منصور رحباني في حيث القصيدة إشراق ـ عناية جابر
2008-02-26
منصور الرحباني عند مشارف الثمانين، أو تخطاها قليلاً، مع ذلك يبدو الكاتب المسرحي والملحن شاباً في كتابة قصيدة نثرية تدهش في الكثير من الاحيان، من غياب الألعاب الايهامية والبلاغية الساردة في معظم قصيدة النثر.
منصور ناثر حين يريد النثر غير متشكك ولا مستريب، ويكتب بصدق سريرة تكاد تتخطى كتّاباً كثراً. انه ابن طفولته وابن تجربته في آن، لا يفقد الطفولة في صالح التجربة والعكس صحيح. وقد يبدو لافتاً كثيراً في تجرئه على التجريب في الكثير من القصائد التي لا تخشى تقاليد القصيدة العربية القديمة وأنظمتها. الرحباني يستدرج القصيدة القديمة الى قصيدته بحرفة ماهرة، وتقع هذه موقع نفسه قبل وقوعها في نفوس الآخرين. انه يرد الفارق بين الواقعين: القديم والجديد، الى مبلغ الجهد والعناء في إنتاج قصيدة خاصة وشخصية ورعايتها، بحيث تكبر في نوع من التربية والعاطفة غير المتناهيتين. كأن الرحباني ينظم لنفسه قبل أن يفعل للآخرين. لا يعلل الرحباني بهذا المعنى ما يكتبه لان التعليل موت الكتابة، لذا يهتدي بجهازه العصبي، في ماضيه وحاضره، الى عبارة مختلفة وقصيدة مختلفة:
«غداً
كما اليوم
يمتلئ هذا الشارع بالعابرين
وسيمتلئ بعد غد
وبعد خمسين عاماً
ستكون جموع تتدافع وصخب وضجيج
إنما لا أحد من العابرين اليوم
سيكون يومها حاضراً. (من كتابه: «قصور مائية»)
لن يعيب منصور الرحباني الامتلاء بقديمه حتى انه يعيد نشر قديمه (قصيدة من عام 1970)، وهي قصيدة بغض النظر عن اسمها وعنوانها تمتلك صياغة لا تزال حديثة ودافئة الحضور، وهو في نشر قديمه يضمن «أنا الغريب الآخر» أجمل قصائده القائمة على ألعاب تأخذه كما تأخذ قصيدته الى المطرح الذي يريده الشاعر:
«رأيت دمع صخرة
وجعت مع سوسنة
قطفها الصبي في الحديقة
أنت كما
نئن نحن
ماتت كما
نموت نحن.
إشراق
يهتدي منصور الرحباني الى عبارة اخرى في قصيدته، أو دواوينه الثلاثة: «أنا الغريب الآخر»، «القصور المائية»، و«أسافر وحدي ملكاً»، حين يذكرنا بواحدة من أعرق التجارب العربية على صعيد كتابة الأغنية المتنوعة في قصائد مغناة، بينما يحتاج «بحار الشتي» المكتوب بالمحكية اللبنانية الى وقفة خاصة، ما دامت تطرح سؤالا حول العامية اللبنانية بحد ذاتها، وعلاقتها بأبرز كاتبيها: ميشال طراد وسعيد عقل.
لدى منصور الرحباني، القصيدة هي إشراق وهي ارتقاء فوق كل ما هو مادي، وأقرب الى محاورة في الظواهر. الرحباني مدفوع دائما لتجاوز القوة والحجم الى القدرة والجوهر. كل صعود لديه هو تجربة، وكل تجربة هي مزيد الشفافية، وكل حياة معرفة، وكل معرفة حياة جديدة يبلغ النور من خلالها.
هذه قصيدة روحانية ما يكتبها الرحباني. في «أسافر وحدي ملكاً» خلاصة حياة بضربات تأتي من نشوات روحية، ومن عشق لإله تبلوره القصائد، كل قصيدة على هواها. منصور في أحيان يذكر أو يقترب كثيراً من الصوفية بحيث يشبه البسطامي والحسين ابن منصور (الحلاج)، في القصيدة المنثورة على مدى ثلاثة دواوين مكتوبة بالفصحى تنحو الى أسس الاتحاد والحلــول والفـناء في الذات الالهية من خلال معادلة يتأنسن فيها الإله ويتأله فيها الإنسان.
مع ذلك، من العبث البحث عن المؤثرات الأدبية التي وسمت بعض قصائد منصور الرحباني من حيث الشكل بـ«النشيد» المقسم الى فصول بلا روابط كثيرة واضحة. سوى ان سمتها الاساسية سردية غير معلنة وغنائية بادية، ما يمنحها ـ عن حق تماماً ـ اسم قصائد نثر. فالشكل الشديد الخصوصية لقصائد منصور الرحباني، الوسيط بين شكل «الخبرية» أو القصة القصيرة، وشكل قصائد غنائية قد فرض نفسه على مجموعات الرحباني بالكامل باعتباره الشكل العضوي لشعره. ويستجيب هذا الشكل لرغبة الشاعر نفسه في إبداع خصوصيته وتجربته الطويلة، بأقل من استجابته لضرورات عالم شعري يسود راهناً. النتاج الشعري قديمه وحديثه الذي هطل علينا دفعة واحدة للرحباني، أكثر من ثلاثة إصدارات بالإضافة الى كتاب حوى قصائد مغناة، لا يتوسل الاضاءات النقدية السريعة، فكل النقد في النهاية لا يفسر لنا القصيدة، فهي تتجاوزنا في عالمها المستقل، وفي الظل العميق الفني لكاتبها، في فرديتها وفي فوضاها وفي عالمها المفتوح والمغلق على السواء.
قراءة نتاج الرحباني الشعري مطبوعاً، تمنحنا الإحساس بتراجيديا الزمن، كما من غير الممكن إنكار الجانب التهكمي والساخر فيها، الذي لا يسيء الى أصالة العمل بل يمنحه قوة شعرية وإمكانية التأثير فينا بعمق. كتب الرحباني في الإيقاع المعيّن للحدث، وفي الضرورة المعينة سوى ان الحنان ظل هو المهيمن على كل السطور حتى في الفقرات الاكثر قتامة والاكثر اقتراباً من الموت، كحقيقة وحيدة أكيدة وتتماس مع الشعر أكثـر من سواها.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |