محمود درويش: القمر والحجر والحقيبة..ـ خليل الشيخ
2014-01-06
البقاء والرحيل في خطاب درويش الشعري المبكّر
عرف محمود درويش ثلاث لحظات من الرحيل أسهمت في بناء منظوره للعالم، وأثرت في تطور خطابه الشعري. كانت اللحظة الأولى يوم غادر وهو في السابعة من عمره مسقط رأسه «البروة» الواقعة على بعد تسعة كيلومترات شرقي عكا في العام 1948، ليعود إليها متسللاً، أما اللحظة الثانية فكانت يوم سافر إلى موسكو في العام 1970 لغايات الدراسة، ليمضي فيها قرابة السنة، ذهب بعدها إلى القاهرة في 9 / 2 / 1971 وأقام فيها بضعة أشهر عمل في أثنائها في «الأهرام»، لينتقل إلى بيروت عام 1972، أما لحظة الرحيل الثالثة فقد تزامنت مع رحيل الفصائل الفلسطينية عن بيروت في العام 1982، إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان، فتوجه درويش إلى باريس التي أقام فيها عشر سنوات، ثم صارت حياته تتوزع بين رام الله وعمّان.
شكّل الرحيل الأول وما صاحبه من كوارث وهزيمة وضياع للوطن، مثلما شكّلت العودة المتسللة المملوءة بالخوف، بداية وعي درويش الطفل على العالم وبداية التناقض معه. لم يكن الخروج من فلسطين إلى لبنان، هذه المرة، شبيها بالرحلات السابقة المملوءة بالبهجة والأمان، فلم يكن الزمن في رحلة الخروج بعد النكبة يسير كالمعتاد، بل كان ذا مسار أسطوري ينتقل من الذروة إلى الهاوية في عالم يمور بالفزع والموت وضياع الوطن.
كانت البروة تعني لدرويش الطفل، وهو يعود إليها متسللاً، لحظة النجاة التي ينبغي مصارعة الوقت للوصول إليها والاحتماء بها، لكن العودة فشلت في تحقيق هذا الحلم. فقد تغيّر الزمان وصارت له ذاكرة جديدة وتوقيت مختلف، لقد صار زمنًا عبريّا! ولأن التغيرات تتجلى في المكان بوضوح، فقد لاحظ درويش أن البروة تلاشت تمامًا وأزيلت عن الأرض.
سكت خطاب درويش الشعري، في مرحلة ما قبل الخروج، عن هذه اللحظة المأساوية، وكان سكوته عنها مسوغًا ومفهومًا. كان درويش، ومعه مجموعة من الشعراء في الداخل، يؤسس لشعر يدافع عن هوية شعب ينكر أعداؤه وجوده، أي أنه كان منشغلاً بقسوة اللحظة الحاضرة، فكان من الطبيعي أن يسكت شعر درويش عن تلك اللحظة المأساوية، وأن يستدعيها للمرّة الأولى بعد خروجه الثاني، فلحظة الخروج الثانية هي التي استدعت اللحظة الأولى، والأسى يبعث الأسى.
استدعى درويش للمرة الأولى هذه اللحظة في «يوميّات الحزن العادي» الذي صدر في العام 1973 وفيه يروي الكتاب، في إطار قريب من السيرة الذاتية، اللحظتين المأساويتين، أي لحظة الخروج والعودة المتسللة، ويرسم الوقائع بتدفّق وحميمية وبشيء من السخرية، فقد تدخل المأساة في الملهاة كما سيقول درويش لاحقًا، لكنّ الحكاية لا تغرق في الفجيعة، لأن الفجيعة تدمّر المقدرة على الرؤية والتحليل وتفضي إلى ميوعة عاطفية.
يجري استعادة لحظة الخروج في اليوميات من منظور طفل يستشعر خطورة ما يحدث وهو يلحظ فزع الناس وذعرهم، ولا يكفّ الطفل في تلك الأثناء عن تذكّر الحياة الوادعة التي اتسمت حياته بها. وقد عاد درويش لاسترجاع تلك اللحظة بين عامي 1986و1988، يوم تبادل مع سميح القاسم مجموعة من الرسائل العلنية التي تناولت ماضيهما وكانت رسائل درويش تربط بين احتلال فلسطين ومحاولة محو ذاكرتها الثقافية، وقد رسمت رسائله تلك اللحظة على النحو التالي:
لم يكن للشهور أسماء لأتذكّر متى انقصف حبق الطفولة. ولكن الليل لم يكن باردًا كما هو الآن، ولم تكن للقمر أغان عبرية معاصرة، لكنني أتذكر ساحة الدار التي تتوسطها شجرة التوت التي تشدّ البيوت لتحولها إلى دار هي دار جدّي. تركنا كل شيء على حاله، الحصان والخروف والثور والأبواب المفتوحة والعشاء الساخن وأذان العشاء وجهاز الراديو الوحيد، لعله ظل مفتوحًا ليذيع أخبار انتصاراتنا (...) وحين مارست طقس الحج الأول إلى قريتي الأولى «البروة» لم أجد منها غير شجرة الخروب والكنيسة المهجورة».
ثم قام درويش في منتصف التسعينيات من القرن الماضي باستعادة تلك التجربة ومفرداتها وحكاياتها، للمرة الثالثة، بعد أن أخضعها لشروط الكتابة الشعرية في ديوانه «لماذا تركت الحصان وحيدًا؟»، فكتب سيرته في إطار الشعر.
يتكرر في الديوان مشهدا الخروج والعودة، لكن المشهد في «تعاليم حورية» يأخذ أبعادًا رمزية دالة، وبخاصة أن المشهد ينفتح على العلاقة بين الشاعر وأمّّه:
هل تتذكرين طريق هجرتنا إلى لبنان،
حيث نسيتني ونسيت كيس الخبز «كان الخبز قمحيًا»
ولم أصرخ لئلا أوقظ الحرّاس
حطّتني على كتفيك رائحة الندى
يا ظبية فقدت هناك كناسها وغزالها
ينتمي مشهد الرحيل في القصيدة إلى لغة الظلال القادرة على السرد والتأويل، وتحويل لحظة الفاجعة والسمو بها إلى أبعاد رمزية مفعمة بالحيوية. يمثل الاستفهام في بداية المشهد اللحظة اليتيمة التي ينتقل المشهد عبرها من الخبر إلى الإنشاء. فمشاهد القصيدة كلّها حكائية تصعّد من شخصية الأم ومن سطوتها غير القابلة للنقد أو الاعتراض وترفعها إلى مستوى القدّيسات. لكن هذا السؤال الذي يثير العلاقة بين الذاكرة والزمن أو بين التجربة واستحضارها يؤسس للحظة النسيان التي شكّلت لحظة مليئة بالخوف، وفي ثناياها بدأ مشهد الرحيل ينتقل من الواقعي إلى الرمزي ومن العادي إلى الخارق، ومن الضعف إلى القوة، حيث يتداخل مشهد الطفل وأمه، مع مشهد السيدة مريم مع ابنها السيد المسيح (عليه السلام). وإذا كان كلام السيد المسيح في المهد هو المعجزة التي صانت شرف الأم، فإن صمت الطفل في المشهد هو الذي يمثل المعجزة التي أنقذته وأمه معًا. وإذا كان شعر درويش يقدم مشهد الخروج بوصفه انتزاعًا للطفل من المطلق، فإن لحظة العودة المتسللة ترتبط بخلفيات تاريخية متعددة، لكنها تؤكد في مجملها أن الهزيمة لا تشكّل نهاية التاريخ.
***
شهد خطاب درويش الشعري في مراحله الأولى حالة من التجاذب بين البقاء والرحيل، وقد اختار درويش «موتيف» القمر لتجسيد هذه اللحظة وما تنطوي عليه من صراعات، لهذا لم يحمل القمر في شعره ثنائية الريف/المدينة التي سادت في الشعر العربي في تلك الآونة، حيث يشير القمر إلى حياة الريف الوادعة أو إلى زمن البراءة الذي يختفي بالذهاب إلى المدينة، لأن ثنائية الريف/المدينة في فلسطين المحتلة ارتبطت بصراع الهوية بين الغاصب الذي أعطى للمدينة الفلسطينية ملامح عبرية، وجعل الريف الفلسطيني ريفًا بائسًا ليس له مدينة.
كما أن شعر درويش لم يستثمر رمز عوليس ولم يشر له إلا على نحو عابر، لأن درويش يومها كان يعيش في وطنه ولا يحتاج إلى أن يكون مثل تليماك، فاستثمر ما يعرف بموتيف الجزيرة أو الصراع بين المرغوب فيه والملعون، حيث يتولّد في حياة قاطني الجزيرة (وقد كان الفلسطينيون يومها يعيشون في دولة تعزلهم عن عالمهم وعن أنفسهم) صراع بين الداخل والخارج، ففي حين تبدو الحياة على الجزيرة راكدة ويصاب الزمن فيها بالضمور، تبدو الحياة خارجها متحركة ومنسابة. أما نظرة قاطني الجزيرة إلى جزيرتهم فتتباين وفقًا لحالتهم النفسية، فقد تبدو الجزيرة جنة الله على الأرض، وقد تبدو سجنًا عليهم الفرار منه. وقد تشكلت صورة القمر في شعر درويش في ضوء هذه المعطيات وكانت تختلف باختلاف موقفه من البقاء أو الرحيل. يتوقف درويش في «يوميات الحزن العادي» عند القمر في إطار لحظة الخروج التي تنفي الطفولة عبر تدمير المكان الذي شهد تجلياتها الأولى:
«حين كنت صغيرًا، كنت تخاف من القمر؟ لولاه لكنت يتيمًا قبل أواني، لم يكن قد سقط في البئر، كان أعلى من جبيني وأقرب من شجرة التوت التي توسطت دار جدي، وكان الكلب ينبح عندما يقترب، وحين دوّت أول رصاصة، دهشت لحفلة زفاف تحدث في المساء، وحين ساقوني إلى القافلة الطويلة رافقنا القمر إلى طريق عرفت في ما بعد أنها طريق المنفى».
يمكن الحديث عن تجليّات القمر في شعر درويش من خلال مرحلتين، في المرحلة الأولى يتجلّى القمر على نحو يغوي بالرحيل، وهي فكرة بدت ملعونة للوهلة الأولى، وكانت القصيدة تقف في وجهها بصلابة وحزم.
تشكّل قصيدة «ثلاث صور» النص الشعري الأول الذي يبرز فيه القمر مقترنًا بالأب والحبيبة اللذين يصنعان معًا أفقًا نضاليًا وجماليًا يدعو للبقاء، لهذا كان من الطبيعي أن يسقط القمر وأن يبقى وحيدًا:
كان القمر
كعهده - منذ ولدنا - باردًا
الحزن في جبينه مرقرق..
روافدا.. روافدا..
قرب سياج قرية
خرّ حزينا
شاردًا..
تتقدم «قمر الشتاء» خطوة إلى الأمام فتعلن عن مقتل القمر الذي خرّ عند سياج القرية ساقطًا (وسقوطه عند السياج يؤكد تلاشي فكرة السفر والبقاء داخل الوطن):
وأقول للشعراء
يا شعراء أمتنا المجيدة
أنا قاتل القمر الذي
كنتم عبيده
إن مقتل القمر في شعر درويش يغاير تمامًا مقتله عند أمل دنقل في ديوانه الذي يحمل العنوان ذاته، ففي حين تأخذ المسألة في شعر دنقل طابعًا رومانسيًا، تتخذ المسألة عند درويش في تلك المرحلة، طابعًا أيديولوجيًا يسعى إلى بناء مناخ تحريضي يدعو للتشبث بالأرض ومقاومة المحتل، ويطوّر لغة شعرية تجمع بين المباشرة والرمز البسيط والغموض النسبي.
لا تظلموني أيها الجبناء
لم أقتل سوى نذل جبان
بالأمس عاهدني
وحين أتيته في الصبح خان
وقد تنبه توفيق زياد إلى حضور القمر المتناقض في شعر درويش، لكنه لم يستطع الوصول إلى أي استنتاجات حاسمة بهذا الشأن خاصة بالبقاء والرحيل.
لكن البداية اللافتة لانكسار هذا اليقين في شعر درويش، وهي المرحلة الثانية في التعامل مع القمر، تتمثل في «أبي» و«خائف من القمر»، ففيهما نلحظ تراجعًا أمام القمر وخوفًا من غوايته واحتماء بالأب تارة وبالحبيبة تارة أخرى.
يبدو القمر في القصيدتين قويّا وفاتنًا، ثم يغدو مرآة قادرة على كشف ما يحاول الشاعر أن يخفيه، وقد أخذ درويش يراوغ في تشكيل صورة القمر ويلمح إلى أن السفر لم يعد فكرة ملعونة، يفتتح درويش القصيدة بالحديث عن أبيه:
غضّ طرفا عن القمر
وانحنى يحضن التراب
وصلّى..
لسماء بلا مطر،
ونهاني عن السفر!
يستخدم درويش الفعل غضّ وهو فعل ورد في القرآن الكريم في إطار النهي عن النظر للمحرّمات، فكأن النظر إلى القمر يندرج في هذا الإطار. وبعد ذلك ينتقل النص إلى فعلين أثيرين في شعر درويش هما (انحنى وصلّى) وقد استخدمهما درويش وهو يصف علاقته بريتا في «الحب والبندقية» والفعلان يقترنان في شعره بالحب الممزوج بالقداسة. كانت الصلاة لسماء مجدبة، وهو ما يؤكد عمق الصلة بالأرض وضرورة الدفاع عنها بصرف النظر عن ناتجها. في «سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا» تختلف النظرة حيث يحكي سرحان عن أبيه: «وكان يقيس السماء بأغلالها». وقد بدت النتيجة واضحة عندما نهاه أبوه عن السفر ليتكرر الثالوث القائم على القمر والأب والشاعر وتشتد غواية الرحيل وتتعاظم.
أخذ الخوف من القمر يتصاعد في شعر درويش وبلغ في «خائف من القمر» نقطة لافتة:
خبئيني.. أتى القمر
ليت مرآتنا حجر (...)
وجه أمي مسافر ويدانا على سفر
منزلي كان خندقًا
لا أراجيح للقمر
ودعي لي مخدّتي
أنت عندي أم القمر
من الواضح أن الصوت الجهير الذي كان يعلن عن قتله القمر قد تراجع. لتحلّ بديلاً عنه نبرة راعشة، تخاف من ظهور القمر، وتطلب الاختباء لحظة حضوره، ما يعني أن الذات صارت تعي أزمتها، وإن بقيت تراوغ في الكشف عنها. لكن اللافت أن درويش يقول في القصيدة:
ليت مرآتنا حجر»، وهي أمنية ستغدو مقولة مركزية في شعر درويش، وإن كانت ستخضع إلى تحويرات في خضم تحولات درويش وخطابه الشعري. أما دلالة هذه الأمنية في النص، أعني تحوّل القمر (الذي كان بمنزلة المرآة في العالمين القديم والوسيط) إلى حجر، فهي منبثقة من الصراع الدائر في أعماق درويش بين البقاء والرحيل، لأن المرايا عندما تفقد القدرة على تجسيد الصورة، فإن الأنا تعجز بالتالي عن إدراك ذاتها ورؤية ما يضطرب في أعماقها، وهو ما قد يوقف الصراع.
وعلى الرغم من أن «نشيد للرجال» تمثّل أكثر القصائد دعوة للصمود في شعر درويش المبكّر، وتصدر في جوهرها عن ضرورة التواصل بين الأجيال للحفاظ على الأرض والبقاء فيها، وتستعين بمجموعة من الأصوات وبعدد من الحوارات مع ثلاثة أنبياء يؤيدون فيها حق من اغتصبت أرضه في استعادتها، فإن القصدة تنطوي على صوت مشكّك، لا يؤمن بجدوى النضال، لكن هذا الصوت المعبّر عن ذروة اليأس يبدو مرفوضًا ويجري الربط بينه وبين القمر:
ذليل أنت كالإسفلت
ذليل أنت
يا من يحتمي بستارة الضجر
غبيّ أنت كالقمر
ومصلوب على حجر
فدعني أكمل الإنشاد
دعني أحمل الريح الشمالية
يهمنا في هذا الحوار أمران:
أولا: تكرار ثنائية القمر/ الحجر، لكنها تجيء في إطار سلبي يشمل طرفي المعادلة، فالقمر يتسم بالغباء، في حين يتصف الحجر بالجمود.
ثانيا: يتكرر في الرد الفعل دعني (وكأنه يشير إلى ذات منشطرة) منسوبًا إلى الشاعر الذي يرغب في القيام بمهمة معقدة تجمع بين الشعري والنضالي. والإنشاد والريح الشمالية سيحضران في سباق مغاير بعد الخروج.
ثم انتقل درويش إلى التعبير عن الثنائية من خلال ثنائية الوطن/ الحقيبة، وهي ثنائية تشير إلى أن الصراع بين البقاء والرحيل دخل منحنيات حرجة، ففي قصيدته التي ألقاها في العام 1968 بحضور فدوى طوقان في يافا قال درويش:
وطني ليس حقيبة
وأنا لست مسافر
إنني العاشق والأرض حبيبة
كانت قصيدة «يوميات جرح فلسطيني» تجسد ذروة الالتحام بالأرض، وتبدو فيها صورة الشاعر نقيضًا لصورة عالم الآثار الصهيوني الذي يفتش في طبقات الأرض الفلسطينية عما يسند هويته الطارئة، في حين يبدو الشاعر مفعمًا بالمعطيات التاريخية والجغرافية العربية.
بعد ذلك صار البقاء يضعف ويتلاشى لمصلحة الرحيل، وبدأت في «كأني أحبك» و«حبيبتي تنهض من نومها» بوادر التغير في المعادلة:
عيناك يا معبودتي هجرة
عيناك يا معبودتي منفى
عيناك يا معبودتي عودة
تنضح المقارنة إذا تذكرنا الصورة التي رسمها درويش في عاشق من فلسطين:
عيونك شوكة في القلب
تدميني وأعبدها
صحيح أن العاشق لايزال في الحالتين يعاني الشقاء وعدم القدرة على الاحتمال، لكنه صار يتحدث عن الهجرة والمنفى، صحيح أنه يذكر العودة، لكن العودة لم تقع وظلت في دائرة الحلم.
لقد صار درويش قاب قوسين أو أدنى من فكرة الرحيل، وصارت فكرة الرحيل مرتبطة بالحرية، وهو ما سيوضحه في القاهرة خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده بعد يومين من وصوله:
لقد أصبحت مشلول الحركة تمامًا، مشلول الحرية في التعبير ولقمة سائغة في فك العنصرية الإسرائيلية.
من يشتري الحب الذي بيننا
من يشتري موعدنا الآتي
من يشتري صوتي ومرآتي
من يشتري تاريخ أجدادي
بيوم حرية!
بعد الخروج اتخذت الإشكالية أبعادًا جديدة، كما تجلى في «مزامير» التي تجمع بين الشعر والنثر وتقوم على بناء متصاعد يجمع بين الحلم والواقع والحنين الطاغي والتمرد على ذلك الحنين والسعادة بقيود الحب والسعي للتحرر من تلك القيود:
بين الابتعاد والاقتراب
حجر في الحلم
لا يقترب
ولا يبتعد
وأنت بلادي
وأنا لست حجرًا
يكاد المقطع الأخير يكون نقيضًا للمقطع الشهير الذي أشرنا إليه:
وطني ليس حقيبة
وأنا لست مسافر
وهذا ما قام درويش بتعميقه في قصيدته الطويلة «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق»:
جاء وقت الانفجار
وعلى السيف قمر
وطني ليس جدار
وأنا لست حجر
أما في «مديح الظل العالي» فقد صار درويش يقول:
وطني حقيبة
في الليل أفرشها سريرًا
أو يقول:
وطني حقيبة
ولكن لا رصيف ولا جدار
ومثلما تحولت صورة القمر تحولت العلاقة مع الحقيبة، وهو تحول يشير إلى قدرة خطاب درويش على تدمير مرجعياته الشعرية والتحرر من ماضيه أو النظر إليه بروح نقدية.
لكن ثنائية الرحيل والبقاء لم تتخذ على الفور نهايات حاسمة في شعر درويش، ففي قصيدته «أغنية إلى الريح الشمالية» التي يذكر عنوانها بقصيدة شيللي «أغنية إلى الريح الغربية»، يتضافر القمر والمنديل والريح لتوكيد أن العلاقة مع الوطن تجري من منظور الرحيل والحركة والمنفى، لهذا تتعامل القصيدة مع القمر للمرة الأولى من منظور يتسم بالحنين والمحبة، وترسم القصيدة صورة القمر بقدر من الرقة وتمنحه بعدًا جماليًا، فهو يطل على المشهد الفردوسي الذي لم يعد الشاعر قادرًا على الاقتراب منه، كما أنه لم يعد يستطيع العودة متسللا كما فعل في طفولته:
يا أيها القمر القريب من الطفولة والحدود
لا تسرق الحلم الجميل
من غرفة الطفل الوحيد
ولا تسجل فوق أحذية الجنود
اسمي وتاريخي
سألتك أيها القمر الجميل
وإذا كانت القصيدة ظلت تحلم قبل الرحيل بلحظة الحرية، فإنها صارت تحلم بالقيود وتتمنى العودة إليها، حيث تقول القصيدة:
بالقيد أحلم
كي أفسر صرختي للعابرين
بالقيد أحلم كي أرى حريتي وأعد أعمار السنين
بالقيد أحلم
كيف يدخل وجه يافا في حقيبة؟
يلفت النظر في المقطع سؤال يتكرر مرتين، وهو سؤال ينفي مسألة التماهي بين الوطن والحقيبة، إذ يبدو من المستحيل أن يدخل وجه يافا في حقيبة، وقد اختار النص يافا، لأن النفي الشهير «وطني ليس حقيبة»، وقع في فضائها الذي أشار درويش إلى أنه «ترجم حتى النخاع»، وإذا كان النفي هناك يأخذ طابعًا حديًا ويتسم بطابع نضالي، فإن الاستفهام الإنكاري هنا يشير إلى مرحلة جديدة صار الوطن فيها جزءا من وجدان الشاعر وذاته يرتحل معه حيثما ذهب، بعد أن صار الذهاب إليه نزهة تنتهي بالموت. لكن جملة «بالقيد أحلم» تشير إلى وطأة المنفى وحدة الشعور بالغربة، وتؤشر إلى لحظة مليئة بالحنين، تذكّر بما قاله درويش على لسان راشد حسين عندما التقيا في القاهرة: «ليتني كنت طليقًا في سجون الناصرة».
في «النزول من الكرمل» تتخذ الإشكالية أبعادًا أكثر عمقًا، فيجيء النزول عن جبل الكرمل معادلاً للخروج من جنة الوطن، وكأن درويش يستعير مفردة الهبوط القرآنية التي خرج بموجبها آدم وزوجه من الجنة قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً . إن التماهي بين درويش والكرمل قديم كما قال في يوميات الجرح:
نحن في حلّ من التذكار فالكرمل فينا
لكن هذا التماهي يتخذ بعدًا مختلفًا بعد الخروج، حيث تتغير نبرة العلاقة، فهي تحمل هناك رنة فخر عالية وتنطق باسم الجماعة، لكنها تبدو بعد النزول نبرة حزينة وفردية وقريبة من الانكسار، فضلاً عن أن لحظة الخروج تتجلى وكأنها ثمرة قدر لا مردّ له.
تجيء لحظة الخروج في هذه القصيدة في إطار نص شعري يمزج الاعتراف بالتأمل والماضي بالحاضر والغناء بالسرد والوقائع بالتأويل. وهو نص يعي خطورة الفعل، لكنه يعي استحالة الرجوع عنه، وفي خضم تلك الثنائيات يتكرر الفعل «تركت» عشر مرات، وهو تكرار يسمح بإعادة تأمل المشهد من زوايا متباينة، حيث تتراجع الجمل الشعرية من الطول إلى القصر ومن التشتت إلى التركيز لينتهي الفعل تركت وحيدًا دالاً على لحظة الانفصال، لكنه لا يشير إلى الانقطاع أو النسيان:
تركت الحبيبة لم أنسها عند سفح الجبل
تركت الحبيبة لم أنسها
تركت الحبيبة
تركت...
ثم صار شعر درويش ينمي فكرة بدأت غنائية في البداية، لكنها غدت ذات آفاق ضاربة في الميثولوجيا بعيدًا عن نصاعة المعنى والغناء الشفيف. وقد عبر عن هذه الفكرة للمرة الأولى في المؤتمر الصحفي الذي عقده بعد وصوله إلى مصر:
«أشعرتني (يقصد مصر) بأنني لم أغادر وطني، عندما انتقلت من الوطن الأصغر إلى الوطن الأكبر، إنني أحدق في نهر النيل، فأرى أعماق الظاهرة ووجودها وأرى تدفق الحياة اللامتناهي ورحلة التاريخ الصاعدة دائمًا. إنني أحدق في نهر النيل، فأسمع خرير نهر الأردن وبردى والفرات في نغم واحد، على الرغم مما يعتري الظاهرة من ركود ظاهري، وإننا على يقين من أن نهر الحياة سيواصل المسير». وهو ما تعبر عنه قصيدة «النزول من الكرمل» على نحو غنائي شفيف، وهو ما سيطوره درويش لاحقًا في قصائد مثل «أطوار أنات» و«مصرع العنقاء» عبر استحضار عشتار وتموز وأساطير الحب والتجدد، لهذا سيطلب درويش من عشتار أن تعود إلى فلسطين:
فلترجعي ولترجعي أرض الحقيقة والكناية
أرض كنعان البداية
إن لقاء درويش بالفضاء العربي لا يحمل بعدًا واحدًا ولا يصدر عن لحظة احتفالية، لأن الاحتفال بالمكان في شعره لا يصدر عن لحظة سياحية مليئة ببهجة مفتعلة، بقدر ما يتنامى من لحظة اكتشاف مسكونة بالتوجس والرغبة في الاكتشاف والبحث عن الأبعاد الغائبة التي تتخفى في الأعماق:
وكنت على باب أمي هناك، أنادي دمشق
فتسمع نبض دمي في حفيف صنوبرك المبتعد
وتغسلني دجلة الخير حين أموت من الوجد شوقًا إلى أرض بابل
وكانت مياه الفرات ونافورة النيل تحذف آثار زنزانتي عن ضلوعي
يتعاقب في النص الذي لم تجر عملية اقتباسه كلّه بعدان: سردي وحواري، أما الجانب السردي فيضم الأفعال الماضية التي تحكي قصة الرحيل، وأما الحواري الذي يخاطب فيه الشاعر جبل الكرمل، فإنه يقطع سيرورة السرد ونموّ الحكاية. والحوار مع الكرمل يجيء بمنزلة فيض وجداني يصنع لحظة مركبة تصف آثار الرحيل وما خلّفه من شرخ وجداني في الشاعر. وفي تلك الحوارات تجتمع النقائض مجددا فيلتقي الإحساس بالضيق (سئمت العلاقة بين المسامير والخشبة) بالبحث عن الحرية، وتتم عملية الاتصال بالحبيبة والانفصال عنها. لكن درويش وهو يفارق الكرمل موجع القلب باكيًا، يحرص على أن تكون لحظات التماس الأولى مع العالم العربي ضمن لحظتين تنتميان إلى عالم المجاز، أما الأولى فيتجلى فيها مجاز نهري، حيث يمتزج الفرات ودجلة والنيل وبردى من جهة وبالشاعر من جهة أخرى وهو مجاز يؤدي إلى تجاوز الجغرافيا السياسية المعاصرة ليعود إلى وادي النيل وبلاد ما بين النهرين وبلاد الشام. وإذا كان المجاز النهري يفضي إلى تنمية لحظات الخصب والتفاؤل، وينحي اليأس والهزيمة، فإن لحظة المجاز الثانية تشير إلى العمل الحضاري الذي يربط بين تلك البلاد، وسيضيف درويش لاحقا الجزيرة العربية وهو يتحدث في «قافية من أجل المعلقات». وهذا البعد الذي بدا غنائيا استطاع أن يمنح درويش القدرة على الخروج من قيده إلى آفاق رحيبة حرة. وسيتوغل هذا البعد بعمق في عالم الأساطير في شعر درويش اللاحق، وإن ظل يولد دلالات حضارية تبين عمق الصلة الحضارية بين هذه البلاد.
لقد سبق لدرويش أن توقف عند تلك الأنهار في قصيدة مبكرة سماها «عن الأمنيات»:
يا صديقي
لن يصب النيل في الفولجا
ولا الكونغو ولا الأردن في نهر الفرات
كل نهر وله نبع ومجرى وحياة
إنّ ما يقرره النص صحيح ومطابق للواقع، وهو يكاد يكون صياغة شعرية لمقولة ماركسية تؤمن بخصوصية حركات التحرر وقيامها عندما تستوفي شرطها التاريخي، لكن درويش الذي كان يرى ذلك في العام 1964 أو قبل ذلك بقليل، صار يؤمن في العام 1974 أو قبل ذلك بقليل بإمكان امتزاج تلك الأنهار وتلاقيها في «نغم متدفق واحد»، وكان ذلك مؤشرًا على بزوغ روح شعري جديد في خطاب درويش الشعري لم يعد يرى «أن كل قومياتنا قشرة موز» كما في «الكتابة على ضوء بندقية» بل صار يسعى كي «يولد في الزمن العربي نهار». كما قال في «أحمد الزعتر".
عن مجلة العربي.
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |