الحجاب: من تأنيث الألوهية إلى تذكيرها ـ ابراهيم أزروال
ألف
2013-11-14
عادت إشكالية الحجاب والنقاب إلى الفضاء الثقافي الإسلامي ، لتحتلّ موقعا رئيسا في وعي مستهلكي الخطاب الشرعي، بعد الفاصل الإصلاحي، الداعي إلى شرعنة السفور، استنادا إلى قراءة وتأويل خاصين للنصوص المؤسسة. لا جدال في مركزية الهندسة الجسدية في الإسلام، وفي تدبير العلائق بين الأجساد لضمان انتظام النظام الرمزي كما أسسته المنظومة العقدية الشرعية. وعليه، فلا غرابة في أن تتفق كل الحساسيات الإسلامية، على تعيين معايير الاتصال والانفصال بين الأجساد في الفضاء الاجتماعي، وتحديد قوانين التدبير الذاتي للجسد وآليات التعامل مع الجسد الآخر، وتنظيم التواصل اللفظي والإشاري والفكري والوجداني بين الجنسين. فالإسلام يتحدّد عموديا بالتوحيد، وأفقيا برسم معيارية صارمة لاستعمال الجسد، فرديا أو جماعيا. ولمّا استطاع الإسلام تكريس “صفاء” تعاليه، قياسا إلى التقاليد التوحيدية الكتابية، فإنه لم يتمكن من تحويل محايثة الجسد إلى تعال، فبقي مترددا ينزه الله عن التشبيه والتشريك، ويتردد إزاء الجسد بين محايثة مكرسة، بقوة الشريعة نفسها وتعال مطلوب نظريا، ومستحيل عمليا . لقد تغيّى الإسلام شرعنة الجسد وأسلمة كل الاستعمالات الفردية أو الجماعية لجماع البدن؛ إلا أنه اصطدم بقوة الغريزة والجبلّة ونداء الحبّ وسوى ذلك من التجليات الثقافية الحاثّة على التلذّذ الجسدي وعلى “الطقسنة ” الجسدية. لا جدال في أنّ الإسلام توخّى من خلال أسلمة الجسد، توجيهه إلى وجهة غير الوجهة الاستيطيقية أو اللذّية أو الشعرية أي إلى استعمالات مخالفة كليا للتراث الثقافي للعرب. فالجسد المؤسلم موجّه أساسا نحو الصلاة والجهاد، فهو جسد برسم الإفناء عبر إذلاله ميتافزيقيا في الصلاة وإعدامه قصديا في مشاريع الجهاد القتالي والاستشهاد. ولئن رصد الجسد الذكوري للصلاة وللجهاد القتالي، فإن الجسد الأنثوي مرصود للحجب، بالنظر إلى لصوقه الانطولوجي بإطار محايث، وبذاكرة ثقافية حبلى بتمجيد الجسد المنطبع بالرغبة والحبّ المتأجّج والشهوة المنداحة في ثنايا المتن الثقافي الوثني التعديدي . (حدثنا الحسن بن صباح حدثنا محمد بن سابق حدثنا مالك بن مغول قال : سمعت الوليد بن العيزار ذكر عن أبي عمرو الشيباني قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: ” الصلاة على ميقاتها ” قلت: ثم أي؟ قال: ” ثم برّ الوالدين ” قلت: ثم أي؟ قال ” الجهاد في سبيل الله ” فسكت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني). (البخاري – صحيح البخاري – اعتنى به : محمود بن الجميل – مكتبة الصفا – الطبعة الأولى – 2003- كتاب الجهاد والسير – باب فضل الجهاد والسير – ص . 15).
فلئن استطاع الإسلام المؤسس أسلمة الجسد الذكوري، فإنه اكتفى بمجموعة من المعايير والقواعد لتأطير الجسد الأنثوي المضاد، جوهريا، للأسلمة وللانطولوجيا التوحيدية عموما. فكل انبثاق لهذا الجسد الإشكالي في ثنايا الفضاء الثقافي الإسلامي، يخلخل الغائية المسطرة، والمعيارية المقررة؛ وعليه، لا بد من رسم أحياز لحضور الجسد الأنثوي، وتعيين استيطيقاه المؤسلمة في حدود الإمكان. فالأنثى إذ يراد لها التخفّف من الفاعلية العمومية، ومن الانعزال عن مدارات الجماعة الإيمانية، إنما تخفف عن البنية المراد تسييجها وتصليبها، وقع توتر كياني راقد في اللاشعور الجمعي للأمة الحاملة للصيغة الأنقى للتوحيد وفي القيعان التشبيهية للغة العربية . لقد انبنت العمارة الاعتقادية الإسلامية على إمكان النفاذ عميقا إلى سويداء الكائن، وعلى تليين القلب الإنساني، وعلى تشرّب القيم العرفانية للدين؛ إلا أن التشريع الإسلامي يقرّ باستحالة تذويب الطبيعة والغريزة والاستيطيقا القديمة في المعيارية الإسلامية الجديدة. فالإنسان المسلم المتشرّب للقيم والأخلاق الإيمانية، والمتفاني في أداء طقوسه والمتأهب للموت في سبيل رفعة عقيدته، غير قادر على الاستجابة الإسلامية المتعالية، لتحدّي الأنوثة أي لاستقبال الجسد الأنثوي استقبالا متعاليا. إن المسلم قادر على مجاهدة الفكرية في أرقى مراقيها وأحوالها، إلا أنه عاجز عن تجاوز احتواء بريق الجسد الأنثوي ونداءاته الشبقية المتأججة. فالمسلم يمكن، مبدئيا، أن يرتقي إلى مراتب العرفان والتقوى والإحسان، إلا أنه يبقى بعيدا عن تفعيل مبادئ التقوى في مواجهة الجسد الأنثوي. إن بين الأنوثة والقداسة، في المنظور الإسلامي هوّة انطولوجية لا تملؤها حتى التشريعات العازلة والحدود القاسية مثل الرجم . إن الإيمان يجبّ ما قبله إلا الشهوة فهي باقية عالقة بالنفس إلى الموت! فالمؤمن قادر على استئصال الأوثان من مخيلته، إلا أنه غير قادر على عصمة نفسه من لهيب الجسد ومن نيران التوله والوجد. فالإيمان فعل جذريّ، إلا أنه محصور الفاعلية في مضمار الرغبة والغواية. فالغواية قابعة في قعر النفس، لا تجدي الحياة الطقوسية في محوها، مهما كان المتعبد منصرفا عن الدنيا وعن متعها . نقرأ في ( طوق الحمامة ) ما يلي : ( …حدثني سليمان بن أحمد الشاعر قال: حدثتني امرأة اسمها هند كنت رأيتها في المشرق، وكانت قد حجت خمس حجات، وهي من المتعبدات المجتهدات، قال سليمان: فقالت لي: يا ابن أخي، لا تحسنن الظن بامرأة قط فإني أخبرك عن نفسي بما يعلمه الله عز وجل: ركبت البحر منصرفة من الحج وقد رفضت الدنيا وأنا خامسة نسوة، كلهن قد حججن، وصرنا في مركب في بحر القلزم، وفي بعض ملاحي السفينة رجل مضمر الخلق مديد القامة واسع الأكتاف حسن التركيب، فرأيته أول ليلة قد أتى إلى إحدى صواحبي فوضع إحليله في يدها وكان ضخما جدا. فأمكنته في الوقت من نفسها. ثم مرّ عليهنّ كلهنّ في ليالي متواليات، فلم يبق له غيرها، تعني نفسها، قالت: فقلت في نفسي: لأنتقمن منك. فأخذت موسى وأمسكتها بيدي. فأتى في الليل على جاري عادته. فلما فعل كفعله في سائر الليالي، سقطت الموسى عليه فارتاع وقام لينهض. قالت: فأشفقت عليه وقلت له: وقد أمسكته: لا زلت أو آخذ نصيبي منك. قالت العجوز: فقضى وطره، واستغفر لله . ). (- ابن حزم الأندلسي – طوق الحمامة في الألفة والألاف- دار الجيل – بيروت – لبنان – ص.178-179)
فالإسلام المنادي بالتعارف وتكريم البشر نصّيا، يحترس من الكوامن المتعية العصية على الترويض؛ فالإسلام يمكن أن ينقل الإنسان من حال الضلال إلى حال الهداية، إلا أنه لا يعد بأي تحويل أو نقلة ممكنة، في حضرة الجسد الأنثوي . إن الأنوثة لا تقود المسلم إلى معانقة الجسد الآخر فقط، بل تقوده إلى الإطلالة على عالم القداسة الأخرى، أي إلى عالم يتقدس بالجسد وفي الجسد. فالجسد ليس مجرد أداة وظيفية لأداء الطقوس كما في اليهودية والإسلام، بل هو بوتقة تشكل القداسة نفسها، وتبرعم التعديد الرؤيوي والتناغم مع الطبيعة والكون كما في الأساطير القديمة. ومسالك الغواية متعددة، مما يستلزم الاحتراس من الجسد الفيزيقي ومن جسد اللغة حين تتأنق وتتألق وتحيل إلى سديم العشق والافتتان والغواية. وهكذا، يستحيل الخوف من الجسد إلى رهاب، يستحيل معه الجسد بما هو هبة علوية، إلهية لا بد من إخفائها، خوفا من انتظام الناموس الطبيعي! فالنص يؤسس حجاجه على الطبيعي، ليعود لإلغائه باسم فكرية، متشككة جوهريا، في قدرة الفرد على التسامي والتعالي في موضوع الجنسانية . فرغم الوضع الاعتباري لأمهات المؤمنين، فإنّ النص المؤسس يحذّرهن من مداورة اللغة على الوجه الجمالي أو الثقافي المتأنق. يقول ابن الجوزي: (قوله تعالى : ( فلا تخضعن بالقول ) أي : لا تلن بالكلام (فيطمع الذي في قلبه مرض ) أي: فجور؛ والمعنى: لا تقلن قولا يجد به منافق أو فاجر سبيلا إلى موافقتكن له؛ والمرأة مندوبة إذا خاطبن الأجانب إلى الغلظة في المقالة، لأن ذلك أبعد من الطمع في الريبة. (وقلن قولا معروفا) أي: صحيحا عفيفا لا يطمع فاجرا.) (- جمال الدين ابن الجوزي –زاد المسير في علم التفسير – دار ابن حزم – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى الجديدة – 2002-ص.1123)
تكمن قوة الأنثوي، في قدرته على إعادة الذكر المؤمن إلى عالم الرغبة والشهوة واللذة، أي إلى عالم مناقض للمثالات النظرية للفكرية التوحيدية المأخوذة بالتقشف وبالتطلعات الاسكاتولوجية. فالاستجابة لنداء الرغبة، ليس مجرد مخالفة للشريعة، بل هو تملص عملي من مرتكزاتها النظرية القاضية بالاستجابة لنداء الألوهية وحده. فلئن مثل الإيمان نقلة إلى عالم التعالي والمفارقة والتأله، فإن الأنوثة تمثل التعبير الأكبر عن عالم التعديد والتشريك والجنسانية المحايثة أي المحصورة في نطاقات تلذذية متعية أو هيدونية. ولما كان الإيمان متوترا من حيث المبدأ، فإنّ السماح للأنثوي بالتعبير عن ممكناته الرغبية والمتعية والشبقية واللعبية، يعدّ بمثابة إقبار لفكرية التعالي في الأصل. فالإيمان ليس عاصما من غواية الجسد ومن فتنة الأنوثة ومن الحنين إلى القداسة الأنثوية الساكنة في الأعماق التكوينية للذات الثقافية ولبنية اللغة والبلاغة العربيتين. فالفصل بين الجنسين وتغطية الجسد الأنثوي ينبعان من الخوف من الانبثاق الفجائي للقداسة الأنثوية، من أعماق مجتمع تأسست ثقافته على تأنيث الألوهية وعلى تقديس الجنسانية. فلنجاح الفكرية الجديدة، لا بدّ من تحويل الجنسانية المتعية المنفتحة على المقدس المحايث، إلى جنسانية وظيفية أو إلى جنسانية إنجابية لأهداف تفاخرية، أو إلى جنسانية استعراضية ( السراري وملك اليمين). إن المقدس الإسلامي ينهض على الفصل بين القداسة والجنسانية، وعلى رفض التقديس الأنثوي على مستوى العقيدة، وعلى التقنين المعياري الصارم للجنسانية على مستوى الشريعة. فالقداسة الإسلامية لا تجتاف الجنسانية ولا تتوسلها وسيلة للتأله أو للتروحن أو لاحتياز القيم الجمالية الكبرى. فالجنسانية المتعية تحيل شعوريا أو لا شعوريا إلى الحبّ المحايث، والعشق العالق بضفاف الإنساني، والى التوله بالمحبوب إلى حد الفناء. وكل فناء في الأنوثة يعدّ، من الوجهة التوحيدية، ضربا من التعديد أو التشريك، ومسلكا من مسالك التشبيه والتدني الروحي والأخلاقي. فالقداسة الطالعة من قاع الأنوثة والحب والوله، تتنافى مع الاختلاف المتوحش، المفضي إلى القتل أو الانقتال المنهجيين، كما في التاريخ السياسي للكتابيين. لا جدال إذن في مجافاة القداسة المحايثة للقتل اللابس لبوس الفكرية التوحيدية وللانقتال الزهدي المنبثق من رهاب الجسد المتأصل في بعض التقاليد الثقافية بالشرق الأدنى وبالشرق الأقصى على السواء . إن حبّ المرأة والهيام بالجسد الأنثوي، والانشغال بالجماليات التعبيرية، لا يعنيان إلا الابتعاد عن التأله والنأي عن محو الذات والآخر وتثبيت الغيب محلهما. إن الحب الميتافزيقي، نفي للوحدانية وللتعبد بوصفه الواجب الميتافزيقي الأرقى للإنسان بشهادة نص القرآن. كما أن الإيغال في عوالم المرأة وفي الجغرافية الباذخة للأنوثة يمنع من الانخراط الفعال في تغيير العالم بالصلاة وبالجهاد. فالصلاة محو أول للذات، والجهاد محو ثان ونهائي لها. وبين المحوين تنتصب الشريعة بما فيها الحدود الجزائية، لتنظم المسافة الاجتماعية والسياسية الممتدة بين الإنقتال الرمزي والانقتال الفيزيقي. فالصلاة في محراب الإله، هي البديل الإسلامي للصلاة في محراب الحبّ والتبتل في معبد العشق. كما أن آيات القرآن هي البديل الأدبي والفني للشعر والغناء. كما أن الاستشهاد الإسلامي هو البديل الأرقى للبطولة الحربية في الزمكان التشريكي القديم. فاستبعاد الأنوثة والجمال عموما وبهاء الجسد الأنثوي خصوصا، من دائرة الفعالية العمومية في الاجتماع الإسلامي، يستهدف القطع نهائيا مع نسق جمالي ورؤيوي بعيد عن امبريالية التأليه الإبراهيمي وعن المنطق التشريعي وعن المخيلة الطقوسية للإبراهيميين . فالتوحيد الإسلامي لا يكتمل إلا بتطويق كل التعبيرات الثقافية للذاتية الثقافية التعديدية، وتجفيف منابع المخيلة الإبداعية المنزاحة عن قبليات العقل الشرعي وينبغيات المنطق الماورائي. فكل إطلالة للجسد الأنثوي على المشترك الإسلامي تحمل علامة الاختلال القيمي والارتجاج العقدي، والارتباك التشريعي؛ فالجسد يستدعي قدسانية جنسانية وجنسانية محايثة تؤسس مقدسها بالجسد لا ضده، باستيحاء العوالم الثرة للأنوثة والتخوم القصوى للتجارب الكيانية. فالأنوثة فضاء للتخيل، تتضافر فيه اختراقات الكلمة الخلاقة والنغم المطرب والشبق المتدفق والخمرة المسكرة، لخلق إنسان منقطع عن الاستشرافات الماورائية وعن الاهتيامات العبادية والطقوسية المسكونة بالترتيلات والإعادات والتهوس بالموت، فكرا وتعبيرا وفعلا . كما تتميز القدسانية المحايثة بطابعها التعددي والمفتوح بالقياس إلى القدسانية التوحيدية الغارقة في التمركز والبطريركية والانغلاق النسقي؛ فالمقدس المحايث الأفقي جوهرا، قابل للتفريد والتذاوت، فهو لا يلغي الإبداعية الذاتية للأفراد في تصورهم لأجسادهم وتوظيفها، ايروتيكيا أو متعيا أو هيدونيا، كما أنها توفر مجالات لا نهائية لصناعة الرمزية الجنسانية أو القداسة المحايثة مع الأغيار بلا محظورات حدية من النوع المعهود في الفكرية الإبراهيمية التوحيدية . فالمقدس المحايث، المنفتح جوهرا، يحفز الذات على مواصلة الترميز وإنتاج العلامات والدلالات، والبحث عن المعاني الطالعة من رحم الرغبة العارمة والنفس المسكونة أبدا بالتطلعات الحبية والعشقية والجسد المتطلع دوما إلى وصال توحدي، يحاكي الطبيعة في أجمل طقوسها إخصابا ورواء . يحيل المقدس المحايث على المخيلة أكثر مما يحيل على الذاكرة أو على الحافظة؛ فهو يربط الكلمة بنبض الجسد، وبعنفوان تجربة الحب أو العشق أو التدله، ويوطنها في مساحات الاتصال أو الانفصال بين العشاق أو المحبين. إن الكلمة مجبولة هنا بطين الجسد وبكل الممكنات غير المستكشفة للرغبة وللشهوة حين تتألق في ليالي الصبوات . تنهض القدسانية المحايثة على خلق اشتباك انطولوجي بين الأنوثة وبين الذكورة، بين الكلمة وبين العاطفة الحبية أو العشقية، بين المقدس وبين الجسد في وضعياته الايروتيكية أوالشبقية أو الهيدونية. إن الجسد منقوع في لهيب الرغبة، والكلمة مذابة في نار الجسد المتأجج شوقا أو تلهفا أو عشقا أو شهوة. فالجسد ليس مبرمجا وفق نسق تشريعي محدد التخوم والغائيات كما في النسق الكتابي، بل هو ضد البرمجة أصلا، بالنظر إلى ارتهان الجنسانية المحايثة إلى مبدإ الذاتية والى مبدإ الإبداعية. وليس غريبا، أن يعمل الهراطقة على تحرير الجسد الشرعي من البرمجة الأرثوذكسية، وعلى الاستجابة لنداء الآخر، بأريحية ايروتيكية لا تعرف التقتير الشرعي، في العاجل والبذخ الجنسي الموعود في الآجل . يقول الوليد بن يزيد: ( أنا الإمام الوليد مفتخرا أجر بردي، وأسمع الغزلا أسحب ذيلي إلى منازلها، ولا أبالي من لام أو عدلا ما العيش إلا سماع محسنة وقهوة تترك الفتى ثملا لا أرتجي الحور في الخلود وهل يأمل حور الجنان من عقلا ؟ إذا حبتك الوصال غانية فجازها بذلها كمن وصلا ) (- أبو العلاء المعري- رسالة الغفران – تحقيق : درويش جويدي – المكتبة العصرية – صيدا – بيروت – الطبعة الأولى : 2004-ص.261)
من المؤكد إذن أن الجنسانية المحايثة تنشغل بالآني زمانا، وبالعشقي وجدانا وعاطفة، وبالغزل تعبيرا، وبالخمر شرابا، وبالغناء فنا؛ وبناء على هذا، فإنها تقع في الطرف النقيض للمقدس الإسلامي وللجنسانية الشرعية المحكومة بموجبات فكرانية بالدرجة الأولى. فالإسلام المعياري لا يتصور الجنسانية الشرعية إلا في سياقها العقدي، والتجاذب بين الجنسيين إلا في إطار تعزيز اللحمة الفكرية للعقيدة المتأهبة لأسلمة العالم بالجهاد أولا، وبالصلاة ثانيا. فالجسد الشرعي جسد فكراني، يغلّب الاعتبارات العقدية على الاعتبارات الجمالية . ( أخبرنا إسماعيل ين مسعود قال: حدثنا خالد عن عبد الملك عن عطاء عن جابر: أنه تزوج امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتزوجت يا جابر؟ ” قال: قلت: نعم قال: ” بكرا أم ثيبا ؟ ” قال : قلت: بل ثيبا قال : ” فهلا بكرا تلاعبك ” قال: قلت: يا رسول الله كن لي أخوات فخشيت أن تدخل بيني وبينهن قال: ” فذاك إذا إن المرأة تنكح على دينها ومالها وجمالها فعليك بذات الدين تربت يداك “. ) ( -النسائي – سنن النسائي –ضبط نصها : أحمد شمس الدين –دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان – الطبعة الثانية – 2005- كتاب النكاح – على ما تنكح المرأة – ص.525)
والواقع أن تغليب العقيدة على الجمال ، يكشف عن تخوف كموني من بروز الجمال الأنثوي في الفضاء الثقافي، ومن ارتهان الناس لخطاب الرغبة والغواية. إن الجمال إسلاميا، ماورائي فردوسي، أما الجمال الدنيوي، فهو قرين الفتنة المتمثلة في الغالب في ترك الصلاة والجهاد والكلمة المقدسة. فالجمال الأنثوي لا يحجب عن الآخرين فقط بل عن القرين كذلك؛ فالزواج الشرعي زواج فكراني وظيفي، محكوم بأهداف إنجابية وبمقصديات ذرائعية أي بالاستهدافات التاريخية الكبرى للمشروع التوحيدي الإسلامي. واستنادا إلى هذا الاستنتاج، فالجنسانية الشرعية مناقضة جوهريا للجمال الأنثوي. فطالما يبرع الجمال الأنثوي في إنتاج مقدسه المخصوص وأشعاره الغزلية ومتخيله الأدبي والفني الباذخ، فإنه يمثل النقيض الكلي لتركيبة عقدية، لا ترى للجسد اعتبارا إلا في مقامات السجود أو في ساحات الجهاد القتالي . لقد كرس الإسلام الحجاب والخمار والفصل بين الجنسين ليس بهدف إقصاء الجنسانية اللاارثوذكسية فقط، بل لتكريس غياب الأنثوي وبروز الفكراني حتى في العلائق النكاحية. فالمرأة تحجب جسدها عن الآخرين، وتحجب جمالها عن زوجها. فالافتتان بالجسد يعني الإطلالة من جديد على المقدس المسكوت عنه، واستعادة البلاغة الشعرية المحظورة، والاستنكاف عن الجهاد القتالي. فغواية المرأة يمكن أن تحول المحبة الطبعية إلى المحبة الشركية. (….فأمرها فغنّت وشرب يزيد وشرب الفتى وشربت الجارية ثم أمر بالأرطال فملئت ثم قال للفتى: سل حاجتك؟ قال: تأمرها يا أمير المؤمنين أن تغني بهذا الشعر: منّي الوصال ومنكم الهجر حتى يفرق بيننا الدهر والله لا أسلو عنكمو أبدا ما لاح بدر وبدا فجر فأمرها فغنت قال: فلم تتم الأبيات حتى الفتى مغشيا عليه فقال يزيد للجارية: قومي انظري ما حاله فقامت إليه فحركته فإذا هو ميت، فقال لها يزيد: ابكيه، فقالت: لا أبكيه يا أمير المؤمنين وأنت حي فقال لها: ابكيه فو الله لو عاش ما انصرف إلا بك فبكت الجارية وبكى أمير المؤمنين وأمر بالفتى فجهز ودفن، وأما الجارية فلم تمكث بعده إلا أياما قلائل وماتت. ) (شهاب الدين الأبشيهي – المستطرف في كل فن مستظرف – شرحه ووضع هوامشه : إبراهيم أمين محمد – المكتبة التوفيقية – ص.459)
فبدلا من الاستشهاد في مضامير الجهاد، يموت العاشق من فرط العشق، بمحضر المعشوقة والخمر والموسيقى. وفرط العشق لا يعني إلا تقديس الأنثى، أي الإقرار بالتعديد. ومن هنا، فإن المعيارية الإسلامية لا تتسع للجمال ولمستتبعاته التعبيرية والسلوكية والوجدانية إطلاقا. فلئن انشغل المقدس المحايث، بالمزج بين الأنوثة والقداسة، فإن الإسلام شرع للفصل بينهما، وحكم الشريعة في كل تماس جنسي بين الجنسين. وهكذا مثل الإسلام نقلة من “الشعرنة “إلى” الشرعنة “، من صوغ الاستعارات والعواطف إلى تعيين قائمة المحظورات والمباحات، في العلائق الممكنة بين الجنسين . والواقع أن تشدد الإسلام المعياري في إقصاء الأنوثة من فضاءات التقديس، وحصر العلائق بين الجنسين في النكاح الشرعي، وإبعاد الجمال الأنثوي من المشهدية الاجتماعية والثقافية، يرجع إلى اعتبارات ثقافية خاصة بالإرث الفكري للكتابيين عموما، والى التاريخ العقدي للإسلام خصوصا . فمن المحقق أن الفكرية التوحيدية لاقت مقاومة ثقافية كبيرة في الشرق الأدنى القديم الغارق في أنساق رمزية قدسانية متعددة. فالمقدس الوثني المحايث المتأصل في المخيال الثقافي الشرقي، عنيد وقادر على العودة كلما تراخت المؤسسة الكهنوتية الأرثوذكسية للكتابيين . (وأحبّ الملك سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون موآبيات وعمونيات وأدوميات وصيدونيات وحثيات من الأمم الذين قال عنهم الربّ لبني إسرائيل لا تدخلون إليهم وهم لا يدخلون إليكم لأنهم يميلون قلوبكم وراء آلهتهم. فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة. وكانت له سبع مئة من النساء السيدات وثلاث مئة من السراري فأمالت نساؤه قلبه. وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى ولم يكن قلبه كاملا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه. فذهب سليمان وراء عشتروث إلهة الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين. وعمل سليمان الشر في عيني الرب ولم يتبع الرب تماما كداود أبيه. حينئذ بنى سليمان مرتفعة لكموش رجس الموآبيين على الجبل الذي تجاه أورشليم ولمولك رجس بني عمون. وهكذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللواتي كن يوقدن ويذبحن لآلهتهن .) ( الملوك الأول – الأصحاح الحادي عشر – 1-8)
فالمحبة تقود إلى عودة المكبوت أي إلى عودة المقدس بصيغة المؤنث، مما يؤشر على صعوبة إزالة القداسة عن المؤنث وترسيخ المقدس البطريركي. والمسكوت عنه الأكبر هنا هو ارتكاز الفكرية التوحيدية على مستندات تعديدية، رغم كل البلاغة التنزيهية المتعالية الظاهرة . ( فسكن بنو إسرائيل في وسط الكنعانيين والحثيين والأموريين والفرزييين والحويين واليبوسييين. واتخذوا بناتهم لأنفسهم نساء وأعطوا لبنيهم وعبدوا آلهتهم. فعمل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب ونسوا الرب إلههم وعبدوا البعليم والسواري. فحمي غضب الرب على إسرائيل فباعهم بيد كوشان رشعتايم ملك أرام النهرين. فعبد بنو إسرائيل كوشان رشعتايم ثماني سنين .) ( قضاة : الأصحاح الثالث : 5-8) يفصح الشاهد الكتابي عن تمزقات النفسية اليهودية، وقوة إغراء القداسة الوثنية وانجذاب اللاوعي العبري إليها كلما خفت الخطاب الايلي/ اليهوهي. وتأتي المرأة في هذا النص، كمقدمة مفضية إلى التعديد حتما. فالخطاب التوحيدي المبني على قاعدة الاصطفاء، إذ يحلق في سماء التجريد، يعجز عن إطفاء جذوة التعديد والوثنية المتوغلتين في الوعي واللاوعي الثقافيين بالشرق الأدنى القديم. فالتوحيد إذ يتوغل في التنزيه والتجريد والتعالي، يتناسى قيعانه التعديدية، وأنساغه التشبيهية المبثوثة في طياته، والقابلة للبروز والانبثاق، كلما فقد الخطاب التنزيهي تناسقه وتماسكه . وليست حادثة الغرانيق في هذا السياق إلا دليلا على عودة المكبوت في لحظة ارتباك في سيرورة ترسيخ الفكرية الإسلامية. فحادثة الغرانيق تمثل تعيينا، عودة الأنثوي والتشريك والقداسة المحايثة إلى المشهد الفكري الإسلامي في لحظة اختلال دلالي حرج. (قال السيوطي بسند رجاله ثقات من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ( أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ) [ النجم : 19-20] تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى. ففرح المشركون بذلك وقالوا: قد ذكر آلهتنا، فجاءه جبريل فقال: اقرأ عليّ ما جئت به، فقرأ: ( أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ) [ النجم : 19-20] تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، فقال : ما أتيتك بهذا، هذا من الشيطان، فأنزل الله (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ( الآية)”. ( – محمد بن علي الشوكاني – فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير – اعتنى به وراجع أصوله : يوسف الغوش – دار المعرفة – بيروت – لبنان – الطلعة الأولى – 2002- ص. -971).
لا شك في أن الانبثاق الفجائي للّات والعزى ومناة، يفصح عن تجذر المقدس الأنثوي في اللاشعور الثقافي للجماعية الإيمانية الأولى؛ لم يكن العربي قادرا على إدراك الألوهة خارج مدارات التأنيث والتعديد، وعد تذكير وتوحيد الألوهة بمثابة هرطقة. فتأنيث الألوهة، دليل على الاستمرارية في التاريخ العقدي للشرق الأدنى القديم. ومثلما وجدت اليهودية صعوبات كبرى في فصل اليهود عن إغراء الإلهات الوثنية، فإن الإسلام استعمل آليتين في التعامل مع ظاهرة المقدس الأنثوي، لاحتواء المقدس النقيض وامتصاص حضوره الوازن في النفسية والذهنية
: 1- آلية التقريع الساخر : لقد أصرت الأدبيات الإسلامية الأرثوذكسية على نفي حادثة الغرانيق بدعوى لاموثوقيتها سندا، ومنافاتها لمقتضيات الإيمان متنا. فتثبيتها يحمل على التشكيك الجوهري في كل المفاهيم العقدية؛ وعليه، فإن الوعي الإيماني يميل إلى إنكارها جملة كما فعل القاضي عياض وأبو بكر ابن العربي وابن كثير والبيضاوي، تلافيا لتسرب الشك إلى شقوق الخطاب والى ثغرات المعنى الشرعي . ( هذا توهينه من طريق النقل، فأما من جهة المعنى فقد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله وهو كفر أو أن يتسور عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه ويعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أن من القرآن ما ليس منه حتى ينبهه جبريل عليه السلام وذلك كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمدا –وذلك كفر – أو سهوا وهو معصوم من هذا كله …) (القاضي عياض – كتاب الشفاء بتعريف حقوق سيدنا المصطفى – اعتنى به وراجعه : هيثم الطعيمي ونجيب ماجدي – دار الرشاد الحديثة – الدار البيضاء – المغرب – 2003-ص. 303)
وأيا كانت نوعية حجاج القاضي عياض النافي لحادثة الغرانيق، فإن النص المؤسس يكشف عن إصرار العرب آنذاك على تأنيث المقدس، وعلى اضطرار الشخص المؤسس إلى تفكيك الرمزية القدسانية القديم، والى التدليل على مفارقاتها الداخلية. والملاحظ أن الحجاج القرآني يقيس المواضعة القدسية على المواضعة الاجتماعية؛ والحال أن للمواضعة القدسية، جينيالوجيا موغلة في التاريخ العقدي للشرق الأدنى، فيما ليست المواضعة الاجتماعية، إذاك في العربية، إلا نتاج مخاض متأخر مطبوع بالتحولات الثقافية والتثاقفية للضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط. فالتشبث بتأنيث المقدس يفصح عن تجذر القدسانية المؤنثة في اللاوعي الثقافي وفي الذهنية الفكرية العربية، رغم المفاعيل التوحيدية للحنفية الإبراهيمية وللبطريركية الزاحفة في ركابها . يقول الشوكاني : (ثم كرر سبحانه توبيخهم وتقريعهم بمقالة شنعاء قالوها، فقال : (ألكم الذكر وله الأنثى) أي: كيف تجعلون لله ما تكرهون من الإناث، وتجعلون لأنفسكم ما تحبون من الذكور، قيل: وذلك قولهم إن الملائكة بنات الله، وقيل المراد: كيف تجعلون اللات والعزى ومناة، وهي إناث في زعمكم شركاء لله، ومن شأنهم أن يحتقروا الإناث. ثم ذكر سبحانه أن هذه التسمية، والقسمة المفهومة من الاستفهام قسمة جائزة، فقال : ( تلك إذا قسمة ضيزى ). (محمد بن علي الشوكاني – فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير – اعتنى به وراجع أصوله : يوسف الغوش – دار المعرفة – بيروت – لبنان – الطلعة الأولى – 2002- ص. -1419).
2- آلية الاجتياف الاضطراري : تنهض الفكرية الإسلامية في تعاملها الإشكالي والصعب في ذات الآن مع النسق الرمزي التعديدي، على الاجتياف والاستدخال. وليست أسلمة الحج، إلا استجابة إسلامية متكيفة للذاكرة القدسانية التعديدية المتطلبة. فرغم حدية الحجاج النقلي، وصرامته التوحيدية في تفنيد ودحض التماسك النظري للنسق التعديدي والتشريكي، فإنه اضطر إلى الامتياح من معينه. وهكذا عادت القدسانية التعديدية لتغوص في الجذور وتمنح الخطاب التوحيدي إمكان البروز في الصيرورة التاريخية . (حدثنا يحيي بن يحيي. حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قال: قلت لها: إني لأظن رجلا لو لم يطف بين الصفا والمروة، ما ضره. قالت: لم ؟ قلت: لأن الله تعالى يقول: (إن الصفا والمروة من شعائر الله) [البقرة : 158].إلى آخر الآية فقالت: ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة. ولو كان كما تقول لكان فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما. وهل تدري فيما كان ذاك؟ إنما كان ذاك أن الأنصار كانوا يهلون في الجاهلية لصنمين على شط البحر. يقال لهما: إساف ونائلة. ثم يجيئون فيطوفون بين الصفا والمروة. ثم يحلقون فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما. للذي كانوا يصنعون في الجاهلية قالت: فأنزل الله عز وجل : (إن الصفا والمروة من شعائر الله) إلى آخرها قالت: فطافوا . ) (مسلم بن الحجاج – صحيح مسلم –اعتنى به : محمد بن عيادي بن عبد الحليم – مكتبة الصفا – الطبعة الأولى -2004- كتاب الحج – باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به– ص. 641)
استلزم اجتياف المقدس التعديدي هنا، التخلي عن التعابير والتجليات الصريحة للمقدس الوثني، وإحداث تكييف ظرفي في المتن الطقوسي القديم، حتى يستجيب لمتطلبات النظام الرمزي الجديد. فقد تم حجب المقدس التعديدي القديم وإخفاء انثويته الطاغية وزود بشخصيات مستعارة من النسق الرمزي التوحيدي ( آدم وزوجه). وهذا الاجتياف هو المرفوض في رد فعل المتشككين في الشرعية العقدية لطقس الطواف بين الصفا والمروة خاصة أو للحج عامة كما نجد عند الحلاج وابن سبعين وابن عربي . (قال الشيرازي : وحدثنا إبراهيم بن محمد قال : سمعت الحسن بن علوية يقول : سمعت طيفورا الصغير يقول : سمعت أبا يزيد يقول :حججت أول مرة حجة فرأيت البيت، وحججت الثانية فرأيت صاحب البيت ولم أر البيت، وحججت الثالثة فلم أر البيت ولا صاحب البيت . ) (ابن جوزي – تلبيس إبليس – تحقيق : محمد عبد القادر الفاضلي – المكتبة العصرية – صيدا – بيروت – 2006-ص.330)
وهكذا، أفرغ الفضاء القداسي التعديدي ظاهريا من أبطاله الميثيين، إلا أن أسراره لا زالت تطل، من ثنايا الطقوس المحينة والمؤولة بما يخلق توليفا بين القيعان التعديدية والسطوح التوحيدية. فالأنثى المقدسة لا تغيب اسما إلا لتحضر رسما وأثرا، ولا يلمع غيابها، إلا بحضورها الساري في تعابير اللغة وفي استعارات الشعر وفي فضاءات الحج . ( أخبرنا عبد الحميد بن محمد قال: حدثنا مخلد قال : حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبيه قال: حدثني مصعب بن سعد عن أبيه قال: حلفت باللات والعزى فقال لي أصحابي: بئس ما قلت قلت هجرا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: “قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وأنفث عن يسارك ثلاثا وتعوذ بالله من الشيطان ثم لا تعد ” ) (النسائي – سنن النسائي –ضبط نصها : أحمد شمس الدين –دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان – الطبعة الثانية – 2005- كتاب الأيمان والنذور– باب الحلف باللات والعزى – -ص.617).
والواقع أن الاجتياف يكشف عن السمة التركيبية أو التوليفية للمعتقد الجديد؛ والتركيب مهما كان بارعا على مستوى الصياغة الخطابية كثيرا ما يخفي علامات التوتر واللاتجانس، مما يدفع الخطاب في كثير من الأحيان إلى السعي إلى تجويد العبارة كلما برز اللاتجانس المؤسس من خلال التجانس البياني الظاهر. وعليه، فالتشديد على المنحى الذكوري البطريركي التوحيدي يفصح عن إرادة الاحتفاظ بالمكون التعديدي، مخفيا في قاع الرؤية. فكلما التمع البيان، توغل التعديد في الأصول. وتلك مفارقة، لا يتأسس التوحيد إلا على صخرتها . واستنادا إلى ما سبق فإن الإسلام المعياري ينزع إلى فكرتين : 1- الانقطاع عن المقدس المحايث الأنثوي، 2- اجتياف بعض عناصره بعد تبيئتها وتكييفها وتلوينها إسلاميا . يظهر الإسلام المؤسس كثيرا من التردد ، في معالجته للتعبيرات العمومية للجسد الأنثوي؛ فالتقليص من حجم حضور الأنثى في المجال العمومي، وفرض تشريعات موغلة في التحريمية، لا يعنيان إلا استعصاء الأنوثة عن الاندراج في المخطط التأليهي الإسلامي. ومن هنا، فالتشريعات والحدود، ليست إلا الحل العملي لإشكالية الانفصال النظري بين الألوهة والأنوثة في الإسلام. فالانئسار للجسد والتغني به إلى حدود الوله والوجد والانصعاق، يدلان على قدرة العشاق والمحبين على الارتفاع بالإحساس بالأنوثة إلى أقسى مراتب التأله. وكأن الشاعر والصوفي يحققان ما عجز التجربة المؤسسة عن انجازه، في هذا السياق. يقول ابن عربي في ( فصوص الحكم ) : (فإذا شاهد الرجل الحق في المرأة كان شهودا في منفعل، وإذا شاهده في نفسه من حيث ظهور المرأة عنه شاهده في فاعل .وإذا شاهده في نفسه من غير استحضار صورة ما تكون عنه كان شهوده في منفعل عن الحق بلا واسطة .فشهوده للحق في المرأة أتم وأكمل، لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل؛ ومن نفسه من حيث هو منفعل خاصة .فلهذا أحب صلى الله عليه وسلم النساء لكمال شهود الحق فيهن، إذ لا يشاهد الحق مجردا عن المواد أبدا. فإن الله بالذات غني عن العالمين . ) (-محيي الدين بن عربي – فصوص الحكم – اعتنى به: عاصم ابراهيم الكيالي – دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 2003- ص. 204).
ليست الشريعة بكل تحليلاتها وتحريماتها إلا الجواب الوظيفي عن البون الميتافزيقي القائم، إسلاميا، بين الألوهة والأنوثة. فالتشريع الردعي لا يأتي إلا في سياق أزمات كاشفة عن استحالة تحقيق التعالي الكلي، واحتواء الأنثوي بكل ما ينطوي عليه من فرادة ونرجسية وتلذذ وغندرة واستعراض جمالي . ومن الضروري التشديد هنا، على عدم تمكن الإسلام من الأسلمة الكلية للجسد الأنثوي، خصوصا في أشد لحظاته لصوقا بالجنس أو بالخصوبة أو بالغريزة. فالحائض والنفساء لا تؤديان الشعائر إلا بعد التطهر، ومعنى هذا التعليق الظرفي للحياة الطقوسية، خروج حالة الخصوبة والجنس والتوالد عن الأسلمة. فالأسلمة لا تطال والحال هذه إلا الجسد الموزع بين طبيعة مدجنة وثقافة رمزية مطبوعة بالمعيارية المتشددة للشريعة. إن الدورة العبادية لا تطال الجسد حين يفصح عن خصوبته؛ فكلما خضع الجسد لما هو أكثر طبيعية فيه، نأى عن الفكرية، ولا يعود إلى جاذبية المعتقد إلا بعد طقوس تطهرية مقننة بدقة. فالمرأة الحائض أو النفساء أو الجنب، تعلق إسلامها، وتعود إلى طبيعتها الجنسانية السابقة للأدلجة الثقافية للجسد. فكل حيض هو عودة إلى وضع طبيعي مناقض للوضع الفكراني المطبوع بالمآل الماورائي. إن الحيض علامة على عودة الطبيعي، واحتجاب الثقافي؛ وعودة الطبيعي تحدث تقطعات في مسار التوحيد، مما يشكك في شمول احتواء الإسلام للطبيعة وللزمان. فالطبيعة إذ تمنح الآيات الكونية، لا تنسى التذكير بانتظامها الناموسي، أي باستحالة” تثقيفها “، واحتوائها لغويا وبلاغيا . (أخبرنا قتيبة عن مالك عن نافع عن سليمان بن يسار عن أم سلمة: أن امرأة كانت تهراق الدم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم استفتت لها أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ” لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيض من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر فإذا خلفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بالثوب ثم لتصلي . ) (النسائي – سنن النسائي –ضبط نصها : أحمد شمس الدين –دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان – الطبعة الثانية – 2005- كتاب الحيض والاستحاضة – باب المرأة يكون لها أيام معلومة تحيضها كل شهر -ص.65).
و الأنكى من كل هذا، أن المرأة مستعصية على الأسلمة طالما أنها تملك أكثر من وشيجة ورابطة مع العوالم الخفية. فالأسلمة والطقوس المصابحة لها لا تفلح على الحقيقة في” أدلجة ” المرأة. إن للمرأة خصائص شيطانية أو طاغوتية، يقف إزاءها الخطاب الإسلامي عاجزا عن إحداث النقلة وتغيير المهجة، وتأنيث حلاوة الإيمان ! (حدثنا عمرو بن علي . حدثنا عبد الأعلى . حدثنا بن أبي عبد الله، عن أبي الزبير، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة . فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة لها. فقضى حاجته، ثم خرج إلى أصحابه فقال: ” إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله. فإن ذلك يرد ما في نفسه”). (مسلم بن الحجاج – صحيح مسلم –اعتنى به : محمد بن عيادي بن عبد الحليم – مكتبة الصفا – الطبعة الأولى -2004- كتاب النكاح – باب ندب من رأى امرأة فوقعت في نفسه إلى أن يأتي امرأته أو جاريته فيواقعها– الجزء الثاني- ص. 4-5).
يشيرهذا النص إلى صعوبة تأنيث الإسلام وأسلمة الأنوثة، وأدلجة الجسد الأنثوي الموصول بالغرانيق أو ما يسمى إسلاميا بالطواغيت. وتتضح المفارقة أكثر في هذا السياق متى علمنا أن الإسلام لا يعد في العالم الآخر، إلا بالأنثى. فالمسلم مطالب بالاندماج شبه الصوفي في الحياة الطقوسية، وبالانخراط في الصلاة، أولا وفي الجهاد ثانيا. فالصلاة والجهاد، مجاهدات تفترض الاقتصاد في استعمال الجسد وتعاطي اللذات والمباهج الجسمانية في حدود شرعية مقننة بصرامة . (حدثنا هشام بن خالد الأزرق أبو مروان الدمشقي، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه، عن خالد بن معدان، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ما من أحد يدخله الله الجنة إلا زوجه الله عز وجل ثنتين وسبعين زوجة، ثنتين من الحور العين، وسبعين من ميراثه من أهل النار، ما منهن واحدة إلا ولها قبل شهي، وله ذكر لا ينثني . ” قال هشام بن خالد: من ميراثه من أهل النار: يعني رجلا دخلوا النار فورث أهل الجنة نساءهم كما ورثت امرأة فرعون . ) (ابن ماجة القزويني- سنن ابن ماجة – اعتنى به وقدم له : محمد بربر – المكتبة العصرية – صيدا – بيروت- الطبعة الأولى – 2006-الجزء الثالث – كتاب الزهد– باب صفة الجنة –الجزء الثالث – ص .767).
فالمجاهد مدعو إلى الانفصال الذهني والوجداني عن الأنثوي وأن ينخرط في أشد أشكال التعالي صفاء وتجردا من الدنيوية، عبر الاستعداد للاستشهاد والموت من اجل إعلاء راية التوحيد. فالصلاة والجهاد، يفترضان التروحن وتغليب الإلهي على ما سواه، والانتظام في عالم ذهني مخالف للعالم الدنيوي المجبول على النقصان والكدر. فعالم الكمال والصفاء الموعود، لا يمكن نظريا إلا أن يكون روحانيا أي منفصلا كليا عن التشبيه الأنثوي وعن إغراءات الجسد والتتيم بالآخر الأنثوي. فالتوله بالمرأة بما ما ينطوي عليه من مستتبعات طقوسية وعبادية، ضرب من التشريك في المحبة ومن تعديد في مقامات وأحوال التروحن والتعالي والتأله. والحال أن التلويح بسعادة أخروية مرتكزة على جنسانية استعراضية لم يرض كثير من المتفانين في التنزيه والتوحيد مثل البسطامي والحلاج ورابعة العدوية مثلا . (…ثنا أحمد بن العباس المهلبي قال: سمعت طيفورا وهو أبو يزيد يقول: العارفون في زيارة الله تعالى في الآخرة على طبقين: طبقة تزوره متى شاءت وأنى شاءت، وطبقة تزوره مرة واحدة ثم لا تزوره بعدها أبدا. فقيل له: كيف ذلك؟ قال: إذا رآه العارفون أول مرة جعل لهم سوقا، ما فيه شراء ولا بيع إلا الصور من الرجال والنساء، فمن دخل منهم السوق لم يرجع إلى زيارة الله أبدا. قال: وقال أبو زيد: في الدنيا يخدعك بالسوق، وفي الآخرة يخدعك بالسوق، فأنت أبدا عبد السوق . ) (ابن جوزي – تلبيس إبليس – تحقيق : محمد عبد القادر الفاضلي – المكتبة العصرية – صيدا – بيروت – 2006-ص.321).
فالتوحيد لا يعد في المآل الماورائي إلا بالأنثى أي بجنسانية باذخة مرجأة؛ وهذا ما أدخله بعض الصوفية في المكر الإلهي. لا يمكن أن تكون المطالبة الرمزية بفك اشتباك العقيدة بالأنوثة في العالم الفيزيقي والتاريخي، والانتهاء بالتلويح بالجزاء الأنثوي الجنساني في العالم الماورائي، إلا مفارقة ماكرة في التفكير الصوفي. إن نزع الأنثى المقدسة من المتخيل عملية شبه مستحيلة، بدلالة استعادتها حينا في الطقوس الإسلامية، وبناء الوعد الأخروي والسعادة الأخروية الكبرى، على تعبد آخر في محراب الحور العين. وهذا ما دعا أبا يزيد البسطامي، إلى تفضيل جنة المعرفة عن جنة النعيم . هذه عناصر عن نزع الأنثوية في الإسلام وعن صعوبة هذه العملية الوجدانية والذهنية الصعبة. وقد أتينا بها، للتدليل على ضرورة الإلمام بحيثياتها في أية محاولة لسبر أغوار مسألة الحجاب. وهي مسألة تتأصل كما رأينا في خطاب يتناص سلبيا مع النصوص الميثية القديمة للشرق الأدنى القديم، ويتخذ مظاهر شتى، حسب السياقات السياسية والاجتماعية والثقافية .
عن موقع “الأوان”