حين كانت البكداشية التي سموها شيوعية تملك الساحة العاطفية في سورية, فالاتحاد السوفييتي قد انتصر على النازية, والنصر على الغرب الذي أذل الشرق لعقود كان شيئا مغريا بالالتحاق بالمنتصر, وكان الجنرال جوكوف قد دخل برلين دخول المنتصرين, ونكس أعلام النازية, ووضع مكانها رايات المطرقة والمنجل, وفي ذلك الحين أي في الخمسينات حوّل خالد بكداش نفسه من قائد سياسي إلى ناقد أدبي, وصار بإمكانه إن أراد الترويج لكاتب, أن يحوله مباشرة إلى أيقونة, ويحول الشبان والشابات من مريدين أو أعضاء في الحزب إلى مروجين عن غير قصد للكاتب المحظوظ, والجيل السابق يذكر كاتبا لم أحظ بسعادة التعرف إليه, فقد كنت إبان نجوميته طفلا ما أزال وهو الشاب الادلبي المرح, الذلق اللسان, محبوب الفتيات المتمردات على سابق التقاليد, هذا الشاب اي مواهب الكيالي, والذي أعجب به خالد بكداش حتى الوله, أعجب بمقالاته, أعجب بطرافة مجلسه, أعجب "بإعجابه "به, واعتباره ستالين الشرق, وانتقل إعجابه به إلى الدائرة الضيقة من حوله, ثم إلى العريضة, ثم إلى الحزبيين, ثم إلى المريدين, وصار الرجل نجما, وحين نشر نصه الأدبي الوحيد كما أذكر ــ على الأقل في سورية ـ أما إن كان قد نشر في موسكو ما لاأعرفه, فهذا شأن آخر.
كان اسم مجموعته الأولى وربما الوحيدة" المناديل البيض", ولم تكن من الأدب العميق, أو حامل الهم الذي يجب أن يحمله مدلل الأمين العام للحزب الشيوعي الأكثر شعبية في سوريا, ولم يكن الحزب عموما ذا انتشار شعبي كبير, فحين انتخب خالد بكداش للبرلمان السوري في خمسينات القرن الماضي انتخب لدمشقيته ولخطبه الباهرة, بالإضافة إلى شيوعيته, بأصوات لم يحظ بها أي شيوعي آخرفي سوريا, وكان انتشار الحزب الشيوعي تحت قيادة بكداش محصورا بين أقليتين: الأكراد غير المتدينين الذين كانوا يبحثون عن آغا, فوجدوه في النجم السياسي شديد اللمعان في ذلك الحين خالد بكداش, أما المتدينون من الأكراد, فقد وجدوا آغاهم في الشيخ أحمد كفتارو, وكان هذا طبيعيا في غياب الحزب السياسي الممثل للكرد سياسيا, أما المسيحيون من الروم الارثوذكس, فقد اعتادوا أن تكون بوصلتهم متجهة إلى موسكو منذ القرن التاسع عشر راعية الارثوذكسية في العالم, وكانت المدارس الروسية منتشرة في سوريا, و كان الروم " وهم بالمناسبة سوريون عرب أقحاح" ولكن اسم الروم لحق بهم بسبب ايمانهم برؤية القسطنطينية الدينية, وكانوا الأكثرية في سوريا بين المسيحيين, فلما تحولت موسكو إلى الشيوعية تبعها أكثرهم, وصاروا شيوعيين.
كانت النكتة أن الاعتراض الأكبر على المجموعة القصصية كان من منظر الحزب الفكري حسين مروة, فقد كتب مقالا نقديا يهاجم فيه قصة في المجموعة لورود حديث عن الحب فيها وعن علاقة الرجل بالمرأة, وكتب حسين مروة:أهذا وقتها يارفيق؟أهذا وقتها؟, والعالم كله يترقب نتيجة الصراع بين الامبريالية الأميريكية ومجتمع الاشتراكية حامل الفرح للأطفال ؟ أهذا وقتها؟ والهند الصينية تعاني من السكين الامبريالية على عنقها؟إلخ ما يمكن لنا تصوره من صراع بين ممثل جدانوف في الشرق وبين كاتب شاب يكتب مايحسه, ويدفعه إليه شبابه, وتوقف مواهب عن الكتابة الأدبية واقتصرت كتابته على المقالة, ولكنه ظل محتفظا بتقدير الأمين العام للحزب الشيوعي السوري الذي كان يحمل في جيبه الداخلي باعتزاز مقولة رجل الإعلام الهتلري غوبلز: حين أسمع بكلمة مثقف أضع يدي على مسدسي, ولذا كسب كل من الياس مرقص المثقف الماركسي والمفكر الذي تعتز به سوريا, ونجاة قصاب حسن, وبدر الدين السباعي وكثير من المثقفين السوريين عداوته اللانهائية, فطردهم جميعا من جنة حزبه, واستبقى بفرح هائل.....حنا مينة .... .
و....وصل تحالف حزب البعث مع قوى الأمن إلى السلطة, فكان أول ما قاموا به هو طرد كل العاملين في الصحافة من فردوس الصحافة, ولم يكتفوا بهذا, بل طردوا كل الكتاب والشعراء والباحثين والأكاديميين, ثم لم يشتف قلبهم, فأصدروا حكما بحرمانهم من حقوقهم المدنية, فدمروا حياتهم إلا من كان يملك مهنة أخرى كالدكتور الطبيب عبد السلام العجيلي, أما من لم يكن يملك مصدر رزق آخر, فقد هاجر من سورية إن وجد من يستقبله في السعودية أو المغرب أو لبنان, أو ترك نفسه يغرق في مستنقع الخمول,.... ثم جاؤوا بطلاب الثانوية, أو خريجي دار المعلمين الابتدائي, وكانوا قد أنشأوا صحيفة الثورة بالإضافة إلى جريدة البعث الصحيفة الوحيدة التي لم تغلق, فمنحوا, أو زجوا بهؤلاء الطلاب في عالم الصحافة "حسب المثل القائل: كي يتعلموا البيطرة....", ولكنهم للأسف لم يتعلموا إذ لم يترك لهم تحالف " البعث والمخابرات" مجالا للتعلم, فقد أوجدوا هيئة اسموها وكالة سانا للأنباء كانت ترسل لهم الأخبار جاهزة, إنها وجهة نظر الحكومة فقط, فلا مخبر صحفي, ولا سبق صحفي, ولا تحليل متميز, ولاقراءة خاصة بالصحفي, فقد اختصروا دوره في صوغ الخبر المرسل إليه من سانا, أما إن كان لديه بعض أحلام بالكتابة الصحفية متجاوزا الدور الموكل له, فإن سكرتير التحرير سيعدله دون استشارته لينسجم مع سياسة الدولة المرسومة في الأقبية العميقة جدا.
بعد بضع سنوات لم تعد الصحافة كافية للترويج للنظام الثوري والتحالف الحاكم, فتحولوا إلى الأدب, وكان أول ما همهم من الأدب الشعر, ولما كانت بعض المذاهب الاسلامية قد حفظت على الزمان نظما, أو إن شئت شعرا, فقد كان معظم إن لم نقل كل حافظي النصوص يعتقدون في أنفسهم أنهم شعراء كبار, وهكذا انتشر الشعراء, وصرت تجد بين كل شاعر وشاعر شاعرا, وصار الجميع الشاعر الكبير, وأقفلت الحدود في وجه عمر ابو ريشه ونزار قباني وشفيق جبري, أما الشعراء الذين توالدوا زمن البعث, فقد أخذ الشاعر منهم يمضي إلى ابن ضيعته الضابط أو قريبه حاملا كرتونة من ديوانه الذي طبعته له "وزارتنا" وزارة الثقافة, ويشكو له عدم بيع ديوانه, فيطمئنه الضابط المتنفذ, ويستدعي المحاسب ويطلب إليه شراء ماتبقى من نسخ لدى الشاعر الكبير!, وهذه النسخ ستوزع على القطع العسكرية لتثقيف الجيش السوري!!,أما إن كان الشاعر الكبير ليس ابن ضيعة الضابط, بل هو من الضيعة المجاورة, وبمعنى آخر ليس قريبا للضابط, فهو يكتفي بإعطائه كتابا للسيد محافظ الحسكة أو الرقة أو ديرالزور, بمعنى آخر للمحافظات كاملة الزراعية, والتي يحتاج مواطنوها للقروض الزراعية, وبهذا يفرض على المقترض شراء عدد من كتب الأصدقاء والأحباء من الشعراء الكبار أو الباحثين الكبارحتى يحصل على القرض, وفيما بعد سيضاف إليهم الروائيون الكبار.
في تلك الأيام الانقلابية يحدثنا أحد الكتاب السوريين أنه طرد من عمله في وزارة الثقافة في اليوم نفسه الذي عين فيه وزيرا للثقافة كاتب من ريف حماه كان يراسل مجلة أدبية يعمل فيها هذا الكاتب الذي طرد من عمله في وزارة الثقافة, وصديقنا الذي كان يرفض نشر مقالات الكاتب الريفي إنما كان يرفض نشرها لضعفها وارتباكها, لا لسبب آخر, وبعد حوالي شهر وصلته دعوة من إحدى السفارات التي اعتادت دعوته, فاستجاب للدعوة, وفي أثناء السهرة وكان يثرثر مع أحد الأصدقاء لمح الوزير الجديد يدخل إلى الصالة الواسعة ملبيا الدعوة نفسها التي وجهت إليه, فاستدار في وقفته لايريد حرج المعاتبات, واستكمل الحوار الذي بدأه مع صديقه, وبعد ثوان أحس بيد تربت على كتفه, فالتفت ...ليرى السيد الوزير بكامل جلاله وهو يعيد الربت, ولكنه ما إن التفت وأحرج لوقفة الوزير من خلفه حتى فوجئ به يقول: شو ياه لسه ما جعت لهلق!!! كان السيد الوزير يطمئن إلى أن الموظف المطرود من مصدر رزقه قد..... جاع بعد حرمانه من مصدر رزقه.
حاول حزب البعث في إصرار خلق نجومه الثقافيين كما كانت الأحزاب الشيوعية الغربية تفعل في عالم غني أصلا بالفنانين والمثقفين الذين أفرزتهم الحالة الغنية بالثقافة وريثة مئتي عام من الثقافة المرافقة للصعود الحضاري دون محاولة لتصنيعهم من قبل أي حزب, وكان اختيارهم للأحزاب الشيوعية اختيار قناعة حرة, ولكن ليس تصنيعهم من الفراغ كما فعلت وتفعل الأجهزة السورية, وهكذا امتلأت وسائل الإعلام السورية" عفوا ليست السورية بل البعثية" فقد اختفت سورية تحت الوشاح البعثي, ألا يذكرنا هذا بكلمة رجل الإخوان المصريين الأول في مصر : مصر...طز في مصر , فالأهم هو القضية, وبغض النظر ما القضية!!امتلأت وسائل الإعلام السورية بأسماء النجوم الجدد, وهكذا اكتملت دائرة الرفض الشعبية بدءا من الصحف ذات نكهة المنشورات الحزبية فقط! ومرورا بالشعراء الكبار! والروائيين الكبار! الذين يكفي لجعلهم كبارا تنصيبهم مسؤولين ثقافيين على أي منبر ثقافي, والمنابر الثقافية معدودة على أصابع اليد الواحدة في سوريا, وما إن يعينوا في المنبر حتى تنهال عليهم الألقاب والتعظيمات من مبتدئي الكتابة ,أو من الباحثين عن منبر أي منبر لنشر ما كتبوا ......,وكنت مرة في زيارة لأحد " الكتاب الكبار" الذي عين قائدا لمنبر هام جدا من"منابرنا" ,ولفت نظري مظروفات كبيرة موضوعة على طاولة في مكتبه في منتصف الغرفة, ولست أدري أي شيطان دفعني للعبث بالمظروفات لأجدالطغراوات السلطانية للكاتب الكبير, أمل العرب والعروبة للدخول في العالمية, العبقري الذي عجزت نساء الأمة منذ كتاب ألف ليلة عن إيجاد مثيل له إلخ, والطريف أني منذ أسبوع فقط كنت في زيارة لصديق لي يعمل مهندسا متعهدا, وكان يتعهد عددا من البنايات في بلودان القريبة من لبنان, وعلى عادتي أخذت في الفرجة على مكتبته لأفاجأ برواية للكاتب الكبير الذي سأزوره بعد أيام ولكن في أربع نسخ , واندهشت, فصديقي المهندس ذواقة, فكيف يشتري أربع نسخ من رواية نضالية من روايات الكاتب الكبير!, ولما واجهته باحتجاجي ضاحكا جاراني في المزاح, وأقسم أنه اشتراها مرغما, وسألته : مرغما ما الذي يرغمك ؟
حدثني صديقي عن عمله في بلودان وهو في طريق عودته يمر على عدد من القرى التي تعمل بالتهريب, ولكنه" الله كافيه " لذا فهو لايشتري ولايتعامل بالمهربات. هذا هو طبعه, ولكن حذره لم يفده, ففي أثناء عودته إلى دمشق استوقفته دورية مشتركة أي من الجمارك و..المخابرات, وبوجه لايضحك للرغيف الساخن كما يقولون أمروه بفتح صندوق السيارة, طبعا هذا الطلب تم بطريقة اتهامية وقحة, فتح لهم الصندوق دون أن ينزل طالبا التفاهم على ما اعتادوا...فتشوا الصندوق وهم ينتوون ابتزازه حسب العادة لو وجدوا علبة سكائر واحدة ولكنهم وجدوا الصندوق نظيفا تماما وبهدوء اتجهت صبية منهم باتجاهه, ثم انحنت فوق مقعده وطلبت باسمة في لطف سيكارة, ولكن حظها أن صديقي لايدخن, ولكنها كررت في إلحاح راج : سيكارة .. سيكارة, لكنه رد في لطف: أنا لاأدخن , وسيقول لي في بيته : فيما بعد فقط فهمت سبب إلحاحها على طلب سيكارة, فرجل يركب سيارة اميركية لايمكن أن يدخن سيكارة وطنية, ولو وجدوا معي سيكارة مهربة فسيبدأون في ابتزازي مهربا.
بعد أن فتشوا المقعد الخلفي, ثم التابلوه الأمامي ولم يعثروا على المهربات التي يرتزقون من مصادرتها تقدمت مني صبية عليها مسحة جمال , وقالت : هات خمس مئة ليرة, ورمت في حضني بنسخة من الرواية, وتنفست الصعداء : أهذا هو كل الأمر إذن؟ وناولتها الخمس مئة, ثم رميت الرواية في البيت.....في اليوم التالي تكررت المسرحية, ولما لم يجدوا مادة مهربة واحدة باعوني نسخة أخرى من الرواية, وانتويت أن أحتفظ بالرواية في السيارة لأقول لهم إني حظيت بهذه النعمة من قبل, ولكني حملتها مع حقيبتي في طريقي إلى البيت, ولماصار مافي مكتبتي أربع نسخ منها وضعت واحدة منها على التا بلوه لأريها لناشري الثقافة ومحبي الأدب, و....هكذا يتحول الكاتب من كاتب لايجد من ينشر له درره إلى كاتب كبير تطبع له عشر طبعات من كتابه في سنة واحدة.. أليس الكاتب البعثي الكبير!!!
[email protected] خيري الذهبي