قصة / النزول من عتبة البحر
2006-04-10
"الطاهر مشى فوق الماء".. هكذا صرخ الأطفال شبه العراة، وهم يخرجون ركضاً من البحر باتجاه قريتنا ناثرين رذاذ البحر حولهم كأمطار تصعد لأعلى.
ابتعدت صرخاتهم, وبدأت شيئاً فشيئاً أدرك ما حولي، كنت واقفاً على الماء بينما ظلي يمتد أمامي بلون فضي يتلألأ بمئات المرايا الصغيرة الرجراجة. الماء يدوم تحت قدمي عبر غلالة رقيقة، ما الذي يحدث لي؟ تمشيت هنا وهناك، أوغلت، لكن الماء بدا لي كبساط ممتد إلى البعيد عصي على الاختراق.
على الضفة بدأوا يتجمعون شيئا فشيئا.. أخبار الكرامات تسري هنا كأسراب الجراد.. عكست الريح اتجاهها فحملت إليّ صوت لغطهم على الشاطئ.. رفّ طائرٌ بقربي ورمقني بنظرةٍ من عينيه السوداويين. أتقدم على سطح الماء باتجاههم. تتضح ملامحهم. رجال ونساء أكثرهم من قريتنا، مع بعض الغرباء.. يتراجعون مفسحين لي دائرة كبيرة من الطين اللزج.. الأرض هنا مألوفة.. كنت أكثرهم حيرة ولا أدري ما الذي علي فعله. لا أدري من قالها: "شيخ الطاهر العوام". انحنى على يدي .. جفلت.. أنا ابن الثانية عشرة يقبل الناس يدي.. قفزت إلى الخلف.. التفت إليه.. كان عجوزا في السبعين، بقيت شفتاه الشاحبتان معلقتين في الفراغ.. منظره في انحناءته تلك، محروما من بركتي وقد أخذت عيناه تغرورقان بالدمع؛ قبض صدري.. حشرج: "شيخ الطاهر العوام ما تحرمنا بركتك". دفعه أحد الشباب "ابتعد.. ما كل واحد بستاهل البركة"، وأمسك بيدي يقبلها... حاولت سحبها.. لكن المتدافعين كان كل منهم يسلمها للآخر "أنا عاقر أديني ولد..".. "الشفاء من.. يا شيخ الطاهر العوام.."، كدت أصرخ: "أنا لست شيخاً، ولم أسبح".
"أبونا الشيخ بناديك.." صرخ أحد الأطفال من خلف الجموع المتزاحمة.. وتراجعوا.. بدأت أمشي باتجاه القرية، و نظرات الناس من حولي تقيد أقدامي.
وجدته جالساً على حصيرة الصلاة.. مطأطئاً.. سبحة كبيرة تلتف حول عنقه لترقد في حجره ملتوية كثعبان.. على رأسه طاقية خضراء ذات فتحات كبيرة تخرج منها شعيرات سوداء وبيضاء..
.. تك.. تك.. تدور بهدوء سبحة لالوب صغيرة داكنة الصفار في يده.. رفع رأسه.. توقفت السبحة.. نظر إلي بقوة.. قطب.. تكونت أخاديد بصعوبة على جبهته..
خفضت بصري.
"ليه....؟"
"ما عملت حاجة.."
"ليه ما عملت حاجة..؟".. بهتّ.. لم أدر ماذا أقول..
قلت بصوت منخفض: "كنت داير أسبح"
حنى رأسه.. بدت السبحة تدور.. هدأ قليلاً.. قال بصوته الرقيق الذي يدعو به بعد الصلاة:
"أتوا إليّ يشكوك.."
"منو؟.. ليه؟؟"
"الأرض التي تركتها.. البحر الذي مشيت فوقه.. العجوز الباكي.. العاصي الذي قبل يدك.. الطفل الذي لن يولد.. كل من سمع بك ولم يرك"
لا أدري ما أقول..
"اذهب الآن.. في الصباح نذهب للبحر".. قالها كمن يكلم نفسه.
رجعت إلى غرفتي.. ماذا فعلت؟.. ماذا سنفعل؟.. نمت في وقت متأخر.. الأحلام تزاحمت عليّ.. بحر.. شخص يسجد.. طائر بعينين سوداوين.. أطفال يسبحون بمرح في بحر من الألوان.. خلق كثير، وأشياء مبعثرة لم أستطع تذكرها في الصباح.
بدأنا المسيرة بعد صلاة الفجر، خلفنا الكثير من الناس، همس لي أحدهم أن هناك أشخاصاً كباراً جاؤوا من العاصمة..
عند الشاطئ كانت الشمس قد بدأت تستيقظ من فراشها المائي، و في الجو مازالت برودة الفجر تلسعنا مع هبات الريح.. بنظرة من الشيخ توقف الجميع على مبعدة منا. تقدمنا باتجاه البحر. وقفنا أمامه طويلاً. مازال يحتفظ بغطائه الليلي الأسود. صوت أمواج صغيرة تضرب الشاطئ كان كل ما يمكن سماعه. تقدمنا أكثر. الماء البارد يلامس أقدامنا في تتابع رتيب. تسري فيّ رعشةٌ قوية. يضع يده علي كتفي: "لا تخيب ظني.."
أتقدم.. الطين لين تحت قدمي.. تتبلل أطراف ثوبي.. أتذكر ملمس بشرتها.. تغوص قدماي في الماء البارد.. أفرح.. لماذا أموت الآن؟.. يرتعش جسدي.. الرياح تزيد من البرودة.. أنتشي.. هل كانت أمي.. ألتفت إلى الخلف.. الجموع صامتة.. لماذا أموت الآن؟.. والدي يبدو عليه الرضى.. أتقدم باتجاه الشمس التي ارتفعت فوق الماء ناشرة رداءها الأرجواني.. تأخذني في حضنها.. لماذا أموت الآن؟.. الماء قاتم قليلاً.. يرتفع.. يصل إلى منتصف ساقي.. بطني.. أتقدم أكثر.. أرتعش أكثر.. لماذا؟.. أتمنى أن أتعرى وألهو في الماء.. جذور عشبة ما تدور مع دوامة صغيرة.. تختفي.. تظهر من جديد.. لماذا؟.. يصل الماء إلى صدري.. يصبح بلون شفاف.. تقبلني.. أخجل.. تضحك وتقول لي "لست كبيراً كفاية لتخجل ..".. لا أستطيع أن أمضي أبعد.. لماذا؟.. ألتفت إليه على عتبة البحر.. ينظر فقط إلى البعيد.. الشاطئ أيضا بعيد.. لم أظن أنني أبتعد كثيراً هكذا.. لماذا؟.. أتقدم.. الصوت كأنه قادم من مكان بعيد في صدري.. صوتي أم صوته ؟.. لا أدري.. يصل الماء إلى فمي.. طعمه ليس سيئاً أبداً.. لماذا؟.. كأنه.. لا أذكر.. لا يمكنني أن أمضي أبعد.. تنهار الأرض تحت قدمي.. لماذا؟.. أجفل.. أغوص.. أضرب الماء من حولي.. يخرج رأسي في تتابعات صغيرة.. أراه واقفاً في نفس هيئته.. لماذا؟.. يأتي الصوت من داخلي "عوم..".. أضرب الماء بكل قوتي.. يخرج رأسي.. أصرخ "الحقوني.."، أكثر من شخص يخلع ثوبه ليقفز خلفي.. يمنعهم الشيخ أبي.. لماذا؟.. وجهه الآن قريب.. أرى ملامح وجهه والسكينه تعلوه.. طعم الطين يملؤني.. تهمد حركتي وأبدأ في الغوص لأسفل بهدوء... أراه من قاع النهر.. وعبر ظلمة الماء والطين المهاجر من بلاد بعيدة.. لماذا أموت الآن؟.. ينظر إلي.. يكلمني.. "أحسنت.." يرددها "أحسنت.." لماذا؟.. أراه.. أسمعه.. "أخرجوه!".. يقفز اثنان، يسبحان كسمكتين "كل ما كنت أريده أن أسبح مثلكما.." لا يسمعاني.. يمدداني على الشاطئ أمام الشيخ.. البعض يبكي بنشيج مكتوم، وآخرون مذهولون.. وحده الشيخ يحمل وجه علامة الرضى وعلى لحيته أثر لبلل خفيف...
….
" استووا.. استووا لصلاة الجنازة.. الغريق شهيد".. يتلاصقون.. نساء.. رجال.. حيوانات.. أطفال.. شباب مبللون بالماء والفتوة.. وأنا أمامهم, وأمام الشيخ.. لا تتحرك شفتاه بصلاة الجنازة.. تبدأ من خلفه ململة ضعيفة.. الصوت يأتي من جديد من صدري.. "الآن " أصلي على.. يرتفع صوتي.. "البحر للسباحة أو الغرق.." يقول خلفي "أمين.." الناس ملجومون بالصمت والحيرة.. "المرأة العاقر لا تلد.. آمين.." أنا أموت لتبقى الأرض أرضاً، والماء ماء.." يقول آمين.. وبصوت خافت متردد يرددون.. آمين.. أردد.. الآن ..الآن.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |