التاريخ العربي من «الدولة السلطانية» إلى الدولة الحديثة / وجيه كوثراني
2014-01-22
كيف عاش العرب طوال تاريخهم مع فكرة الدولة؟ وما الذي جعل هذه الفكرة مشوّهة إلى هذه الدرجة؟
استقر معنى الدولة في الغرب الحديث على مفهوم كاد أن يصبح ثابتًا من ثوابت الفكر السياسي الغربي، وهو مفهوم «الدولة الأمة» (Etat-nation)، على الرغم مما يثيره هذا المفهوم من إشكالات ومن نقد أحيانًا. وهذا المفهوم الذي يتضمن اشتمال عناصر ثلاثة متداخلة (الأرض والشعب وسيادة حكومة)، هو محصّلة مسار تاريخي كانت تتفاعل فيه النظرية السياسية والممارسة التاريخية معًا، بمعنى أن الفكر والحدث التاريخي كانا يتفاعلان ليولّدا دينامية تطور، شملت الإنتاج وأساليبه والمعرفة العلمية والتقنية وإطار السوق وعلاقات التبادل والمواصلات فيه، وتطلعات وآمال جماعة من البشر في عيش مشترك.
هذا وعندما يجري الحديث عن المسار التاريخي في هذا السياق، فإنما نقصد أن هذا المسار حمل وبصورة خاصة ومكثفة خلال قرنين من الزمن الأوربي (أي الثامن عشر والتاسع عشر) أفكارًا ومفاهيم استدخلتها فكرة الدولة الحديثة، فأصبحت هذه الأفكار جزءًا أساسيًا من عناصرها، بل شروط تشكّلها، واكتمال قواعدها، واكتسابها بعدًا عالميًا.
وهنا يمكن التذكير بالقواعد التالية:
- قاعدة تمثيل الشعب، ومن هذه القاعدة انبثقت صيغة الانتخاب والاقتراع، والجمعيات العمومية (البرلمانات) والسلطة التشريعية، والاجتهادات القانونية المختلفة حولها.
- قاعدة المواطنة وما ينبثق عن هذا المفهوم من تثبيت لمبدأ الحقوق والواجبات، والحريات ومبدأ التمييز بين العام والخاص.
- قاعدة فصل السلطات.. إلخ.
وكل هذا ينتظم في دستور للدولة ينبثق عن إرادة شعبية.
هذا النموذج لفكرة الدولة، أضحى في وقت من الأوقات فكرة - مرجعًا، وإن كان تبلور مظاهر الدولة، التي أشرنا إلى بعضها قد تمّ في جغرافية تاريخية اصطلح على تسميتها بـ«الغرب الحديث».
أما في الشرق، ففي خضم البحث عن إصلاح للدولة أو الدول القائمة في العالمين العربي والإسلامي في غضون القرن التاسع عشر، ومطالع القرن العشرين، كان هذا النموذج يقدم للنخب الإصلاحية مرجع اقتباس، ولكن قبل هذا، ماذا كانت طبيعة الدولة القائمة في الشرق العربي والإسلامي؟
نموذج الدولة السلطانية
سأكتفي بتقديم بعض الأفكار حول طبيعة وسمات ما أسمّيه «الدولة السلطانية».
أ- قامت «الدولة السلطانية» على ركيزتين أو رافعتين هما: العصبية والدعوة الدينية، وهاتان الرافعتان حققتا شرعية ومشروعية الدولة في زمن معين. لاشك في أن الإحالة هنا تشير إلى نصوص ابن خلدون الذي وصف بعمق وثاقب نظر آليات اشتغال العصبية والدعوة في نشوء الدول في التاريخ العربي - الإسلامي. فمنذ اجتماع السقيفة إلى شتى المبايعات الأخرى لأسرٍ ذات شوكة وعصبية وادّعاء حق ديني، كانت دينامية التغيير في الدول، أي في حكم الأسر والعصبيات تتم بآليات عبّر عنها ابن خلدون بمصطلحات دالة: المطالبة، المناجزة، الممانعة والخروج.
وهذه المصطلحات تعبّر في الواقع عن أحوال ومراتب العصبية الناشئة في علاقتها بالدولة القديمة الآخذة بالهرم، وهي تئول - وفقًا لما يرى ابن خلدون إلى نوعين من الدول: ولاية طرف ودولة دعاة.
ب- يلاحظ في هذه الجدلية التاريخية القائمة بين العصبية والدعوة، أن وسيلة التغيير في الحكم (أي في الإمارة) هي الاستيلاء والتغلب. واللافت أن الماوردي وهو أحد كبار الفقهاء (في القرن الرابع الهجري)، قد سمى هذه الإمارة «إمارة استيلاء» وشرع لها دينيًا في «الأحكام السلطانية»، باعتبارها تقوم مقام الخلافة أو تمثلها، وإن لم يتحقق فيها كل شروط الخلافة، فجوّز الماوردي «الاستيلاء» اضطرارًا لحفظ القوانين الشرعية وحراسة الأحكام الدينية على حد تعبيره. هذا وقد انسحبت هذه الشرعية الفقهية على كل مراحل التاريخ الإسلامي لاحقًا وعلى حكومات الأسر والعصبيات المختلفة، التي استولت على طرف من الدولة القديمة، أو على مركزها، فأضحت بديلاً عنها. وسواء كانت هذه العصبيات عصبيات عربية أو بربرية أو كردية أو فارسية أو تركية... إلخ، فإنها جميعها تندرج في صيغة ما يمكن تسميته «الدولة السلطانية» في التاريخ الإسلامي.
وإني لأحبذ استخدام هذا المصطلح تجنبًا للوقوع في الفخ الأيديولوجي، الذي قد يقع فيه كاتب قومي عربي عندما يحبذ استخدام تعبير «الدولة العربية»، أو الذي قد يقع فيه كاتب إسلامي عندما يصر على استخدام تعبير «الدولة الإسلامية».
ولنتذكر هنا أن آخر مظاهر الدولة السلطانية في التاريخ الإسلامي تمثلت في الدولة العثمانية، والدولة الإيرانية في فرعيها الصفوي والقاجاري.
هذا ولابد من التذكير، أن ماكس فيبر سبق أن استخدم هذا المصطلح أيضًا في كتابه «الاقتصاد والمجتمع». على أني أستخدم هنا هذا المصطلح تأسيسًا على إيحاءين: إيحاء ابن خلدون وإيحاء الماوردي وكتب الآداب السلطانية.
العلاقات في ظل السلطان
ج - طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع: تشكلت علاقة الدولة السلطانية بالمجتمع عبر «وسائط سلطة»، أي أن ثمة سلطات أهلية راوحت بين تنظيمات القبائل والعشائر والطوائف والملل والأخويات والطرق (طرق الصوفية) وأصناف الحرف ومؤسسات الوقف ومشايخ الحارات والأحياء والأسواق، كانت تشكل القاعدة الاجتماعية لأهل الدولة، أي للهيئة الحاكمة السلطانية. وكان ضمان العلاقة بين هذه السلطات الأهلية من جهة، والهيئة الحاكمة السلطانية من جهة أخرى ولاء يتحقق عبر وسائل مختلفة: منافع تجني من خلال الجباية والالتزام والإقطاع، خدمات عسكرية وإدارية متبادلة، وأحيانًا استتباع قسري لمن يمانع، ووسيلة ذلك حروب أهلية بين وسائط السلطات الأهلية نفسها، أي بين العصبيات المحلية الممانعة والموالية، وللتمثيل على ذلك - يمكن الاستشهاد بصراعات الأسر والعصبيات في تاريخ جبل لبنان في عهدي الإمارة المعنية والشهابية.
ويجب ألا ننسى دور المؤسسة الدينية التي سميت في العهدين الصفوي والعثماني مشيخة الإسلام، في شرعنة الأحكام السلطانية من جهة، ونشر نمط من الثقافة الرعوية السائدة، والتي تعطي لعلاقة الولاء (ولاء الرعية للسلطان وأولي الأمر) بعدًا اجتماعيًا ونفسيًا يتسم بالطاعة والتقليد والخوف. هذا البعد هو الذي درسه عبدالرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد» عندما كشف عن أخلاقيات المستبد (بكسر الباء) والمستبد به (بفتح الباء).
هذه صورة مختصرة جدًا عن بعض مظاهر الدولة السلطانية في التاريخ العربي - الإسلامي. والسؤال: لماذا نعود إليها من زاوية معرفية؟ لأنها - في تقديري - لاتزال حاضرة في كثير من مظاهرها وآلياتها المضمرة أو المعلنة في السلوك وآليات السلطة. ولذلك فقد يكون مفيدًا أن نتوقف عند أشكال التقاطع، التي حصلت في مرحلة الانتقال من صيغة الدولة السلطانية إلى صيغة الدولة الحديثة، حيث كانت صورة الدولة الحديثة في المغرب هي مرجع الاقتباس.
تحوّل الدولة
من المعروف أن الكتّاب النهضويين العرب عبر جيلهم الأول (جيل التنظيمات) كما عبر جيلهم الثاني (جيل الدستور)، حاولوا جادين نشر فكرة الدولة الحديثة المستوحاة أو المقتبسة عن التجربة الغربية آنذاك. ومن تجليات ذلك التركيز أولاً على الإصلاح الإداري والمؤسسي عبر الدعوة لقيام «دولة التنظيمات» ثم التركيز ثانيًا على دولة الدستور والمشاركة. وبين هذا وذاك، نلاحظ جهدًا لبلورة فكرة الوطن والمواطنة، وفكرة السلطة المدنية وحقوق المواطن.
لاشك أن الحديث في هذا الموضوع طويل وواسع، وقد كتب فيه الكثير. إلا أن توصيف تجربة الانتقال تستحق وقفة تأمل، ولاسيما عند مفصل أساسي من مفاصل التقاطع بين ثقافة الدولة السلطانية وذهنية الرعية، ووسائط السلطة فيها، وما تفترضه ثقافة الدولة الحديثة وسلطاتها ومؤسساتها من ذهنية جديدة، وممارسة في العمل السياسي مختلفة.
لنقرأ نصًا لسليمان البستاني يعود إلى العام 1908، العام الذي أعيد فيه العمل بالدستور العثماني مرة ثانية بعد أن جرّب وعلق سريعًا في العام 1876. النص المقتبس من كتاب «عبرة وذكرى: الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده» يشير إلى حالة التقاطع بين المفهوم الذي يفترضه التمثيل البرلماني كسلطة تشريعية وبين الذهنية، التي حملها المنتخِب والمنتخَب في فهمهما لدور هذه السلطة التشريعية في الدولة الجديدة.
يقول: «لقد أيّد لنا الاختبار باجتماع المجلس لأول سنة 1876 أن أبناء كل ولاية كانوا يظنون مبعوثهم منتدبًا عن منتخبيه لا غير، ومأموراً بإنفاذ جميع رغائبهم، وإبلاغ تشكيلات أفرادهم مهما كانت، حتى لقد كانت الرسائل في بعض الولايات تنهمر كالمطر على رءوس مبعوثيها حاملة من المطالب (...) فمن طالب عزل خصم وإحالة مأموريته إليه، ومن ملتمس رتبة ونيشانًا، ومن راغب في إصدار أمر لوالٍ بإلقاء نظرة عليه أو إلى مشير يجعله ملتزمًا للأرزاق العسكرية، حتى كان من جملة تلك المطالب أن مكاريًا سرقت دابته فكتب إلى منتدب ولايته أن يأمر بإعادتها إليه».
على أن سليمان البستاني، وكغيره من الكتّاب النهضويين الدستوريين يظل متفائلاً بأن الدستور الضامن للحريات والحقوق والمشجع على المبادرات الاقتصادية والتعليمية والسياسية (أي النموذج الديمقراطي للدولة)، سيعطي ثماره خلال ربع قرن من الإعداد والتحضير، وسيؤدي إلى تغيير في الثقافة والعقليات لا محال، بسبب تقدم التعليم واتساعه.
هذا، وإذا كان حقل الجغرافيا - التاريخية والسياسية، (أي حقل الدولة العثمانية) قد تغير بعد الحرب العالمية الأولى في محادثات مؤتمر الصلح في باريس (1918)، ولاحقًا في مقررات سان ريمو، ثم معاهدة لوزان التي أقرّت مبدأ «الهوية الوطنية» (الناسيوناليتة) في بلدان ما بعد العثمانية، فإن فكرة «الدولة الدستورية» ظلت عند نخب عربية «مخضرمة» بين العهدين، فكرة مركزية في التفكير والعمل السياسيين، وذلك في إطار الدولة الجديدة المحدثة في المنطقة.
ولابد من التذكير أن دساتير العشرينيات، التي نشأت وأقرّت في كل من لبنان وسورية والعراق ومصر، حملتها تلك النخب بالذات. وكان أن حققت إنجازًا تاريخيًا عربيًا ينبغي إعادة قراءته اليوم من جديد. فتلك المرحلة أجهضت وابتسرت وأسيء إلى صورتها التاريخية في المراحل اللاحقة.
وإذا كان لابد من البحث اليوم عن الأسباب والعوامل التي أدّت إلى الإجهاض، وبالتالي إلى تشويهها نذكر باختصار:
أولاً: الثقافة السلطانية السائدة في المجتمعات العربية وهي الثقافة، التي ترى في الدولة وسائط سلطة تقوم بين الرعية والحاكم، قواعدها عصبيات مستتبعة بالولاء أو الإلحاق، أو عصبيات ممانعة تلجأ إلى الخروج على الدولة وحمل السيف على أهلها. وبين هذا وذاك، تندرج علاقات الاحتساب والمحسوبية والاستقواء، والتي تحكم أعرافها وأخلاقياتها، وتشكل العصبيات والولاءات المختلفة في الاجتماع العربي - الإسلامي.
2 - السياسات الكولونيالية، التي لم تشجع أبدًا على إنجاح العمل الدستوري، أي على ممارسة الديمقراطية محليًا، بل إنها حاربت هذا العمل، وأعاقته في كثير من الأحيان، واتبعت سياسة براجماتية وظفت فيها كل معطيات الثقافة المحلية في الاجتماع السلطاني المستمر في العقلية والسلوك.
3 - الجرح الفلسطيني الذي نزف - ولايزال ينزف - والذي خلق مرارة في الذاكرة الجمعية، كان زمنها المعيش يمعن في استنفارها وينكأ جراحها، فتختلط الأزمنة التاريخية في الوعي، وتندمج صورة الصليبية مع صورة الاستعمار، وتزدهر عقلية «المؤامرة» في جو من العجز والإحباط الذي لم يعد يتقبّل فكرة الحريات السياسية والمدنية، ولا أفكار الانفتاح، وضرورة الاقتباس التي سادت في أجواء «المرحلة الدستورية» في عشرينيات القرن العشرين.
4 - ولنلاحظ أن ذلك كله ساهم في نمو فكرة «الحزب الواحد» واسترجاع فكرة القائد والزعيم المخلص، فتقاطعت ثقافة الاجتماع السلطاني والعصباني مع أسوأ ما اقتبس من الفكر القومي الأوربي العنصري والشوفيني خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، ليولد هذا التقاطع عددًا من الظواهر القديمة - الجديدة في الثقافة السياسية العربية:
- تجدّدت صيغة «إمارة الاستيلاء» في الدولة السلطانية في صيغة الانقلاب العسكري في الدولة العربية المعاصرة.
- تجدّدت العصبية في مفهوم ملتبس للقومية
- عاد الاستقواء السياسي بالدين (سواء عند الإسلاميين أو عند بعض الأنظمة العلمانية) قاعدة ومرجعًا للصراع بين القوى السياسية.
- عاد الحق الشرعي في التولية أو الولاية (أي السلطة)، يعبر عن نفسه بصيغ جديدة وشعارات أيديولوجية هي من نتاج المرحلة الجديدة: تحقيق الوحدة العربية، تحرير فلسطين، تطبيق الشريعة، وكل هذا على حساب الديمقراطية، التي نبذت فاعتبرت «رجعية»، في ميثاق عبدالناصر، أو غربية وافدة وغير أصيلة عند الإسلاميين.
والنتيجة... تراجع في معدلات النمو، وتأخر في مستوى التعليم، ونقص أو انعدام في المشاركة السياسية، بل تراجع في مفهوم المواطنة وثقافتها، فعاد مفهوم «التابع» و«الرعية» والولاء للعصبية و«أسلطة السلطة»، يحتل مركز الصدارة في نظام العلاقات الاجتماعية بين الناس أفرادًا وجماعات.
كل هذا تكشفه تقارير التنمية البشرية خلال السنوات العشر الأخيرة بالأرقام والوقائع، تكشف لنا واقعنا الحاضر، دون أن تقول لنا ما الأسباب؟!
وعلى كل حال، ليست هذه مهمتها، بل مهمة البحث الاجتماعي - التاريخي والثقافي.
عن مجلة العربي.
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |