(طقس)
خاص ألف
2013-12-12
شبابه كان مليئاً بالصيد والعشق والخمر، إضافة إلي الحفلات البسيطة والشعبية التي عادة ما تكون في العيد، ولكن لن يعترض الناس على تأجيلها لما بعده إذا حدثت وفاة أحدهم لا قدر الله..
كان يسكر نعم ولكن هذا لا يعني أنه لا يشعر بألم السوط الجلدي الحاد،(1) وهو ينغرس بلحمه، لا. بل كان يطرب لإيقاع الطبول. يغشى البرق أعصابه عندما يسمع زغرودة. فيميتها. كان يعرف كل زاوية دقيقة في زغرودة بتول التي تنطلق عادة في ذات اللحظة التي ينغرس في ظهره سوط الجلد، ولا يرمش. كجبل تجيش دواخله وتمتلئ بالموسيقى!.
كان قراره بهجر الخمر سليماً. المشكلة أنه أتخذ (البنقو) كبديل له. نفس إدمانه على الخمر حوله فجأة إلي البنقو(2) بحماقة منه .. حدث ذلك قبل خمس سنوات.. عندما قرر أحد شباب الحي الآخر الذي يُعرف ب(الفريق)، تغطية قدحه. (3) _الزواج بإبنة عمه_. الدينا عيد.. الأرض منحت والقلوب تآلفت ما المشكلة؟
أخت العريس هي صديقة بتول ورفيقتها في الدراسة منذ أيام (الخلوة)(4) المسائية التي كانت تخص البنات. جدير بالذكر هنا أن هذا التوقيت ملائم لقوانين المجتمع. تلك القوانين التي توارثوها دون أن يكتبوها، والتي يبدو أنهم قرأوها على صفحة النيل، أو هكذا خُيل لهم. في المساء لا حاجة لأسرة عادية بالفتاة إلا فيما يخص (الشرف). وبعض الخدمة المنزلية البسيطة. كان مساءهن قبراً. البنات الصغيرات اللائي لم يبلغن مرحلة شجرة مانجو، يمكنهن الذهاب إلي بيت الله وحفظ القرآن. العجائز أيضاً يمكنهن ذلك.. والمطلقات. لم يكن الوضع بذلك السؤ.
كل هذه السنين و دُرية هي صديقة بتول العزيزة والوحيدة إن حقَ القول. يختلقن الكثير من الأكاذيب لزيارة بعضهن وتبادل أطراف النميمة والأسرار والضحك. ولكن من يساعدها ويُقنع رجب أن يوافق على ذهابها لمشاركة صديقتها الوحيدة فرحتها بأخيها وإبنة عمه، في الفريق. عداءات كبيرة داخل قرية صغيرة على النيل! كيف تفسرون هذا إذا لم تلاحظوا كيف يتداخلون في العزاءات ويتداينون المبالغ الضخمة ويتشاركون في التجارة والزراعة وركوب النيل. في مجتمع كهذا لديك فقط أربعة مهن يجب عليك أن تتقن إحداها: مزارع، صياد، شيخ، وربة منزل.
لم يوافق رجب. انتهى الكلام. ولكن درية ما زالت مُصرة وهي تبكي فرح أخيها لغياب بتول. إنهم هنا يصادقون بشدة وكذلك يعشقون. النيل دس لهم الحنان بين أمواجه فشربوه. ولم تكتفِ بذلك بل غادرت العرس وأتت لصديقتها بتول تبكي في حضنها وتترجاها أن تحضر معها الفرح بكل دموعها. لا أدري لماذا تفعل ذلك ولا أدري لماذا ضربت بتول بأوامر حبيبها وأبن عمها عرض الحائط، وذهبت معها إلي الحفل!!. اشترطت على درية أنها لن تزغرد فرجب يعرف زغردوتها أكثر منها ولو انطلقت من آخر الدنيا. لم تكن درية تحلم بأكثر من ذلك، فوافقت على الفور وأنتظرتها تزين نفسها كما تشاء وساعدتها في رسم ضفيرتها الطويلة ورسمت لها على أقل من مهل زوايا حادة، وغير معدودة، ومليئة بالتقوسات، والانحناءات المبهمة، حول عينيها، بالكحل. مسحت لها بالفازلين الأبيض النقي شفاهها، فلمعت.
سلكتا طرقاً ملتوية، بل أكثر إلتواءً خشية العيون. حاولت بتول لمرة أخيرة أن تنقذ إنصياعها لأوامر حبيبها وأبن عمها. وقفت على بعد مسافة قريبة من ساحة العرس وبعيدة عن الناس بما يكفي (للسترة).. أمسكت ذراع صديقتها وهمست لها:
_ درية.. جبرت بي خاطرك، أجبري بي خاطري.
_ يا سلام!! قولي يا ست الناس في شنو؟
_ خليني أرجع ما دايرة رجب يعرف..
فُجعت درية و سكتت لبرهة
_ حرام عليكي.. بعد ده كلو؟
ومشت للعرس حزينةً في تمام الحزن. كانت بتول تبكي بدموعها فقط دون صوت، تبكي حزنها وحزن صديقتها بفرح إبنة عمها من أخيها. كانت هذه أوامر رجب.. ليذهب رجب إلي الجحيم.
_ درية.. درية.. دقيقة دقيقة.. أنا جاية
هذا الصراخ الذي دفعت ثمنه ضربة كف من رجب والكثير من المرارة والدموع والإحساس بالإنهيار. لأنها لم تستطع أن تكتم زغردوتها لحظة إنغراس السوط بلحم حبيبها على أرض الأغراب. لم تقنعها زغاريد بناتهم لإبن عمها.. زلزلت الدنيا بزغرودتها. رجب تبينها تماماً منذ أول نبرة فيها. أضطر البقية للإلتفات إلي مصدر الصوت.. بينما بحث آخرون عن السوط داخل الجسد بعيونهم. تشتت النظرات
جميعها، بإستثناء رجب. فهو يدرك أنها بتول وأن هذا الرعد الحنين له هو بالذات، لذا فلن يشعر بالألم. هذا هو سر تحمله للألم بإختصار.
أطلقت زغرودتها وخرجت بسرعة ترتعب. لم تتوقف خطواتها عن المسير ولا عيناها عن الدموع. كان حظ الكحل عاثراً ذلك المساء. توقفت خطواتها في المنزل الطيني الصغير، ولكن دموعها لم تتوقف لأيام.
رجب دونَ موقفاً مشرفاً آخر بالنسبة له هنا على أرض الفريق. غادرهم وهو دامٍ راضٍ من ناحية، وكسير من ناحية أخرى تمثلت في عدم الإلتزام بكلمته .. تلك التي خرجت من تحت شاربه. عندما التقاها ضربها بالكف على وجهها. ضرب بتول. كانت هذه لحظة الإنهيار بالنسبة له. اعتزل الخمر متهماً إياها بالسبب. ولكنه كان يدرك أنها لم تكن سبباً بل حجة. عموماً هو يحتاج إليها الآن بعد مرور خمسة أعوام على ذلك الحدث ليستخدمها كمبرر لأحد أخطائه الكثيرة السابقة. لن يشربها مرة أخرى، لن يتذوقها. عليها أن تحتفظ ببراءتها خلف بياضها العميق. سبق السيف العزل
هذا لا يعني أن ضربة كف تنالها إمرأة أمراً ذا شأن كبير، لا. بل أمر عادي يتكرر كل يوم لأخطاء بسيطة نسبياً. في هذه القرية النيلية الصغيرة من أين للخطائين فيها بمعصية كبيرة؟. لا ذنب كبير يمكن أن يُقترف هنا، لا وجود لإغتصابات أطفال ولا نساء. جرائم القتل تحدث مرةً كل عام أو عامين. ودياً تًحل أغلب الحروب الصغيرة التي سالت فيها دماء بلا مبرر غالباً. وعلى من يحاول إقتراف خطيئة جيدة أن يسبك على نار هادئة كذبةً أو إثنتين، منطقيتين، أو لا. فالمنطق الذي تستخدمونه أنتم الآن أثناء قراءتكم الأنيقة هذه، لا مكان له بين عقول التفكير الجمعي الموحد. أو شبه الموحد لنكون منطقيين أكثر. هذه العقول لا تأبه كثيراً لدموع إمرأة. فهي دوماً مخطئة وتستحق التربية. حقاً لا أعلم لماذا يُصر هذا المجتمع البسيط على تربية المرأة لهذا الحد، ويهملون تربية أنفسهم في كثير من الأحيان.!!
رجب كان يهتم لأمر شجرة مانجو واحدة، يرعاها، ويزيل الحشائش من حولها لتكبر.. بتول.
كم إمرأة ضرب داخل أسرته وقريته الصغيرة؟ الكثير .. ولكنه لم يمد أبداً يده على بتول إلا في تلك الحادثة، قبل خمس سنوات. كان يحبها منذ نعومة أظافرها. لم تكن أخطاؤها كثيرة، نادراً ما تُخطئ، رغم أنها كانت محيطةً بأخبار الدنيا كلها، وتعرف
القليل في السياسة لا أحد يدري من أين سمعت هذا الكلام الغريب!. كانت تعرف كل صغيرة وكبيرة في العالم وهي لم تغادر قريتها الصغير أبداً، بل لم تغادر بيتها
* جبتي الكلام ده من وين آآآ بتول؟؟
(قرصة) بيسراها خفيفة ونصف ضحكة ماجنة، كافيتان لينسى رجب أمر سؤاله وأمر كل الإجابات التي لا تعنيه مطلقاً. بتول هذه ساحرة.. هذا حالهن.
جرت حياتهما بصورة طبيعية مع النيل الذي لم يبخل عليهم ولا على أرضهم التي ترقد بجواره مكتملة الخصوبة، حتى يُخيل إليك أنك إذا ما رميت غطاء قلمك هنا لأنبت رواية!. لم يبخل عليهم بشئ مطلقاً هذا دأبه.
. قرر رجب بعد ثلاثة أيام كاملة من الندم الإعتذار عما بدر منه. أرسل لها شتلة برتقال لم يكتمل نموها بعد لتهمس في أذنها عن شجرة ليمون وساعة معينة هي الخامسة مساءً.
كانت هذه رسالة رجب التي أبلغتها تماضر أخته الصغيرة، لبتول، بسرية تامة، وهمس شديدين. سيظل الهمس أبداً لغةً للأشياء الحميمة. رجب لأيام ثلاثة مضت خارج الوعي، غائبه. أشبه بالمجانين، كانت دواخله تهتز ندماً. لم يسمح لأي من أخواته الكثيرات بأن يقتربن ويمسحن على ظهره تلك الأشياء التي تساعد جروحه على الإلتئام. كان رجب يعتقد أنه يستحق الموت بدلاً من ذلك. غريب أمر هذا الرجل كأنه لم يسبق له أن ضرب إمرأة!!! نعم فعل. ولكن بتول لم تكن إمرأة فقط، بل كانت شجرة مانجو أيضاً. لم يأكل. لم يشرب لا الخمر ولا عصير الليمون. اكتفى بشرب الماء والندم فقط. شعر بالموت يقترب من جسده. هذا لا يهم طبعاً، المهم هو أن لا يموت ويترك خاطر المانجو مكسور، فأرسل تماضر التي لم تترد في إخبار بتول أيضاً عن حالته المخيفة وجروحه التي لم تبرأ بعد. هذه القرية غريب أمرها وأمر أهلها. حتى بتول الجميلة الجريحة لم تتمالك نفسها من الفرح برؤية تماضر حتى يخال إليك أن أمها ذاتها لم تفرح بها فرحاً مماثلاً عندما أنجبتها. بالتأكيد فعلت وأكثر إنها أم مهما يكن. بكت بتول ما شاء لها، وأعتصرت ليموناً إلتقطته بعناية. بعد أن تأكدت من طعمه عدة مرات. صبته في كيس أسود نظيف غسلته هي بنفسها مما علق به من غبار، وانتظرته ليجف. ربطت ثوبها على وجهها لتغيطته طوال طريقها إلي (الفريق) حيث يبيع أحدهم زيت السمسم البكر (الولد)،(5) الذي اعتصرته ناقةٌ بصبرها ودورانها الذي لا ينتهي حول نفسها لتنتج علاجاً ودواءً شافياً لجراح رجب. تلك التي لم تبرأ إلي الآن. وهذا سبب هذه الرائحة على مايبدو. لم تنس بتول الكورة وكسرة الخبز (قُراصة) ولكنها وضعت كل شئ في
كيس لوحده. (الكورة)(6) كيس لوحدها. وعصير الليمون كيس لوحده تميز بربطتها الجادة. كسرة الخبز. زيت ناقة لعيون رجب، صباه لها صاحب الدكان الصغير في علبة مربى صغيرة أحكمت إغلاقها و وضعتها أيضاً في كيس لوحدها. كانت محملة بالأكياس البلاستيكية، والكثير من الحب. أخفت سمرتها ونضارة بشرتها خلف ثوبها السوداني الأزرق، الذي لم يتوانى في ستر كل جسدها لولا الرياح التي كانت مُصرةً على العكس. لم تكن أجمل في حياتها من هذا المساء، ولن تكون. هكذا تعتقد. كان يجملها الفرح والحب، كيف تستغربون فرحها إذا كنتم لا تدركون مقدار خوفها لثلاثة أيام مضت دون فارسها وأبن عمها ونور عينها؟ شعرت بأنها فقدته للأبد. أسعد من في الدنيا تمشي على ذات الطرق الملتوية لتقابل حبيبها التعيس تحت شجرة الليمون، تلك التي لن يعرف مكانها أيٌ منا حتى. بتول ورجب فقط يعرفان مكانها حتى وهما مُغمضي الأعين. تحامل رجب على جراحه وتعب جسده وندمه وقرر الاعتذار أخيراً. استحم جيداً من الدماء التي جفت على ظهره في النيل، فمنحه رائحته المميزة. ارتدى سرواله و (عراقيه)(7) ومن ثم جلابيته البنية، ولم يضع الطاقية على رأسه إلا بعد أن تأكد من تناسق شعر رأسه الكثيف. ارتدى ساعته (الكاسيو) الأصلية والمضادة للمياه على يسراه توكأ بعصاته، وتأبط السكين الشجاعة (التي توارثها أيضاً من أجداده) على ذراعه الأيسر القوي. ألم أقل لكم أن هذا المجتمع غريب؟ أيُ حزين في الدنيا يفعل هذا؟! أترانا لم نعرف الحزن أم لم نجربه بعد؟؟ انتظرها تحت الشجرة سابقة الذكر، مطأطئ الرأس، فاتراً..كسيراً. جلس على حافة الحوض الدائري الذي حفرته سواعده وهو في العاشرة من عمره عندما كانت هذه الليمونة الضخمة، محض شتلة، كبُرت وهو يعتني بها، فحبُلت منه بالكثير. صامتاً كان، لولا أصوات أمواج النيل ورائحتها. كان لا يعرف ماذا سيقول رغم تفكيره طوال اليوم في هذا الأمر فقط. ولكنه واصل الانتظار - بعد أن همّ بالمغادرة لعدم مقدرته على الاعتذار من (حُرمة) ولكن - هو ليس بطفل يغير كلمته- حتى سمع صوت ثوبها الأزرق وهو يلاعب الريح، ثم خطواتها التي تقترب الآن. قشعريرة لا تخفى عن العيان أصابته، سيتماسك لا تقلقوا، المشكلة هي ماذا سيقول...؟ نعم هذه خطواتها تقترب روحه تعرف ذلك، وأذنه تحفظ عن ظهر حب أصوات بتول كلها. اقتربت أكثر واضطرت للانحناء شبه التام لتفادي أشواك الليمون والدخول.. بدا لها في كامل حسنه و وسامته. باختصار ولا داعي للخوض في تفاصيل أكثر، بدا لها رجلاً كاملاً أسمر.
_ رجب..
مع من تتحدثين يا شجرة المانجو مع من؟
رجب! الذي دار لثلاثة أيام في حلقة مفرغة ليعتصر كناقة الزيت تلك، كلمات يقولها لك، وسرقتها الرياح التي كانت تُلاعب ثوبك الأزرق قبل قليل، وتكشف عن أنوثتك؟! من أين لرجل أسمر تحت شجرة ليمون قرب النيل بكلمات يقولها؟
_ طاقيتي حلوووة فيك ح تآكل منك حتة..
رمقته بنظرة أكدت له أنها ليست غاضبة أبداً، بالعكس. فأطمئن.
صمت لبرهة تخمد فيها مشاعره التي اختلطت عليه.. قمة الأسى وقمة الفرح عندما يلتقيان في لحظة واحدة فالمرء بحاجة للهدؤ والإطراق.
_ بتول..
_ رجب..
صمت آخر للتأكد من حقيقة هذا الذي يحدث الآن بحضور النيل، ولكنه كان مشتركاً، لذا طال...
_ بتول أنا كنت سكران و ...
_ رجب هاك..
_ شنو؟..
_ شربات ليمون، عملتو ليك أنا دي، هاك طلع الكورة من الكيس ده..
في قُراصة هنا دقيقة..
_ بتول أصبري.. ليمون شنو أنا داير ..
_ يا رجب انت مشكلتك راسك قوي.. وما بتسمع الكلام، طلع الكورة أكل وأشرب وللا أمشي؟؟؟
_ تمشي وين؟
_ أهلي..
نعم كما تتوقعون تماماً، تم ترويض الرجل بسهولة. كيف ترجع الآن وهو يمور من الشوق، بعد أن كان لأيام يمور من الحزن... و يموت.
لم يتذوق في حياته عصيراً بهذا الطعم. هذا ما ظل يعتقده لبقية حياته. شرب و أكل واقترب أكثر.. لم يكن يعلم أن بتول تخطط لما هو أخطر.. لم يكن يعلم بشأن الزيت، لذا تفاجأ بها وهي تأمره بخلع ملابسه والإستلقاء، بل فرشت له على الأرض ثوبها الأزرق الجميل.. فظهر منها ما ظهر. نعم يا رجب ليس في العالم أسعد منك. أنت محق يا صاح. اعترض رجب على الأمر خشية (العيب) إن رأتهم بعض العيون في طريقها المسائي المعتاد من النيل صوب بيوت الطين.
_ رجب أشيل توبي وأرجع خاطري مكسووور؟ لا طبعاً، فإعتراضه على الأمر في البداية كان لجهله بالجانب الآخر من الثوب.. حيث شرط قاس بالرحيل وكسر الخاطر مرة أخرى. العيون مقدور عليها فالسكين ما زالت حادةً وعاطلةً عن العمل لسنوات. خلع طاقيته أولاً.. كان شعره مرتباً بعناية. فك أزرار جلابيته وهي تراقب خجله وتشعر به، خلعها.. كان (عراقيه) خفيفاً واسع العنق، خلعه أيضاً.. إختبأت خلفه بطن قوية يرجع الفضل فيها للسباحة ورفع الشباك الثقيلة المُحملة بالسمك. اللحظة التي كانت تترقبها بتول والتي من أجلها جلبت معها الزيت، هي نفسها التي أضطر فيها رجب لرفع ذراعيه للأعلى. لم يخلع سكينه، و لا ساعته الكاسيو، و لا حذائه الجلدي المعروف ب (المركوب)(8)، و لا سرواله، و لا ما تحته طبعاً. السروال ذي الضفيرتين الطويلتين اللتين تسميان بإسم واحد (التِكة)(9). تعلقت بصدره بعض شعيرات. كان عريض المنكبين بما يكفي. بارز الصدر، قويه. نحيف البطن، أسمراً. كان في كامل الوسامة. وكانت هي في غاية الإندهاش.. تكاد لا تصدق هي نفسها حقيقة ما يجري بحضور النيل.. عموماً، كانت تفكر هي أيضاً بأنه لو كان هذا الذي يحدث أمامها حقيقة وجرت مياه النيل في نفس إتجاهها كما يُخططان فهي متأكدة أنها سترزق منه بطفلة ذات خصر جميل.. نعم هي تُدرك أنها لن تخبره بما تشعر وتفكر لأنها تُدرك حماقته تماماً. قد يستل سكين جده من ذراعه الأيسر ويقسم حلمها بخصر طفلة جميل، إلي نصفين. الآن، وأمامها بهذه السكين الحادة. لن يفهم حينها أن هذا الغزل دافعه الحب لا غير. سيقسم خصره إلي نصفين بيده. عندما وصلت أفكارها إلي هذا الحد شعرت بخوف ثقيل، فأبتلعت أفكارها بإشمئزاز..
_ سريع يا أم سمكة..
ما هذا؟؟؟ أتراه كان يستمع لأفكارها؟؟ كيف عرف أنها الآن تُفكر بطفلتهما التي لم تُنجب بعد.. سمكة؟؟، أطرقت رأسها للأرض وصدرت عنها تنهيدة دافئة..
_ واااي
_ مالك آآ بتول.. في شنو؟
لم تتكلم مطلقاً، بل كانت تنظر إلي الأرض بخوف واضح.
_ بتووول.. نظر إلي أين تنظر فرأى عقرباً نيلياً صغير الحجم قتله رجب بحذائه الجلدي (المركوب).
_ أول مرة تشوفي عقرب يعني؟؟ انتهي سريع قربت تضلم (10)..
_ الحمد لله..
قالت هذه العبارة وقد كانت تعنيها حقاً. خافت... بلغت قمة الخوف عندما قال لها أم سمكة في ذات اللحظة التي كانت تُفكر فيها بخصر إبنتها سمكة التي لم تخرج بعد إلي الحياة، ولم يحن وقتها.. خافت أن يقتل نفسه بتلك الطريقة البشعة، أن تفقده وتفقد سمكة قرة حلمهما بحماقته. أخفت كل خوفها ذاك بتنهيدة و نظرة إلي الأرض طالت حتى لاحظ ذلك رجب فوجد عقرباً صغيراً لم تراه هي، فقتله. أمرها أن تُسرع فالظلام على وشك. في حياتها لم تحمد الله بصدق أكثر.. أخرجت علبة المربى الصغيرة التي صب فيها الرجل بائع الزيت النقي البكر، أفضل ما عنده من زيت بناءً على طلبها. لم تستطع فتحها، هو فعل. قوي هذا الرجل.. ككل الرجال غمست أناملها بالزيت وداوت له الجراح كلها. في ذلك المساء، بعد أن أكملت مهمتها وتلصصت على إبطي حبيبها ولامست ظهره وكتفيه، وتشممت رائحته وأمتلأت عيناها بسمرته. أكرمها رجب بقُبلة اعتذار عميقة في منتصف رأسها، لا. بل كانت قُبلة حب. ما زالت تحكها تلك المنطقة حكةً لطيفة كلما رجعت بذاكرتها إلي الوراء. ذلك الذي لن يأتي مجدداً.
...
المفردات الدارجة:
1- (سوط العنج): في الدارجة السودانية ويستخدم في الجَلد. وهو مصنوع من جلد فرس النهر (القِرَنتِيه) أو جلد التمساح. وكثيراً ما يستخدم في عادة (البُطان).
2- )البنقو): نبات مخدر أشبه بالمارغوانا.
3- )تغطية القدح): مفردة دارجية يستخدمها بعض السودانيين للإشارة إلي زواج الشاب من إبنة عمه.
4- الخلوة : دار لتحفيظ القراءن تكون عادة في المساجد أو المدارس.
5- زيت الولد: هو عبارة عن زيت السمسم الخام المعصور بطريقة بلدية.
6- )الكُوُرَا): وعاء دائري الشكل يستخدم لتقديم الطعام والشراب.
7- )العراقي): هو جلباب رجالي خفيف يلبس تحت الجلابية.
8- )المركوب): حذاء أشبه بالخُف يصنع من الجلد وبطرق بلدية.
9- )التكة): شريط قماشي رقيق يستخدم في ربط السروال.
10 - )تضلم): يقترب حلول الظلام.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |