العقل الشِّيعي.. يُذكر التَّطبير ويُنسى الفكر والفلسفة! د . رشيد الخيّون
2013-11-17
نقرأ الكثير ضد الشِّيعة الإمامية، لِما يحدث في عاشوراء مِن مواكب التَّطبير وجلد الظُّهور بالسَّلاسل؛ وليس أفظع مِن مشهد الدِّماء! والأفظع أن يجري تدريب الأطفال عبر مواكب على هذه الممارسات، واستذكار الثأر “ثأر الحسين”، مع أن مفردة الثأر لا تتناسب مع مكانة الإمام نفسه! وليس لعاقل الدِّفاع عن هذه المشاهد. لكنَّ لا نجد لدى الآخرين في الكتابة أو الحديث عن الشِّيعة إشارة إلى فكر وفلسفة ومحاولات إصلاح وأدوار وطنية لخواصهم وعوامهم. إنها ظاهرة التعميم الحارقة للرأي، مع علمنا أن الحيادية صعبة بل شديدة الصعوبة، وعلى طالبها، وهو يكتب في شأن الكراهية والطائفية، تحمل ذم مَن مدحه بالأمس، ولا يغر بمدح من ذمه بالأمس أيضًا.
وأنا أشاهد القنوات التي تذيع المشاهد الدامية، والعشوائية الفظيعة في أداء مراسم عاشوراء، التي تُقدم بهياج طائفي لا مثيل له، تذكرت عناوين كتب قرأتها لأعلام هذه الطائفة، فمَن يحصر الشِّيعة الإمامية بشخص سباب لا ينطق لسانه إلا بالكراهية، أو برئيس موكب تطبير يُدرب الصبيان على العنف واستلهام الفجائع، ينسى أن هذه الطائفة أنجبت فلاسفة كبارًا ومصلحين بواسلَ في تاريخ بلدانهم، يذكرون مقالة أو رأيًا وتفوتهم مقالات وآراء، فلا أجد لدى مَن يحصرون الشيعة بفعل العوام في عاشوراء، والأحزاب الداعمة لهذا الفعل، ذكرًا لمحسن الأمين (ت 1952) وأبي الحسن الأصفهاني (ت 1946) وهبة الدِّين الشَّهرستاني (ت 1967)، ومرتضى مطهري (اغتيل 1979) بما واجهوا به ما يجري في عاشوراء مِن مهازل.
تقود تلك المشاهد الفواجع إلى تصفح كتب مثل: “أعيان الشيعة” لمحسن الأمين، و”الذريعة إلى تصانيف الشِّيعة” لآغا بزرك الطهراني (ت 1970)، و”مع علماء النجف” لمحمد جواد مغنية (ت 1979)، و”فلاسفة الشِّيعة حياتهم وآراؤهم” لعبد الله نعمة، مع مقدمة الشيخ مغنية، و”تحديث الدرس الكلامي والفلسفي في الحوزة العلمية” لعبد الجبار الرفاعي. ففي هذه المصنفات وسواها تجد ما ينسيك ما يحدث باسم الحسين، الذي يُقتل كلَّ عام بجهل أدعياء الخطابة مِن على المنابر، وأرى الذي حفظ للحسين حقه هم أولئك المفكرون والفلاسفة والخطباء الأصلاء.
أقول: مَن ينطق ناقدًا لتلك المشاهد عليه الحذر مِن التعميم، فمن الشيعة أيضًا مصطفى جواد (ت 1969)، وجواد علي (ت 1987) ومحمد مهدي المخزومي (ت 1993)، وعبود الشَّالجي (ت 1996)، وقاهر الشعوذة بين عوام الشيعة الإمام محمد حسين كاشف الغطاء (ت 1954)، ومِن بناة الدَّولة العراقية الحديثة: جعفر أبو التمن (ت 1945)، ومحمد الصدر (ت 1956) وغيرهما، وأسماء لا تعد ولا تحصى، لم يلوثها الإسلام السياسي ولا الحس الطائفي المقيت، أليس وجود هذه الأسماء تعبر عن حقيقة أخرى لدى الشيعة، وليس دعاة الجهل والشعوذة مِن على أعواد المنابر هم وحدهم يمثلون هذه الطائفة.
أتذكَّر أول مرة شاهدت فيها الدِّماء تسيل مِن الرؤوس في صحن مرقد الإمام موسى الكاظم (عاشوراء 1970)، وكنت مع والدي قادمًا إلى بغداد، وقطعنا الصحن، فشاهدنا مطبرًا يثغب الدَّم مِن رأسه وبيده القامة، تمتم والدي مستنكرًا ووصفه بالجاهل، ولا علاقة للحسين به إن مات وإن عاش بفعله هذا، وكلمات أُخر ليس مِن المناسب ذكرها! فنحن مِن منطقة لم تألف الجلد والتطبير، مع إقامة الحزن السنوي على الحسين، إنما تقام المجالس بما هو المعتاد، لكن تلك الفطرة المعقولة شُوهت الآن، فتجار الساطور والزنجيل (السلاسل) أدخلوها إلى تلك المناطق، وتكاثرت المواكب بتكاثر الأحزاب والمشايخ.
إن التعميم لم يختصر الشيعة وحدهم بما يجري في عاشوراء مِن هياج، ويلغي عنهم تاريخ من الفكر والإصلاح، بل مِن الشيعة عندما يتحدث عن طائفة أُخرى ينسى بينها وجود المصلح والمعتدل
لعل أداءَ مناطقنا آنذاك، في عاشوراء، كانت امتدادًا للمجالس الحسينيّة القديمة، وهي في العهود الغابرة مراثي ومدائح للإمام الحُسين، في يوم استشهاده، خالية من جلد الظُّهور وتطبير الرّؤوس بالقامات والسُّيوف حتّى تسيل الدِّماء. فـعندما بدأت مواكب اللَّطم “كانت عند بعضهم ممَّن يقيمون المآتم الحسينيّة في الجوامع يطلبون مِن الرَّوزخون في اليوم الأخير، مِن أيّام التَّعزية أن يقرأ لهم قصيدة لطم، وتكون تلك القصيدة عادةً موزونة بالشَّكل، الذي يمكن للسامعين اللَّطم على وزنها، فيقرأ الروزخون القصيدة وهو جالس على المنبر، والسَّامعون جلوس أيضًا، يضربون صدورهم بأيدهم دون أن يخلعوا أي جزء مِن ملابسهم، ودون أن يترك الضَّرب أي أثر يُذكر”(الشَّرقيّ، النَّجف الأشرف عاداتها وتقاليدها).
معلوم، أنّ أصل مفردة الرَّوزخزن، التي اشتهرت بالعِراق وإيران، وفي المجالس الحسينيّة كافة، يعود لكتاب “روضة الشُّهداء الملا حسين الكاشفيّ (ت 910 هـ)، كتبه في العهد الصفويّ، فتحول الاسم مِن قراءة التَّعزية إلى قراءة الرَّوضة، والقارئ لها في المجلس يسمّى بالرُّوزخون، مع أخذ اللفظ الفارسيّ بالنّظر والاعتبار، يقول مطهري (اغتيل 1979): “وهذا الاصطلاح لم يكن واردًا في أيّ يوم مِن أيّام الشِّيعة، قبل ظهور هذا كتاب الرَّجل… لم يظهر إلاّ منذ خمسمائة سنة”(مطهري، الملحمة الحسينية).
إن التعميم لم يختصر الشيعة وحدهم بما يجري في عاشوراء مِن هياج، أو يختصر بألسنة المتعصبين أصحاب المنافع، ويلغي عنهم تاريخ من الفكر والإصلاح، بل مِن الشيعة عندما يتحدث عن طائفة أُخرى ينسى بينها وجود المصلح والمعتدل، فالطوائف والدول تتشكل مِن ملايين البشر، فهل مِن المعقول أن كافتها على لسان واحد أو رأي واحد؟ فالذين يتحدثون عن تعصب سُني، ويلوحون بالثَّأر للحسين منهم، ينسون أن أهل السُّنة يجلون الحسين أيما إجلال، ولهم مراثٍ في يوم مقتله، جئت على ذكرها في كتاب “ضد الطائفية”. القصد أنه لا الشيعة واحد ولا السُّنة واحد.
في ظل هيمنة الإعلام، عبر الوسائل الحديثة، الخارقة الانتشار، تجري تعبئة طائفية فظيعة، ومِن خطابها هو أخذ الجمع بالفرد، والعاقل بالجاهل، مع علمنا أن الغوغاء يقودهم هتاف وشعار، وبالتالي يشكلون الكمية بلا نوعية، ومعلوم أن بناء الأوطان وتثبيت السلم الاجتماعي، ببلدان مختلطة المذاهب والأديان والقوميات، بحاجة إلى النَّوعية التي ترسم الطريق وتعمل على التنفيذ. وللأسف ما زالت هذه النَّوعية خاضعة صامتة.
انتهي إلى القول: لا يحصر العقل الشِّيعي باللطم والتطبير، وهو بحاجة إلى تفعيل الوجه الآخر مِن فكر وفلسفة لهما تاريخ وحاضر بين أبناء هذه الطائفة.
عن مجلة المجلة .
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |