الفيتو الصيني الحازم...... لماذا؟
هل كانت الصين مفتونة بحزب البعث ورؤاه السياسة الخارقة والتي تعتبر في المنظور السياسي والفلسفي السياسي فتحا في تاريخ الفكر, فخافت على مستقبل البشرية أن يصاب بثلم لن تشفى منه لقرون لو سقط, فقررت أن تقاوم الرغبة الانحرافية للثوريين و"الإرهابيين" السوريين !الذين لايدركون مصالحهم ومصالح البشرية جمعاء في القضاء على حلم البشرية في مجتمع العدالة البعثي, فقررت الوقوف ضد هذه الهرطقة والقضاء عليها في مهدها دفاعا عن مصالح السوريين الذين لايدركون لحماقتهم مصالحهم ومصالح البشرية المرتبطة بالخط الفكري والسياسي الذي انتهجه الحزب المدافع عن العروبة, والمقاومة, والممانعة للامبريالية, والصهيونية, وحشي البشرية المعاصرين, فأطلقت الفيتو الشهير ثلاث مرات حفاظا على النقاء العالمي الثوري؟
منذ حوالي ربع قرن وقبل سقوط وتحلل الاتحاد السوفييتي راجت في الأوساط الدائرة حول محبي البعث حكاية كان البعثيون وأصدقاؤهم والحائمون حولهم ممن يتلقفون رزقهم مما يتساقط عن المائدة البعثية, وكان مؤدى هذه الحكاية أن مفكري الحزب الشيوعي السوفييتي يأتون إلى سوريا زرافات ووحدانا لدراسة التجربة السورية في الجمعيات الزراعية التعاونية في سوريا والتي تجاوزت في نجاحاتها التنويرية الفكر الاشتراكي العالمي في إنسانية التعامل مع الأرض, وفي إنسانية الرعاية الحكومية التي جعلت سورية ليست مكتفية زراعيا فقط, بل مصدرة لكثيرمن منتجات الأرض, وهاهي تقدم للاتحاد السوفييتي حصيلتها الفكرية في الاشتراكية والدروب المختلفة لتحقيقها, وكما تحدث الأدب السياسي السوري عن الرأسمالية المتوحشة, فحطم كثيرا من الأوهام من حولها, فهاهو اليوم يأتي من سيجعل السوريين يتحدثون عن الاشتراكية المتوحشة, وهاهي أم الاشتراكية العالمية تأتي بتواضع لتتعلم الاشتراكية الإنسانية ـــ التي لاتقدم النجاح الاقتصادي على رفاه البشرـــ فتتعلمها من مفكري البعث السوري المتواضع والذي لايثرثر عن إنجازاته, بل يترك الآخرين يتحدثون عنها, ولكن واحدا ممن يطبلون ويزمرون ويلقطون ما يتساقط عن مائدة الكبراء لن يجرؤ على الحديث عن الكارثة الزراعية في سورية, والتي ملحت آلاف الدونمات من خيرة الأراضى الزراعية السورية التي كانت مع ندرة المياه تعطي المعقول من المنتوجات, فلما أقاموا السدود بهمة العمال والمهندسين السوريين, وأقاموا الأقنية بأموال الشعب السوري, ولكن الجمعيات التعاونية السورية البعثية الزراعية لم تحاول ــ في وقت مبكر من التجربة الجديدة ـــ تدريب فلاحين اعتادوا الزراعة البعلية, وليس الزراعة المسقية, وظنوا لغشمنة فيهم أناّ إن أكثرنا من السقاية فسنحصل على الإنتاج الأكثر, وهكذ ا أهدروا وأكثروا هدرالمياه في الأرض, فاختلط السطحي منها بالجوفي سنة إثر سنة, وأخذت المياه الجوفية تطفو, وتطفو حتى وصلت إلى السطح محملة بأملاح الطبقات الجوفية , وانتشرت الأملاح على السطح, وكنت قد اطلعت عليها في إحدى رحلاتي, فحاولت كشط الملح لأكتشف كما قال لي فلاح صديق أن الملح قد يصل في بعض الأراضي إلى ما يزيد على العشر سنتيمترات!, وخرجت هذه الأراضي من الدورة الزراعية, وتوقف البعثيون عن التباهي بأن السوفيات سوف يتعلمون منهم الاشتراكية الحقيقية.
ولنعد إلى الصين التي لم يكن موقفها واضحا للصمت الآسيوي التاريخي فيها, وللقناع الصارم الذي ترتديه أن نعرف فيم يفكرون, وربما كان الاحتكاك العربي الأول مع الصين في الغزوة العربية المبكرة للصين بقيادة إن لم تخني الذاكرة محمد بن القاسم الثقفي حين وصل إلى حدود الصين, فأرسل حاكم الصين, وربما كان والي أو محافظ المناطق الحدودية يسأله عن طلباته, فرد في عجرفة.العسكري الشاب: إنه أقسم أن لن يرجع إلى الغرب ــ الخلافة الإسلامية, فهي الغرب بالنسبة للصين ـــإلا إن وطئت خيوله أقصى بلاد الصين!
الحاكم الصيني الدبلوماسي العجوزالذي شهد, وصدّ مغامرات كثيرة كهذه من المغول والترك, وسمع أو قرأ عن محاولة المقدوني الشاب الاسكندر, ويعرف أن أجداده ما أقاموا السد العظيم إلا لصد البرابرة عن العيث والتخريب في بلاد صنعت جزءا كبيرا من حضارة الانسان لحكمة حكامها, ورفضهم القيام بالمغامرات العسكرية لتسيد العالم, هذه العادة التي اتسمت بها شعوب البحر المتوسط أيام كان المتوسط مركز الحضارة والعسكرية, فما عرف عن الصينيين أنهم اجتازوا السور العظيم يوما سعيا وراء مجد عسكري أو غنائم يغنمونعا من الأمم المهزومة, فهم ماإن أنجزوا وحدة الصين على اختلاف شعوبها حتى بنوا سورا بينهم وبين العالم: لانريدكم غازين ولا مغزوين.
أطرق الحاكم الصيني وهو ينظر بعينه المائلة إليه وكان الثقفي فتى مايزال في ميعة الصبا, وربما لم يدرك العشرين من عمره بعد, ثم قال: فهل يرضيك أن توطئ خيلك أرض الصين ومعها كل هذا وأشار إلى الخدم, فكشفوا عن أكياس الذهب وأثواب الحرير, وأطباق وجرارالخزف الصيني, وأدرك الثقفي حيلة الصيني في إغرائه بالغنائم, فقال في تنمر: لاأعود إلى بلادي إلا أن تطأ خيولي أقصى تراب بلاد الصين, وأشار الحاكم العجوز بجانب عينه المائلة, فدخل الخدم يحملون عشرات الأكياس من تراب الصين, وفرشوها في الخيمة وأمام الخيمة لعشرات الأمتار, وقال الحاكم: أبررقسمك, ودس تراب أقصى بلاد الصين.
رجع الثقفي بعد أن حمل جنوده الهدايا الكثيرة جدا, وأكياسا من تراب الصين يوطئها لخيل قريبه الحجاج الثقفي, فلما غابت خيول المسلمين عائدة أمر الحاكم كاتبه بإبلاغ الامبراطور بما جرى, وختم الرسالة :وأنقذنا البلاد من عبث الجنود" جنودهم", ومن موت الجنود" جنودنا", ومن خراب الحقول بأرخص الأثمان.وسيكتب المؤرخون المسلمون, ويعيدون عن الثقفي الذي وطئ ترابا من أقصى بلاد الصين خضوعا من سيد الصين لإرادة الثقفي, وشموخا من الفاتح العربي الذي برّ بقسمه, ولكن واحدا منهم لم يكتب عن الصيني الماكر الذي دفع الكارثة عن بلده بدراهم معدودة, فالحرب منتصرا كنت أو مهزوما كارثة لايدركها إلا الأمم والحكام الحكماء الذين توغلت الحكمة في جيناتهم.
بعد انتشار تعاطي الأفيون في الامبراطورية الصينية, ولدى كافة الطبقات الأمر الذي حطم آخر أسوار الحكمة الصينية أصدر الامبراطور أمرا بمنع بيعه وشرائه وتعاطيه, فقامت الامبراطورية البريطانية للدفاع عن مصالحها, ونشرت زراعته في مستعمرتها الهند المجاورة, وتهريبه إلى الصين, وصار الصيني يبيع بيته وأرضه, ثم زوجته وأولاده ليدفع ثمن الأفيون, فأصدر الامبراطوريونغ تشينغ أمرا بمنع استيراده, فأعلنت بريطانيا الحرب عليه بدعوى الدفاع عن حرية التجارة العام ـــ1839وطالت هذه الحرب التي كان ضحيتها ــ المحاربون الهنود طبعا ــ حتى 1842ومن الجدير بالذكر أنهم اخترعوا المحاكم المختلطة في الصين والذي سينقلونه بعد سنوات قليلة إلى مصر والشام, وعاد الصينيون إلى الانهيار تحت تعاطي الأفيون بكميات جعلت مزارعي الأفيون وتجاره من الفرنسيين والبريطانيين ثم الهولنديين, وكثير من المغامرين الأوربيين شديدي الثراء بحيث صار بإمكانهم إنشاء جيوش خاصة بهم, وادخلت الصين في المستنقع الذي دخلته مصر بعد الاحتلال البريطاني, وسوريا بعد أن استطاع الغرب دخول الشام شريف, ودس قناصله ومحاكمه المختلطة في الدولة العثمانية كما أدخلها في الصين.
في العام 1898انفجرت ثورة كان لابد من أن تنفجر, لقد نفد صبر الصينيين, هذه الثورة سماها الصينيون" قبضات العدالة المتألقة", وسماها الغرب ثورة البوكسرز أو الملاكمين, واستمرت هذه الثورة حتى 1901.
بعد ثورة البوكسرز دخل الشعب الصيني العصر, ثم جاءت الثورة التي قادها سان يات سين والتي أسقطت النظام الامبراطوري للمرة الأولى منذ ألفي سنة, وأسست جمهورية الصين العام 1912. بعدوفاة سان يات سين العام 1925دخلت الصين لعبة المحاور, وأوجاع نشوء الطبقة الوسطى حاملة المجتمع الشرعية, وقائدته الفكرية والاقتصادية, وقفز إلى المشهد جنرال مغامر ينتمي إلى الأقلية الصغيرة في الصين " مسيحيي التبشير", ومارس سياسة تابعة للغرب, فانتفضت عليه الثورة الشيوعية, وكان اسم هذا الجنرال تشانغ كاي شيك, وكان على رأس الثورة الشيوعية مفكر ماركسي هو... ماو تسي تونغ...وفي رحلته الطويلة من إقليم يونان إلى منشوريا حيث سيتم الاصطدام الكبيرمع جيوش تشانغ كاي تشيك, في هذه المسيرة الاسطورية سيتساقط جوعا وإرهاقا حوالي الثلاثين مليونا من البشر الحالمين بالغد الأفضل, وسيهرب تشانغ إلى جزيرة فورموزا التي سيصبح اسمها جمهورية الصين الوطنية, أو تايوان.... في مقابل جمهورية الصين الشعبية.
والآن ما الذي يعني القارئ العادي من كل هذه الثرثرة التاريخية, ولكنها ليست ثرثرة, بل قراءة لأمر شديد الأهمية لنا نحن السوريين, فالصين بعد وفاة ماو, وخروجها من الثورة الثقافية التي أراد ماو منها تثوير الشعب الصيني كله بانتزاعه من تاريخه "البورجوازي العفن" هل يذكرنا هذا المصطلح بتاريخ أدبيات البعث, وهو يريد دمار البورجوازية العفنه حتى أثرى البعثيون متحالفين مع ضباط المخابرات, وصاروا بورجوازيين" أثرياء" زيادة عن اللزوم, وكان ماو قد اختفى بالموت, فلم نعد نسمع هذا التعبير, ولكنا صرنا نرى اللوحات الحاملة لنداء" يا حسين" ترفع فوق البيوت والمساجد المهزومة, والتي تعني :أعنا على النصر على السوريين, وكانت خسائر الشعب الصيني من الثورة الثقافية أكثر من ثلاثين مليونا من نخبة الشعب الصيني مفكرين, وكتابا, وعلماء, وأطباء, أي زهرة البورجوازية الصينية.
بعد النجاح الاقتصادي الذي أحرزته الصين كان لابد من التخلي عن جزء كبير من السلطة المركزية الحزبية المتشددة للشعب, ولكن هذا كان يعني حسب رأي دهاقنة الفكر في الحزب تفتت الحزب الشيوعي الصيني وضياع مركزيته وقراره من يد الحزب المركزية, فقاموا بحل توفيقي: الانفتاح الاقتصادي دون انفتاح سياسي, ولما كانوا يخافون من ردة فعل الشعب التائق إلى الحرية, والتعددية, والمساواة مع الأقليةالحزبية!, فقد قرروا إغراء سوريا بإجراء التجربة في سوريا, وبذلك يمكن لهم استيعاب الدرس السوري, ولما كان تحالف البعث والمخابرات في سوريا ليس على استعداد لخسارة موقعه المتقدم اقتصاديا وسياسياعلى الشعب, فقد أعجبه الاقتراح, وسرعان ما تبناه مع دعاية وترويج بالمن على الشعب السوري بالاصلاح الكبير.
بعد هجمة الضباط النهمين على نهر بردى وتنشيفه في مسابحهم, والنهر ملك لفلاحي الغوطة منذ آلاف السنين, ولكن الأقوياء في دولة البعث استغلوا قوتهم وسيطرتهم على القرار في البلد, فجففوا بردى لملء مسابحهم, ثم قرروا بيع الغوطة مقاسم للبناء العشوائي, فتحول أبناء الفلاحين التاريخيين إلى نجاري موبيليا متوسطي المهارات والأسعار, وبدأ الانفتاح الاقتصادي حسب نصيحة الأخت الكبرى الصين, وفوجئ نجاروا ومنجدوا داريا وزملكا وسقبا إلخ بالسوق يسرق من بين أصابعهم على يد الانفتاح الاقتصادي في بضائع الصين وتركيا الأرخص والأجود, وقد يسأل أحدهم : فلم لم يتجمعوا ويقيموا شركات تستطيع المنافسة, و... ياتيك الجواب ولكن ليس هناك انفتاح سياسي, فأنت لو قررت مع زملائك إقامة شركة, فأنت بحاجة إلى موافقات أمنية, والموافقات الأمنية دونها صعاب الدخول إلى الجنة, و...قامت ثورة الجياع إلى الكرامة و..إلى الحرية,... وإلى الخبز, وفهمت الصين الدرس, فقررت الدفاع عن ساحة تيان ان مين ليس في بكين, ولكن في حمص, وحلب, والغوطتين مشددة على منع السوريين من انتزاع حقوقهم فلو فعلوا, فماذا سيفعل الصينيون المستميتون للحصول على حقوقهم السياسية, و..رفع مندوب الصين كفه الكريمة معلنا الفيتو, وحارما السوريين من الحرية.
[email protected]