قصة / تشاو روبرتا
2006-04-09
لم يتخيل ادوارد ستيفنسون ان يكون هذا المكان، بحيرة غاردا، المكان المثالي لحل مشكلة العقم في خياله وتوقف ذهنه عن الابداع لاكثر من سنة الان. لم يصور له عقله انه سيكتشف جمال البحيرة هذه وأنه سيجد السكنى على حوافها هي البيئة المنشودة لاسترخاء قد يحرض المخيلة وتخلصه من حالة جمود عاني منها لاكثر من سنة وحدت من قدرته على كتابة القصص.
هنا حيث اشجار الحمضيات تتدلى ببهاء مثل دمغة تعطيها لهوية المكان، وحيث ماء البحيرة تحضنه الجبال من اكثر من جهة "ازرق صاف يصلح للتأمل". أما المقاهي المواجهة للبحيرة او المطلة عليها من السفوح المجاورة، فليس من مكان أحلى للقراءة او الكتابة مع فنجان قهوة اسبريسو، او فنجان شاي بالليمون. ثم هناك العنصر المهم الذي لا يجب ان يتجاهله: البشر الذين يتوافدون من اوروبا تحديدا حاملين معهم قصصهم التي تصلح مصدر إلهام لقصصه.
توصل الى هذه النتيجة بعد بضعة ايام فقط من وصوله مع شركة سياحية متخصصة في سياحة الجبال والبحيرات، الشركة التي عثر عليها عندما كان يبحث في الموقع الالكتروني (لاست مينيت دوت كوم) المتخصص بالعروض اللقطة لاسعار يتم تخفيضها في الايام الاخيرة قبل موعد الرحلة. (اسبوعان الى بحيرة غاردا شمال ايطاليا بثلاثمئة جنيه استرليني). وجاء العرض المغري مع وجبتي فطور وعشاء في فندق بمستوى اربع نجوم.
لم يكن بحاجة الى اكثر من هذا العرض الاستثنائي المتأخر، اغراء للابتعاد عن ضجيج لندن. من ناحية اخرى، يحمل لايطاليا صدى عذبا في ذاكرته الادبية، ايطاليا المكان الذي حج اليه تاريخيا عدد من الكتاب والشعراء البريطانيين والمهتمين ايضا بالادب والفنون، هربا من تجهم مناخ بلادهم ذي الصبغة الرمادية. ليس المناخ فقط، فالمبدعون كانوا يهربون اساسا من رتابة العيش المقيدة بتقاليد خانقة كانت تجد متنفسها في المستعمرات التي طالت نصف الكرة الارضية. ادباء شعراء وكتاب قصة ورواية بريطانيون اقاموا قريبا من الوطن الام وبعيدا عنه في الوقت نفسه، وظلوا رغم ذلك في حضن الحياة المدنية والثقافة الحارة بخيالها وعطائها، بالمتاحف والكنائس والاثار ومخطوطات الكتب العتيقة. هذا ما فعله شعراء مثل، لورد بايرون، كيتس، وشيلي. ولن ينسى وهو يستعيد الاسماء الادبية، كتاب النثر الذي ينتمي الى قبيلتهم امثال دي اتش لورنس وإي ام فورستر. وهو ما يفعله الان، يهرب مثلهم باتجاه المكان المفتوح على الشمس والاصوات العالية، والنفوس غير المقيدة بما يجب "او لا يجب" ان يفعله المرء طوال اليوم بحسب المسطرة الانجليزية.
توصل ستيفنسون الى قناعة الاستقرار في هذا المكان بعد تراكم متابعته لتحركات المسافرين الذين قدموا معه في نفس الرحلة ونزلوا في الفندق نفسه. رجال ونساء راحوا يلهمونه بعلاقاتهم الحكايات والشخصيات التي يحتاجها ليبني عليها قصصه. وأصلا لم يحتج الامر الى اكثر من ابتعاد يومين عن جنوب غرب لندن، حيث يسكن، كي يسترجع بعضا من طاقة مخيلته ككاتب. فهناك لا شيئ من حوله بات يلهمه شيئا او يساعده على الابداع. علاقته بأسرته ففترت بعد ان انفصل عن زوجته قبل ثلاث سنوات بان ترك لها وللولدين المنزل الواسع المكون من اربع غرف نوم. ولم يكن يريد بعد الانفصال سوى الحصول على شقة مضيئة بغرفة مكتب تطل على منظر جميل يريح اعصابه ويهيئ ذهنه للانطلاق في الكتابة. "غرفة خاصة بي" كما كانت تردد فرجينيا وولف في سياق حديثها عن المرأة والكتابة. "ألا نحتاج كلنا لغرفة تحتضن وحدتنا وخيالنا. لماذا فرقت وولف اذن بين الرجال والنساء!". يردد لنفسه هذه الجملة كلما عانى من التوتر الذي يسكن انحاء بيته ويحد من تفرغه لكتابة قصصه. ما يحتاجه فعلا "غرفة خاصة بي".
وجد الشقة في مكان معقول في حي تشيم قرب ساتن الحي الذي اعتاد أن يعيش فيه مع اسرته الصغيرة. لم تكن الشقة بمستوى حلمه، مضيئة الا انها لا تطل على منظر جميل، بل على شارع جانبي هادئ. لا بأس فهذا ما يمنحها ميزة معقولة بحدود دخله وايضا بمستوى ارتفاع ايجار الشقق في لندن. يكفي أنه وجد المكان الخاص البعيد عن مشاحنات يومية مع الزوجة والابن الاصغر الذي لا تكف امه عن الدفاع عنه كلما حاول ان يتدخل في مسار حياته المرتبك بعد ان ترك المدرسة وتنقل في اكثر من عمل ودخل في مشاكل عديدة مع اخرين كانت تنتهي بشجار وتضارب بالايدي. "جيل من دون آباء". يرددها باستياء كلما فكر في مشكلات من هم في سن ابنه. هكذا اراد المجتمع للجيل الجديد ان يعيش. لقد قُـتل الاب فعليا وليس رمزيا عندما ثار الشباب على السلطة الابوية في الستينات. والان يؤنب المجتمع بمؤسساته الاهل لانهم لم يربوا اولادهم جيدا!
هرب من كل ذلك الى شقته الصغيرة موهما نفسه انه سيتفرغ للكتابة تماما. وفكر انه سيستلهم تلك القضية تحديدا "غياب الاب عن حياة الابناء"، إما لانهم ولدوا خارج الزواج فلم يعيشوا حياة سوية مع الأب، النموذج الذكوري الذي لا بد منه كي تتوازن حياتهم مع النموذج الانثوي، او بسبب ارتفاع معدل حالات الطلاق في بريطانيا. كتب قصتين مستوحيا تلك الفكرة التي نفدت منه سريعا. ثم تناول العلاقات الزوجية التي قد تكون عنصر خنق لاي ابداع وتقود الى الموات احيانا، وان بالمعنى الرمزي للكلمة. وانتهت الثيمتان التي انطلق منهما الى نشر مجموعة قصصية رابعة لاقت استحسانا عند البعض وثناء اقل عند البعض الاخر من النقاد، الا أنها رفعت من معنوياته وثقته بنفسه.
منذ صدور المجموعة منذ قرابة السنة ونصف السنة، لم يكتب قصصا جديدة، بل مجرد مقالات صحفية يعيش من ورائها وينفق على ضرورات حياته. كأن اخر احجار الخيال قد قدح ولم يعد من شيئ يستفزه لابداع قصة. افتعل الحبكة مرات ثم توقف في منتصف الطريق او في مستهله. وبدأ يشعر أنه غير قادر على الاستمرار في نصه، مع كل محاولاته العودة الى الكتب التي تشكل دليلا الى عالم الكتابة السردية، دراسات من النوع التي تنشر لمساعدة الهواة والمبتدئين في عالم الكتابة. عاد أيضا الى قصص وروايات كانت اعجبته كثيرا عندما قرأها أول مرة علها تشحذ خياله بأفكار جديدة، لكن من دون فائدة! وها هو، وللغرابة، بعد ايام قليلة من وصوله الى بحيرة غاردا شمال ايطاليا، يجد نفسه قد دون مجموعة افكار لكتابة قصصية. ولو عاش هنا لعدة سنوات فستكون فرصة ان يكتب عن الاوروبيين الذين اتحدوا سياسيا واقتصاديا، وبقوا مختلفين ثقافيا واجتماعيا. وطالما ان أطباق طعامهم بمذاق مختلف بشكل متطرف ستكون طريقة عشقهم ايضا مختلفة.
الا أنه ومنذ منذ وصل الى بلدة ليمونه واستلم البرنامج المقترح للرحلات الداخلية، يهجس بكتابة قصص حب تحديدا. اوحى له بذلك رحلة الى مدينة فيرونا، المدينة الذي تجري فيها تفاصيل مسرحية شكسبير (روميو وجولييت). ثم تبلورت فكرة القصص بعد زيارة منزل جولييت "المفترض" المحشور في احد احياء فيرونا القديمة الرومانية التصميم، حيث امتلأ المدخل أو الممر المؤدي الى فسحة مفتوحة بعبارات حب من زوار المكان الكثر، عبارات بلغات مختلفة كتبت بالوان حبر تلراوحت بين الابيض والاحمر والاصفر، كي تعلن نفسها بوضوح فوق جدران رمادية عتيقة. وقف هو يومها تحت شرفة البيت العالي يتفرج على الصبابا السائحات يجربن الاطلال منها، متخيلات بين الحشد في الاسفل ربما، عاشقا أبله سيقتل نفسه من اجل واحدة منهن!
تبدو معنويات ستيفنسون في أوجها بعد أن وجد الثيمة الاساسية لمشروعه القادم، سيكتب عن العلاقات العاطفية التي تبدأ باندفاع وحماسة ثم تفتر في منتصف الطريق لانها في الاساس تنطلق من الوهم، من وعد متخيل يرتديه المحب بغواية من الحبيب، او بسبب خداع من النفس هربا من واقع معاش. وسيجد هنا في بحيرة غاردا والمناطق القريبة، مثل فينيسيا وفيرونا، الشخصيات الملهمة، فمع كل اثنين يصلان للسياحة حول هذه البحيرة الشاسعة، الاكبر من نوعها في شمال اوروبا، هناك قصة حب جلباها معهما. هذا ما يلاحظه في الفندق، وفي المطعم تحديدا، حيث يلتقي بقية النزلاء صباحا ومساء، فعلى المائدة المواجهة له في المطعم مثلا، تجلس امرأة ترافق رجلا في اوائل اربعيناته وتصغره هي بحدود خمس سنوات. يحمر وجه المرأة كلما همس لها رفيقها ببضع كلمات. لا يسمع هو من طاولته شيئا، لكنه يخمن انه غزل يبوح به الرجل الاربعيني لرفيقة الرحلة. والا فما يجذب المرأة الجميلة الى هذا الرجل غير الوسيم الذي يبدو من طريقة ارتدائه لملابسه انه يعمل في المهن اليدوية لا موظفا يذهب الى عمله يوميا ببدلة وربطة عنق، كما هم الموظفون في بريطانيا. استنتج ذلك من البوط القبيح غير النظيف الذي يرتديه الرجل -رغم ان الطقس نهارا دافئ- وايضا من غياب التناسق في الالوان بين القطع الثلاث التي يرتديها، القميص والبنطلون والكنزة، واحيانا الجاكيت. ثم حركات جسده التي تخلصت من قيود جسدية يتعلمها البريطاني من ابناء الطبقة المتوسطة المتعلمة كي يبقى صارما لا يقرأ الاخرون دواخله ببساطة. كان الرجل يتحرك متخلصا من ذلك التحفظ، وافترض أنه يعمل في واحدة من المهن اليدوية: تركيب سخانات الماء او تمديد انابيب التدفئة، او ربما يكون مقاول بناء متوسط الحال. ارتاح للوصف الاخير، خاصة وان الرجل كان فارع الطول، يتمتع بيدين وساقين طوال ساعدته في الاساس ان يكون بناءا قبل ان يصبح مقاولا. وكان قد خال المرأة الجميلة في الايام الاولى زوجته ثم توصل الى قرار يميل الى نفي هذه العلاقة، بسبب انها تحتفظ برد فعل غريب مستمر: احمرار الوجه. لا بد اذن انها صاحبته (افترض ان اسمها ميري)، اذ لا يمكن للزوجة ان تظل ذات حواس مرهفة الى هذا الحد، متتأثرة بكل مفردة او جملة يهمس بها الزوج. في الوقت نفسه لا يبدو على رفيقها أنه رجل عازب. شيئ ما يقول له ان بطل قصته متزوج ولديه اطفال. خمن ذلك أيضا من حركة جسده التي لا تتمتع بالسلاسة في علاقته بها، كأن الزوجة الغائبة والاطفال البعيدين اربطة تقيد حركة جسمه نحو صاحبته طوال الوقت.
اسبوع انقضى على هذه الرحلة وبدأ ستيفنسون يشعر بمتعة وجوده ككاتب في هذا المكان، يستمتع بالطبيعة والبشر، ويترك لخياله ترميم البقية. احيانا يتقصى بعض المعلومات من روبرتا، المرأة التي تدير المكان مع شقيقها ووالدتهما التي تحضر بصورة اقل منهما الى الفندق، مبتسمة دوما بطيبة يود معها لو يحضنهاكما لو انها أمه التي توفيت قبل ست سنوات. فندق بادارة عائلية، وهذا ما يحتاجه تماما "رائحة العائلة في المكان". يتأمل وجوده في هذا البقعة الفردوسية، حيث لا شيء يثير الاعصاب ويقلب المزاج، بل على العكس، الصفات المحمودة هنا اكثر مما تمنى: لطف المعشر، بهاء المنظر الذي يطل عليه الفندق من كتف الجبل الى حيث البلدة القديمة التي تتدرج نزولا الى البحيرة، المحلات الصغيرة المحشورة في الحواري عارضة سلع تذكارية للسواح، البيوت المبنية كما لو انها مستوحاة من حكايات الخيال بدرج عتيق وشبابيك بساتر خشبي اخضر اللون، بينما تستريح اصص الزرع بزهورها الحمراء المبهجة فوق الدرجات وحواف الشبابيك. تفاصيل لا تقاوم وهي تغريه على البقاء اطول فترة ممكنة، الى حيث هيأ له القدر مكانا اختاره له بعناية.
يتحرك الكاتب في بلدة (ليمونه) المطلة على بحيرة غاردا العظيمة كما لو انه في حلم، ويود لو يبقى هنا بقية العمر. حياة لا يتخللها الملل واحتمال عال لكتابة دائمة. وفكر أنه سيكتب عن سكان مدينته بصورة اغنى وهو بعيد عنها، بعد ان يصفو ذهنه وتضئ شاشة افكاره. وفكر انه قد يبقى هنا لو ارتبط بروبرتا، وبذلك يتوفر له مكان الاقامة، أما مصاريف معيشته الاخرى فسيتدبرها بما ينشره من وقت لاخر في الصحافة البريطانية.
"الارتباط بروبرتا ليست فكرة سيئة!" لم لا.. ألا ترسل له هذه المرأة العازبة نظرات يفهم منها الاعجاب ومحاولة التقرب! تسأله عن قصصه وتبدي رغبتها الحارة في قراءتها، مستعرضة في حوراها معه مخزونها المعقول من اللغة الانجليزية، بينما يحاول هو ان يبدو في المقابل ايطالي الهوى بترديده مفردات التقطها خلال احتكاكه بأهل المنطقة، فيجيبها بـ "سي. سي" كلما بادلته الحديث، متفقا مع تعليقاتها، مبادرا اياها كلما التقاها بتحية بونجورنو أو بونيسيرا. روبرتا الممشوقة ذات العينين البنيتين والشعر الاسود الذي تتركه مسترسلا بتموجاته مائلا على كتفها اليمنى. روبرتا بتكوينها الجسدي الذي يشبه بطلات افلام ايطالية شاهدهن في السينما وانجذب لهن بحرارة ارواحهن.
"هل يمكن لروبرتا ان تحبني وان تقبل بي زوجا؟"
أيضا لم لا؟ صحيح انه في اوائل الخمسينات من عمره، لكنها ايضا ليست صغيرة، ربما أنها على عتبة الاربعين، او في اواخر الثلاثينات من عمرها. ثم انها غير متزوجة حتى الان وقد تتحمس لفكرة الارتباط به. هي لم تخبره شيئا عن حياتها، لكنها لا تبدو منفصلة عن زوج وابناء. النساء العازبات ممن لم يعشن علاقة زواج لهن وهج خاص. حركتهن خفيفة البنات اللواتي لم يغادرن بيوت اسرهن، حركة غير مثقلة بعبء عشرة مستمرة في الزمن مع رجل محدد. يستطيع ان يؤكد لنفسه انها مرت بتجربة مؤلمة، وربما اكثر من واحدة يتضح ذلك من حزن في عينيها تخفيه بحيويتها، لكنها لم تتزوج، بقيت في مكانها، في البيت المزين بأصص زهور الجيروم الاحمر على شبابيك نوافذه ودرجاته والذي يحلم هو ان يشاركها العيش فيه مع امها، شرط ان تكون هناك غرفة بنافذة تطل على واحدة من الحارات المتدرجة وجانب من منظر البحيرة. اطلالة تصلح مسقط ضوء مناسب للمكتب الذي سيكتب عليه قصصه، بمنظر مريح للعين والروح.
هل ستتمنع عليه روبرتا؟ كرر لاسؤال في ذهنه كثيرا وهو يتمشى بمحاذاة البحيرة الهادئة. وتوصل الى نتيجة مفادها ان ضحكتها وحركة جسدها تبدوان احيانا هستيريتين مع محاولتها الواضحة التحكم بهما، شيئ مما يصدر عن امرأة تريد الزواج بالحاح، أو تنتظر الحب الذي تمنته طوال حياتها. لم لا يكون هو تحديدا الفارس المنقذ؟ هو الذي مل العيش في مدينة ما عادت تؤمن بقصص الرومانس التقليدية، العلاقات فيها بغالبيتها مادية حتى النخاع، جسدية حتى القرف.
الساعة السابعة مساء في هذا اليوم شبه الصيفي والضوء النهاري لا يزال في الافق، شاحبا ينجلي ببطء، وأعماقه هو بدأت تمور بالرغبة في الكتابة. شعور حرضت عليه اصوات حركة النزلاء الذين بدأوا يتوافدون الى المكان مارين عبر البار الى المطعم الصغير وقد وضعت على موائده ارقام الغرف بشكل ثابت، بحيث يجلس النزيل في المكان ذاته يوميا. طاولته هو ملاصقة للجدار، يجلس ويسند ظهره اليه ويبدأ بمتابعة المكان من حوله. الى اليسار طاولتان اخريان، مستطيلتان تتسع كل منهما لثمانية اشخاص. انها المجموعة التي جاءت من (كورنويل جنوب غرب انجلترا) لتمارس هواية المشي وتسلق الجبال المحيطة المتاخمة للتضاريس النمساوية والسويسرية. ضجيج المجموعة المنقسمة على مائدتين يضفي بهجة صوتية على المكان، فيعجب من انطلاق الشعب الانجليزي خارج بلاده مثل عصافير حبيسة! هل للمكان قوانينه اللامرئية، الموروثة من سلوك الاسلاف او من طبيعة مناخه وتضاريسه؟ ينطلق الانجليز في البلدان الغريبة كمجموعات بكل المرح والعفوية، ويبقون على تحفظهم، نسبيا، عندما يواجهون الاخر كافراد. وهذا ما يحدث في علاقته مع الزوجين الجالسين على طاولة قربه في المطعم. المرأة تبتسم له بتحفظ والرجل يومئ برأسه ايماءة جنتلمان يخشى ان يقترب منه احد من الغرباء كلما التقت عيونهم صدفة. المرأة في منتصف الخمسينات والرجل يبدو في اواخرها على حافة الستين، وعلاقتهما لا تبد على ما يرام. يميلان الى الصمت غالبا، وان تناقشا، يكتمان انفعالاتهما كي لا تتسرب الى من حولهما. قدّر انهما زوجان يمران بأزمة عاطفية وجاءا الى هنا علهما يحلانها. ربما ان واحدا من الابناء (يعيش في استراليا مثلا) قرر ان يهديهما التذكرتين، محاولة منه للتقريب بين ابوين على حافة الانفصال. الا انهما وبعد اسبوع على وجودهما في المنتجع، لا يزالا محتقنين، يتحدثان الى بعضهما بتهذيب بارد لكن من غير عاطفة ظاهرة. ما الذي جرى للعلاقة كي تصل الى هذا المستوى؟ هل هي ازمة منتصف العمر يمران بها ام ميكروب الزواج الذي تحدث عنه في قصصه السابقة؟ هل تقاعدا عن العمل فاتسع الفراغ وكشف عن ندرة ما يجمعهما في الواقع؟ أو ربما ان الزوج يمر بازمة عاطفية، احب امرأة تصغره كثيرا على سبيل المثال والزوجة اكتشفت السرّ.
ود لو يناقش الامر مع الاثنين كوسيط، فقد اثارا شفقته وليس فقط فضوله ككاتب. يبدوان زوجين بخلفية مهنية جيدة، ربما هو محام وهي موظفة برتبة متقدمة في احد البنوك. التحفظ الذي يتحركان به والرصانة التي يتعاملان بها مع من حولهما، والملابس المهندمة التي يرتديانها، يشيان بمستوى الخلفية التي جاءا منها.
في تلك الليلة كانت بلدة (ليمونه) تستعد لنصف ساعة من الالعاب النارية التي ستنطلق قرب ساحل البحيرة. اخبرته روبرتا بذلك في الصباح وأكدت بتباه ان الفنادق كلها تساهم في تمويل هذه الالعاب من اجل تسلية السياح. بعد العشاء تسلل عدد من النزلاء الى كورنيش البحيرة ليفترشوا المقاهي والارصفة بانتظار اللحظات المضيئة في التاسعة ليلا. بينما قرر عدد اخر منهم، وهو بينهم، ان يجلسوا الى شرفة الفندق التي هي امتداد للبار، ليشهدوا اضواء النيران الفرحة من العلو. انفرجت اساريره وشعر بالارتياح عندما لاحظ ان ابطال قصتيه بقوا في المكان ليوفروا له فرص متابعتهم في شتى المواقف.
بدأت الطلقة الاولى للالعاب النارية، فعلا ضجيج المتفرجين وراح صداه ينتقل في الهواء قادما من شتى الامكنة حول البحيرة الشاسعة، مختلطا بالانوار الساطعة الملونة التي تفترش افق السماء. تابع صدى البهجة على وجوه ابطاله، فلاحظ ان ميري تقف بتشنج قرب صاحبها الذي يعمل في البناء، تضع جاكيتا على كتفيها يرد عنها قشعريرة الليل من دون ان ترتديه، وعندما حاول رفيقها ان يضمها اليه، ابعدت جسمها عنه قليلا. لا بد انها تخاصمه. ربما لانه يرفض تطليق زوجته واعلان علاقته بها على الملأ!
مسحت عيناه الشرفة بحثا عن الزوجين الاخرين. اختفيا. شرد بذهنه الى احتمال ان يتخلص الزوج من زوجته منتهزا فرصة الضجيج العالي للمفرقعات. ربما سيقتلها ويعود بسرعة الى المكان ليثبت انه كان مع الاخرين. انزعج من هذا الخاطر لانه لم يرد ان يحول التفاصيل باتجاه القصة البوليسية، فهي ليست ملعبه الذي يجيد اللعب فيه، ومع ذلك ظل قلقا لغياب الزوجين. صعد الى الطابق الثاني الى حيث اعتاد ان يشاهدهما قادمين من الجهة المعاكسة للممر الذي تقع فيه غرفته، وراح يتمشى يعصبية عله يسمع صوت استغاثة، او شجار يدله على رقم الغرفة، الا ان ضجيج الالعاب النارية كان اقوى من اي صوت لحظتها. وعندما صمت الاستعراض الذي قدر انه استمر لنصف ساعة بحسب الوعد الرسمي، راح يتنصت لبضع دقائق عله يلتقط صوتا ما، الى ان فاجأه صوت باب احد الغرف يفتح ليخرج منه الزوجان مبتسمين لا تبدو عليها علامات شجار او غضب. ارتبك لضبطهما اياه في الممر من غير مبرر واضح. قال بصوت لم يغط تماما على ارتباكه.
"لقد فاتكم المنظر الجميل للالعاب النارية"
"المشهد من شرفة حجرتنا كان اوضح واجمل". علقت المرأة ثم نظرت باتجاه زوجها "اليس كذلك يا جورج؟" هز الرجل رأسه بشدة موافقا "تماما يا عزيزتي.. منظرا خلابا". ونظر باتجاه الكاتب الذ ارتبك وقال ليخلص نفسه من الموقف.
"اوه ما اغباني..غرفتكم تطل على البحيرة". وشعر انه مدين لهما باعتذار. ثم أكمل "غرفتي أنا تطل على الجرف الخلفي، من غير منظر". ضحك ثلاثتهم ضحك المجاملة، وعندما نزلوا معا الى البار حيث اجتمع بقية النزلاء بعد ان انتقلوا من الشرفة بحثا عن الدفء من البرودة الخارجية، قرر ان يهدي الزوجين شرابا على حسابه. لكنهما اجاباه بتهذيب شديد انهما لا يشربان اي شيئ بعد العشاء وانهما سيكتفيان بالجلوس قليلا لحين شعورهما بالنعاس.
"ولا شاي أعشاب حتى؟".
"لاشيئ". ردا بصوت واحد بدا انهما اعتادا عليه طوال سني حياتهما المشتركة، فقدر انهما متورطان بمشاكل لها علاقة بالمثانة ولا يرغبان بازعاجات الصحو الليلي المتكرر. "سمة طريفة يمكن ان تضاف الى الشخصيتين في القصة، فالمتزوجون لسنوات طويلة يتشابهون حتى في المتاعب الصحية".
تنبه فجأة الى حضور روبرتا وقد اهملها في اليومين الاخيرين، فقرر أن يدعوها الى سهرة في ناد قريب بعد تلك الليلة التي فشلت فيها تخميناته القصصية. ترددت روبرتا قليلا، الا أنه استطاع ان يلتقط ذبذبات الموافقة من بين اكوام ما بدا تمنعا. تحججت بانها يجب ان تصحو مبكرا لتداوم في الفندق لان اخيها مشغول بمهمة اخرى. ثم قالت انها ستحاول ان تسأل اخاها ان كان بامكانه تأجيل مهمته الصباحية. وعادت بعد قليل تعلنه انها تفضل تأجيل السهرة الى ليلة الغد "على الاقل سأكون مستعدة"، واشارت الى جسمها في حركة عفوية وخجولة شعر معها برغبة في ان يحضنها. تبقت ثلاثة ايام من الاقامة هنا ايها الكاتب التعس وعليك ان تفاتحها وتحسم امرك معها بدل هذا الخجل الذي ورثته من جيناتك الانجليزية. لكن ان كانت هي ستهيئ نفسها مقدما، فماذا سيفعل هو الذي جاء الى الرحلة بملابس تتلاءم مع روح السفر النهاري، فهو ليس من هواة السهرات الليلية الخارجية. اتخذ قرارا ان يشتري في الصباح السترة المخملية عسلية اللون التي لفتت انتباهه في احد المحلات القريبة قبل أيام وتردد في شرائها بسبب ارتفاع ثمنها الى حد ما. وسيرتديها فوق كنزة صوفية خفيفة سوداء وبنطلون اسود مخملي جلبهما معه من لندن. ملابس تلائم برودة الليل، وربما استطاع باطلالته تلك ان يغوي روبرتا المتمنعة قليلا. عندما صعد الى غرفته نظر الى هيئته في المرآة فوجد نفسه مقبولا: شعر كستنائي يخف قليلا على الجانبين حيث يبرز الشيب أكثر من اماكن اخرى، عينان يتراوح لونهما ما بين الازرق والاخضر، غير واسعتين انما حلوتين كما كانت تقول له زوجته في بداية علاقتهما. لذا سيحاول ان يكشف عن عينيه بوضع النظارة جانبا قدر المستطاع اثناء اللقاء مساء الغد. الخلاصة انه يملك جسدا لا يتسم بالكوارث، لا صلع ولا كتل دهنية متدلية في الجسد المتوسط الطول، الممتلئ قليلا.
الا ان روبرتا التي بدت فاتنة في المساء التالي بثوبها السكري اللون الذي يغلب على الجزء العلوي منه قماش الدانتيلا، حتى بدت كعروس جاهزة لعرض الزواج، فاجأته بضحكة ساخرة قصيرة ردا على اقتراحه ان يقترن بها ويبقى معها في بلدتها. لم يرض غرورها ولهه بالمكان وسكانه، رغم انها كانت تتباهى دوما بين النزلاء بجمال وتميز بلدتها. "ولماذا لا نعيش في لندن؟" قالت ونبرة الخذلان تفوح من كلامها، فوجد نفسه محشورا في العرض بين منطقتين جغرافيتين. وتصور نفسه يعيش في لندن مع روبرتا فانقبض قلبه، وشعر بوجهه ساخنا، لكنه ارتاح لفكرة ان الانوار الهادئة في النايت كلوب تغطي علي أي تحول في لون وجهه.
"ولماذا لا نعيش هنا روبرتا. هنا الجنة صدقيني؟"
"اية جنة يا صديقي؟" ثم رفعت كأس النبيذ الابيض البارد الى شفتيها محتمية بمفعوله، ا"نت هنا في بداية الصيف. وبهجة المكان لا تستمر اكثر من خمسة شهور على ابعد تقدير. بعد ذلك يموت كل شيئ في الصقيع وبياض الثلوج. تموت ليمونه وبقية بلدات البحيرة، ويختفي البشر الولهون بالبحيرة. يتبقى اهل المكان فقط، نحن، لنواجه الشتاء والوحشة". لاحظ ان صوتها مبلل بالبكاء المحبوس، وقبل ان يعلق ادارت وجهها ناحية الطاولات الاخرى فتخيل انها تريد ان تستنجد بشهود غائبين.
"لندن موحشة معظم الوقت ايضا والمسافات بين مناطقها بعيدة، وكذلك البشر". لم تدعه يكمل وردت بحدة "لندن المسارح واخر عروض السينما واصدارات الكتب. المقاهي والبارات المزدحمة. هل رأيت شبابا من المنطقة يعيشون هنا؟" فاجأه السؤال لكنها لم تنتظر رده. "كلهم هجروا البحيرة للعمل في ميلانو وروما وفينيسيا، ولندن، هجروها الى المدن الكبيرة، وتركوا العمل في الفنادق والمقاهي هنا لشباب اوروبا الشرقية".
صمتت قليلا فملأ الفراغ بأن تمتم "نعم. لاحظت ذلك". وتخيل الشاب والفتاة اللذين يخدمان في مطعم عائلة روبرتا القادمين من يوغسلافيا في عمل موسمي كما اخبراه.
"ما الذي يجذبك اذن الى مكان مغلق على نفسه، ينتهي مفعوله بعد شهور قليلة؟"
"لكن روبرتا، اليس كل الشباب يطمحون للمغامرة هذه الايام. هذا يحدث حتى في لندن. شبابنا الان في دبي واميركا وآسيا يبحثون عن المغامرة وفرص حياة افضل". غير ان روبرتا التي كانت لا تزال تحتفظ بحماس تعليقها على دعوته قاطعته "هذا المكان كئيب حتى في الصيف، الا تلاحظ ان غالبية السياح من متوسطي الاعمار ومن المتقاعدين؟".
"لانهم ينشدون الهدوء والاسترخاء. هذا ما شدني انا الى هذا المكان في الاساس يا روبرتا؟"
وبدأت ملامح روبرتا تقسو. فبعد ردوده، وبعد ان فقدت رومانسية الليلة مفعولها المفترض، ما عادت تأبه برقتها أمامه كما يبدو. قالت له خاتمة قرارها "انا الان في الثامنة والثلاثين قضيت كل تلك السنوات في هذه البلدة بنظام رتيب يقوم على موسمين، موسم سياحة واخر بيات شتوي. واريد ان اخرج الى مكان فسيح يضج بالحياة".
صدمته الارتباكة التي احدثها الجدل بينهما، فنسى العودة الى الموضوع الاصلي، اي مفاتحتها بالزواج، كأن مفعول العرض انتهى بتغير المكان المرشح للاقامة. ثم انتبه الى انه وقع أساسا في غرام المكان وليس في غرام روبرتا، لا بل شعر انه ما عاد يطيقها بعد تلك الليلة، وفي اليومين التاليين حاول ان يتجنب الحديث معها، مصدوما من تلك النهاية التي لم يتخيلها ابدا، ربما لانه لم يفكر بها وبنفسه كشخصيتين داخل قصة. توقع ان ترفضه لاسباب لها علاقة بالعمر، او بالمظهر، لكن ان تربط الامر بالانتقال معه الى لندن وتحقير البحيرة الساحرة!
صباح يوم المغادرة عندما كان ينهي حساب غرفته، تعامل هو وروبرتا بشكل رسمي، كمسؤولة في فندق ونزيل.
"تشاو روبرتا"
لم تنظر في عينيه وهو يطلق العبارة الوداعية، تمنت له السلامة "رحلة آمنة" كأي فتاة ذكية اجادت اللغة الانجليزية بتفاصيلها استعدادا ليوم قد تغادر فيه المكان. ودّ لو يعتذر لها قبل ان يرحل عن سوء الفهم الذي تم بينهما، لكنه ارتبك من الموقف وقرر ان يكتب لها بعد وصوله الى بيته، ملتزما بالتقاليد الانجليزية التي تقدس ارسال البطاقات والرسائل البريدية، لذا فقد حمل حقيبته ونزل الى حيث سينتظر الحافلة التي ستقله وبقية المجموعة الى مطار فيرونا في طريق العودة الى مطار تشيزيك بلندن. وأمام مدخل الفندق اقترب من المرأة الشقراء وممن تخيله عامل بناء بعد ان شعر بحاجته الى الحديث مع بشر، ليحمي نفسه من عقدة الذنب التي تركها خلفه للتو. كانت المرأة التي افترض ان اسمها "ميري" لا تزال تبدو غاضبة من رفيقها، فعندما طلب منها هذا الاخير ببرود ان تحمل له حقيبة الكتف التي تخصه بسبب انشغال يديه بالحقائب الاخرى، ردت بصوت لم تأبه ان يكون مسموعا "انا سكرتيرة في شركتك ولست زوجتك".
"ليست زوجته" ويبدو انها لن تكون سكرتيرته بعد وصولهما الى لندن. وانفرجت اسارير الكاتب ادوارد ستيفنسون للمرة الاولى منذ يومين. لقد نجح على الاقل في ان يخمن شيئا صحيحا حول علاقة ما. وهذا يعني ان مخيلته تعمل بشكل مقبول نسبيا، مخيلة كاتب قصصي أصيب بعقم الابداع فزار بحيرة غاردا وعاد منها ببضع افكار لقصص حب قد تصلح لمجموعته القادمة.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |