الهويّة، المذهب الديني، المواطنة - أحمد بيضون
2014-01-02
في زماننا هذا، أصبح أوّل وصف يجري على اللسان، إذا ذكرنا الهوية، هو أن الهوية مركّبة. فالإنسان ينتسب إلى جماعات كثيرة أوسعها جماعة البشر. بعض هذه الجماعات طبيعي وبعضها مكتسب وبعضها عرفي وبعضها طوعي. وتتشكّل هوية المرء من تداخل الهويات الكثيرة التي يجعلها له هذا الانتساب المتعدّد أو من تَجاوُرِها. بعد التعدّد يتراءى لنا التراتب والتنازع على أنهما سمتان لنظام الهويات الذي نحن حصيلته.
تفرض هاتان السمتان نفسيهما على وجداننا عندما نتأمل في ما نسمّيه هويتنا الوطنية وننظر في العلاقة بينها وبين هوّيات أخرى من قبيل الانتماء العشائري أو العائلي أو التأصّل في جماعة حضرية أو منطقة ذات تميّز إثني من مناطق البلاد، إلخ.، أو الانتساب إلى مذهب ديني أيضاً بل على الأخص. كثيراً ما نذهب عفوَ الخاطر إلى افتراض نوع من المفاضلة أو المغالبة بين هويتين جعلتهما ظروف بعينها تتقدمان معاً إلى مجال تأملنا. فنقول مثلاً إن مصلحة الوطن يجب أن تعلو على مصلحة الطائفة أو يقول بعضنا إن وحدة الطائفة أولى بسعينا من تضامن العشيرة، إلخ. والحال أن المفاضلة أو افتراض التغالب كثيراً ما يتأتى من الإحجام عن التعيين المحقق لطبيعة كل من الهويات أي لمضمونها ومجالها وللعلاقة التي يصحّ افتراضها بناءً على هذا التعيين من غير افتئات ولا تجاوز للحدود بين هذه الهوية وسواها.
والحقّ أن هذا التعيين لا يبطل التنازع بالضرورة. فكثيراً ما تظهر بين هويتين مضامينُ مشتركةٌ تجعل المغالبة أمراً محتملاً بين الجماعتين اللتين تستمدّ كلّ منهما تماسكها من إحدى هاتين الهويتين. وكثيراً ما يتبيّن أن المضمون الذي تصحّ نسبته لكلّ هوية، والنطاق الذي يصحّ اعتباره نطاق فعلها، هما أبعد ما يكون البعد عن الوضوح واستقرار الصورة. فهما يبدوان، في الأغلب، وعند التنازع خصوصاً، في حالة هي أقرب إلى الفوران والسيولة تحمل المتعصبين لكلّ هوية على تكثير محتواها والتوسيع من نطاق صلاحيتها والتماس الشرعية لوجوهٍ متكاثرة تعتمدها للتعبير عن نفسها.
على أن مواجهة التداخل بين الهويات والاجتهاد في رسم خطوط الفصل بينها على نحو لا بدّ أن يحدّ من حالات التغالب وكذلك العمل لبيان بطلان الحاجة إلى افتراض التراتب بينها حين تلزم كلّ منها طبعها الأصيل ونطاقها تبقى أموراً ثابتة الضرورة، في كل حال، وإن تكن ضرورتها تزداد بروزاً في الأزمات الناشئة عن تزاحم الهويات. فالقول مثلاً إن الانتماء الوطني يجب أن يعلو العلاقة المذهبية تقتصر صحته على النطاق الذي تشغله العلاقة الوطنية، ولا يمكن أن يقصد به الحضّ على تقييد التقوى أو على الحدّ من حرارة الإيمان. بل إن هذا المثل يوضح إمكان استبعاد التغالب بين الهويتين حين لا تتنافسان في شغل الميدان السياسي بجماعتين قابلتين للتنازع.
لا حاجة إلى القول، من بعد، إن هذا الشرط الأخير ليس بميسور التحقيق ما دامت الطوائف تنحو، بما هي طوائف، إلى التشكل السياسي. فالتنازع بين قطبَي الهوية الطائفي والوطني أوفر احتمالاً من غيابه ونحن نعاينه حولنا هنا وهناك وهنالك. يعزّز هذا الاحتمال أيّما تعزيز انتشار المذهب بين أقطار مختلفة لا يمنع مانعٌ حصولَ التضارب أو التباين، في الأقل، بين مصالحها، وجنوحَها إلى استثمار المذاهب في التنافس بين الدول. وتجد الطائفة أو الجماعة المذهبية نفسها مغراةً بتعريض التماسك الوطني لقاء منافعَ وعواملِ قوةٍ وتفوّق يوفّرها مصدر الدعم المذهبي. يفضي هذا الجنوح، دون عُسر، إلى تشكيل المذاهب وحداتٍ سياسيةً خارقة للحدود الوطنية وإلى امتحان وحدة الجماعة الوطنية امتحاناً يسعه أن يصبح عسيراً في هذه الدولة أو في تلك، فتنزلق معه البلاد إلى شفير الحرب الأهلية أو تغوص في هاويتها.
هذا الاشتراك التنافسي بين الدولة والمذهب أو الطائفة في رسم الهوية السياسية لمن ينتمون إليهما معاً ليس بالأمر الذي يُتلقى في شرق الكرة وغربها (كما قد توهمنا أُلْفَتُنا له في بلادنا هذه) على أنه قاعدةٌ تامّة الشرعية أو قَدَرٌ لا يُردّ. فإن ثمة شبهاً كثيراً ما أشيرَ إليه بين الأممية الشيوعية الآفلة والأممية المذهبية الصامدة. ذاك أن كلتيهما تَحْمل صورةً للمجتمع تُحْدث صدعاً فيه يتعذّر لأْمُه وأن كلتيهما تنحو نحو رهن مصير المجتمعات الصغيرة أو الضعيفة بإرادة مجتمع كبير أو قوي تستقرّ في يده دفّة الأممية فيجنح بحكم موازينه الداخلية (وليس بحكم سوء نية تتّصف به قيادته بالضرورة) إلى تغليب دواعي حماية النظام القائم فيه ومصالحه الاستراتيجية على كلّ اعتبارٍ آخر بما فيه مصالح الجماعات الملحقة ومجتمعاتها.
اليوم يفجؤنا مشروع الدستور المصري الجاريةُ مناقشتُه إذ ينصّ على منعِ إنشاء أحزابٍ سياسية ذات منطلق أو أساسٍ ديني. فنحن قد لا نعلم أن كثيراً من الدول (بينها مصر قبل ثورتها الأخيرة) نَحَت هذا المنحى. وهي دولٌ ليست كلّها صغيرةً أو متوسطة أو ذاتَ علاقةٍ مُشْكلةٍ بالديموقراطية. وهذه أوصاف يتمثّل بعضها أو كلّها في الجزائر والمغرب وبوركينا فاسو وقازاقستان، إلخ. بل نحن نحصي بين هذه الدول واحدةً هي روسيا تجمع إلى العضوية في نادي الدول الكبرى زَعْمَ الديموقراطية. وقد تجب الإشارة إلى أن رئيس فرنسا نفسه صرّح، قبل أشهر قليلة، بسَرَيان هذا المنع في بلاده مع ما هو معلوم لبلاده من العراقة الإجمالية في رعاية الحريات. ولكن علينا أن ننوّه أيضاً بأصواتٍ انْبَرَت منكرةً هذا الأمر، تسند إنكارَها إلى وجود حزبٍ صغير، في فرنسا، لم يبْدُ أنّ حَمْلَه اسمَ الحزب الديموقراطي المسيحي جَعَل السلطات تبدي رغبة ما في حلّه. عليه بقيت مسألة المنع أو عدمه معلّقة. ولعلّ العزوف الشعبي العامّ، في فرنسا وفي دولٍ أوروبية أخرى ذات تراثٍ ديموقراطي راسخ، عن اتّخاذ الدين أساساً للانتظام السياسي هو ما يفسّر الاستغناء عن الحسم الصريح، في القوانين، للمسألة التي أبرزَتْها المواجهةُ بين رئيس فرنسا ومعارضيه. ولعلّ تنامي الإسلام السياسي ذي الصفة النضالية في هذه الدول، هو ما راح يفرض جدلاً لم يكن الداعي إليه ماثلاً حتى عهدٍ غير بعيد.
على أن لمنع الانتظام السياسي على أساس الدين أو المذهب، حيث هو سارٍ، سَنَداً يتعدّى الظرفَ السياسي إلى الأساس الحقوقي للأنظمة المتمثّلة حقوقَ الإنسان بما تنطوي عليه من تحريمٍ للتمييز بين البشر على أيّ من أسسٍ عديدة بينها الدين ومنها الجنس والعرق، إلخ. فإن الانتظام السياسي على أساس الدين يُفْهَم ههنا على أنه وجهٌ آخر للتمييز بين المواطنين على أساس الدين ولزَرْع الفرقة بين عناصر الأمة. أقول هذا لا لتأييد التحريم المستقى من هذا المشرب في مصر أو في غيرها. فإن اعتماد المنع دَرْءاً لميلٍ جامح في صفوف الجمهور أسلوبٌ لا طائلَ تحته بل هو لا يعدو زيادة الحال سوءاً وتقريباً لانتشار العنف في موضع السياسة. على أنني لا أزكّي أيضاً صيغةَ الأحزاب الطائفية أو المذهبية يتوزّع بينها المجتمع السياسي وتتواجه فيه. وقد كان مني أن عرَضْتُ مراراً صورة المصاب التاريخي التي باتت صورةَ هذين التوزّع والمواجهة في الحالة اللبنانية. ولا أرى الصورة تختلف كثيراً في أية بلادٍ ذات مجتمع مختلط، لجهة الأديان أو المذاهب، يحلّ بها هذا المصاب.
قبل سنوات كثيرة اقترحتُ اسماً للمساق الذي يصل بالعضو في المجتمع المتّخذ صورةَ الدولة إلى حالة المواطنة. اقترحت تسمية ذلك المساق "عمل التجريد السياسي" (راجع كتابنا "لبنان الإصلاح المنشود والخراب المنشود"). وقد كان لا بدّ من إظهار هذا المساق بتسميته ووصفه لإبراز صفته التاريخية: أي اختصاص مرحلةٍ من التاريخ به لم يكن متحصّلاً قبلها وافتراض شروطٍ بعينها يحقّقها هذا المساق فتتحقّق معها صفةُ المواطنة ويتبدّى أنها صفةٌ اختصّت بتوفير إمكانها هذه المرحلة التاريخية نفسها.
وقد ضربتُ مثلاً لاختلاف حالة المواطنة عن حالة أخرى سبقتها إلى الوجود وبقيت موجودة معها عنوانَ كتاب للداعية المصري خالد محمد خالد ظهر قبل نيف وستين سنة. عنوان الكتاب "مواطنون لا رعايا". وهو يشير إلى أنظمة كانت العلاقة فيها بين الحاكم والمحكوم علاقةً بين الراعي ورعيته. وهذه علاقةٌ تبدو ملتبسة ولكن يظهر أن علينا قبول هذا الالتباس مفترضين مطابقته الواقع بوجهيه. فالرعية يرعاها الراعي، أي يدبّر شؤونها. والرعية تُرتعى أيضاً، أي تؤكل أو يستحوذ على خيرها، في الأقل، من جانب من هي رعيةٌ له.
في الحالين، يبدو أن حكم الرعية في هذه العلاقة هو حكم القاصر الذي لا ولاية له على مصالحه وشؤونه. فإذا وُجِد حدّ لاستبداد الحاكم برعيته فليست الرعية من يرسم هذا الحدّ ولا هي ذاتُ حقّ مؤكّد في منع الحاكم من تجاوزه. وإنما مصدر الحدّ، إذا وجد، مصدر عُلويّ وحقُّ الرعية في إلزام الحاكم هذا الحدّ حقّ معلّق، أصلاً ومقداراً، على ما رسمته الإرادة العُلوية أيضاً. ولا يَبْعُد أن يستبقيَ الحاكمُ في يده، بصفته ممثّلاً للإرادة العُلوية وناطقاً بلسانها، صلاحيةَ الإقرار بوجود هذا الحدّ وتقدير رَسْمه إذا هو سَلّمَ بوجوده.
نكاد نستغني عن القول إن حالة المواطنين مختلفة من وجوهها كافّةً عن حالة الرعية. فالمواطن، من حيث الأصل، لا يدين بالطاعة للحاكم بل للقانون. والمواطن هو المشترع الأخير باعتبار إرادتِه مكوِّنةً لسلطة الاشتراع وباعتبار ما تضعه هذه السلطة من قوانين يرسم حدوداً لسلطة الحاكم بمقدار ما يحكُم سلوكَ المواطن. ويفترض الرُشْدُ في جماعة المواطنين فلا يكون الحكم وصايةً عليها بل يكون إنفاذاً لإرادتها العامّة.
هذا ويظهر لنا مفهوم "التجريد السياسي" جلياً حالما نسأل عما حمل ثورة 1789 الفرنسية على التمييز في عنوان "إعلانـ"ها المشهور ما بين "الإنسان" و"المواطن". فإن "المواطن" هنا يتحصل بتخليصه من الإنسان "الكلي" فيستوي كائناً صناعياً يُسْتغرَق في وجوده السياسي أي في انتمائه المرعي بالقانون إلى كيانٍ حقوقي سياسي هو الدولة- الأمة. ييسّر هذا "التخليص" أو "التجريد" تحصيلَ "المساواة" بين المواطنين الأحرار في ما يتعدّى كلّ تباين أو تفاوت لا بدّ منه يكون منشؤه من الطبيعة أو من المجتمع.
على أن في أصل المواطنة تحوّل الإنسان الواحد بما هو كائن كلّي تتآزر في تكوينه وتنشئته الطبيعة والمجتمع إلى "فرد". هذا مصطلحٌ اكتَسَب في العصور الحديثة معنىً لم يكن له قبلها: معنىً أملاه تشكّل حرّية الفرد في بيئة تقرّه عليها إذ تعترف له باستقلاله بنفسه، أو توحي إليه، في الأقل، بأصالة الحرية فيه. والحقّ أن الدول التاريخية لم تكن دائماً دولاً- أمماً ولا كان الأعضاء فيها أفراداً مواطنين. لم يمضِ إلا قرنان وربع قرن، تقريباً، على اتّخاذ المواطنة قيافتها التي نعرفها لها اليوم، وإن تكن العادة جرت على اعتماد ديموقراطية أثينا القديمة دليلاً إليها. كان النساء والعبيد يُسْتثنون من صفة المواطنة في أثينا. لكن النظام كان يقرّ للراشدين من البالغين الأحرار بالتساوي في الحقّ والواجب. وأما الدول ذات الصفة الأمبراطورية، وهي (بتنوّعها) تستغرق معظم تاريخ البشر المدوّن، فكان رعاياها يصنَّفون قانوناً أو عرفاً طبقاتٍ أو فئات متراتبةً. وذلك تبعاً لفروقٍ تعيّنها الطبيعة أو التقليد وتُعْتمد في تصنيفهم، ومن بينها الجنس والدين والنسب والسيادة أو الحرية يقابلها الرقّ أو القنانة، إلخ.
عليه، كان تمام "التجريد"، أي تخليص الفرد المعرّف بالمواطنة، يتحصّل في الدولة الديموقراطية ويستوي، بدوره، شرطاً لولادتها وأصلاً في دستورها. وهو ما يعني أن المواطَنة قيمةٌ تُسْبَغ على الأشخاص بما هم ذرّات الدولة- الأمة وأن المواطنين يُصْطنعون بالقانون ولا يتشكّلون في الطبيعة.
المواطن، إذاً، تصوّرٌ وقيمة يحكمان تشكّل الدولة- الأمة القانوني بما هي جماعة سياسية. يحكم هذان التصوّرُ والقيمة ُأيضاً نظرَ القانون إلى الجماعة بما هي جماعةٌ مدنية أي كثرةٌ من الأحوال والأوضاع والمصالح والمواقف إلخ.، تتميّز بالتفاوت بين أعضائها، أفراداً وجماعات، ويجري تدبيرها وَفْقاً لقِيَمٍ وقواعد متّفَقٍ عليها.
"هذا وإذا كانت سيادة الرأسمالية وغلبة المدن، بما هما موئلان لـ"تذرية" البشر، أي لفكّهم من جماعات النشأة والتقليد وللـ"غفلية" أيضا، قد شكلّتا الأرض التاريخية لنشوء الأفراد، فإن اتّصال الهجرة وتواصل البشر، عبر حدود الدول، قد انتهيا، شيئاً فشيئاً، في عصرنا هذا، إلى تغيير معنى الأمّة ومعه صورة العلاقة المفترضة بينها وبين الدولة، أو، في الأقل، إلى حسم الجدل المتصل بمعنى الأمّة. هكذا راحت الأمّة تبتعد، في واقعها وفي تصوّرها المعاصرين، عن لزوم النسب الطبيعي وحتى عن لزوم الوحدة الثقافية، وتنحو نحو نوع من الوجود التعاقدي تجسّده الدولة ونحو أسلوب دينامي في التشكلّ المستمرّ أخذ يسمّى "بناء الأمم" أو انبناءها. وهو أسلوب يلتمس الوحدة للأمّة في اقتران الولاء الواحد لها بتقبّل الفوارق بين عناصرها وأوساطها، لا في طمس هذه الفوارق أو رفضها. وهو، إلى ذلك، نتاج ضرورة تاريخية (أهم عواملها الاستعمار والهجرة) جعلت وجود الدول يسبق وجود الأمم، في حالات، ويخالف الرسم المفترض للأمّة، في حالات أخرى." (راجع أحمد بيضون، المرجع نفسه، ص 22-23).
تبدو المساواة بين المواطنين، وهي ما يحققه "التجريد السياسي" ويكفله القانون،، متّحدة إذاً بحريّة الأفراد الجدد بما هي أصل في وضعهم يتعدّى الانتماء إلى جماعات الطبيعة والتقليد ويبيح اتّخاذ موقف القبول أو الرفض من منطويات الانتماء المذكور ويتعدّى، في المبدأ، كل تفاوت اجتماعي أو طبيعي بين الأفراد أيضاً. على أن التفاوت الحسّي في أوضاع الأفراد ومصائرهم يبقى مطروحاً على المجتمع بما هو موئل لمشكلات مستوجبة المعالجة على الدوام. وتزيد المساواة، بمقابلتها هذا التفاوت، من حدّة الشعور به وبضرورة التصدّي لوجوهه وأسبابه وهي كثيرة ومتحرّكة. ويمثّل هذا التصدي محكّاً دائماً للديموقراطية تصوّراً وممارسة. وقد يواجه هذا التصدي جهةُ من جهات المجتمع وقد يواجه الدولة. ويكون على هذه الأخيرة (وعلى الرأي العامّ أيضاً) أن تتقبله وترعاه، في الحالة الأولى ، ما دام ممارسةً لحقٍّ موافق للقانون أو لمبادئه. ويكون عليها، في الحالة الثانية، أن تنظر إلى ما فيه من سعي لتوسيع حقوق المواطنة.
أيّاً كان الأمر، فهذا التصدّي يفترض بُعْداً للمواطنة لا يتساوى فيه المواطنون هو بُعْد المشاركة. هذا البُعْد يُخْرِج المواطنين من تذرّرهم وينشئ بينهم صيغاً مختلفة للتعاون والتضامن وللتنافس أيضاً تتغاير في درجة استقرارها وفي إقبال أصحاب الشأن من المواطنين على الانخراط فيها والاستجابة لما تقترحه من مهمات. وهو، في كلّ حالْ، البُعْد المنشئ لما يسمّى المجتمع المدني فضلاً عن إنشائه المجتمع السياسيّ بتشكيلاته الماثلة في ما دون الدولة بما هي جهاز للسلطة العامة. هذا ويجوز البحث عن أسباب لتفاوت الإقبال على السعي المدني وعلى السعي السياسي بين مجتمع وآخر، أي لتفاوت الولاء للديموقراطية، في آخر المطاف، في أحوالِ أنظمةٍ وتقاليد عامة تُميّز المجتمع كله وفي الأحوال الراهنة لأطر المشاركة المتاحة أيضاً.
عليه، يبقى تحقُّق المواطنة بتمام معناها مشروطاً بالديموقراطية السياسية. ويتبدّى أن الدولة الديموقراطية إنما هي بالضرورة دولة القانون لا دولة نبذه أو التفلت منه. فإذ يكون القانون معبراً عن إرادة المواطنين، ممثّلين بالسلطة المنتخبة، "يفترض فيه أن يحمي الحرّية وأن يحدّها في فعل واحد. فهو إن لم يحدّها لم يكن له أن يكون عمومياً فيحمي حريّة العموم. وهو إن اكتفى بحدّها وأسقط حمايتها من حسابه، في شأن من الشؤون، نحا نحو الاستبداد ولم يكن ديموقراطياً أصلاً. بل إن أنظمة الاستبداد، لا الأنظمة الديموقراطية، هي التي قد تتوخّى الفراغ أو النقص والغموض في بعض مجالات التشريع، وذلك لتترك الباب مفتوحاً أمام الاعتباط والتعسف". (المرجع نفسه).
غنيّ عن البيان أن "التجريد السياسي" يُبعد من كان تحقُّقُه متقدّماً في حالتهم عن إلزام السياسة منطقَ الهوية. فسياسة المواطنة، تصبح مقتدرة على تجاوز الانتماء الديني أو العرقي، إلخ.، في رسم دوائر المصلحة التي تتّخذها مداراً لها. فتتخذ لهذه الدوائر أسماءً من قبيل توسيع العلاقات الخارجية للبلاد وتعزيز الدفاع عنها وتوطيد الحرّيات من خاصة وعامّة وتضييق الفوارق بين الجنسين وسائر الفوارق الاجتماعية من حقوقية وواقعية والتعليم والصحة والبيئة والمدن والإنماء البشريّ، بعامّة، إلخ. ويكون لها أن تعبّئ لكلٍّ من هذه الأهداف أو الميادين قوىً متحركة تشتمل على مروحة الهويات الثابتة التي يتوزّع بين فروعها المجتمع، كلها أو جلّها. على أن الشرط لحصول هذا الاشتمال إنما هو امتناع الضيم يقع على واحدة من هذه الهويات من جانب أخرى. وهو أيضاً نشوء نظام سياسي مفتوح يقدّم فرصاً لتصحيح المسار في هذا الميدان أو في ذاك عبر التغيير الميسور في تشكيل الجماعة المؤيدة لهذه السياسة أو لتلك أو المعارضة لها وعبر التعديل في حجمها وفي نسبتها إلى ما يقابلها. تلك حالٌ مختلفة جداً عن تسيّد الهويات الثابتة أو الأصلية على السياسة. وهي حال ليست ذات قرابة بحال صاحبنا القائل:
وما أنا إلا من غزيّة إن غوت غويتُ وإن ترشد غزيّة أرشد
فإن الثبات الذي تفترضه الهوية لنفسها في عالمٍ متغيّر لا يلبث تغليبه أن يستوي مصدر توتّر واضطراب يظهران أوّل ما يظهران عادةً في صفوف الجماعة التي تسمّيها هذه الهوية. هذا فيما يسع الجماعة الوطنية أن تستهدي مُثُلاً راهنة الصلاحية وأهدافاً ذات تصميم عملي لا يضيرها أن تتحرك وتتغير حين تقتضي ذلك مصلحة وطنية وتعبّر عن هذا الاقتضاء إرادة مركّبة وغالبة.
هذان مثالان لا يعوزهما التجسيد في عالمنا الحاضر. وما صورة المقارنة بينهما إلا صورة بلاد ينمو عمرانها أو يؤمل بالنمو في ما يتعدّى كلّ أزمة أو محنة تقابلها أخرى يتوسع فيها الخراب والموت أو ينذران بالتوسّع إليها من شريكاتها في الهوية وفي الشكوى من هجاس الهوية.
ما الذي جعل "عمل التجريد السياسي" يتقدّم في مجتمعات بعينها ويبقى قاصر الأثر في أخرى من بينها مجتمعاتنا؟ أمكننا في هذه العجالة أن نسجّل الواقعة. وجدنا الدائرة السياسية غير مستقلة بمنطقها في مجتمعاتنا. وقد يسوغ القول إن انتظام الوجود الاجتماعي في دوائر واضحة الحدود، لا تطغى واحدتها على الأخرى ولا تستبدّ بها، أمر لا نزال على مبعدة من تحقيقه. وهذا ما سمّيناه ذات مرّة "الشيوع"، بمعنى قريب من الاصطلاح العقاري، بما هو نمطٌ أو نظام للوجود المذكور. وفي نطاق هذه الفئة نفسها من الوقائع، يسجّل أيضاً ضعف نموّ الفرد واندراجه الهلامي في جماعات الطبيعة والتقليد. وأما تعليل هذه الحال فأقلّ يسراً من تشخيصها بكثير. ذاك أمر شاقّ يقتضي محاولات متضافرة في التاريخ المقارن لا نجاوز اقتراحها هنا على أصحاب الأهلية.
على أن في وسعنا الإشارة إلى سمة ميّزت ربع القرن الأخير في نطاق العالم، وهي النزوع إلى إضعاف الدولة وتجريدها من وسائل كانت تستقطب لها ولاء المواطنين. وذاك أن الدولة، وهي عرضة لمنافسة أقطاب جاذبة أخرى قد ينازعها بعضُها النفوذَ من الداخل وبعضها من الخارج، لا تشدّ إليها مواطنيها بالنشيد وحده أو بما جرى مجراه. وإنما يقتضي حفظها لولاء المواطنين أن يكون لها حضور في وجوه مختلفة من حياتهم: في النظام العام وفي العمران وفي بنى البلاد الأساسية طبعاً. ولكن أيضاً في فوائد تخصّ الأفراد والأسر على نحو أشدّ قرباً. أي، مثلاً، في الصحة والتعليم والسكن وتيسير حصول الفقراء على ما لا يستغنى عنه... هذا، على وجه التحديد، ما أصبح في العقود الأخيرة عرضةً لأشرس الهجمات من جهاتٍ مختلفة لم يكن أصحاب الرساميل أشدّها بأساً في بعض المجتمعات. وإنما ضَلَع فيها بتكتم وحذق غالباً مراجع ومؤسسات دينية وسياسية معاً. وفيما كان الهزء ينال من "دولة الرعاية"، كانت هذه المراجع والمؤسسات تمدّ يدها إلى صندوق الدولة، فضلاً عن موارد أخرى، لتستحوذ على ما كانت هذه الأخيرة تنفقه على حضورها في المجتمع.
أسعف التغوّل المتمادي للدول المنتسبة إلى النادي الشيوعي وإلى نادي رأسمالية الدولة، بما ميّزها من الاستبداد المقترن بالفساد ومن سوء الإدارة، في تسويغ الهجوم المدمّر على دور الدولة الاجتماعي حيث وُجد. فنظمت الأهاجي في "دولة الرعاية" وأصبح اسمها سبّةً أو، في الأقل، اسماً لشيء فات أوانه وبات اقتناؤه أمارة تخلّف في إدراك مقتضيات العصر. وهكذا بوشر الانتقال من مثال الدولة المتغولة إلى مثال دولة الحدّ الأدنى أو الدولة المجردة من سلاحها الاجتماعي. والحال أن حفظ ميزانٍ ما بين الدولة والمجتمع يمنع الأولى من التغوّل ولكنه يحفظ لها عوامل فاعليتها وحضورها ويحول دون التفكك السياسي للمجتمع والدولة معاً إنما هو المسعى الذي يوافق توق المجتمع الوطني إلى توطيد السلام بين عناصره وتعزيز الحريات لمواطنيه وتفعيل عوامل الازدهار في مرافقه. فلننظر كيف أصبحنا في كل من دول هذا المشرق على هذا البعد المهول عن هذا المثال، عسى أن يهدينا النظر إلى عِبَر فيها صلاح لحالنا.
عن جريدة النهار.
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |