كتاب : البرصان والعرجان للجاحظ جزء 3
خاص ألف
2013-11-18
بسم الله الرحمن الرحيم
قد قلنا في البرصان وأسمائهم وأنسابهم وصفاتهم وأقدارهم والدليل على ذلك والشاهد عليه بالشعر الصحيح والحديث المسند، وسنذكر شأن العرجان وأسمائهم وأنسابهم وصفاتهم وأقدارهم بمثل ذاك من الأشعار الصحيحة والأسانيد المرضية.
ومن العرجان، الحارث الأعرج الملك الغساني، وهو الحارث الأصغر بن الحارث الأوسط بن الحارث الأكبر، وما أقل ما يجيء مثل هذا.
وفي آل أبي طالب حسن بن حسن بن حسن، وكان في بني مخزوم الوليد بن الوليد بن الوليد، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد جعلتم الوليد حناناً " ، تسموا بغير الوليد. فإن قال قائلٌ. فلم جاز حسن بن حسن بن حسن ولم يجز الوليد بن الوليد بن الوليد؟ قلنا: كأنهم أرادوا تعظيم شأن الوليد الأول وإحياء ذكره والتيمن باسمه، وكان الوليد بن المغيرة أحد المستهزئين، فكره النبي صلى الله عليه وسلم مع قرب العهد بالجاهلية تعظيم شأن أولئك العظماء، والتنويه بأقدار أولئك الكبراء.
وكان الحسن الأول الذي سمي الثاني باسمه والثاني الذي سمي الثالث باسمه، ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسليله وأشبه الناس خلقاً وخلقاً به، وسيد شباب أهل الجنة، وأرفع الناس في الإسلام درجة، فحكمهما يختلف، ولو فعل مثل ذلك اليوم بعض بني مخزوم لم يكن حكمه اليوم كحكمه يومئذٍ، كأمور كثيرةٍ قد كانوا ينهون عنها يومئذٍ، كالذي كان من عدد المسلمين وكثرة عدد المشركين، من ذلك ترك الحرص على طلب الولد والشغف لكثرة الرزق والرغبة في المكاثرة للتهيب والتخويف للمناهضة، وبالقدرة والإقرار للعدو.
ومن ذلك حضور صلاة الجماعة، لم يجعل رسول الله في ذلك الدهر لابن مكتوم وهو أعمى عديم القائد عذراً في التخلف إذا كان يسمع النداء، ولو قصر في ذلك العميان في بعض الحالات لم يكن حرجاً ولا عند تلك الجماعة مبهرجاً، وإنما جاز ذلك اليوم لاستفاضة الإسلام ولتمكنه وعلوه على أعدائه وظهور بنيانه وتمكن أركانه، فصاروا كما قال الله: " ليظهره على الدين كله ولو كره المشركين " ألا ترى أنه ليس على ظهرها بلد يناله الأخفاف والحوافر إلا وهو مأخوذٌ عنوة أو صلحاً على إعطاء الجزية، ولم يبق إلا من اعتصم برؤوس الجبال ولجج البحار وبالوعول في الأدغال، أو ملك خضع للصلح وأعطى بعض الخرج فوسم نفسه بالذلة وشهرها بإعطاء الجزية.
وقد ذكر الحارث الأعرج النابغة الذبياني فقال:
هذا غلام حسنٌ وجهه ... مستقبل الخير سريع التمــــــــــام
للحارث الأصغر والحارث ال ... أوسط والأكبر خير الأنام
ومن العرجان، الأعرج وهو الحارث بن كعب بن سعد، وهو أبو قبيل من قبائل بني سعد، وهم بنو الأعرج الذي سمعت بهم رهط زهرة بن جوية الفارس البطل، وإنما أعرجه عبد شمس بن سعد في حرب وقعت بينهم في شأن الهيجمانة بنت العنبر بن عمرو بن تميم، وكذلك اسم سليط بن يربوع، وكذلك اسم مقاعس وهو الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد، وكذلك شقرة، وكذلك الحرماز، وهو الحارث بن مالك بن عمرو بن تميم، قالوا: وكذلك القباع المخزومي الخطيب، اسمه الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، وقالوا من كان ذا لقبٍ في بني تميم فإن اسمه الحارث وكان ينبغي أن يقول: كل حارث في بني تميم فهو ذو لقب، وقال شاعرهم في رجل الأعرج، وهو الحارث بن كعب بن سعد:
لا نعقل الرجل ولا نديها ... حتى ترى داهيةً تنسيها
ومن أشراف العرجان، الحارث بن شريك الشيباني، وهو الحوفزان وكنيته أبو حمار، وقال مقاعس العائذي لبني تغلب:
لا توعدونا بالهذيل فإننا ... مع الحوفزان يجمع الجيش غازيا
فتى هو خيرٌ من أبيكم بقيةً ... كما نحن حيرٌ أنفساً ومواليا
به تحلم العذراء في خدر أهلها ... ولو ضمها جمع الأراقم شانيا
لأنه كان غزاء لم ندرك في هذا الباب مثله، قال أبو عبيدة: كان جراراً ولم يكن زجاء.
قال: وكان يقال: أمر بكر بن وائل إلى أعرجها حمران ابن عبد عمرو والحوفزان بن شريك، هذا قول بعضهم، وقال آخرون: أمر بكر بن وائل إلى أعرجها عمران بن مرة والحوفزان بن الحارث بن شريك، والقول الآخر أحق بالصواب لمكان الشاهد، قال شاعرهم:
رأيت الأعرجين أبا حمارٍ ... وعمران بن مرة قد ألاما
أتاني أن حارثة بن وعلٍ ... تبدل بعدنا ملكاً هماما
وأنت لواء رمحك في عمودٍ ... وما ألويته إلا غراما
ستبني العنكبوت عليه بيتاً ... تجد نسوجه عاماً فعاما
وكان الذي أعرج الحوفزان قيس بن عاصم المنقري، قالوا: كان قيس بن عاصم المنقري على أنثى، وكان الحوفزان على حصان، فلما خاف قيس بن عاصم أن يفوته نجله بالرمح في غرابة وركه فعرج منها، فسمي الحوفزان حين حفز بالرمح، وقال قيس بن عاصم في ذلك:
أفي كل عامٍ أنت ناجي طعنةٍ ... سوى يوم ما أشويت يوم روام
وأنشدني:
تركوا الحوائم عاكفاتٍ حوله ... عجلن بين حجاجه والمعصم
والحوفزان تداركته سربٌ ... بالمنقري جرا بحل الألجم
حفزوه والأبطال تحفز بالقنا ... بشباة أسمر كالجديل مقوم
والدليل على أن الحوفزان يكنى أبا حمار قول ابن عنمة الضبي، وكان نازلاً في بني شيبان ويغزو معهم:
لو كنت في حبس بسطام لعيمنى ... أبا حمار وأنت المرء تتبع
أكان حظى من نهبٍ تقسمه ... نابٌ كزومٌ وبكرٌ ناحفٌ جذع
وفي عمران بن مرة أخي دب بن مرة يقول ابن مفرغ، وعمران هذا هو الذي أسر الأقرع بن حابس، والأقرع أعرج وآسره أعرج، فقال ابن مفرغ:
لو كنت جار بني هندٍ تداركني ... عوف بن نعمان أو عمران أو مطر
قومٌ إذا حل جارٌ في بيوتهم ... لم يسلموه ولم تسنح له البقر
وقال أبو أوس يذكر الحوفزان الحارث:
لعمرو أبيك ما ضمت حسانٌ ... إلى كشحين مثلك من نزار
أعز إذا نفوس القوم ذلت ... وأوفى عند نائبةٍ لجار
فعندها قال الآخر:
لمن الديار بجانب الغمر ... آياتهن كواضح السطر
يا حار أعطاك الإله كما ... أثنى عليك أخو بني جسر
فلأنت أكسبهم إذا افتقروا ... ولأنت أجودهم إذا تثرى
وكان حنظلة بن عمرو بن بشر بن مرثد أسر الحوفزان وجز ناصيته ومن عليه قيس بن عاصم طعنه في وركه حفزه بها فسمى الحوفزان.
وذكر شاعر بني شيبان فرة كانت من قيس بن عاصمٍ والحوفزان يطلبه، فقال:
بحال جد يفلق الصخر بعدما ... أظلتك خيل الحارث بن شريك
ألمت بنا وجه النهار قيسٌ بأرضنا ... لأمسى بجبل المال غير مليك
وقيس بن عاصم أحد بني مالك الأعرج، ولم يكن إبله تمت ألفاً، ولو تمت ألفاً لقد كان فقأ عين فحلها، ولو فعل لرفع شعراؤهم ذكر ذلك، على أن قيساً نفسه قد كان شاعراً وكان أحد حلماء العرب، وقد جاء في الحديث " أنه سيد أهل الوبر " وكان أحد الفرسان المعدودين، وكان بعيد الصوت في العرب.
ومن العرجان الأشراف، الأقرع بن حابس، وكان أحد حكام العرب بعكاظ، وقد تحاكمت إليه العرب في النفورات، وقد ساير النبي عليه السلام في مرجعه من فتح مكة، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ما أخر قومك عن مثل هذا الأمر " ؟ قال: لم يتأخر عنك قومٌ معك منهم ألف رجل يعني مزينة وفي تصديق ذلك يقول عباس بن مرداس:
صبحناهم بألفٍ من سليمٍ ... وألفٍ من بني عثمان واف
وبنو مزينة هم بنو عثمان، ومزينة أمهم، ولكن الأم إذا كانت ذات نباهة أضافوا الولد إليها وإن كان الأب نبيهاً.
وزعم أبو عبيدة: أن أول حكم في الجاهلية جار في الحكم الأقرع بن حابس، وقال: لأنه نفر جرير بن عبد الله على الكلبي حين وجده أقرب إلى مضر فلعله إذا كان أقرب إلى مضر وإلى نزار أن يكون أحق بالنفورة لفضله في مضر أو في نزار، ولعله رأى مع ذلك جريراً في نفسه أكثر من هذا الرجل الذي نافره، وإنما ينبغي أن يحتج بهذا رجلٌ من قضاعة، فأما أبو عبيدة فما يدعوه إلى هذا. وليس به فقرٌ إلى هذه الحجة كفقر القضاعي إليها.
وكان الأقرع أقرع الرأس سنوط اللحية، أعرج رجل اليسرى، ولذلك قال له الحصين بن عوف بن القعقاع:
يا أقرع الرأس من القذال ... وأعرج الرجل من الشمال
وسنذكر الأقرع في موضع ذكرنا للقرعان في آخر الكتاب إن شاء الله.
ومن العرجان هميم بن صعصعة بن ناجية بن عقال، وهو عم الفرزدق وبه سمي الفرزدق همام، وكان غالب بن صعصعة يسمي الفرزدق هميم، وهميم بن صعصعة هو الذي قال:
لعمرو أبيك فلا تكذبن ... فقد ذهب الخير إلا قليلا
وقد فتن الناس في دينهم ... وخلى ابن عفان حزناً طويلا
وهو الذي قال في عرجه، وعرج وهو شاب:
أعوذ بالرحمن من سوء العرج ... ومن خماع وظلاع وعرج
إن الفتاة بالفتى جد سمج ... وكنت كالظبي إذا الظبي معج
ومن العرجان الأشراف، أبو الأسود الدؤلي، ظالم بن عمرو بن سفيان، وهو يعد في العرجان، وفي مفاليج الأشراف، وفي رجال الشيعة، وهو رأس النحويين وبنوه بعده، وكان شاعراً، داهياً، ويعد في البخر، وفي البخلاء، وهو الذي قال له ابن عباس لما مر به وهو يعرج: لو كنت جملاً كنت ثفالاً.
وقال مسلمة بن محارب: من العرجان بنو الأدرم وأصابهم ذلك في حرب كانت، وقال الشاعر:
وتيم غداة الكوم أدبر مقبلاً ... وأقبل إقبال الليوث الضراغم
كأنه رماهم وهو مولٌ كما يحكون ذاك عن الأتراك، فرد عليه الآخر وقلب الكلام:
وتيم غداة الكوم أقبل مدبراً ... وأدبر إدبار المحضنة الذعر
وذكر آخر فقال:
وصادف سيف الجعد أخمص رجله ... فعاد دريم الكعب يمشي على العصا
ولما أهوى قرت أبي الزبير إليه بالسيف سقط على قفاه ورفع رجليه، فلم يجد مضرباً إلا أخمص رجليه فعرج من ذلك، وكان إذا مشى أخذ عصاً بيمينه وعصاً بشماله، فقال ابن أبي كريمة:
لقد زادك الرحمن فضل تزيد ... على كل مشلول القوائم أعرج
ومن العرجان، الربيع بن زياد بن أبي سفيان، فداه سلم بن زياد حين أسرته الخزر بمائة ألف درهم، وكانت عنده بنت القعقاع بن شور.
ومن العرجان، إبراهيم البيطار قاتل يحيى بن زيد بن علي، قتله أبو مسلم وهو شيخ كبير ووقف بنفسه على بابه وأمر بإخراجه، والذي تولى ذلك سليمان بن كثير الخزاعي النقيب، فقال له أبو مسلم: أكنت شهدت قتل يحيى بن زيد؟ قال: نعم وكنت مع مولاي مكرهاً، قال: هذا كان خروجك مكرهاً، أفأكرهت على الرمي؟ قال: نعم، قال: فهذا أكرهت على الرمي، أفأكرهت على الإصابة والتسديد، ثم أمر بضرب عنقه، وكان أبو مسلم لا ينظر إلى مضروب العنق إلا ما كان من ضرب عنق إبراهيم البيطار وسليمان بن كثير.
قال: ومن العرجان، ابن أنف الكلب الصيداوي، طعنه سمير بن الحارث الضبي فأعرجه، وقال:
تركت ابن أنف الكلب ينقل رجله ... يخر على حر الجبين ويعثر
إذا قام لم يحمس على الأرض رجله ... وزيدٌ سريعٌ عنده متمطر
أردت التي إن مت أورثت مجدها ... وإن عشت يوماً كان الحي مفخر
ومن العرجان ومن يجوز في النوكي، الأعرج المسعودي، وهو الذي قال لرقبة بن مصقلة متى يحرم الطعام على الصائم؟ قال: إذا طلع الفجر، قال: فإن طلع الفجر نصف الليل؟ قال: الزم الصمت الأول يا أعرج.
ومن العرجان ثم من النساك الزهاد، ومن القصاص الخطباء، ومن المفوهين البلغاء أبو حازم الأعرج، مولى بني ليث بن بكر ثم أحد بني شجع بن ليث، مات في خلافة أبي جعفر سنة أربعين ومائة، وهو الذي قال: اضمنوا لي خصلتين أضمن لكم الجنة، اعملوا ما تكرهون إذا أحب الله، واتركوا ما تحبون إذا كره الله.
ومن العرجان، ثم من أصحاب الفتوح والزحوف، موسى بن نصير، قال أبو الحسن: رأى الوليد بن عبد الملك في المنام أن رجلاً من أهل الأندلس أعرج يكنى أبا عبد الرحمن من أهل الجنة يفتح الله على يديه المغرب، فكتب إليه موسى بن نصير: أنام الله عينك يا أمير المؤمنين، أنا أبو عبد الرحمن وأنا موسى بن نصير وأنا أعرج وأنا بالأندلس، فكتب إليه الوليد: أنت موسى بن نصير من أهل كفر هندا ولست به، فاطلب إلى الرجل الغربي الذي وصفت لك ثم احمله إلي، فسأل عنه بعد ذلك فإذا كما وصف، وإذا هو عبد الله فحمله إليه.
ومن العرجان، الأحوص بن محمد الأنصاري الشاعر، قال يونس بن حبيب النحوي قدم الأحوص البصرة فنزل على عمرو بن عبيد.. فجاء يتوكأ على عصاً حتى جلس في الحلقة فتلاحيا فأخذ عمرو عصاه فضرب بها رجله الأخرى فكسرها ثم حمل إلى منزله، ثم مر به الفرزدق فقال له الأحوص: مذ كم عهدك بالزنا؟ قال: مذ ماتت العجوز.
قال: ومن العرجان ثم من أهل الشرف والجمال المنعوت، عمر بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وقد ولي اليمن لأبي العباس، وكان يدع الخروج لكثرة نظر الناس إليه.
ومن العرجان، أبان بن عثمان البجلي الأعرج، وكان صاحب أخبار، وقد أكثر عنه محمد بن سلام الجمحي.
ومن العرجان، أبو راشد الضبي، وكان أعرج ثم عمي ثم أقعد من رجليه، فقال حين عمي، وقد كان ابن حبيب وهب له عصاً حين عرج وكان يمشي عليها:
وهبت عصا العرجان عوناً ومرفقاً ... فأين عصا العميان يابن حبيب
فقد صرت أعمى بعد أن كنت أعرجا ... أنوء على عودٍ أصم صليب
فلما صار أعرج أعمى لم يتعاط المشي، فلما طال قعوده أقعد من رجليه، فقال:
أرى كل داءٍ فيه للقوم راحةٌ ... وداؤك مسمور الرتاج عسير
قصيراً فإن الصبر أجدى مغبةً ... عليك وأنواع البلاء كثير
فقال حين جفاه أصحابه وجيرانه وأهله:
قد كنت أنضي الخافقين برحلتي ... فصار جماع الأرض كفة حابل
أبول وأنجو في مكاني ومقعدي ... وعندي عجوزٌ ما تعين بطائل
وأبكار صدقٍ من عقائل معشرٍ ... كواسد قد عودن بعض المغازل
كشأن فتاة الحي في الدار مغزلٌ ... وما البعل إلا محفلٌ للعقائل
وفي الموت للزمني جمالٌ وراحةٌ ... وفي القبر ستر للفقير المحامل
وما كل محتاجٍ يجود بعرضه ... ويؤثر في الأقوام لؤم المداخل
كذاك وما للمرء صبر وحسبة ... إذا ما ابتلي فيها بجوع مطاول
وليس بمعذورٍ إذا طال صمته ... فيهلك بؤساً من مخافة عاذل
وما ذاك من عزلٍ ولا خورٍ به ... فيثنى عليه لؤمه في المحافل
ولكنه ما دام حياً كميتٍ ... فلا بد أن يحيا ببعض المآكل
يقيم حشاشات النفوس بمذقةٍ ... ويشرب غباً من فضول المناهل
ويضبر ضبر العير من دون رهطه ... ويجشا حديثاً غبة غير طائل
ويشكو بطرف العين إيماض مشفقٍ ... إلى كل مجهول المناسب خامل
سأعرف قومي ثم أعرف جبيرتي ... وما أنا عن ذم القريب بغافل
ولا أشتهي ذكر اللئام تكلفاً ... فأصبح فيهم عارفاً مثل جاهل
وأسأل ربي أن ينشطني لهم ... ويشرح صدري بالهجاء المذاحل
ويرزقني فيهم عروضاً محببا ... وصدق مقال غير قيل الأباطل
فيصبح وسمي لائحاً بجلودهم ... وأعلم أني مدركٌ بطوائل
وكان أبو بكر بن بكار إذا أنشد قوله:
ولكنه ما دام حياً كميتٍ ... فلا بد أن يحيا ببعض المآكل
أنشد قوله الآخر:
على كل حالٍ يأكل المرء زاده ... على الضر والسراء والحدثان
قال: وقتل لبعض العرب بنون، فاشتد حزنه وترك كلام الناس دهراً، فقيل له بعد أن رأوه قد تحدث وضحك: نراك قد تحدثت وضحكت! قال: كان جرحاً فبرأ.
وقالت الخنساء:
ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار
وقال أبو العتاهية:
فكما تبلى وجوه في الثرى ... فكذا يبلى عليهن الحزن
قال: ولما نظرت نائلة بنت الفرافصة في المرآة فرأت حسن ثناياها تناولت فهراً فدقت به ثناياها فقيل لها في ذلك، فقالت: إني أرى أن الحزن يبلى كما يبلى الثوب، فخفت أن يبلى حزني على عثمان فأتزوج بعده.
ومن العرجان الأشراف ممن له صحبة، مجالد بن مسعود السلمي، ذكر إسماعيل بن علية، عن يونس، عن الحسن، قال: كان الأسود ابن سريع يقص في ناحية المسجد ورفع الناس أيديهم فأتاهم مجالد بن مسعود وكان فيه قزل، فأوسعوا له، فقال: والله ما جئت لأجالسكم وإن كنتم جلساء صدق، ولكني رأيتكم صنعتم شيئاً فشفر الناس لكم، فإياكم وما أنكر المسلمون. قالوا: والقزل أسوأ العرج، هكذا الحديث.
ومن العرجان، المنهال العنبري وهو الذي يقول:
ألفت العصا وابتزني الشيب وانتهت ... لداتي وأودى كل لهوٍ ومقصد
وظلت أزج النفس وهي بطيئة ... إلى اللهو زجي بالثفال المقيد
فأصبحن لا يخضبن كفاً لزينةٍ ... من أجلي ولا يكحلن عينا بإثمد
وهذا الشاهر وإن خبر أنه يمشي على العصا فلم يخبر أنه أعرج، وقد تعرض للكبر من الضعف ما يدعوه ذلك إلى أخذ العصا، وفيه قال الأول:
الدهر أفناني وما أفنيته ... والدهر غيرني وما يتغير
والدهر قيدني بقيدٍ مرملٍ ... فمشيت فيه وكل يوم يقصر
إن امرأً أمسى أبوه وأمه ... تحت التراب لحق من يتفكر
ومن هذا الشكل قوله:
آتى الندى فلا يقرب مجلسي ... وأقود للشرف الرفيع حمارا
ومن هذا الشكل قوله:
إذا أقوم عجبت الأرض معتمداً ... على البراجم حتى يذهب البقر
ومن هذا الشكل قوله:
يا للكواعب يا دهماء قد جعلت ... تزور مني وتلقى دوني الحجر
قد كنت فراج أبواب مغلقة ... تعشو إلي إذا ما خولس النظر
وهو الذي يقول:
وكنت أمشي على رجلين معتمداً ... فصرت أمشي على رجل من الخشب
وممن تعرج ولم يكن به عرج، الزبير وهو مولى الزبير، والزبير هذا هو أبو الأشعب الذي يقال: أطمع من أشعب، وكان خرج مع المختار بن أبي عبيد على مصعب بن الزبير ورآه مصعب في الطريق وإذا هو يتعارج ويتعاور فأثبته مصعب فقدمه فضرب عنقه.
وتزوج أبو الغول الطهوي امرأته فوجدها عرجاء من رجليها جميعاً فقال:
أعوذ بالله من زلاء فاحشةٍ ... كأنما نيط ثوباها على عود
لا يمسك الحبل حقواها إذا انتطقت ... وفي الذنابي وفي العرقوب تحديد
أعوذ بالله من ساقٍ بها عوجٌ ... كأنها من حديد القين سفود
وأنشدني لأعرابي:
ليست من العوج العملجات ... كأن رجليها كراعا شاة
في قدمي عوجاء كالمسحاة
ومن العرجان، أبو الفوارس الباهلي، كان رسول ابن هبيرة إلى هشام بن هبيرة في الجيش، قال: فقدمت غدوة وقدم ابن هبيرة نفسه بالعشي.
قال: ومن العرجان، الأعرج الضبي ثم الكوزي، وكان شاعراً وهو الذي يقول:
متى تلق حياً من جوية لا تكن ... تحيتنا إلا ببيض صفائح
على القاطعات الحزن بالخيل والقنا ... كأن على أقرانها ثوب ماتح
هنالك لا قربى تناصر بينا ... سوى نسبٍ في أول الدهر نازح
ومن هذا الشكل، وليس من ذكر باب العرجان، قول كنانة بن عبد ياليل:
يا عمرو لا تأخذك فيهم رأفةٌ ... احذرهم حذر امرئ لا يمزح
واحذرهم كالمصطلى بجحيمها ... إن القرابة كل يومٍ تنزح
ومن العرجان، سعيد بن أبي عروبة، واسم أبي عروبة مهران، مات سنة تسع وخمسين ومائة، وقد لقي الحسين، وهو صاحب قتادة وروى عنه المخالف والموافق، وله تصنيف كتاب الطلاق، يقولون: طلاق سعيد بن أبي عروبة، وقد سمعت أنا من عبد الأعلى السامي، وأصحاب سعيد كبارٌ ثقاتٌ فحدث عنهم المخالف والموافق، ومن أعاجيب سعيد أنه لم يمس امرأة قط من غير عجزٍ.
قال يزيد بن قبيصة المهلبي: قدمت على أبي مسلم صاحب الدولة من البصرة فسألني عما أراد، ثم قال لي: ما فعل الأعرج سعيد بن أبي عروبة؟ كأني أنظر إلى نظافة بيته، قال: قلت: سالمٌ صالح، قال: فما فعل هشام الدستوائي؟ كأني أنظر إلى دموعه على خديه، قال: قلت: سالمٌ صالح. قال: أما أني إن دخلت العراق قتلتهما، قلت: ولم ذاك أيها الأمير؟ قال: لأنهما يزعمان أن عثمان أفضل من علي. قال: وقدم العراق فلم يعرض لهما.
قال: ومن العرجان، سعد الأعرج من أصحاب يعلى بن منية، ولقي عمر بن الخطاب.
ومن العرجان، إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله، سمع أبا هريرة وعبد الله بن عمر، ومات بالمدينة سنة عشر ومائة.
ومن العرجان الشعراء، مجلودة الأعرج، وهو الذي يقول:
وتعرفني هنيدة من بنيها ... وأعرفها إذا امتد الغبار
متى ما تلق منا ذا ثناءٍ ... تؤز كأن رجليه شجار
فلا تعجل عليه فإن فيه ... منافع حين يبتل العذار
وقال أبو مخنف في الزراية على الشجاع الذي لا دواء له، وليس هذا من ذكر باب العرجان ولكنه يناسب شعر مجلودة، وهو قوله:
ألم تسأل فوارس من سليم ... لنضلة وهو موتور مشيح
رأوه فازدروه وهو خرقٌ ... وينفع أهله الرجل القبيح
ولم يخشوا مصالته عليهم ... وتحت الرغوة اللبن الصريح
وقال المسرهد في زنبور التغلبي:
يا أعرج الرجل صغير الجرم ... وناقص الصور خبيث الاسم
وقال أبو خراش الهذلي:
وإني لأثوي الجوع حتى يملني ... فيذهب لم يدنس ثيابي ولا جرمي
ومن العرجان، الهيثم بن مطهر الفأفاء، ونوادره كثيرة.
العرجان من الحيوان
وفي أصناف الحيوان عرج وأشباه العرج، وأشكالٌ من المشي واختلاف في العدو وتفاوت في الوطء، وللإنسان نفسه اختلاف شديد على قدر الحالات المختلفة عليه، وبكل ذلك نطقت الأشعار واستفاضت الأخبار وشهد عليه العيان وميزته العقول.
فمن العرج، الضبع عرجاء ألبتة، وهي أشد السباع حرصاً على لحوم الناس وأشد الخلق معاد وأسنان، ويقال إنها ممطولة في فكيها، وهي تنبش القبور وتحفرها حتى تنتهي إلى أبدان الموتى.
ثم الذئب، وهو أقزل والقزل أقبح العرج.
والفرس شنج النسا كأن به عقالاً، وقال عمرو بن العاص:
شنج المرسن مجبول القرى ... شنج الأنساء في غير فحج
والغراب يحجل ويمشي مشي المقيد، وقال الطرماح:
شنج النسا واثي الجناح كأنه ... في الدار بعد الظاعنين مقيد
وقال أبو عمران الأعجم:
فما استوحش الحي المقيم لرحلة ال ... خليط ولا عز الذين تحملوا
كتارك يوماً مشيةٌ من سجيةٍ ... لأخرى ففاته فأصبح يحجل
والأسد يتبهنس ويتخلع. وكأنه إذا مشى يتقلع من طين علك أو دهاس كثير الرمل، وكذلك السنور على قدره، والأسد والببر والنمر والفهد والسنور متشابهٌ في عمود الصورة، وكذلك متشابه في جهات أخر، قال أبو زبيد في مشية الأسد:
إذا تبهنس يمشي خلته وعثاً ... وعت سواعد منه بعد تكسير
وذلك أن العرب تزعم أن رب عظمٍ إذا جبر بعد الكسر يصير أشد، وقال في ذلك أيضاً زهير:
رأيتكم آل البروك كأنما ... تصدون عن ذي لبدةٍ عركٍ جهم
أزب طويل الساعدين كأنما ... وعت بعد كسرٍ ساعداه على عثم
وفي المثل: كأنما كسر ثم جبر، وللأسد تحت المطر مشي آخر، وقال في ذلك عمرو بن الإطنابة:
خزرٌ عيونهم لدى أعدائهم ... يمشون مشي الأسد تحت الوابل
وقال سويد بن أبي كاهل:
هل سويد غير ليث ضيغم ... ثادت الأرض عليه فظلع
وللخماع الذي في قوائم الأسد. قال أبو زبيد:
كأنما يتفادى أهل ودهم ... من ذي زوائد في أرساغه فدع
والعصفور على خلاف الحيوان، وذلك أنه لا يمشي ألبتة وإنما يجمع رجليه فيضعهما جميعاً ويرفعهما جميعاً لا يقدر على غير ذلك.
وأما الزرازير وواحدها زرزور فإنه طائر شديد الطيران خفيف البدن صغر الجرم، وهو لا يمشي ألبتة يرسل نفسه من وكره طائراً ثم يعود إلى جوف وكره طائراً.
والظبي يمشي وإذا شاء جمع قوائمه ووثب، فإن شاء واتر بين ذلك وإن شاء لم يواتر، إلا أن الظباء ليس لها عدوٌ ولا ضبر مذكورٌ إلا على بسيط الأرض، وليس للأوعال عمل مذكور إلا في الجبال، قال الشاعر:
وخيل تكدس بالدارعين ... كمشي الوعول على الظاهره
والجرادة تمشي وتجمع نفسها وقوائمها إذا أرادت ثم تشب، كل ذلك عندها، وكذلك البرغوث يمشي وإذا شاء وثب، والوثب أكثر عمله، وإنما قيل له طامرٌ لطموره، قال الراجز:
فكم وكم من طول طموح ... لم ينجه طموره في اللوح
من صلتان فلتان شيح
وقال في البرغوث:
أو طامري واثبٍ ... لم ينجه منه وثابه
ويوصف مشي النساء بضروب البقر، وإذا قاربت الخطو وحركت منكبيها شبهوا مشيها بمشي القطا، قال الشاعر:
وعلى يبرين صف ... وان شحباً بازلات
يتمشين كما يم ... شي قطاً أو بقرات
يتخاصرن ويدع ... ون مجيب الدعوات
وقال الكميت بن زيد:
يمشين مشي القطا البطاح تأوداً ... قب البطون رواجح الأكفال
وقال الغطمش:
أبلغ سمية أني لست ناسيها ... عمري ولا قاضياً من حبها حاجي
خودٌ كأن بها وهناً إذا نهضت ... تمشي رويداً كمشي الظالع الواجي
وفي شبيه بهذا المعنى في صفة مشيها يقول الشماخ بن ضرار:
تخامص عن برد الوشاح إذا مشت ... تخامص حافي الخيل في الأمعز الوجى
وقال عمرو بن العاص:
ففداً لهم أمي غداة ال ... روع أن يمشون قطعا
ووصفوا مشي الهلوك من النساء، وهي التي تهالك إلى الرجال وتزيف في مشيها إذا رأتهم، وقد أخطأ من زعم أن الهلوك البغي لا محالة، وقد تكون بغياً وغير بغي، قال الهذلي:
ويل أمه رجلاً تأبى به بدلا ... إذا تجرد لا خالٌ ولا بخل
السالك الثغرة اليقظان كالئها ... مشي الهلوك عليها الخيعل الفضل
وقال آخر ووصف العجمة وفحلها، فقال:
يقودها منه جلالٌ فهد ... كأنما رجسٌ لهاه الرعد
يمشي إليها ذو سمات نهد ... مشي العذارى بينهن ود
وقال الفرزدق:
كأن تطلع الترغيب فيها ... عذار يطلعن إلى عذار
وقال قطران العبشمي في تخزلها إذا مشت:
من الماشيات الخيزلي وتهاديا ... إذا العشة العضلاء خف نقيلها
وقال في تثنيها وتأودها في المشي وفي بعدها من الخفة:
تأطرن حتى قلت لسن بوارحا ... وذبن كما ذاب السديف المسرهد
وقال يربوع الجرمي:
جاريةٌ من ضبة بن أد ... بداء تمشي مشية الأبد
وقال ابن همام في الأبد:
أتيح لها من شرطة الحي جانبٌ ... عريض القصيري لحمه متكاوس
أبد إذا يمشي كأنما ... به من دماميل الجزيرة ناخس
الأولى صارت بداء لعظم ركبها وغلظ شفريها، والثاني صار لعظم أيره، ولذلك قالت عمرة بنت الحمارس:
أير يبد الأسكتين بداً
وهذا غير قوله:
فأبدهن حتوفهن فظالعٌ ... بدمائه أو ساقطٌ متجعجع
يقول: قسم الحقوق بينهن سواء، وإلى هذا المعنى ذهب عمر بن أبي ربيعة:
أمبد سوالك العالمينا
ويضم إلى بيت قطران العبشمي قول الشاعر:
أوانس لا يمشين إلا تخزلا ... ولا ينتهزن الضحك إلا تبسما
ووصفوا مشي العجوز ومشي الشيخ، فقال أعشى همدان:
أسمعت بالجيش الذين تمزقوا ... وأصابهم ريب الزمان الأعوج
وتبيهم فيها الرغيف بدرهم ... فيظل جيشك بالملامة ينتجى
فأمتهم هزلاً وأنت ضفنددلإ ... ملآن تمشي كالأبد الأفحج
ووصفوا مشي العجوز ومشي الشيوخ ومشي الرهلة والأرملة، وقالوا في العجوز:
جاءت بوسقٍ وحنين وزجل ... تمشي الهوينى وهي قدام الإبل
مشي الجمعليلة بالخف النقل
وقال:
وقد اغتدى قبل طلوع الشمس ... للصيد في يومٍ قليل النحس
بأحجن الخطم كمى النفس ... يمشي كمشي الخاظيا المقسى
مشي النصارى في ثياب ورس
وقال أبو النجم:
أقبلت من عند زياد كالخرف ... أجر رجلي بخط مختلف
تخط رجلي في الطريق لام ألف
وقال أبو نواس في مرثية خلف الأحمر:
لا تئل العصم في الهضاب ولا ... شغواء تغذو فرخين في لجف
يحضنها الجو بالنهار ويؤ ... ويها سواد الدجى إلى هدف
ديدنه ذاك سوام ليلته ... حتى إذا لاح حاجب السدف
غدا كوقف الهلوك ينهفت ال ... قطقط عن متنتيه والكتف
كأن شذراً وهت معاقده ... بين صلاه فملعب الشنف
وأخدرى صلب الصواهل صل ... صال أمين الفصوص والوظف
لما رأيت المنون آخذةً ... كل قوي وكل ذي ضعف
بت أعزي الفؤاد عن خلفٍ ... وبات دمعي إلا يفض يكف
أقسى الرزايا ميتٌ فجعت به ... أمسى رهين التراب في جدف
وله أيضاً:
لو كان حي وائلاً من التلف ... لوألت شغواء في أعلى لجف
أم فريخ أحرزته في لجف ... مزغب الألغاد لم يأكل بكف
كأنه مستقعدٌ من الخرف ... هاتيك أم عصماء في أعلى شعف
ترود في الطباق والمغد الألف ... أودى جماع العلم مذ أودى خلف
من لا يعد العلم إلا ما عرف ... فليذم من العياليم الخسف
كنا متى نشاء منه نغترف ... روايةٌ لا تجتنى عن الصحف
ووصفوا مشية المجنون، فقال خلف بن حيان:
كم أجازت من قوز رمل وقف ... وحسيف المياه سهب المنون
أسأرت ليلةً ويماً فلما ... دخلت في مسربخٍ مردون
أصبحت تعرف الحلاء بعي ... نيها وتمشي تخلع المجنون
وقال الهذلي:
كمشي الأقبل الساري عليه ... عفاءٌ كالعباءة عفشليل
وأنشد مسعود بن هند:
تمشي على حسن اعتدال وركها ... مشي العروس طهرت من عركها
قد خلطت محلبها بمسكها
وهجا آخر رجلاً فشبه مشيته بمشية الضب، فقال:
هو القرنبي ومشي الضب تعرفه ... وخصيتا صرصراني من الإبل
وأصحاب الخيلاء في المشي ثلاثةٌ: بنو مخزوم وبنو بدر وبنو جعفر بن كلاب.
وكانت لعيينة بن حصن مشيةٌ عجيبة، ولعيينة في ذلك حديثٌ.
وقال الأخطل:
إذا شرب الفتى منها ثلاثاً ... بغير الماء حاول أن يطولا
مشي قرشيةً لا عيب فيها ... وسحب من جوانبه الفيولا
ورأى النبي صلى الله عليه وسلم أبا دجانة سماك بن خرشة وهو يمشي الخيلاء بين الصفين في الحرب، فقال: " إن هذه لمشية يبغضها الله إلا في هذا المكان " .
قال الشاعر في مرثية أبي دؤاد بن جرير وذكر حرب إياد وفارس فقال:
ترى المغضب الغيران يمشي بسيفه ... ويخطر في كابٍ من النقع أصهب
ويذكر مأثور الحديث حفيظةً ... فيعنق نحو الفارس المتلبب
خالد الأحول، عن خالد بن عبد الله، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بينا رجلٌ في الجاهلية يتبختر في حلة له مشتملاً بها فأمر الله الأرض فأخذته فهو يتخلخل فيها إلى يوم القيامة " .
وقد أخبرنا قبل هذا عن قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي دجانة حين رآه يتبختر بين الصفين: " إن هذه مشيةٌ يبغضها الله إلا في هذا المكان " .
وقد خبر الله عن قوله: " ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا " .
وعرك عمر بن الخطاب أذن فتىً من بني المغيرة رآه يتبختر في مشيته، وقال: نخوة بني مخزوم.
وقال حسان بن ثابت:
رب خالٍ لي لو أبصرته ... سبط المشية في اليوم الخصر
وخبر الله عن قول لقمان لابنه: " يا بني لا تشرك بالله " الآية.
ومن مشي العدو إذا رأى عدوه، قال الشاعر:
تلقى العدو إذا ما مر تحسبه ... من العداوة والبغضاء مشكولاً
وقال بلعاء بن قيس:
معي كل مسترخي الإزار كأنه ... إذا ما مشى من أخمص الرجل ظالع
وقال آخر في مشي العدو إلى العدو:
مشى السبنتا واجه السبنتا
وإنما سموا الناقة بالسبنتا حين سبهوها بالسبع.
ومن ذلك مشية المجنون، وقال عبد الرحمن بن حسان:
إن اللعين أخوك فارم عظامه ... إن ترم ترم مخلخلاً مجنونا
ومن العرج من أصناف الحيوان، الجعل، والجعل أفحج، والأفحج والأفلج سواءٌ، وفي قوائمه تفريض وحزوز، وقال الشماخ:
وإن يلقيا شأوا بأرض هوى له ... مفرض أطراف الذراعين أفلج
وقال سعد المطر يهجو رجلاً من الحبشان:
وذاك أسود نوبي به فدعٌ ... كأنه جعل يمشي بقرواح
وقال الأصمعي في صفة الجعل:
كأربية النوبي نخست ظهره ... ومن تحته عوجٌ لهن أشور
لهن على الأنقاء مشيٌ كأنه ... مهاريق جادي لهن سطور
تراوح رجلاه يداه فينثني ... على القهقري رجلاه حين يغير
وقال الشاعر في الجعل:
يبيت في مجلس الأقوام يربأهم ... كأنه شرطي بات في حرس
وهذا البيت وإن كان في الجعل فليس هو في معنى الشعر الأول.
ويقال للبرذون مشى مشية النعاج، ويقال للفرس مشى مشي الثعلبية، وقال امرؤ القيس:
له أيطلا ظبيٍ وساقا نعامة ... وإرخاء سرحانٍ وتقريب تتفل
وقال آخر:
يعدو كعدو الثعلب ال ... ممطور بلله العشى
بقوائم عوجٍ شما ... طيط وهادورٍ عييى
والماشي أيضاً صاحب الماشية، قال آخر:
أعيني فابكي لي شبيباً وأعولي ... إذا أجدب الماشي وقل اللواقح
وقال الحطيئة:
ويمشي إن أريد به المشاء
ووصفوا ضروب الاعوجاج والحنو والإكباب وعطف العنق والجنوح، قال الكميت:
جنوح الهالكي على يديه ... مكبا يجتلي نقب النصال
وقال جعيفران:
كأنهم والأيور غامدةٌ ... صياقلٌ في جلاية النصل
وقال الطرماح:
يمشي بعقوتها الهجف كأنه ... حبشي حازقةٍ غدا يتهبد
وقال قيس بن زهير:
سوالفها كخدود الإما ... ء صدت عن الذنب أن تلطما
وقال الحادرة:
بمحبس ضنك والرماح كأنها ... دوالي جرورٍ بينها سلب جرد
تصب سراعاً بالمضيق عليهم ... وتثنى بطاءً لا تخب ولا تعدو
إذ هي شك السمهري نحورها ... وخامت عن الأعداء أقحمها القد
سوالفها عوج إذا هي أدبرت ... لكر سريع فهي قابعةً حرد
وقال ابن ميادة:
يغدو بها قرم بني هاشم ... مقلصٌ ذو خصل أشقر
كأنه من طول تمعاجه ... والطعن في منحره أشتر
وقال الآخر:
وإذا قصرت لها الزمام سما ... فوق المقادم ملطمٌ حر
فكأنها مصغ لتسمعه ... بعض الحديث بأذنه وقر
وأضداد العرجان، الذين كانوا يعدون على أرجلهم فيبلغون مبالغ أصحاب الخيول المضمرة، وما ظنك بالمنتشر بن وهب، وللشاعر يقول فيه:
لا يغمز الساق من أين ولا وصب ... ولا يعض على شرسوفه الصفر
لا يأمن الناس ممساه ومصبحه ... من كل أوب وإلا يغز ينتظر
وأعجب من المنتشر بن وهب من أوفى بن مطر الذي يحكى عن مهره بأن الرجل منهم يقيم ثلاثة أحمال بعضها إلى جنب بعض ثم يقوم دونها بأذرع، ثم يجمع جراميزه ثم يثب فيجوزها، واعجب من ذلك ما حدث به أبو الحسن عن رجاله، قال: أرسلوا الحلبة بمكة، وأرسلوا معها امرأة حبلى فجاءت سابقة.
قال: ومشي الحيات على ثلاث طبقات، والحيات سوى الأفعى والقزه تمشي مستقيمة ومعوجة، والأفعى لا تمشي أبداً إلا على شق، وأما القزه فإن بها عرجاً، قال خلف الأحمر:
أذاك أم بعض القزاة العرجان
والضبع عرجاء نباشة للقبور شديدة الحرص على أكل لحوم الناس، وقال الشاعر:
وجاءت جيالٌ وبنو أبيها ... أحم المقلتين به خماع
فظلا ينبشان الترب عني ... وما أنا ويب غيرك والضباع
وقال الهذلي:
وغودر ثاوياً وتأوبتهمذرعةٌ أميم لها فليل
وقال الآخر:
له الويل من عرفاء ترقل موهناً ... كأن عليها حلي صقبٍ مخلد
معاودةً حفر القبور متى تجد ... لها ملحداً في جانب القبر تلحد
وقال أبو أسامة حليف بني مخزوم:
فدونكم بني وهب أخاكم ... ودونك مالكاً يا أم عمرو
فلولا مشهدي قامت عليه ... موقفة القوائم أم أجر
دفوعٌ للقبور بمنكبيها ... كأن بوجهها تحميم قدر
وقال جريبة بن أشيم في ذلك:
من مبلغٌ عني سناناً ونافعاً ... وأسلم أن الأوثقين الأقارب
فلا تدفنني في صوى وادفننني ... بديمومةٍ تنزو على الجنادب
وإن أنت لم تعقر على مطيةً ... فلا قام في مال لك الدهر حالب
ولا يأكلني الذئب فيما دفنتم ... ولا فرعل مثل القصيرة دارب
أزب هلب لا يزال مطابقاً ... إذا انتشبت أنيابه والمخالب
وقال مدرك بن حصن في عرجها وخماعها وفي نوكها والغثارة التي فيها:
رغا رغوةً بعد البكاء كما رغت ... موشمة الجنبين رطبٌ عرينها
من الغثر ما يدري أرجلٌ شمالها ... بها الظلع إما هرولت أم يمينها
وذكرها المفضل النكري بالعرج فقال:
وأشبعنا الضباع وأشبعوها ... فراحت كلها تئق يفوق
تركنا العرج عاكفةً عليهم ... وللغربان من شبع نعيق
وقال الآخر:
وكم غادرن من خرقٍ صريعٍ ... يطوف بشلوه عرج الضباع
وذكر عنترة عرج الضباع فقال:
يا رب قرنٍ قد تركت مجندلاً ... متخرق السربال عند مجال
تنتابه عرج الضباع كأنما ... خضبت جوانحه من الجريال
وقال عباس بن مرداس في الضبع ولم يذكر عرجها:
فلو مات منهم من جرحنا لأصبحت ... ضباعٌ بأكناف الأراك عرائسا
والضبع تكنى أم عامر، قال الكميت بن زيد:
كما خامرت في حضنها أم عامرٍ ... لدى الحبل حتى عال أوس عيالها
وقال الشنفرى:
لا تقبروني إن دفني محرمٌ ... عليكم ولكن أبشري أم عامر
لقلت لها قد كان ذلك مرةً ... ولست على ما قد عهدت بقادر
وقال الآخر:
فإنك إن يجدوك أم عويمرٍ ... لذو حاجة جافٍ مع القوم ظالع
وكان أسيراً يقاد مع الأسرى، ويزعمون أن الضباع والذئاب تتبع الأسرى والجيوش وفي هذا الموضع كلام كثير.
ومن العرجان، الذئب وهو يوصف في مشيه بالقزل، وهم يزعمون أن القزل أقبح العرج، وقال الشاعر:
كأنه إذا ما مشى ... مستكره الرجل أقزل
ولذلك وصفوا مشيته بالعسلان، وقال جران العود:
شد المماضغ منه كل مضطمرٍ ... وفي الذراعين والخرطوم تأسيل
كالرمح أرقل في الكفين واطردت ... منه القناة وفيها لهذم غول
ويقولون ذئبٌ وذئبة ولا يقولون ضبعٌ وضبعة ولقد قال رجلٌ من كبار الناس وأشرافهم في بعض المقالات وهو يذكر رجلاً: " هذه الضبعة " فإنها لتؤثر عنه إلى يومنا هذا.
وقال زهير بن مسعود، وهو يشبه مشي فرس بعسلان الذئب:
يعسل عسلاناً كما ... يعسل تحت الثلة الذيب
قال: وليس الشأن في الاستقامة ولا في الاعوجاج، وإنما الشأن في المصالح والمنافع وما هو أرد وأربح، ألا ترى أن أموراً كثيرة وفوق الكثيرة من الأمور الملتوية والمعوجة لو كانت مستوية مستقيمة لعظم الضرر وظهرت الخلة، فمن ذلك: الأضلاع والمفاتيح والمزاليج وأطلال السفن والعقود والنقوش والمناخل والأهلة والعراجين والمحاجين والكلاليب والشصوص وشوك القنافذ ومغاليق رمانات القبانات والقرسطونات والبرادات، ومن الأشياء المخلوقة المناسر والبراثن والقرون وإبر العقارب وأنياب الفيلة والأفاعي، وقد بين الشاعر في شعره هذا المعنى فقال:
لئن كنت محتاجاً إلى الحلم إنني ... إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج
ولي فرسٌ للحلم بالحلم ملجمٌ ... ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقومٌ ... ومن شاء تعويجي فإني معوج
ولست براضي الجهل خدناً وصاحباً ... ولكنني أرضى به حين أحرج
فإن قال بعض القوم فيه سماجةٌ ... فقد صدقوا والذل بالمرء أسمج
وما ذكروا في الاعوجاج وفي حد الشيء إذا كان معوجاً وما يشبه ذلك وما سمى بأعوج قال الشاعر:
يا رب هيتٍ يجتنى من هيت ... ومن طريق الأعوج المقيت
ونفحات القير والكبريت
والأعوج معروف المواضع من شاطئ الفرات، والعوجان نهر من أنهار الروم، واكتنوا بأبي العوجاء منهم أبو العوجاء بن قبيصة بن مخارق الهلالي، وقال أبو الشيص الأعمى:
سروا يخبطون الليل فوق ظهورها ... إلى أن بدا قرنٌ من الليل أبلج
وأضحوا وبعضٌ ما يقيم لسانه ... وبعضٌ إذا ما حاول المشي يعرج
هذا يقع مع ذكر مشي السكران.
وقال حكيم بن جبلة:
وأهلكني وقومي كل يوم ... تعوجهم علي وأستقيم
رقابٌ كالمواجن خاظيات ... وأستاه على الأكوار كوم
وقال قيس بن زهير:
ومحنب مثل العقا ... ب تخاله للضمر قدحا
والتحنيب الاعوجاج، ويسمون الفرس أعوج والعوجاء، قال مسكين الدارمي:
دعتنا الحنظلية إذ لحقنا ... وقد حملت على جملٍ ثفال
فأدركها ولم يعدل شريحٌ ... وأعوج عند مختلف العوالي
وقال الشماخ بن ضرار:
وعوجاء مجذامٍ وأمر صريمةٍ ... ترمت بها الشك الذي هو عاجر
كما يقال: خطةٌ عوجاء، ومن أمثال العامة: قيل للشحم: أين تذهب؟ قال: أسوي كل معوج.
وقال محمد بن واسع الأزدي: ما آسى من الدنيا إلا على ثلاث: صاحبٌ إن تعوجت أقامني، وفوز من رزق ليس لأحد علي فيه منة. ولا لله فيه تبعة، وصلاة في جماعة يرفع عني سهوها ويكتب لي فضلها.
وقال الآخر:
فسيرة الدهر تعويج وتقويم
شبابة، عن ورقاء، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خلقت المرأة من ضلع، ومتى أردت أن تقيمه كسرته، وليست تستقيم لك المرأة على خلق واحد وأن تستمتع بها وفيها عوج " .
وقال طفيل الغنوي:
إن النساء كأشجار نبتن معاً ... منها المرار وبعض المر مأكول
إن النساء متى ينهين عن خلق ... فإنه خلق لا بد مفعول
وقال آخر:
عريانة الساق في أنسائها شنج ... وفي قوائمها طولٌ وتحنيب
وقال آخر:
بكل كميت مشرفٍ حجناته ... تقاربت الوعساء فيه وأعوج
وقالوا في المنازلة والمشي بالسيف، وفي مديح الذي يقاتل على ظهر الأرض كما يقاتل على ظهر الفرس، وفي القلع الذي ينبو عن ظهر الفرس إذا اشتد ركضه، وفي الكفل يستمسك بقربوسه وبغير ذلك مخافة السقوط عن ظهره، فال مهلهل:
لم يطيقوا أن ينزلوا ونزلنا ... وأخو الحرب أطاق النزولا
وقال القحيف:
وبيض يجعلون الهام فيها ... إذا ابيضت من الخلل النصال
ولما أن دعوا كعباً وقالوا: ... نزال وعادةٌ لهم نزال
أتانا بالعقيق صريخ كعبٍ ... فحن النبع والأسل النهال
وقال ربيعة بن مقروم:
ولقد شهدت الخيل يوم طرادها ... بسليم أوظفة القوائم هيكل
فدعوا نزال وكنت أول نازل ... وعلام أركبها إذا لم أنزل
وقال ابن هرمة:
والمشرفية والمظاهر نسجها ... يوم اللقاء وكل وردٍ صاهل
ولكل أرعن كالحريق مطاعن ... فمسايفٍ فمعانقٍ فمنازلٍ
ومن القلعين، حارث بن موسى بن سمرة، وكان على فرس زمن الفتنة، قتله ابن الأشعث ولا عقب له، وكان قلعاً يشد منطقته بسرجه.
وكان المخارق بن عباد قلعاً، وكان خفيفاً نحيفاً وضئيلاً دميماً، وكان يوفن بسرجه، وكان شجاعاً بطلاً.
قال أبو عبيدة: أطنب المسور بن عمرو بن عباد ذات يوم في وصف حسكة بن عتاب الحبطي، فقال لهم قائل: لقد كان حسكة قلعاً، قال: وما يضره ذلك والفارس النجيد في كفه كالخرنق في كف العقاب.
وكان جرير بن عبد الله قلعاً حتى شكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا له فأذهب الله عنه.
وكان عيسى بن يزيد الجلودي قلعاً، وكان إذا حمى الوطيس ضرب بنفسه الأرض فقاتل بالرمح والسيف ورمى بالحجارة، وكان يفخر بذلك على جميع الأفارقة.
وكان حذيفة بن بدر لا يثبت على ظهر فرسه مع شدة الركض وطول السير، ولذلك قال قيس بن زهير لأصحابه:
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |