفسهم , ولكن الطاغية السابق سمى مجموعة حكمه بالوطنية ولاعلاقة لها بالوطن إلا بالولادة , وبالتقدمية التي سماها رجل الشارع ساخرا بالتكلطية .
دعينا للانتخابات وكانت هناك قائمة تحمل أسماء مرشحي التقدميين ,و.....انتخبنا حسب قناعاتنا, ولم يكن يخطر حتى على بال الشيطان نفسه أن الكاتب الكبير علي عقلة عرسان متواطئا مع أجهزة الأمن قد رقّم أوراق الانتخابات بحبر سري سرعان ما كشفوا عبره من انتخب من , او من خالف أوامر الحزب وانتخب العصاة ممن ليسوا أعضاء في القائمة الشريفة " الوطنية التقدمية"وكان من بين هؤلاء الخونة واحد من مؤسسي حزب البعث قبل أن يقع تحت براثن الآساد وهو الناقد والكاتب المرحوم جلال فاروق الشريف أحد المؤسسين للااتحاد نفسه وقد رأس لفترة , وأسس جريدة تشرين التي كانت جريدة حقيقية كتب فيها زكريا تامر , ومحمد الماغوط زاوية يومية تخلت فيها أجهزة الأمن عن تدخلها في كل صغيرة وكبيرة , أما الكاتب الثاني والذي لم ينتخب بأوامر المخابرات, بل انتخب حسب قناعاته بالا ستحقاق, فكان صديقي المرحوم عبد النبي حجازي ,.............وعوقب الرجلان على أهميتهما الشخصية والإبداعية الكبيرة , عوقبا بالتجميد الحزبي وبصرفهما من كل منصب في الدولة , وبذا مكّن علي عقلة عرسان لنفسه طاغية أصغر يمثل الطاغية الأكبر ليحكم الاتحاد لثلاثين سنة حاكما بأمره إلا ما تسرب إليه المخابرات من تعليمات لم يكن بحاجة حقيقية لها فقد كان هو من يعطي الإشارات للمخابرات حول ما يجوز وما لايجوز في مركز العقل, والقلب, والوجدان السوري .
انتقل الصديق المبدع الكبير عبد النبي إلى حيث الميزان الأصدق, ولكنه ترك وراءه أولادا حملوا راية التمرد على النظام الأكثر سوادا وقمعا في تاريخ المنطقة , ويكفي أناّ حين نذكره نذكر أنه من وقف في وجه الطاغية الخفي علي عقله عرسان ,كما سيقف الروائي الكبير هاني الراهب فيبطش به النظام الأمني بطشا سنتكلم عنه في حديث قادم .
تعازيّ للأصدقاء من الأبناء والأصدقاء, وأرجو أن أعرف قريبا أن عبد النبي قد خّلف من يسعدنا أدبيا في وطن حر من الطغيان .
[email protected]