الانترنت والكتب تهزمان الرقابة الدينية - رامي زيدان
2013-12-18
مضت سنوات، كنا نفتش خلالها عن الدراسات والأبحاث "الجريئة" والممنوعة التي تهتم بالدين الإسلامي ورسوله وملله ونحله، وحين نجد كتاباً أو مؤلفاً يهمّنا أو يشفي غليلنا، نتصرف معه كأننا "اكتشفنا البارود". الشغف بالدراسات الممنوعة كان من الشغف بالحرية وتحدي المحيط الاجتماعي والديني والسلطوي والبطريركي، كأن تلك القراءات المغايرة تنقذنا من براثن التقاليد والعادات والموروثات الدينية التي نشأنا عليها وشربناها قبل أن تتفتح عيوننا، ونحاول من خلال القراءة اعلان تمردنا عليها، ونضع الكتب الممنوع في المكتبات كمزهريات جميلة، تزين نرجسية اختلافنا.
كنا نتأمل في كتاب "نقد الفكر الديني" لصادق جلال العظم ونعتبره "أيقونة" ثقافية، باعتباره كان من أوائل الكتب العربية المعاصرة التي تجرأت وانتقدت الفكر الديني (من "براءة ابليس" إلى "ظهور العذراء") ليؤدي ذلك إلى "جرجرة" صاحبه الى المحكمة في لبنان الذي كان يعتبر البلد العربي الأكثر تحرراً وتنوراً وملتقى للحريات في محيط تسيطر عليه أنظمة ايديولوجية شمولية. في العمق لم يقترب صاحب الكتاب سوى من "القشور الدينية"، لكن أيام صدوره كان له وقعه الثقافي وحتى السياسي. أيضاً انبهرناً كثيراً بالمقالات التي كان يكتبها الصادق النيهوم في مجلة "الناقد" المحتجبة بما كان يذكّر بتنظيرات "الكتاب الأخضر"، وسرعان ما صدرت تلك المقالات في كتب ومُنعت في لبنان بطلب من جهات دينية، لكن الرقابة اللبنانية استسلمت حين صدرت الكتب في طبعات جديدة في دمشق ومدن أخرى. كنا نهتم أيضاً بكتابات المفكر المصري الراحل نصر حامد ابو زيد التي تركّز على الخطاب الديني والتاريخي ونعتبرها جريئة في مواجهة الأصوليات الاسلامية، ولم ينج صاحبها من النفي إثر الحكم بردّته وتفريقه عن زوجته. كان اهتمامنا بكتب أبي زيد وفرج فودة وخليل عبد الكريم وسيد القمني جزءاً من تأييدنا لحرية الرأي، في وقت كانت بعض المؤسسات الثقافية تتعامل مع الممنوع كماركتينغ ثقافي، وتدعو ربها لأن تمنع السلطات الدينية والأمنية المزيد من الكتب، من مبدأ "المحجوب مرغوب".
كنا نعتبر عنوان "لماذا أنا ملحد؟" لاسماعيل أدهم الصادر في نهاية الثلاثينات من القرن الماضي جرأة فريدة، وقد اصدره صاحبه قبل أن ينتحر زاهداً بالحياة. ومتأخرين قرأنا كتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين وقد مُنع أيضاً بعد مواجهة مع رجال الدين وصدر في نسخ معدّلة "مستسلمة" بعنوان "في الأدب الجاهلي"، وقد رأينا فيه، هو أيضاً، فتحاً في الدراسات التاريخية الأدبية لأديب اصطدم مشروعه الحداثوي الأفلاطوني الليبيرالي بالمشروع الديني، مثله في ذلك مثل كتاب "الاسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق، ومن بعدهما كتاب "أين الخطأ" للشيخ عبدالله العلايلي، وهو كتاب اصلاحي في الدين سُحب من التداول بعد تدخل بعض الفقهاء لأنه يفتي في أمور حداثية مثل السينما والصورة ورؤية الهلال الرمضاني بطريقة علمية، وسرعان ما أعادت إحدى الدور إصداره. أيضاً كنا نبحث عن فصل من فصول كتاب "محمد" لمكسيم رودنسون منشوراً في مجلة لنقرأه، لأن الكتاب ترجمه الراحل حسن قبيسي ولم يتجرأ الناشر على اصداره. لرودنسون مقاصد من وراء الكتاب عن النبي، إذ أراد خدمةَ التيار التقدمي واليساري في العالم العربي والإسلامي من طريق توجيه النظر إلى الشروط التاريخية التي نشأ فيها الإسلام، وأنه أخذاً من سيرة الرسول والظروف التاريخية لدعوته؛ فإنه كان يتبنَّى مسيرةً لنُصرة الفقراء، واخراج الناس من العَوَز والحاجة.
سجع الكهّان
نسرد هذه الوقائع التي تبيّن جوانب من المكارثية الدينية العربية في زمن الشغف بالقراءة، وربما الادعاء المعرفي، لنصل إلى أمر مفاده، أنه لم يعد في مقدور الرقابة خلال السنوات القليلة الماضية، فعل شيء في مواجهة نشر المقالات والدراسات والكتب الجريئة التي تهتم بالنص الديني الإسلامي. لقد هدم الانترنت جدران الرقابة ومافياتها الدينية والسلطوية والأمنية. من يتابع بعض الدراسات والكتب التي تهتم بالنص الديني التي صدرت بعد عام 2000 تقريباً، أو التي نُشرت على مواقع الانترنت، يلاحظ فحوى ما نقصده. فإذا تأملنا الدراسات الدينية المنشورة، وهي الهدف في هذه المقالة، تبيّن أن هناك الآن عشرات منها نُشرت حول علاقة القرآن الاسلامي بـ"سجع الكهّان"، ذلك النثر الجاهلي الذي انقرض بظهور الاسلام، وهو مميز بقوافيه المكررة، وكانت تقوله طبقة من الرجال يشغلون الوظائف الدينية الوثنية في اماكن العبادات وبيوت الآلهة الجاهلية.
من الملاحظ أنّ النقّاد وكتّاب السير، لم يأتوا على ذكر سجع الكهّان، إلا على هامش الحديث عن نثر الجاهلية، أو من باب المقارنة بينه وبين النص القرآني، وتبيان انحطاط الأول وسموّ الثاني، ولم يكن أحدهم يجرؤ على الحديث عن الشبه بينهما، ففي ذلك ما يشبه التهديد لعرش النص الديني الإلهي، أو النموذج الأعلى للغة التي قضى أصحابها على نموذج الشعر الجاهلي وسجع الكهّان، والتي باتت اللغة الرسمية الجديدة للزمن الاسلامي المحمدي. حتى الكثير من القرّاء العلمانيين أو المنشقّين عن طوائفهم وبيئتهم، كانوا يشعرون بسلطة النص الديني ورهبته. على هذا، لم يكن غريباً أن يشارك بعضهم مع الخميني في الحملة ضد الروائي الهندي سلمان رشدي وكتابه "آيات شيطانية"، الذي كنا نتمنى ان نقرأ فقرة منه قبل ان يأتي من ينشره كاملاً على الانترنت.
أيضا هناك عشرات الدراسات حول نساء النبي، وخصوصاً زوجته عائشة، والبعض منها يغلب عليها منطق التجني وعدم المهنية والرأي العدائي، وثمة عشرات الدراسات حول علاقة النبي بالشعراء والشعر والهجرة والتجارة والصوت والوحي والإلهام والشيطان، وعشرات الدراسات حول الجنس الاسلامي من منظور نفسي، وثمة دراسات كثيرة حول لغة القرآن وأصلها وفصلها وعلاقتها باللغة الآرامية والسريانية الشامية والأثيوبية الافريقية واليهودية اليمنية.
النافل أن وتيرة الاهتمام بدراسة الاسلام والتراث العربي، زادت بعد "غزوة" 11 أيلول عام 2001 وما حملته من تداعيات سلبية وتصدعات ثقافية وسياسية بين الإسلام والغرب، ومن دون الخوض في الصورة النمطية السلبية عن الاسلام التي تشكلت في اذهان بعض الغربيين. بات العالم على موعد مع مواقع الكترونية متصادمة متابينة، فتناول شخصية نبي الاسلام مثلاً يراوح بين تمجيده وتقديسه وربط كل حياته بالمعجزات والخوارق من المعراج الى الطب، وبين من يحاول ربط قصصه بالطب النفسي والعيادي والصرع والجنون، إلى جانب محاولة بعضهم الإغراق في البحث عن الأصل القرآني.
في زمن الانترنت، سقط شغفنا السابق وحماستنا للكتب الممنوعة أو التي تتحدى المحظور و"التابو". بتنا نجد بين أيدينا دراسات في أحوال الدين لم نكن نتوقع أن تكون في يوم من الأيام في مكتباتنا، وهي متوفرة ورقياً وإلكترونياً وقرصنة. والحال، أنه بسبب شبح المحظورات والممنوعات واعداء الرأي، بقي كتاب "الشخصية المحمدية أو حل اللغز المقدس" للشاعر العراقي معروف الرصافي ممنوعاً طوال سبعين عاماً وقد صدر قبل سنوات، وحصل التباس حول انتشاره، وجرت شائعات حول منعه، لكن في كل الاحوال صار متوفراً لمن يريده. بمعنى أن الرقابة فشلت في الحد من انتشاره، ولا يزال يدار السجال حوله حتى الآن، وهو حين صدر تحول لغزا للنقاش، فأدلى كثيرون بدلوهم، ومنهم من رأي ان الكتاب ليس من تأليف الرصافي علماً أن مخطوطته متوفرة في المجمع العلمي العراقي، مما يســتدعي العودة إلى عدد من المصادر والمراجع التي تكفل بتّ نسبة الكتاب إليه أو عدمها. وقد طغت على بعض المساهمات النزعة التكفيرية... الخ.
نشعر بمتعة معرفية في قراءة الرصافي الجريء في تناول قضايا قديمة لكنها لا تزال "تعشش" بيننا. السؤال الملحّ: ما مدى تأثير كتابه في القراء في العالم العربي؟ كسر الرصافي "الأقفال التراثية" ووضع الأمور التاريخية في دائرة التفكيك وحل الالغاز، ولو قُرئ الكتاب جيداً من القراء العرب، لتغيرت أمور كثيرة في النظرة إلى الدين والتاريخ، لكن يبدو أن الأمور ليست بهذه السهولة. فأن نكتب دراسة جريئة أو بحثاً أو رأياً، ليس بالضرورة أننا مؤثرون في الرأي العام، لأن الفضائيات الدينية تبدو مثل وحش يلتهم الجميع، وخطب الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله المتوترة تلهم الألوف من الجمهور، أكثر بكثير من اجتهادات العلاّمة الراحل السيد محمد حسين فضل الله.
ما نقوله عن كتاب الرصافي، ينطبق على كتاب "تاريخ القرآن" للمستشرق الألماني ثيودور نولدكه الذي ترجم الى العربية بعد أكثر من سبعين عاما على صدوره، وجاء في تقديمه: "ليس الغرض من الجهد العلمي الذي يضم نتائجَه هذا الكتاب الحطَّ من قَدْر القرآن الكريم والنبي محمد. إنه، بالأحرى، محاولة علمية صادقة لاستكشاف مضامين مهمَّة في الكتاب العزيز، بواسطة ربْطِها الوثيق بشخص النبي وحيوية دعوته. وهذا يقتضي معالجة نصِّ القرآن كما وَصَلَنا، مع طرح التساؤلات حول الظروف التاريخية التي أحاطت بنزوله وروايته عِبْر التاريخ". النافل ان المديرية العامة للأمن العام اللبناني، كانت قررت بناء على طلب تلقَّتْه من إحدى المرجعيات الدينية، منع تداول كتاب "تاريخ القرآن"، الذي صدرتْ ترجمتُه في نهاية العام 2004، فضلاً عن "سحبه من المكتبات واتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة"، باعتباره، كما جاء في طلب المرجعية الدينية، "يثير النعرات الطائفية"، لكن انتشار الكتاب على الانترنت في البلدان العربية وفي المكتبات كان أقوى من المنع. لكن أيّ تأثير لنولدكه في المرحلة الراهنة؟ بالطبع، تأثيره يقتصر على النخب، أما العوام فبعيدون عنه سفر سنة، فسلطة الواقع أقوى بكثير من سلطة النص. وثمة من يجد في كتابي "تاريخ القرآن" و"الشخصية المحمدية"، مضموناً واحداً بمؤلفين، أو كتاباً واحداً بشكلين.
محمد والفرويدية
على شبكة الانترنت، كان انتشر كتاب "من محمد الإيمان الى محمد التاريخ" للباحث التونسي الراحل العفيف الأخضر الذي مُنع من الكتابة في أكثر من منبر بسبب مواقفه من الأصوليات والدين، وكتابه عن محمد الذي انتشر انترنتيا سرعان ما صدر ورقياً. اعتبر كثيرون أنه سيثير جدالاً كبيراً، فهو يقدم رؤية تستعمل علم النفس التحليلي لشخصية نبي الاسلام. من يقرأ تقديم الكتاب يدرك مدى طوباوية العفيف الأخضر وجذريته في الوقت نفسه. منذ الصفحات الاولى للكتاب يكشف لنا الغاية الاساسية من مؤلفه فيقول لنا حرفياً: "الذهنية العتيقة، ذهنية التقديس الساذج لنبي الاسلام، السائدة إلى اليوم، لم تعد ملائمة للذهنية الحديثة النقدية. التقبل الأعمى لكل ما ترويه السيرة من معجزات محمد، ينبغي ان يخلي مكانه للارتياب، للبحث والتنقيب، لاكتشاف ان التصديق بهذه المأثورات هو من تأثير الانبهار الأعمى بها".
يعتمد العفيف الاخضر في دراسته لشخصية نبي الاسلام على القرآن كوثيقة تعكس شخصية الرسول وتكشف عن حياته حيث يقول: "المرجع الاول هو القرآن في قراءة غير مسبوقة، بما هو سيرة ذاتية لنبي الاسلام". على رغم أهمية الأفكار التي يطرحها العفيف الأخضر، تبدو أصولية من نوع آخر، تمارس "نبوة" المثقف في مواجهة نبوة محمد، تهلل من اجل أصولية علمانية على الطريقة الأتاتوركية، إذ يغلب على بحثه منطق البيان الإيديولوجي النفسي من أجل التغيير، يعتبر أن "رحلة البحث عن محمد التاريخ تهدف إلى العثور، وراء محمد الإفتراضي، كما تقدمه السيرة، على محمد الحقيقي بمقاييس علوم الأديان المعاصرة". في كل مسارات تتبعه لشخصية محمد، يستعين بالتحليل النفسي وينبئنا بأن "كتابه هذا بمثابة وصيته للمؤمنين والمسلمين قبل وفاته وهو يعيش لحظات حياته الأخيرة مصاباً بمرضه العضال حيث يقول: "في بداية 2013. وفي مناخ اسلاموفوبيا مخيف (في فرنسا) أكتب هذا البحث عن محمد التاريخ، في مرضي الأخير بالسرطان، الذي أثر، خاصة في الشهور الاخيرة، في جميع قواي عدا الفكرية، جاعلا منه أيضاً وصيتي الفكرية للباحثين بعدي، عسى أن ينطلقوا منه نقدياً لتوسيع، وتعميق، وتعميم الموضوعات الاساسية فيه، وفي إصلاح الإسلام، بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان". في مكان آخر يقول: "أتوقع من تقدّم العلوم النفسية، في تشخيص الأمراض العقلية، أن يساعد باحثي الغد، على التمييز شبه الكامل للسيرة الحقيقية لنبي الإسلام، من السيرة التخييلية، التي نسجتها له رغبات المؤمنين وتخييلاتهم الجامحة، الميالة للإرتفاع بالأسلاف إلى مرتبة المثال، بل إلى مصاف الكائنات الفوق - طبيعية. لأن ذلك يرضي نرجسيتهم الجمعية الدينية". محنة العفيف الأخضر أنه يريد أن يرضي نرجسيته أيضاً. يزعم امتلاك الحقيقة، ويقدم اسقاطات نفسية لا حصر لها ليثبت ما يريد قوله عن نبي الاسلام. بالطبع ثمة جوانب محق فيها، لكن ثمة جوانب كثيرة غير مقنعة، وربما مستهلكة من أكثر من مصدر، خصوصاً على مواقع الانترنت، وأحياناً يغرق في مدح المستشرقين وأهدافهم اللاهوتية "البريئة"، مع علمه أنهم كانوا "طبقات" متناقضة، فبينهم من هو جيد وبينهم من هو سيئ.
ليست المرة الأولى يُنظَر الى الاسلام والنبي من منظار التحليل النفسي في العالم العربي، إذ سبق لفتحي بن سلامة أن أصدر كتاب "التحليل النفسي للاسلام"، الذي يريد أن يقحم الإسلام في العلوم الانسانية التي لا تنظر إلى الاسلام بمنظار الإله بل بمنظار الانسان، وليس الكتاب تحليلاً نفسياً للاسلام، ولا تحليلا لنفسية المسلم، بل هو قراءة في الأرشيف التوحيدي، لا تكاد تستعمل المواد والحالات العيادية التقليدية في التحليل النفسي، لكنها ترتبط ارتباطاً لصيقاً بالتفكير العيادي. تكتب مترجمة الكتاب رجاء بن سلامة في تقديمه: "لأوضح أولاً مدلول الأرشيف كما بيّنه جاك دريدا وكما أفاد منه المؤلف. الأرشيف هو النص المرتبط بالأمر والبدء والسلطة، والأثر الذي تحيط به حراسة دائمة، وهو من هذه الزاوية مختلف عن الذاكرة، لأن الذاكرة لا توجد إلا انطلاقا من الحاضر، ويشتغل الكتاب على الاثنين، الأرشيف والذاكرة، فيدعونا عبر فصوله المتعاقبة الى وقفات تأمل في: "هذيان اللجوء الى الأصل"، كما يدعونا عبر الأرشيف الاسلامي إلى رحلة تذكر لأهم المكبوتات التي تأسست عليها المنظومة الاسلامية".
القرآن في محيطه
قبل كتاب العفيف الأخضر، كان صدر كتاب "القرآن في محيطه التاريخي" لمجموعة من المؤلفين، مثير للجدل، ولكن ليس من جانب أنه يعتمد التحليل النفسي لشخصية نبي الاسلام، بل من نواحي الأصول اللغوية للنص القرآني. فالنافل أن ثمة دراسة لكريستوف لوكسمبرغ (اسم زائف) نشرت بعنوان "القراءة السريانية – الآرامية للقرآن" وأثارت انتباهاً شعبياً واعلامياً، دفعت الكثير من الباحثين إلى الاهتمام بهذه القضية، ونشرت حولها بعض الدراسات الاجنبية المترجمة على مواقع الانترنت. بالطبع، بعض هذه الدراسات فيها شيء من الجموح، فمجرد أن تكون القضية تخص القرآن فهي تدغدغ أفكار بعض الكتاب الذي يعيشيون الاسلاموفوبيا، لكن دانيال ماديغان من الجامعة الغريغورية البابوية في روما، يقول في تصديره كتاب "القرآن في محيطه التاريخي" إنه "بسبب الافتراضات المسبقة التأويلية واللاهوتية التي اعتمدت كأساس في عمل لوكسمبرغ، والافتقار إلى فهم واضح لكيفية عمل وتكوّن اللغة، يتساءل المرء عما إذا لم تكن مقاربته توحل المياه بدلا من أن تنقيها". يضيف ماديغان "ان لوكسمبرغ يقترح أن "يفك" لنا المعنى الاصلي للقرآن، الذي وقع حتى الآن – كما يدّعي – سجين عجز التراث الاسلامي عن فهم وتقدير دور السريانية – الآرامية في تشكيل القرآن ولغته. خلف ذلك الهدف، يكمن افتراض أنّ المعنى الحقيقي للقرآن يجب أن يعثر عليه في النص نفسه، أو على الأدق خلف النص في فكر الكاتب الأصلي". إنه على ما يبدو "يناصر التفسير القائم على إعادة تركيب النص وترتيبه عند شيلرماركير أو ديلثي، تاركاً بدون فحص النقد المهمّ لغادامير والكم الهائل من البحث حول قضايا التفسير التي جرت في القرن الماضي".
يصنف ماديغان كتابة لوكسمبرغ ضمن السذاجة التفسيرية التي تنشئ الجاذبية الشعبية، والاستجابة الشعبية، وقد استجاب بعض الباحثين أيضاً لعمل لوكسمبرغ الذي "يعكس في ما يبدو أملين متنازعين – الأكثر سلبية فيهما هو اشتهاء رؤية أسس القرآن بدون مصداقية، ومعها إيمان المسلم. والأكثر ايجابية هو الأمل بقراءة جديدة تشكل قاعدة علاقة بناءة بين اولئك الذي قرأوه بإيمان وأولئك الذي قد لا يسحبون وحيا". سعي الباحثين الى امتلاك النص القرآني يتم من دون الانتباه إلى ان بضعة عناصر من التوراة هي صياغة جديدة لمادة من تراث ديني آخر في الشرق الاوسط القديم.
كتاب "القرآن في محيطه التاريخي" هو ثمرة مؤتمر نوتردام. دراسات القسم الأول جميعاً تجابه، المشاكل التي عرضتها آخر الخلافات في الدراسات القرآنية، تكامل الفيلولوجيا والتاريخ. ان كان لوكسمبرغ يتجنب الاعتبار التاريخي لنظرياته الفيلولوجية، فإن مجموعة من الباحثين تأخذ على عاتقها تلك المهمة هنا. بل أكثر من ذلك. يقدم الباحث فريد دونر تقويما للتحديات التي تواجه الدراسات القرآنية، اذ ينظر الى الخلف على مدى تاريخ الحقل، والى الأمام في مستقبله. ويقدم روبرت هويلاند ما يعتبره اصل دليل مادي واعد عن جذور القرآن، وهو نقوش كتابية عربية، ويحلل علاقتها بالنظريات العلمية الشائعة. ويدرس غيرهارد بويرينغ القيمة الجوهرية لا لنظريات لوكسمبرغ فحسب، ولكن، الى جانب ذلك، لنظريات جوزف قزي. والنافل أنه في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، ظهرت دراسات نقدية عن الإسلام والمسلمين. وبرز في تلك الفترة اسم "أبو موسى الحريري" ومن أشهر مؤلفاته "قس ونبي" و"نبي الرحمة". تبيّن لاحقاً أنَّ أبا موسى الحريري راهب يدعى جوزف قزي. ثم ظهر بعد فترة اسم لوكسمبرغ الذي وصف غيرهارد بويرينغ كتابه بأنه مأخوذ من كتب جوزف قزي، مما دفع الباحث رضوان السيد للشك في كون لوكسمبرغ هو نفسه جوزف قزي. لكن هذا التصور خاطئ، لأن لوكسمبرغ هو في الواقع اسم "أدبي" لكاتب سرياني من بلادنا.
كان يمكن لكل دراسة في "القرآن في محيطه التاريخي" أن تكون كتاباً بحد ذاته، وكان يمكن لبعض الدراسات اللغوية أن تكون ضمن علم الألسنيات وليس هدفها رد النص القرآني إلى الأصل السرياني الآرامي وما شابه، فيصل المضمون بهدوء إلى القارئ من دون ادعاءات القبض على الحقيقة أو القبض على ما يمكن تسميته النص الأصلي من القرآن. فكل الكتب السماوية هي نتاج تراكمات الشعوب وخرافاتهم وهذياناتهم. هناك مئات الدراسات التي تتحدث عن أصول الحكايات التوراتية والانجيلية والقرآنية، وهناك عشرات الدراسات التي تقيم مقارنات بين لغات الشعوب ولغات القبائل، وتجد تقارباً بينها في الشكل وفي المضمون، فكيف الحال اذ تحدثنا عن الآرامية والعربية. المميز في كتاب "القرآن في محيطه التاريخي" وبغض النظر عن غرضية بعض كتابه، أنه يخرجنا من القوقعة والجمود والتراث المقفل والنظرة الأقنومية الى النص التي ينتج منها جمود في الوعي الجمعي في العالم العربي.
إنه الموت
سقطت الرقابة في زمن الانترنت، وإن لم تسقط، فقد تضاءلت كثيراً، بالطبع مع بقاء الرقابة الذاتية لدى الكثير من الكتّاب والمهتمين بالشأن الثقافي. لا تختلف الرقابة الذاتية كثيراً عن الرقابة السلطوية أو الدينية، وأيا تكن الرقابات أو الحريات، في المدى القريب لا يبدو أن الكتب والدراسات الفرويدية والعلمية والعقلانية واللغوية المضادة للخرافة في السيرة النبوية أو الإسلام أو الدين عموماً ستؤثر كثيراً في الوعي الجمعي للأجيال الجديدة. لقد تطورت الدراسات التي تبحث بين سطور الأشياء، في المقابل ازداد التطرف أضعافاً مضاعفة، إلى درجة أن مجموعات ارهابية لديها قدرة على إقناع الشبان بالانتحار من خلال الأحزمة الناسفة او السيارات المفخخة. كم يبدو صعباً ترويج الأدوات المعرفية الثقافية تحديداً، وكم يبدو هيّناً ترويج الأفكار الهمجية والتعسفية. لنتخيل كيف أن فتوى وهمية اسمها "نكاح الجهاد" أثارت جدلاً ونقاشاً وبلبلة أكثر بكثير من الكتب الفكرية والدراسات وعلم اللغات التي يتكبد صاحبها سنوات في تأليفها، والقضية الأساس في المستقبل لن تكون أيهما سينتصر، التطرف أم الدراسات العلمية؟ ليست القضية في أصل القرآن وفصله وليست في مسار السيرة النبوية، بل في التربية الاجتماعية وما يحمله المرء في حياته من أفكار، والأخطر من ذلك هو سؤال الوجود في هذا الزمن، فلا الفلسفة تقدم جوابا مقنعاً عن العالم الآخر ولا الدين ولا العلم، وسؤال الموت بات اللغز الحقيقي والجواب عنه يبدو شائكاً، ويجعل كل الاشياء مجرد تفاصيل.
على رأي أحد الأصدقاء، أقفلت أسوج سجونها، ولا نزال في الشرق نبحث تداعيات معركة صفين.
عن جريدة النهار.
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |