الأيــــــر/وتيكــــا - إدريس كثير
ألف
2013-11-30
تبرز «الأيروتيكا حين ينحسر اللباس قليلا ».
رولان بارث.
الإيروتيكا هي الجنس وقد أصبح فنا وإيقاعا».
إيروس هو إله الحب وكذلك إله القوة الخالقة في الميتولوجيا اليونانية، تحول اسمه إلى كوبيدون في الإمبراطورية الرومانية . حسب تيوجونيا هوزيود (القرن 8 ق.م) يكون أيروس مع كاووس ونيكس وكايا وإيريب الخمس آلهة الأوائل. إيروس هو الوحيد الذي لم يلد، وهو جميل وخالد « معروف بذكائه وحكمته « اعتبره جون بيار فرنان المبدأ « الذي يبرز الثنائيات، والتعدد الثاوي في الوحدة». إيروس وهيروس (الرغبة) من مرافقي أفروديت دائما منذ ولادتها.
ورد في تيوجونيا الأشعار الشعبية وهي تيولوجيا أُورفيه أن إيروس هو مبدأ الخلق، ولد من بيضة الكوصموص الناجمة عن الأثير (Ether) والعدم (Chaos).
حسب كوميديا العصافير لأرسطوفان (450-385 ق.م) ولد أيروس من نيكس (الليل) بأجنحته السوداء، وهو يملك جنـاحين من ذهب ويرمي سهامه كيفمـا اتفق. ويعتبر كائنا خنثويا لأنه تجسيد لصنفين الذكر والأنثى، وله قوة تستطيع جمع الأنصاف بعضها ببعض، وهو إله جميل ويحب الجمال، وكل من يمسسه يتحول إلى شاعر.
لإيروس أخ أو رفيق يسمى Antéros؛ وأخت تسمى هرمونيا (انسجام) . حين يرافقه الأخ يغدو كبيرا وحين يفارقه يعود طفلا.
وهو يرمز إلى «رغبة الحب» بما هي مجموع الظواهر التي تثير وتوقظ الرغبة الجنسية، ومختلف التمثلات المرتبطة بها، خاصة التمثلات الثقافية والفنية.
الإيروتيكا تختلف عن الجنسانية لأنها لا تحيل على الممارسة الجنسية نفسها، الأولى تديم اللذة والرغبة أما الثانية فتستهلكها بسرعة . وتختلف عن الحب لأن هذا الأخير مشاعر وإحساسات.الإيروتيكا ترتبط بالجسد وبدوافعه الجنسية واستيهاماته عكس بعض مشاعر الحب(كالحب الأفلاطوني وحب الأبناء و الحب العذري...).الإيروتيكا ليست هي البورنوغرافيا، هذه الأخيرة توصف عادة بالبشاعة وانعدام الحياء، لأنها تكشف عن العورات وتتجاوز الحدود. البورنوغرافيا تقزم ما هو حميمي إلى حدود نسيان الجانب الإنساني فيما يُعرض ويمارس، أما الإيروتيكا فتقلق على هذه الحدود وتترك مكانا محترما للحميمية أي لما هو خفي ولا مرئي.
الإيروتيكا ليست هي العلاقة الحرة ( ليبيرتيناج ) لأن هذه الأخيرة علاقة «فاسقة» في حين الأولى علاقة «عاشقة». «العلاقة الحرة» لا مبالية جنسيا : الإغراء، وحب الذات، والتحرر من كل الالتزامات هي مظاهر الحرية كما يجسدها دون خوان مثلا. حرية تلعب بالنار وتريد أن «تقود الثور من قرونه» (ميشال ليريس) كناية عن تقارب القوى الجنسية (إيروس) بالموت (طاناطوس). الإيروتيكا ملأى بالمشاعر الإنسانية، مبالية بالبعد الجمالي والغرامي للعلاقة.. هي تعبير عن الجانب الحضاري في الإنسان كالفن والأدب، (الأدب الإيروتيكي..). «العلاقة الحرة» نزعة فردانية منغلقة على حب ذاتها في حين الإيروتيكا علاقة غيرية، تنفتح على جسد الآخر وعلى تجربة الغير، وعلى وعيه المختلف...
ترى ما هي الكلمة العربية التي ترادف هذا المفهوم «إيروتيكا» ؟ هل هي الحب أم الحب العُذري أم المجون أم الجنس أم الشبقية... ؟
يبدو أننا لا نملك الكلمة المناسبة التي تُفيد التباس إيروتيكا وتميزها عن الجنسانية وعن البورنوغرافيا وعن العلاقة الحرة.. فلم لا نقتـرح أَيْر/وتيكا ؟ من الأير أي القضيب والذكورية. وما هي أهمية هذا الاقتراح ؟ هل يفي بالغرض ؟ أقصد هل ستمنحنا الكلمة إمكانية الوقوف على شق هائل من الأدب وأجناسه ؟ ومن الفلسفة وأبحاثها ومن الفن التشكيلي وألوانه حول ما هو أَيْروسي بالضبط ؟
الإيروتيكا الأدبية
هناك متـن شاسع حول ما يُسمـى «الأدب الإيروتيكي» منذ اليـونان إلى الآن. الأسطورة اليونانية بإيمـانها وخطابتها وبلاغتهـا.. جعلت إيروس بجماله وقوته ونباله يتربع على عرش هذا الأدب ؛ حتى يمتح هذا الأخير اسمه من فُتـوة هذا الفتى الإله.
ومنذ ذلك العهد والأدب يتغنـى ويتأدب بهذا الميل الذي يأبـى أن يخلـط بالحب لا العذري منه ولا الإباحي، كما يتمنـع عن أن يمزج ضمن المجون المجاني منه والمُزاحي...
عند اليونان اتسمت الإيروسية بميسم مثالي تشده الأهواء المختلفة بما فيها الهوى المثلي.. (أفلاطون والمثلية الذكورية، صافو والمثلية النسائية، أرسطوفان والمثلية بنوعيها...) وارتبطت هذه الأيروسية بتصور أسطوري للخلق، اعتبر أن البشر خلقوا ضعافا وأزواجا متلاحمة وأن زوس إله الآلهة هو الذي فصلهم وقسّمهم إلى أطراف ناقصة ما زال كل طرف يبحث عن طرفه الآخر إلى يومنا هذا.
إذا كان أرسطو، بعفته ودماثته لا يُنظر للحب بقدر ما يهتم بالصداقة وأضربها، فإن كل التيارات الفلسفية الأخلاقية باستثناء «الكلبية» صارت في نفس الدرب الأرسطي مع البحث عن تلاؤم الصداقة بالفضيلة وإقصاء الجنس والإيروس لأنهما لا يتوافقان وهذه الأخيرة.
الإيروتيكا اللاتينية وإن تبنّت المذهب الأبيقوري فقد ربطته بالاعتدال (Mesure). فأوفيد (Ovide) و بيترون (Pétrone) يتغنيان بالحب بين الزوجين الحرين والمتحابين خارج مؤسسة الزواج والجنس الرخيص (الدعارة). هذا الاعتدال قد يغدو مبالغا فيه حين يعبّر عنه بطريقة صوفية تعبّدية...
السادية أو أيروتيكا البشاعة: (1740/1814)
دوناصيان ألفونص فرانسوا ساد ولد بباريس يوم 2 يونيو 1740، من عائلة أرستقراطية فرنسية. منذ طفولته أبان عن شجاعة باسلة وعن ذوق عارم للمجون la débauche، على امتداد 74 سنة من حياته قضى 30 سنة منها بالسجن. يؤرخ جيلبير ليلي (Gilbert Lely) مقدم كتاب ساد «أيام سودوم المائة والعشرين» (أو مدرسة الحب الحر)(1) يوم 22 أكتوبر 1785 كأول يوم لإعادة صياغة المسودات الأولى لذات الكتاب، سنتان بعد ذلك أصدر كتابيه «les infortunes de la vertu» و»Aline et Valcour»، في سنة 1791 أصدر باسم مستعار كتاب: «Justine ou les malheurs de la vertu». أما «La philosophie dans le boudoir»، فنشر سنة 1795 ومعه La nouvelle Justine et Juliette
هل مؤلفات ساد ذات طابع طبي ونفساني ؟ أم هي ذات طابع أدبي فلسفي ؟ ما هو الجمال الأدبي في مؤلفاته ؟ وما هي أخلاق وميتافيزيقا سادة .هل السادية هي حقا أيروتيكا للعنف والخلاعة أم للبشاعة والقرف ؟
في بداية المقدمة الطويلة «لأيام سودوم» (1) يصرح ساد بطبيعة الجماعة (جماعة الأربعة) التي تخطط للزواج دون مراعاة لقانون « زنى المحارم» بل خرقا له بكل برودة وسبق إصرار، وهي جماعة من علية القوم سياسيا ودينيا وماليا.
القاسم المشترك في اتفاق هذه الجماعة الثرية هو المجون الذي يحكي أيام سودوم حكايتها وحكاية الحب الحرُّ (le libertinage) والاحتفالات الجماعية (l?orgie). طبعا «زنى الأقارب» لا يمنع هذا الاتفاق بل يحمسه ويغذيه، «أتعلمون ما هو ثمن الاستبداد على زوجاتنا وبناتنا في الملذات التي سنتذوقها» . يقول زعيم الجماعة .(ص 19).
يحكم هذا التوافق الاتفاقي قواعد صارمة لا يمكن لأي كائن كيفما كان أن يحيد عنها.....
«أيام سودوم..» كما سبق أن أشرنا «رواية». لكنها رواية فنية من نوع آخر، غريب. يمكن نعته «باستطيقا البشاعة» كفضيلة . وهي أيروتيكا ساد. ذلك أن هذا الأخير يكره «الفضائل» العادية ويعتبر أن أكبر فضيلة هي ما خلقته فينا الطبيعة،وهذه الأخيرة زرعت فينا بذور الخير والشر، بذور اللذة والألم بذور القناعة والابتلاء.. وهذه الثنائيات كلها طبيعية غريزية. فلماذا نُغلب كفة الخير واللذة والقناعة على نقيضاتها..؟ لما لا نُعلي من فضيلة البشاعة : القتل، زنى المحارم..اللواط». ذلك أن الجمال شيء بسيط، أما البشاعة « la laideur» فشيء عجيب، وكل العقول (ardents) تفضل بدون أدنى شك الأشياء العجيبة عن الأشياء الاعتيادية في مجال الملذات المحسوسة. (sodome 736).
17 أسبوعا هي مُدة هذه العُطلة، وهذه الإقامة الغريبة من نوعها، هي عبارة عن احتفال جماعي دائم لكنه خاضع لتوقيت مضبوط ولقوانين صارمة، كل من حاد عنها يُعاقب أبشع عقاب (انظر ص 90 مثلا).
لا يمكن أن يفسر صبر بلورة هذه الإستطيقا للبشاعة والقبح إلا العزلة والملل والضجر والزمان الضائع والفائض والسجن... فهذه الملابسات هي ما يُفسر هذا النوع من الكتابة العميقة وهذا النوع من التفاصيل الدقيقة في خطاب فاسد هجين غير خالص (ص 99)، خطاب «لم يقل مثله القدامى ولا المحدثين»، لكنه خطاب يستغل فيه ساد التوجه إلى القارئ مباشرة : فينبهه، ويوجهه، ويعتذر منه.. ويطلب منه أن «يكون حكيما» (ص 100). أن يختار من هذه البشاعة ما يلائمه ويعجبه وألاّ يُدين الباقي. فالأهواء عديدة فيها ما يُعجب وما ينفر. وهي تناهز ستة مائة هوى وهوى حسب الحاكيات، لكنها كلها من تلك الأم الطبيعة. سرد وحكاية لها إخصاؤها، تبدأ دائما ببند قانون وتنهي عند واحد آخر. سرد فيه شخصيات عدة تتزاوج بمُتتالية هندسية تقريبا، في عقدة درامية مركبة، يصعب رسم بورتريهاتها بتفصيل.. لكن يمكن الاعتذار عن ثغراتها ونسيانها.. ويصرح ساد في آخر صفحة من مقدمته الطويلة بالنقط الأربع التي أغفلها ونسيها. (ص 107-108). «أيروتيكا البشاعة» في الجزء الأول من كتاب «أيام سودوم...» تمتد من الليلة الأولى إلى الليلة الرابعة عشر، كلها تنتهي بالبشاعة أو بوجه من أوجهها. الليلة الأولى انتهت بالنفور
والغثيان أكثر مما انتهت بالذوق . الليلة الثانية انتهت بافتراع زيلمير، والثالثة، باختبار واكتشاف المؤخرات المجهولة، أما الرابعة فكان فيها الاستعداد للخسة والعار، والخامسة اتسمت بارتكاب أيلايدا زنى المحارم مع أبيها. في السادسة انغمس الجميع في الأوساخ كالخنانيس تلتها الليلة السابعة، ليلة العقاب والخيانة، وليلة الامتصاص الشبقي وليلة الغائط، ورائحة الأوساخ النتنة.. أما الليلة الحادية عشر فكانت ليلة شرب البول .... ثم تلتها ليلة أكل الغائط.. والأوساخ الرهيبة وانتهت الليلة الرابعة عشر بالبخور واللواط... إنها نهايات بشعة لأيروتيكا من نفس النوع. وتستمر البشاعة في النهايات... الليلة الخامسة عشر تنتهي بممارسات وحشية. أما السادسة عشر فلا يمكن وصفها، إنها البشاعة التي ما بعدها بشاعة..
هل الإنسان قادر على مثل هذه الأفعال ؟ أربأ بنفسي وقدرتي على التحمل في الاستمرار... حتى في قراءة «أيام سودوم»...
يبدو أن ساد في كل ما كتب من وقاحة ونذالة وخسة كان هدفه هو أن يتميز ؛ هو أن يقول شيئا لم يسبقه إليه أحد، عكس هـ. ميلر والذي رغم لغته القذرة.. يشعر القارئ أنه صادق، صريح، ... فشتان بين هذه الأيروتيكا وتلك...
رجل معزول يدعى الماركيز دو ساد سيطور نسق الأيروتيكا ليرفعه إلى أقصاه. (ص 185). سيحاول أن يستغل مزايا النظام الإقطاعي ليخضعها لأهوائه ومغالاته. أهواء جنسية لا تجعل من الآخر شريكا له إنما تجعله ضحيته. (الموت). «إنه يقترح توحيد أبطاله على شاكلة واحدة»(p. 186).
إن نفي الشريك هي خاصية أيروتيكا ساد، هي أخلاقه !، أخلاق حسب موريس بلانشو تتأسس على العُزلة المطلقة : الطبيعة خلقتنا بمفردنا،وليس هناك من صلة فيما بيننا.. ألم الآخرين لا يهمني بقدر ما تهمني رغبتي ولذتي. عُزلة يخفف من وطئتها الأدب والحلم والمغالاة. هذه الأخيرة تتنافى والعقل، وتتماشى والشهوة إلى حد القتل، كلما كان القتل راجحا قويا كلما كانت الشهوة أقوى لدى ساد. إن الحمى الجنسية هي عنف الأهواء والميولات التي لا تبتعد في شيء عن عنف الجريمة، إننا نسميها «الموت الصغير»، ضرب من الفوضى وعدم النظام. فالتعري اضطراب في طمأنينة اللباس والشهوة تعبير عن فوضى الحواس ? إن أيروتيكا ساد هي « مطلب ملح للاستقلال على حساب إنكار عارم للآخر «.
اللحظة القصية التي وضعها ساد في كتبه لا يمكن بلوغها بسهولة والتي سماها بفقدان الإحساس أو تجميده. (Apathie)
... إنها لحظة لا يكون فيها الوجود إلا حضورا بسيطا، ويكون الحضور عياء وتعب، يتحول فيه الوجود إلى لا معنى، إلى وجود مستحيل. هكذا تقلب المغالاة القيم إلى نقائضها وكأن ساد يريد أن ينتقم من النظام بإشاعة الفوضى، إذا كان أمير ماكيافيلي قاسيا إلى أعلى حد لكي يحافظ على إمارته، فإن ساد ساديا لأنه يريد المحافظة على رغبة ولذته، ولكي تتم هذه المحافظة لابد من خرق العادة وخرق القوانين وانتهاك الحرمات، وهذا ما صرح به كليرويل Clairwill صديق جولييت Juliette حين قال : «أريد القيام بجريمة تدوم في آثارها الأساسية والهامشية حتى عندما أقضي نحبي» (ص 193).
في دراسة أخرى يشير بطاي إلى علاقة ساد بالإنسان العادي وهي علاقة مفارقة. كل ما يكرهه الإنسان العادي هو ما يحبه ساد. كل ما يشمئز منه الإنسان العادي هو ما يُحبذه ساد.. وهو لا يريد في ذلك الإخضاع بقدر ما يبغي التحدي إلى حدود الاستمالة وقلب القيم خاصة قيمة الحقيقة. مقابل الإنسان العادي يرسم ملامح الإنسان الحر « المالك لأمره Souverain «. الذي لا تتحقق الرغبة والشهوة لديه إلا إذا وصلت إلى أقصى مداها وانقلبت إلى ضدها لكن في قمتها. قمتها لها صلة بالألوهية : القرابين والأضحيات المقدمة للآلهة، قرابين قاسية: هولوكوست أيروتيكا البشاعة. الإنسان العادي لا يستسيغ هذه الممارسات ومع ذلك فهي موجودة : هل يجب أن نتذكر تجربة الكوميسار ثابت ؟ !
هل يجب إحراق ساد ؟ كما دعت إلى ذلك سيمون دو بوفوار ! علما بأن ما يقزز في كتاباته يوجد فينا .
الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي