كتاب : البرصان والعرجان للجاحظ جزء 4
خاص ألف
2014-01-19
القول في الساق العليلة والساق السليمة
قالوا: إذا كانت ساق الإنسان منتصبةً وكانت القدم على الأرض وضربها ضاربٌ بعصاً لم تنكسر إلا أن تصيبها الضربة وهي على غير الهبة.
سفيان، عن زياد، عن سعيد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام، قال: " يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة " .
وعن ابن عباس، عن النبي عليه السلام، قال: " كأني أنظر إليه أصلع أفحج يهدمها حجراً حجراً " .
ومحمد بن فضيل، عن المغيرة، عن أم موسى، عن علي، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن مسعود أن يصعد شجرة فيأتيه بشيء منها، فنظر أصحابه إلى حموشة ساقيه فضحكوا منها، فقال النبي عليه السلام: " ما تضحكون لرجلٍ عند الله في الميزان أثقل من أحد " .
والذي سمي شريح بن ضبيعة الحطم، رشيد بن رميض حين رجز به في الحرب، فقال:
قد لفها الليل بسواقٍ حطم ... ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزارٍ على ظهر الوضم ... خدلج الساقين خفاق القدم
وهذا غير قول الشاعر:
لا يغمز الساق من أين ولا وصب ... ولا يعض على شرسوفه الصفر
وممن كان دميماً دقيق الساق فاحش الدقة عوير بن شجنة العطاردي وهو الوافي، وكان خفير امرئ القيس بن حجر، فبينا هو يقودهم ليلاً طلع القمر فأبصر نساء امرئ القيس ساقيه، فقالت: ما رأيت ساقي واف أقبح، فقال عوير: هما ساقا غادر أقبح، وإياه يعني امرؤ القيس حيث يقول:
لا حميري وفي ولا عدس ... ولا است عير يحكها الثفر
لكن عويرٌ وفي بذمته ... لا قصرٌ عابه ولا عور
وقال:
عويرٌ ومن مثل العوير ورهطه ... وأفضل في حال البلابل صفوان
وممن كان يوصف بدقة الساق أبو حنبل الطائي.
وفي المثل: قد قامت الحرب على ساق.
ويزعم الناس أن الساق اسمٌ من أسماء الحمام الذكر، قال الطرماح:
كالساق ساق الحمام
وقال الآخرون: بل اسمه ساق حر، والأصمعي يخالف في ذلك.
وقال الله تعالى: " والتفت الساق بالساق " وهذا مثل.
ويقال: إن جميع نبات الأرض على ثلاثة أصناف: نجم وشجر ويقطين، فما كان قائماً على ساقٍ فهو نجم، وما كان منفرجاً ذا أغصان ومتشعباً بأفنان فهو يقطين، وفي القرآن " والنجم والشجر يسجدان " فمن ذهب في النجم إلى غير هذا فليس يذهب إلى الثريا، إنما يذهب إلى قول الشاعر:
فبات يعد النجم في مستحيرة ... سريعٌ على أيدي الطهاة جمودها
وإنما وصف جفنةً غراء كثيرةً الإهالة قدمها إلى أضيافة ليلا، فكانوا يرون صورة النجوم فيها، ولا يسقيم في هذا الوضع أن يعني نجم الثريا وحدها، والنجم اسم الثريا إلا أن التأويل الآخر أعم وأشبه بالتأويل.
قال: وبابٌ آخر من العرج الحادث الذي يزول بزوال العلة من الظلع العارض الذي لم يكن في أصل الخلقة، وهو أن البعير يسمن جداً ويتراكم عليه الشحم واللحم فيصير به ظلع، ويخلط في المشي، ويهاب بسيط الأرض، ويحسب المستوى هبطةً والسهولة وعورة، قال طفيل الغنوي وذكر إبله:
تهاب الطريق السهل تحسب أنها ... وعورٌ وراطٌ وهي بيداء بلقع
وقد سمنت حتى كأن مخاضها ... تفشغها ظلعٌ وليست بظلع
ويقال: إنها إذا سمنت جداً وتراكم عليها اللحم وصار ظل أبدانها أعظم استهالته وفزعت منه، وأنشدني أبو العاص بن عبد الوهاب، قال: أنشدني يونس بن حبيب وخلف بن حيان قول العكلي:
مضت فزعاتٌ من زوائد ظلها ... فعدن وقد عادت لهن قلوب
يقول: رجعن من تلك السفرة وقد تواضعن وذهب عنهن ذلك الشحم، فذهب عنهن ذلك الفزع، وقال آخر:
معاقيل من أيديهم وأنوفهم ... بكاراً وثنياً تربت الحزن ظلعا
هجاهم بأخذ الديات وجعلها سماناً على زجه السخرية، وقال محرز ابن المكعبر:
وجئتم بها مذمومةً حرشيةً ... تكاد من اللوم المبين تظلع
يقول: قد امتلأت لؤماً وأثقلها ذلك، وفي سمن الإبل قال الشاعر:
أرى غيثاً كأفواه الغزالي ... غزيراً تستدير به السحاب
به تمشي العشار مخرماتٍ ... وتنفع أهلها المعزى الزناب
يقول: خرموا مشافر الإبل كي لا ترتع في ذلك المكان فتزداد سمناً فتهلك.
وحدثني مهدي بن إبراهيم قال: ربما رأيت البعير في بعض مراعي مضر وقد قتله الشحم، وإنه لمتصدعٌ جلد الكركرة على مثل شط السنام.
وحدثني أبو البهلول الهجيمي، وكان شاعراً فصيحاً داهياً، قال: إذا جفنا على الإبل أن تموت سمناً عدلنا بها عن وداي بلهجيم إلى موضع هو أرق نباتاً وأقل دشماً، وزعم أنهم يحصدون السنبل في واديهم كل عام مرتين، ونحن قد نرى الدجاجة تسمن في بعض البيوت وكذلك البطة فإذا فرط عليها السمن فربما ماتت، ولا بد من أن تعمى قبل ذلك، وذلك إذا جعلوها في وعاءٍ وحيطوا عليها ومنعوها من الحركة، وقد يتخذون للصبي طمرين وكذلك الفصيل، فلا يزال ذلك الشحم القديم لازماً لتلك الأبدان، وما سقي اللبن فهو في البهائم أنجع.
قال: وقال أبو مجيب: تعقم ولا تعقم الأصلاب، كأنه يذهب إلى أن المرأة والشاة والأتان والناقة إذا سمن جداً صرن عقراً، ولا يعتري ذلك الرجل والتيس والعير والجمل.
وإذا نزل الغيث وعم ودر كان حزن الممعز والمصرم بقدر سرور صاحب الهجمة ممن يقولون كلأ تيجع به كبد المصرم، ويقولون عند ذلك: مرعىً ولا أكولة، وقد قال الشاعر في الدعاء على رجل:
وجنبت الجيوش أبا زهيرٍ ... وجاد على مسارحك السحاب
لأن الفقير لا يغزوه أحد، وإذا جاء السحاب على مسارح المصرم كان أشد لحسرته، وقال آخر:
غيث سماكي أجش رعده ... هيهات من نوءٍ الثريا عهده
أرزم عشواء يحر صعده ... حات معاً كماته وربده
ويقال؛ غمامةٌ خرساء ورعدٌ أجش، كذلك يجدون في الغيوم الثقال المرجحنة، وفي في السحاب المتكاثف القليل المخارق والظاهر الرطوبة القريب من الأرض، وقال شاعرهم في صفة الغيث واشتراطه صفة دون صفة:
سحائب لا من صيفٍ ذي صواعقٍ ... ولا محرقاتٍ صوتهن حميم
إذا ما هبطن الأرض قد مات عودها ... بكين بها حتى يعيش هشيم
ووصف امرؤ القيس المرعى الموفر النبت، فقال:
تحاماه أطراف الرماح تحامياً ... وجاد عليه كل أسحم هطال
وإلى ذلك ذهب أبو النجم في قوله:
تبقلت من أول التبقل ... بين رماحي مالك ونهشل
وقال الهذلي:
إنها لجوابا خروقٍ ... وشرابان بالنطف الطوامي
كأنهما في طول ما ينقبان في البلاد، ويجوبان في المفاوز، ويهجمان على مياه ليست لها أربابٌ ولا هي على طرق الغزاة والبغاة، والماء طاف يطفح، ورب موضعٍ هو ضد هذا، وهو كما قال امرؤ القيس:
مجر جيوش غانمين وخيب
ووصف النمر بن تولب الروضة والأرض المحمودة، والبطن الخصيب العشيب، والوادي الكريم، فقال:
وكأنها دقرى تخيل نبتها ... أنف يغم الضال نبت بحارها
عزبت وباكرها الشتاء بديمةٍ ... وطفاء تملأها إلى أصبارها
وقال في مثل ذلك:
كأن حمدة أوعزت لها شبهاً ... في العين تلاقينا بأرمام
ميثاء جاد عليها واكفٌ هطلٌ ... فأمرعت لاحتيال فرط أعوام
إذا يجف ثراها بلها ديمٌ ... من والكف بزل بالماء سحام
لم يرعها أحدٌ واربتها زمناً ... فأو من الأرض محفوفٌ بأعلام
تسمع للطير في حافاتها زجلاً ... كأن أصواتها أصوات جرام
كأن ريح خزاماها وحنوتها ... باليل ريح ألنجوجٍ وأهضام
وقال آخر في صفة روضة:
كانت لنا من غطفان جاره ... حلالةٌ ظعانةٌ سياره
كأنها من دبلٍ وشاره ... والحلى حلى التبر والحجاره
مدفع ميثاء إلى قراره ... إياك أعني واسمعي يا جاره
وقال بشار بن برد:
وحديث كأنه قطع الرو ... ض وفيه الصفراء والحمراء
وأنشد الأصمعي في هزال المال:
وطائية تبكي على أجمالها ... ومن منعنا الريف من عيالها
فما تخطى الطنب من تهزالها
ويقال: إن الحيوان بحتشي من اللحم والشحم على قدر سعة جلده، ويقال: إن سعة الجلد من أعون المور على بعد الوثبة، وإذا كان فضفاض الإهاب واسع الإبطين ضابعاً وكان طويل العنق لا يسبقه شيء، فالبعير بطول عنقه وبه ينهض بحمله الثقيل بعد بروكه، والثور يسرع بسعة جلده ويبطئ بالوقص الذي في عنقه، والحمار يسرع بطول عنقه، ويبطئ بضيق جلده، والفرس يسرع بسعة إبطه وبطول عنقه وعظم جفرته، ولذلك قال الشاعر:
ببطنه يعدو الذكر
وزعم أبو عبيدة وأبو الحسن: أن الفرس ليس له طحال، قالا: ولذلك لا يحتشي ريحاً ولا يناله من الربو ما ينال غيره من ذوات الأربع، قال الشاعر:
رحيب الجوف معتدلٌ قراه ... هريت الشدق فضفاض الإهاب
وقال آخر:
وضاق عنه جلده الفضفاض
وأما قول الآخر:
يا سعد كيف أنت إذ أصحابي ... عاتبتهم فتركوا عتابي
وحل جسمي وانحنت أصلابي ... وكثرت فواضل الإهاب
وهذا عيبٌ لأنه وصف شيخاً قد نحل جسمه، وذهب شحمه ولحمه، ودق عظمه ورق عصبه، فماج إهابه وصار فارغاً بعد أن كان مملوءاً، وإذا صار الجلد كذلك وذهب الذي كان يملأه وتمدد وتبسط وذهبت البلة وأعقب مكانها التيبس تقبض جلده وتشنج إهابه، ولذلك قال النمر بن تولب:
كأن محطاً في يدي حارثيةٍ ... صناع علت مني به الجلد من عل
والمحط: مدلكة ممتلئة يحط بها أصحاب المصاحف ظهور جلود رقاب المصاحف ليجعل ذلك الحزوز نقوشاً، وما أحسن ما قال النمر بن تولب، ولقد جهدت أن أصيب بيت شعر مثل هذا للعرب فما قدرت عليه، وكذلك قول عنترة:
فترى الذباب بها يغني وحده ... هزجاً كفعل الشارب المترنم
غرداً يحك ذراعه بذراعه ... فعل المكب على الزناد الأجذم
ووصف الشاعر الثور فقال:
وأغلب فضفاض جلد اللبان ... يدافع غبغبه بالوظيف
ووصف أبو موسى الأشعري البقرة فقال: إذا صغر رأسها ودق قرنها واتسع جلدها فإنها قد تكون كريمة.
وليس للأنسان من بين جميع الحيوان جلدٌ إذا سلخ تبرأ من اللحم وفرق ما بين جلده وسائر الجلود فرق ما بين القرقمان والحوصلة.
وقال البقطري: سابقوا بين فرس وحمار وثور، فجاء الفرس سابقاً وشهد ذلك بعض الأعراب، فقال: ليبس المطبق كالضابع ولا أوقص كالأعنق.
يقول: لأن الحمار طبقٌ كزه رجع الإبطين لا يستطيع إذا عدا أن يمد صبعيه كالفرس والكلب، قال الشاعر:
كم تضبعون وكم تأسو كلومكم ... وأنتم ألف ألف أو تزيدونا
وقال رؤبة:
ولاتني أيدٍ علينا تضبع ... بما أصبناها وأخرى تشفع
يقول: إذا دعا الله علينا مد ضبعيه ورفعهما إلى السماء، وقال الراجز:
إن الجياد الضابعات
وقال بعض اللصوص وهو يتمنى أن تستاق أموال عبد القيس:
نجائب عبدي يكون بغارةً ... دعا وقد جاوزن عرض الشقائق
يقول: ليس عندهم من بذل المجهود إلا الدعاء والابتهال على من ظلمهم.
ووصف الهذلي الثور وجلده للنعل فقال:
وصلهما جميل
وهم لا يذكرون جلد الجاموس ولا يعرفون النعال إلا من البقر والإبل، ومن رديء الجلود عندهم جلد الضبع وجلد العث، قال الراجز:
يا ليت لي نعلين من جلد الضبع ... وشركاً من استها لا ينقطع
كل الحذاء يحتذي الحافي الوقع
فعد ذلك بقوله: كل الحذاء يحتذي الحافي الوقع، على أنه قد وضعه في موضع التجوز والاحتمال.
وقال الآخر:
إهابه مثل إهاب العث
ثم رجع بنا القول في العرج والظلع، قال الحطيئة:
تسديتها من بعد ما نام ظالع ال ... كلاب وأخبى ناره كل موقد
قال الأصمعي في ظلع الكلاب وزعم أن الكلب إذا أصاب رجله شيء قطع، وهو يريد سفاد الكلبة ويخاف أن تمنعه الكلاب السليمة الأبدان، وهو ينتظر نومها وهي لا تنام حتى تمل من النباح والتجاوب ويهدأ كل رجل منها، ولذلك قال:
أخبى ناره كل موقد
وقال الآخر: لا، ولكن الكلب الظالع هو الهائج، ويقال للكلب ظلع إذا هاج، وأنشد:
يبيت يشكو وجعاً ولا وجع ... وهو إذا أعطى زاداً ابتلع
أسرع شيء عدوه إلى الطمع ... كأنه الكلب إذا الكلب ظلع
وقال الآخر: بل الكلب إذا هاج اعتراه بعض الخماع، فإذا مشى رأيته كأنه يظلع، وقد قال الطفيل:
وقد سمنت حتى كأن مخاضها ... تفشغها ظلع وليست بظلع
وقال ابن عنقاء الفزاري:
أمرا على عوج طوال كأنها ... وليس به ظلعٌ من الخمص ظالع
يقول: ليس به ظلع من علة حادثة سوى الظلع الذي ركب عليه في أصل الخلقة، لأنه أقزل والأقزال أسوأ حالاً من كثير من العرجان، لأن الذئب لا يزال مضطرباً في مشيته، ونساه أشد تشنجاً من نساء الفرس والغراب، والذئب أقزل مرثوم الخطم بسواد سائل الأنف، وكذلك أنف البقرة يكون سائلاً ومرثوماً بسواد، وكذلك الكلب، وأما قول الشاعر:
غاداك ذئب سلجم أنيابه ... يسبق حد نابه لعابه
فإنما ذكر ذلك على جهة المثل، كما قال الشاعر:
وبنو نهير قد لقينا جمعهم ... خبل تضب لثاتها للمغنم
وقال الآخر:
ضبت لثات بني عمرو لوقعتهم ... يوم النجير وكانوا معشراً حشدا
وإنما هذا على جهة المثل، لأن الإنسان ما دام له ريق فهو حي، وصاحب النزع والذي يكيد بنفسه يجف ريقه جفوناً شديداً، وعلى حساب ذلك يصيب المحزون، والجبان في الحرب والخائف يشتد عطشهما ويجف ريقهما، وقال ابن أحمر:
هذا الثناء وأجدر أن أصاحبه ... وقد يدوم ريق الطامع الأمل
وقد قال الآخر:
.. إذا ما استيبس الريق عاصبه
وقال الزبير بن العوام وهو يرقص عروة بن الزبير:
أبيض من آل أبي عتيق ... مبارك من ولد الصديق
ألذه كما ألذ ريقي
وقال بشار:
رهبةً أو رغبةً في وده ... إنه إن شاء أحلى وأمر
يتقي الموت به أشياعه ... حين جف الريق وانشق البصر
وقالوا في سواد منخر الذئب والكلب، قال الشاعر ووصف ذئبة:
مألولة الأذنين كحلاء العين ... ومنخرين حلقا مسودين
وقال الطرماح أيضاً في سواد لثام الذئب:
وفلاة يستفز الحشا ... من صواها ضبج بومٍ وهام
تفجا الذئب بها قائماً ... أبرق النحر أحم اللثام
فزعم كما ترى أنه أحم اللثام، وكذلك وصف الشاعر الكلب، فقال:
وأغضف الأذن طاوي البطن مضطمرٍ ... لوهوهٍ رذم الخيشوم هرار
وقال كعب بن زهير يذكر سيلان أنف الذئب:
قالت أراهط من عوفٍ ومن جشمٍ ... يا كعب ويحك هلا تشتري غنما
من لي منها إذا ما أزمةٌ أزمت ... ومن أويس إذا ما أنفه رذما
واسم الذئب أوس، فلما صغره قال أويس، وقال الشاعر:
ما فعل اليوم أويسٌ في الغنم
وقال الطرماح: أبرق النحر، هو مثل قول عمرو بن معدي كرب:
وكم من غائطٍ من دون سلمى ... قليل البوم ليس لها كتيع
يرى السرحان مفترشاً يديه ... كأن بياض لبته الصديع
لأن الأبرق يكون سواده مخالطاً للبياض، والصديع هو الفجر، والفجر مختلط بياض النهار ببقية سواد الليل، وأما قوله:
لكل ريح لقحت معدين
فقد وصف الراجز استرواح الذئب وحرصه على استنشاق الريح، فقال:
يستبخر الريح إذا لم يسمع ... بمثل مقراع الصفا الموقع
ومن العرجان، ثم من رؤساء المتكلمين، ومن مشايخ المعتزلة، ومن أرباب النحل، ومن العلماء باختلاف الملل، وكان أعلم من رأينا من الخوارج، وكان من أربى على المائة وهو أبو كلدة، وهو الذي قال له النضر بن إسماعيل القاص البليغ الشجاع وكنيته أبو المنذر، وكان رئيس الشعوبية: قبلت بالبصرة يا أبا كلدة، إن لك شرجاً وإن لي شرجاً فاطلب شرجك فيما بينهما وفيما بين بينهما إن كان بين بينهما بون، قال أبو كلدة: يا أبا المنذر؟ هذه رقية وأنا رجل أعرج، فاقصد بها رجلي فلعل الله أن يرزقني على يديك الشفاء.
والنضر هو الذي لما سئل عن خلق الكلام قال: منه الحروف ومنك التأليف، كما كان منه النتاج ومنك الكنيف.
وقال له رجل: أضحى بالجذع من الضأن؟ فقال: إذا تجنبت المسان والمهازيل من السمان.
ومن العرجان، مالك بن المحراس، كسرت رجله يوم الهباءة فعرج.
ومن العرجان الفقهاء البلغاء، أبو العلاء يزيد بن الشخير أخو مطرف بن عبد الله بن الشخير.
ومن العرجان الأشراف ومن أهل العارضة واللسن والجلد، إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله أخو حسن بن حسن لأمه، قالوا: وكان قد غلب على أموالهم حتى شكوا ذلك إلى أبي هاشم عبد الله محمد بن علي بن أبي طالب، فدخل على والي المدينة فلما رآه عنده قال: ألا أدلك أيها الأمير على الظالم الضالع الظالع، في كلام غير هذا قد عرضه الرواة.
وقال حميد بن ثور الهلالي:
كفى حزناً ألا أرد مطيتي ... ...... مستزاد إلى أهلي
وألا أدل القوم والليل دامسٌ ... فجاج الصوى بالليل في الغائط المحل
ولا يتقي الأعداء شري وقد يرى ... مكان سوادي لا أمر ولا أحلي
وطرحي سلاحي واحتبائي قاعداً ... لدي البيت لا يبلى شراكي ولا نعلي
وإيصابتي أهلي الضعيف مخافةً ... علي وما قام الحواضن عن مثلي
أعين العصا بالرجل والرجل بالعصا ... فما عدلت مثلي عصاي ولا رجلي
هذا رجلٌ يصف الكبر والضعف الذي يعتري الهرمي، وليس يحمل أحدهم العصا على جهة حمل الأعرج، ولكنه مما يجوز أن يدخل في هذا الباب.
والعرج أيضاً يعرض من أمور كثيرة، وقد علمنا أن صاحب النقرس أسوأ حالاً إذا تكلف المشي من الأعرج، كما كان يصيب هرثمة بن أعين ونصر بن شبث وإسماعيل بن نيبخت.
وكان العلاء بن الوضاح يوتد سكة حديد في الأرض حتى يغرقها، ثم يشد ساقه بها، ثم يضع رجله اليسرى في الركاب ويثب فيقلع السكة ويستوي على ظهر الفرس كأنه لم يصنع شيئاً من شدة متنه وقوة عصبه وتوتير نساه، فانقطعت في بعض ذلك عصبةً من ساقه فكان أسوأ حالاً من الأعرج، ولقد رأيته بالمنازل في غداة قرةٍ وهو على فرس له سرج ولجام في قباطان فما رأيت مثله أشد ولا أفرس.
ومن العرجان الأشراف السادة، ومن قدمته العشائر طوعاً ورأسته الخلفاء اختياراً وتحفظ الناس كلامه ودونوا ألفاظه واقتبسوا من علمه، وفي طول ما مدح الله به عباده والصالحين بالأسماء الكريمة ووصفهم بالخصال الشريفة، لم يمدحهم بشيء أقل من ذكره لهم بالحلم، ولم نجد ذلك في القرآن إلا في موضعين، وقد وصف الناس بالحلم عاداً في الجملة، كما قال النابغة:
أحلام عادٍ وأجسادٌ مطهرةٌ ... من المعقة والآفات والأثم
وقد ذكروا في الشعر حلم لقمان ولقيم بن لقمان، وذكروا قيس بن عاصم ومعاوية بن أبي سفيان ورجالاً كثيراً، ما رأينا هذا الاسم التزق والتحم بإنسان وظهر على الألسن كما رأيناه تهيأ للأحنف بن قيس، وكان مع ذلك رئيساً في أكثر تلك الفتن فلم تر حاله عند الخاصة والعامة وعند النساك والفتاك، وعند الخلفاء الراشدين والملوك المتغلبين ولا حاله في حياته ولا حاله بعد موته إلا مستوياً. فينبغي أن تكون قد سبقت له من النبي صلى الله عليه وسلم دعوة أو قال فيه خيراً كما رووه وذكروه، أو كان قد ظهر منه من حسن النية ومن شدة الإخلاص ما لم يكن عليه أحد من نظرائه.
فإن قال قائل: أنتم تزعمون أن عبد المطلب أحلم الناس وكذلك العباس بن عبد المطلب، قلنا: إن الأحنف كان الحلم غالباً عليه فبان من سائر أعماله، ومحاسن عبد المطلب وخصال العباس في المجد والشرف كانت متكاثفة متساوية، كل خصلة منها تنتصف من أختها وكانت كما قال الشاعر:
أنى غرضت إلى تناصف وجهها ... غرض المحب إلى الحبيب الغائب
وكذلك قوله:
جاءت تهض الأرض أي هض ... يدفع منها بعضها عن بعض
مثل العذارى شمن عين المغضي
وقال جرير في شبه ذلك:
برزن فلا ذو اللب وفرن عقله ... وقلن فلم يفضح بهن مريب
وقال قيس بن الخطيم:
تغترق الطرف وهي ساهمةٌ ... كأنما شف وجهها النزف
وهذا البيت ليس من الشكل الأول ولكنه مما يتعلق به ويروى معه.
وإذا كانت الخصال كذلك لم يغلب على صاحبه اسم دون اسم، ورجع الأمر فيه إلى أن يسمى سيداً وما أشبه ذلك، والنبوة تأتي على الغايات وتجوز النهايات.
وكان الأحنف أحنف من رجليه جميعاً ولم يكن له إلا بيضةٌ واحدة، وكان قد ضرب على رأسه بخراسان فماهت إحدى عينيه، وقال الحتات: إنك لضئيلٌ وإن أمك لورهاء، وقال أبو الحسن: ولد الأحنف مرتتق حتار الاست حتى فتق وعولج، فإن كانت هذه الصفات كذباً وباطلاً فإنا لا نشك أن الحسد الذي أخرج من أعدائه هذه الأمور لم يكن إلا على نعمة سابغة غامرة، وإلا على خصال عالية فاضلة، ثم لم يضره ذلك ولا وضع منه، ولا زادته الأيام إلا رفعةً معلومةً معروفة، لم تنقض من قدره عروة، ولا فتحت من معاقد رياسته عقدة، فيعلم الطاعن عليه أنه إنما يريد أن يطمس عين الشمس، ويرد هبوب الريح، كان أبين الناس في كل حال، وأخطبهم في يوم حفل ومصنع، وفي يوم أنس واسترسال، وهو صاحب الراية بخراسان، وقد انغمس في حومة الحرب ثلاث مرات وهو يقول:
إن على كل رئيس حقا ... أن يخضب الصعدة أو تنشقا
وسار تحت لوائه الأقرع بن حابس، وكان واليه على الجوزجان ومشى في جنازته مصعب بن الزبير بغير حذاء ولا رداء، مع علمه بما قال الناس في شأنه وشأن ابن جرموز، وكان مع ذلك لا يرى الحكمين، وهو الذي قال لرسول قطري ولرائده وبغيه والمبلغ عنه: إن ركبوا بنات شحاج وقادوا بنات أعوج وأصبحوا ببلدة وأمسوا بأخرى، طال أمرهم.
وهو الذي قال لما طمع فيه عبد الملك للجفوة التي حدثت بينه وبين مصعب وجرد إليه رسولاً، فقال للرسول: أبلغ صاحبك أنه إن لم يغزنا لم نغزه، وإن أتانا لم نقاتله، فعندها قوى عبد الملك في نفسه.
ومما يدل على تواضعه وحسن نيته، وعلى أنه لم يعم بالرأي ولم يخص، مما رووا من شأن الرجل الذي قال له: ما يمنعك من دخول المقصورة؟ قال: فأنت ما يمنعك من دخولها، قال: لا أترك، قال: فلذلك لا أدخلها.
وتكلم الناس عند معاوية في توكيد بيعة يزيد والأحنف ساكت، فقال معاوية: لم لا تتلكم يا أبا بحر؟ قال: أخافك إن صدقتك، وأخاف الله إن كذبتك.
وأطرى رجل من قريش يزيد بن معاوية عند معاوية، فلما خرج الناس أقبل على الأحنف فقال: إني والله وإن قلت الذي قلت رغبةً أو رهبة فإنه ما علمت للذي... وإن ابنه ما علمت للذي...، قال الأحنف: إن ذا الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً.
وشهد مصعباً يوماً وهو يوبخ رجلاً ويقرعه، ويقول: أبلغني عنك الثقة كذا وأبلغني عنك الثقة كذا، فقال الأحنف: كلا أيها الأمير، إن الثقة لا يبلغ.
هذا الذي كتبت لك قليلٌ من كثير، ولم نرد الإخبار عن بلاغة لسانه ولا عن كثرة معرفته، وإنما أردت أن تعرف حسن نيته، وكتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص: " يا سعد سعد بني وهيب، إن الله إذا أحب عبداً حببه إلى خلقه، فاعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس، واعلم أن ما لك عند الله مثل ما لله عند " . فنحن نظن أن هذه المنزلة التي صارت للأحنف في قلوب الناس لمنزلة الإسلام من قلبه، وهو الذي لما دخل في الوفد على مسيلمة الكذاب فخرج من عنده، فقال له بعض رؤساء القوم: كيف رأيته؟ قال: والله ما هو بنبي صادق ولا متنبئٍ حاذق.
وهو الذي لما وفد على عمر وتنازعوا الكلام عنده أمسك حتى كان عمر هو المستنطق له الكلام، وخص القوم بالكلام عمر وذكروا شأن أنفسهم، وتكلم الأحنف عمن غاب من مجلسهم فتكلم في مصلحة البلاد والعباد، وسنذكر فقراً من كلامه في كتاب " البيان والتبيان " إن شاء الله، وبالله التوفيق.
ومن العرجان ثم من الملوك يزدجرد بن شهريار بن شيرويه بن كسرى برواز، وطئ بخراسان أيام خرج من العراق امرأة فولدت له ابناً مخدجاً ذاهب الشق، وكان عرج يزدجرد من قبل نقصان كان بوركه، وقيل لجده: إنه سيكون ذهاب ملككم على رأس غلام أعرج ناقص الورك، فعزم على قتله حتى صرفته عن ذلك سيرين.
قال أبو عبد الرحمن: كان أنو شروان أعور، وكان يزدجرد أعرج، والحارث الملك الأصغر الغساني أعرج، وكان جذيمة ابن مالك الوضاح أبرص، وعمى صصة أبو زاهر بن صصة ملك الهند قبل أن يموت بسنة، وكان يزيد بن عبد الملك أفقم، وكان هشام أحول، وكان مروان الحمار أشقر أزرق. وكان النعمان بن المنذر أحمر العين أحمر اللون.
ولم يكن في أصحابنا مذ هلك أبو العباس إلى ملك المتوكل إلا سليم الجوارح نقياً من الابن صحيح الأعضاء جميل المنظر بهي الرواء، فأما الصلع فإنه انقطع بعد مروان بن الحكم، فلم يكن في ملوكهم ولا في خلفائنا أصلع إلى يومنا هذا.
ومن العرجان: سلمان بن ربيعة الباهلي، وهو سلمان الخيل، كان أبصر الناس بعنق دابة، وأبصرهم بإقراف وهجنة، وأعلمهم بخارجي وعريقٍ وبهم وبعير، ويعرف السابق من المصلى، قالوا: وكان ابن أقيصر على مثاله يحتذي وإياه يحكى، وفي قبره وقبر قتيبة بن مسلم يقول شاعرهم:
إن لنا قبرين بلنجر ... وقبراً بصين استان يالك من قبر
فأما الذي بالصين عمت فتوحه ... وسلمان يسيسقي بها سبل القطر
وكان على المقاسم، وأول من قضى لعمر بن الخطاب على الكوفة، قالوا: جلس للناس شهرين فلما لم يتقدم إليه خصمان لصلاح الزمان واصطلاح الناس طوى بساطه وحمد الله على ذلك، وله أخبار وأحاديث.
قالوا: وكانت دار سلمان بن ربيعة لسعيد بن قيس الهمداني حتى رحل سلمان إلى عمر بن الخطاب، فقال: يا أمير المؤمنين رجل أعرج ولا قوة لي على المشي إلى المسجد، فكتب عمر إلى سعد بن أبي وقاص: أن أقطعه أقرب المواضع إلى المسجد، وكلم سعد سعيد بن قيس، فقال له: يا أبا عبد الرحمن؟ هذا رجل زمن، فتحول عن داراك وأعطك مثلها، فت0حول عنها سعيد ونزلها سلمان ووفى له سعد بالذي قاله.
قالوا: وكان عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب والي الكوفة وكان أعرج، وكان على شرطه القعقاع بن سويد المنقري وكان أعرج، وكان على كتابته سلمان بن كيسان وكان أعرج، فكان صاحب الشرطة يخرج وهو يخمع، ثم يخرج الأمير وهو يخمع، ثم يخرج الكاتب وهو يخمع، وكان الحكم بن عبدل الشاعر أعرج، فرآهم وخاطب نفسه فقال:
ألقى العصا ودع التخادع والتمس ... عملاً فهذي دولة العرجان
لأميرنا وأمير شرطتنا معاً ... يا قومنا لكليهما رجلان
لم أر الشعر دل إلا على عرج الأمير وصاحب الشرطة وعلى عرج الحكم الشاعر.
وفي حديث الهيثم زيادة أعرجين، أحدهما ابن أبي موسى والآخر سليمان بن كيسان وهذا عندي عجب.
وكان الحكم بن عبدل قد خافه الناس وهابته الأمراء بعد هجائه لمحمد بن حسان وكان بعد ذلك لا يغشى أبوابهم، ولكنه كان يكتب على عصاه حاجته ويبعث بها مع غلامه فيدخل الحاجب العصا ويقضي حاجته، والناس والشعراء محجوبون، فلما رأى يحيى بن نوفل وحمزة بن بيض وأبو جسرح ما صنع الحاجب بعصا الحكم وهم بمزجر الكلب، قال يحيى بن نوفل:
عصا حكم في الناس أول داخل ... ونحن لدى الأبواب نقضي ونحجب
ومن العرجان ثم من العبيد الشعراء، وممن يعد في الحدب والعرج: ذو الركبة العوجاء وأظنه السائل المثري، وهو الذي يقول فيه الشاعر في قصيدته التي ذكر فيها شعر العبيد، وقد ذكرنا هذه في كتاب " الصحراء والهجناء " وإياه يعني في قوله:
وفي درك والعبد ذكوان والذي ... أراح على بشرٍ بقاصمة الظهر
وعبد بني الحسحاس والشيخ مورقٍ ... وذي الركبة العوجاء والسائل المثري
فذو الركبة الذي يقول:
سخر الغواني إن رأين مويهناً ... كالنوء أكلف شاحبٍ منهوك
ورأى البيوت فجاء يأمل خيرها ... مهرى حدي فعليه وسلوك
والركبتان مفارلاقٌ رأساهما ... والظهر أحدب والمعاش ركيك
سئم الحياة ولاح في أعطافه ... قشف الفقير وذلة المملوك
مثل البلية برحت بحياته ... خرق البطون قليلة التبريك
يقول: أنا راعي ضأن والضائنة آكل كل شيء، وأدومه رغبة وأكلاً، وهي لا تبرك كبروك الإبل فيستريح الراعي، ولغظ مؤونتها على الراعي قالوا: أحمق من راعي ضأن ثمانين، لأنه يتعايا بها وتغلبه فيعجز عنها، والنعجة موصوفة بشدة الأكل ودوامه، وهي آكل من الكبش. والرمكة آكل من البرذون، وقيل لأعرابي: أي الدواب آكل؟ قال: برذونةٌ رغوثٌ، فإذا كانت البرذونة آكل الدواب فعلى حساب ذلك أكلها إذا أرضعت، ويقال: إنه لو جمع أكل المرأة من غدوة إلى الليل لكان أكثر من غداء الرجل وعشائه، هكذا يحكون في أكثر النساء، وهي تمضغ من غدوة إلى الليل وكذلك الحجر والفرس.
ومن العرجان، معاذ بن جبل، قالوا: وكان معاذ أمة، وكان يشبه إبراهيم خليل الرحمن، ولم يكن في السلف أحسن جردةً ولا أنعم بدناً من معاذ وسهل بن حنيف. وقال النبي صلى الله عليه وسلم " آمن كل شيء من معاذ حتى خاتمه " ، وكان يعد من الزهاد الستة، وقد شهد المشاهد وولى للنبي الولايات، وقبض الصدقات، وتعليم الناس الإسلام وتدريسهم القرآن. وهو ابن أقل من عشرين سنة، وكان عند رسول الله وجيهاً وفي عيون المسلمين عظيماً، وقال الهيثم: أنبأنا أبو الهذيل سعيد بن عبيد الطائي في إسناد له، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن فنزل في حي منهم، وقال: لا تروني أصنع شيئاً إلا صنعتم مثله، وكان به عرج فكان إذا صلى قدم إحدى رجليه، قال: فلما صلوا لم يبق منهم أحدٌ إلا قدم إحدى رجليه، قال: فلما انصرفوا قال لهم: إني إنما فعلت هذا من عرجٍ، فلا تفعلوا مثل هذا.
وزعموا أنه صلى إلى قرب شجرةٍ فكان غصنٌ منها قد ضرب إحدى عينيه فتناوله فكسره فلم يبق أحد ممن خلفه إلا تقدم إلى الشجرة فكسر منها غصناً.
قالوا: ولما قدم معاذ على النبي عليه السلام ومعه أصحابه الذي قدم بهم سجدوا للنبي عليه السلام، وكان يرون ذلك من صنيع العامة تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي: " اسجدوا لربكم وأكرموا أخاكم، ولو أمرت أحداً يسجد لأمرت المرأة أن تسجد لبعلها " .
وكان أبو عبدان المخلع مولى بلعنبر واسمه مرثد، وكان أطيب الناس شعراً، وكان صعترياً صاحب نيزكيةٍ وتخلع، وكان ذا نشال، وإذا تكلم عقف أصابعه، فلم يزل يتكلف ذلك حتى صار مخلعاً بالحق، وصار أسوأ حالاً من الأشل، وكان في صغره خياطاً فصار في حال لا يستطيع أن يملك نفسه ولا يمسك إبرةً بيده، وهو الذي يقول:
الدين أدناني وما كنت بالدني ... وأدنى من الدين الذي لديات
وهو الذي يقول في أبيات له فحشةٍ يذكر فيها الغلمان:
وكل نكش بالكشح مغترف ... أصبح نحوي مزاجراً ذربا
صار له خاضباً فواحزناً ... لو عز هذا النمير ما خضبا
ومثله ما خبرني به أبو عباد النميري واسم أبي عباد مروان، قال: كنت وأنا غلام أشتهي الصعترية والمواثبة والتكاتف والنشال، وتعقيف الأصابع إذا تكلمت، فصرت والله كأني أفرغت في ذلك القالب إفراغاً، فلما عقلت احتجت إلى أن أستوى فما أجابتني الطبيعة ولا أجابتني تلك الجوارح إلا بشدة الاستكراه، وبقيت والله خمصر أصابعي ما تنبسط إلا بأن أمدها، ومتى تركتها عادت معقفة، وأبو عباد هو الذي يقول لما وجهه بعض العمال في السعاية وحفظ البيدر وما فيه، فقال:
كنت بازاً أضرب الكر ... كي والطير العظاما
فتقنصت بي الصعو ... فأوهنت القدامى
وإذا ما أرسل البا ... زي على الصعو تعامى
وكان يتمثل في ذلك في بقول الفرزدق حين بعثوه يرعى الغنم، فضيعها وعاث فيها الذئب، فقال عند ذلك في أبيات له وهو أول شعر قاله:
وما كنت مضياعاً ولكن همتي ... سوى الرعي مفطوماً وإذ أنا يافع
أبيت أسوم النفس كل عظيمةٍ ... إذا وطئت بالمكثرين المضاجع
وقد كان أبو عباد أراد بقول أبي النجم في صفة الراعي:
يميس بين الغانيات الجهل ... كالصقر يجفو عن طراد الدخل
وقد وصف عبيد الراعي كيف تتحول صورة الراعي وتتبدل خلقته، وكذلك كل صناعة تصور صاحبها على ما يشاكلها، ألا ترى أن الحائك يعرف بصدرته وتفحج رجليه، ولا يكون أبداً إلا وجلد بطنه أسود، وقد ذكر خلف بن خليفة - وقال عبيد الراعي:
ترى وجهه قد شاب في غير لحيةٍ ... وذا لبد تحت العصابة أنزعا
ترى كعبه قد كان كعبين مرةً ... وتحسبه قد عاش حولاً مكنعا
وقال يزيد بن مفرغ ما يؤكد قولنا ويفسره، قال:
يقولون أوسٌ شاعرٌ فاحذرنه ... وما أنا إن لم أهج أوساً بشاعر
رأيت لأوس خلقةً فشنأتها ... لهازم حراثٍ وتقطيع جازر
وقال آخر:
وصفت بجهدي وجه حفص وخلقه ... فما قلت فيه واحداً من ثمانيه
لهازم أكار وخلقة كافرٍ ... وتقطيع كشخان ورأس ابن زانيه
ولحية قوادٍ وعيني مخنقٍ ... وجبهة مأبون يناك علانيه
وراحة صباغٍ وصدرة حائكٍ ... ومرفق سقط رد في الرحم ثانيه
وممن هجى بالخلقة وليس بشيء اجتلبه، جعفر بن يحيى، قال أبو نواس في جعفر بن يحيى:
قالوا امتدحت فماذا اعتضت قلت لهم: ... خرق النعال وإخلاق السراويل
قالوا فسم لنا هذا فقلت لهم ... أو وصفه يعدل التفسير في القيل
ذاك الوزير الذي طالت علاوته ... كأنه ناظرٌ في السيف بالطول
وقال أبو نواس فيه أيضاً:
عجبت لهارون الخليفة ما الذي ... يومله من جعفر خلقة السلق
قفا خلف وجهٍ قد أطيل كأنه ... قفا ملك يقضي الهموم على بثق
وأعظم زهواً من ذباب على خراً ... وألأم من كلب عقور على عرق
أرى جعفراً يزداد بخلاً ورقة ... إذا زاده الرحمن في سعة الرزق
ولو جاء غير البخل من عند جعفر ... لما وضعوه الناس إلا على حمق
ومن العرجان، هرثمة بن النضر الجبلي، وما رأيت أحداً قط يمشي وهو أعرج إلا وقد كان هرثمة أقبح مشياً منه، وذكروا أنه كان على ظهر الفرس يعطي يوم الروع حقه من الطعان.
قال العمري: كان عمر بن الخطاب يمسك أذنه اليسرى بإصبعه اليمنى ثم يثب على ظهر الفرس كأنما خلق هنالك، وكان يقول: اقطعوا الركب وانزوا على الخيل، وتمعددوا واخشوشنوا، وكان يقول: إياكم والسمنة فإنها عقلة، وامشوا حفاةً فإنكم لا تدرون متى تكون الجولة.
قال: وجمع الوليد بن يزيد جراميزه ووثب من الأرض على ظهر فرسه كأنه لم يزل فوقه ثم أقبل على ابن هشام وكان الوليد ولي عمه هشام، فقال: أبوك يحسن مثل هذا؟ قال: لأبي مائة عبد كلهم يحسن مثل هذا.
قالوا: ولم يكن من ولد العباس إلى يومنا هذا خليفة إلا وهو فارس صبورٌ على شدة الركض وعلى طول السرى.
ومن العرجان، أبو مالك الأعرج الشاعر، وهو الذي عناه اليزيدي بقوله:
لعمري لئن كان العيرج آرها ... فما الناس إلا آير ومئير
وأبو مالك الذي يقول:
تلوط دهراً ثم عاذ بدبره ... فيالك من دبرٍ ترد المظالما
ومن العرجان المجاهيل، ما حدث به أبو الحسن، عن أبي الوليد: قال: بينما عمر بن الخطاب جالساً إذ قيل أقبل أعرج يقود ناقة تظلع حتى وقف عليه فقال:
إنك مسترعىً وإنا رعية ... وإنك مدعو بسيماك يا عمر
أرى يوم شرٍ شره متفاقم ... وقد حملتك اليوم أحسابها مضر
فقال عمر: لا حول ولا قوة إلا بالله. وشكا عرج رجله وظلع ناقته، فقبض عمر الناقة وحمله على جمل وزوده، ثم خرج عمر حاجاً في عقب ذلك فبيناه يسير إذا لحق راكباً وهو يقول:
ما إنما رأينا مثلك يا ابن الخطاب ... بعد النبي صاحب الكتاب
أبر بالأدنى وبالأحباب
فنخسه عمر بمخصرة معه.
وفي بني النضير عرجان وحولان، فلذلك قال خفاف بن ندبة السلمي في تعيير الربيع بن أبي الحقيق:
فسوف ترى إن ردت الأوس حلفها ... وزالت وأحساب الرجال تزيل
ولاقيتها شهباً تخطر بالقنا ... وشعبة يدعى وسطها والسمول
وأبصرتها وسط البيوت كأنها ... إذا برقت في عارض الصبح أغيل
وغودر وسط القوم لما اصطففتم ... ثلاثة رهطٍ أعرجان وأحول
قالوا: وكذلك يقال في بارق أن الأعمى والأعرج فيهم كثير، ولذلك قال حشية:
كشحتك استك للعجار وبارقٌ ... شيخان أعمى مقعدٌ وكسير
وقال الصحيح للأعرج ذكرت الاعوجاج فمدحته وقلت: ليس الشأن في الاستقامة والاعوجاج وإنما مدار الأمر على المصالح، ونحن نجد جميع أعضاء الجسم إذا دخله الاعوجاج فسد، كما يقال للرجل أعرج وأفحج وأفلح وأفدع وأقفد وأحنف وأصدف، ومثل: خامع وظالع، وفي الظهر مثل: أحدب وأزور وأبزخ وأقعس، ومثل: أحنف وأعرج وأعصل وأصدف وأعقف وأجنى، وفي الفم: ملقم وأضجم وأفقم وأشغى، وفي العين: أشتر وأحول وأقبل، وفي الأذن أخذى وأذقى وأفد، وفي الضرع والثدي الحضون والشطور، وفي اليد المكنع والمقفع، وقد قالت مرةٌ في صفة ساق شيخ:
عجبت للشيخ إذا ما اجلخا ... وسال غرب عينه فلخا
وصار أكلا دائماً وشخا ... تحت رواق البيت يغشى الدخا
وقال بعض الشيوخ في انحناء ظهره:
لما رأت في ظهري انحناء ... والمشي بعد قعس إجناء
أجلت وكان حبها إجلاء ... وجعلت ثلثي غبوقي ماء
ثم تقول من بعيد هاء ... دحرجةً إن شئت أو إلقاء
ثم تمنى أن يكون داء ... لا جعل الله لها شفاء
وقال حميد بن مالك الأرقط يصف أنوف ضيفانه بأنها حجن، والأحجن والأعوج سواء:
مزملين على الأقتاب بزهم ... حقائب وعباء فيه تفنين
مقدمين أنوفاً في غطائهم ... حجناً فلا جدعت تلك العرانين
وقال الهذلي:
ولو سمعوا منه دعاء يروعهم ... إذاً لأتته الخيل أعينها قبل
وقال بشامة بن الغدير في صفة ناقته:
توقر شازرةٌ طرفها ... إذا ما ثنيت إليها الجديلا
بعينٍ كعين مفيض القداح ... إذا ما أفاض إليها الحويلا
وقال سويد بن صامت يذكر ما كان في قريظة والنضير من الحولان والرمصان والحدب:
قل لليهودي إن اللؤم حالفكم ... من قبل عادٍ فأخفوا الشخص واقتصدوا
حولٌ ورمص لئام في مجالسهم ... منهم خنازير أهل الأرض والقرد
وأحدب الظهر ما ترجى مروءته ... مشوه الخلق في أطرافه أود
وأنشد أبو الرديني العكلي في الأعصل والمعوج:
يا صاحبي حملاه ما حمل ... ولا تخافا جفوتي ولا بخل
إني على بطء قيامي وكسل ... ودقةٍ في وشيء من عصل
أذب عن عرضي وأودي بالجمل
وذكروا أن أخوين من أهل اليمامة أو من بعض بلاد النخل كان أحدهما صاحب إبل والآخر صاحب نخل، فقال صاحب الإبل يفخر على صاحب النخل، فلما أراد الزراية على الفسيل وتهجين شأنها بأنها مقيمة لا تبرح ولا تمشي ولا تتصرف جعلها عرجاً فقال:
ألهاك عن سوق المخاض الثبج ... وبدها لغائطٍ ملتج
أحوى كلون الليل مزمئج ... تنبت أولات الأشاء العرج
محنبات كسبايا الزنج
فرد عليه صاحب النخل فقال:
إني وجدت النفس في حياضها ... والجدول العاسل من فراضها
خيراً من القعد أو اعتضاضها ... ونزوات القلب من أمراضها
كوم الذرا لم تثن من إباضها ... ولم يحوط خشية ارفضاضها
ومن العرجان، الطائي، وخطب امرأة فشكت إلى جاراتها وقالت: أيخطبني أعرج! فقال:
تشكو إلى جاراتها وتعيبني ... فقالت معاذ الله أنكح ذا الرجل
فكم من صحيح لو يوازن بيننا ... لكنا سواء أو لمال به حملى
والأعرج الطائي هو الذي يقول:
لقد علم الأقوام أن قد فررتم ... ولم تظهروها للمعاشر أولا
فكونوا كداعي كرة بعد فرة ... ألا رب من قد فر ثمت أقبلا
فإن أنتم لم تفعلوا فتبدلوا ... بكل سنانٍ معشر الغوث مغزلا
وبالدرع ذات الفرج درجاً وعيبةً ... وبالترس مرآةً وبالسيف مكحلا
وأعطوهم حكم الصبي بأهله ... وإني لأرجو أن يقولوا بأن لا
وحكم الصبيان مضروب به المثل، وقال الآخر:
ولا تحكما حكم الصبي فإنه ... كثير على ظهر الطريق مجاهله
ومن العرجان الأشراف وأصحاب الولايات، الحكم بن أيوب الثقفي، ولاه الحجاج البصرة ثلاث مرات، فلما كان أيام يزيد ابن المهلب وصالح بن عبد الرحمن قتل في العذاب.
ومن العرجان، محمد بن ثابت مولى نصير، أتلف الناس لدرهم وأبصرهم بكل شكل وزي ولباس وفرشة ومركب وأداة، ومن لم ير فيه متنزهاً، وأحمد بن خلف البريدي لم ير نزهة قط.
وكل ذي رجلين في الأرض وكل ذي أربع إذا قطعت واحدة أو انكسرت واحدة فإنه يمشي على الأخرى شيئاً قليلاً كان أو كثيراً، وإن كان ذلك على التحامل والوثوب على رجل واحدة أو على ثلاث، إلا النعامة من بين جميع الخلق، فإن الظليم متى انكسرت إحدى رجليه لم يبرح مكانه أبداً مات أو عاش.
وأنشدنا ابن الأعرابي أو بعض إخواني من النحويين الثقات لبعض الأعراب يخاطب امرأةً في جفائها بأخيه، وكان اسم أخيه رحبة:
أرحبة عني تطردين تبددت ... بلحمك طير طرن كل مطير
قفي لا تزلي زلةً ليس بعدها ... جبور وزلات النساء كثير
فإني وإياه كرجلي نعامةٍ ... على كل حالٍ من غنىً وفقير
وذكر العرج إذا عم أهل البيت وجرى القوم منه على عرقٍ أو غير ذلك من العلل والآفات، كان بنو الحذاء عرجاً وكانت أرجلهم معوجة شديدة الاعوجاج، فقال بشر بن أبي خازم:
لله در بني الحذاء من نفرٍ ... وكل جار على جيرانه كلب
إذا غدوا وعصى الطلح أرجلهم ... كما تنصب وسط البيعة الصلب
قال الأصمعي: عصى الطلح وأغصانه أشد الأغصان اعوجاجاً فوصف أرجلهم بها، ومن ذلك قول البطين لرجل من بني تغلب:
موقع الوجه قليل الصفح ... له كلامٌ كعصى الطلح
لأنه كان معوج الكلام مخرجه على غير الاستقامة، وأنشدني أبو الرديني العكلي:
فتىً كان يعلو مفرق الحق قيله ... إذا الخطباء الصيد عصل قيلها
يقول: إذا اعوج كلام الناس وزل عن الطريق علا كلامه مفرق الحق.
وبينا بيان بن سمعان في غرفة بالمدائن مع أصحابه وهو يخبرهم بما يكون من الملاحم، ومر به رجلٌ أعور سكير، فقال: نعم والله لا تنقضي الفتنة حتى يملك هذا الأعور أعنة الخيل، إذ أشرف رجل منهم فرأى رجلاً على الباب في زي السلطان، وكان الرجل رسول صاحب الخراج إلى رب الدار، ولم يكن رسول السلطان إليهم، فقال المشرف: أتيتم، قد جاءتكم رسل السلطان، فتطافروا الجدران وسقط بيان بن سمعان فانكسر ساقه وتهشم وجهه، فلما علموا أن الرسول لم يكتب بسلطان وأنه إنما جاء الي رب الدار تراجعوا فقال له بعضهم: أنت تخبرنا عن الأمور الكائنة ولا تعلم بشأن هذا الرجل حتى قتلت نفسك؟ قال: قد عرفت شأنه، ولكنني أردت أن أبلو أخباركم، فقال معدان الأعمى وهو أبو السري الشميطي - من أهل المازج والمديبر - يذكر بيان في قصيدته التي يذكر فيها أصناف الغالية وغيرهم ممن خالف قول الشميطية:
والذي طفف الجدار من الرع ... ب وقد بات قاسم الأنفال
يعد الأعور المدامن سكراً ... أن سيقتاد ضمراً كالسعالي
وإليه مع الخزائن طراً ... نقمات الورى وقود الرعال
فغداً خامعاً بوجه هشيمٍ ... وبساق كعود طلح بال
فهذا كله يدل على تفسير الأصمعي، وقال البطين:
أناس ترى الأفخاذ منهم بسوقها ... مرادى سفينٍ في البطائح تمهر
وصف اعوجاج سوق هؤلاء العرجان بالمرادى إذا رأيتها، فإنك لا ترى المرادى إلا وهي معوجة في العين أو متكسرة، وقوله: تمهر يريد تسبح، وذلك لأن الماهر هو السابح.
وكان زيد بن عمارة صاحب البريد بالأهواز أعرج من رجليه جميعاً، وكانت ساقه شديدة الاعوجاج، فقال أبو الشمقمق:
رجل زيد بن عماره ... م
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |