الاغتراب / 3 / 5
خاص ألف
2014-02-08
" لكي يوجد خير مطلق... لابد من وجود شر جزئي "
"هكذا علمنا ابن سينا "
نعم الكون كائن عضوي , فـ " لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ". ولأن الإنسان هو الكائن العاقل , هو الكائن العبثي , القادر على الإختيار , الذي لا يؤمن بما يجب أن يكون , الذي لا يؤمن بقانوني التعارف والتعايش بين البشر , أو حتى بين البشر والطبيعة , فهو الوحيد الذي يكسر القاعدة , لينشئ صراعاً دائماً مابين الخير والشر , الحق والباطل , النور والظلام ,الجمال والقبح , لينشئ تاريخاً يسير في دوائر متعاكسة تلتقي
عند نقطة الصراع .
عليَّ أولاً أن أميّزَ بين عدة مصطلحات وعلاقاتها بإدراكنا لهذا العالم, فالديالكتيك يختلف عن الصراع والتناقض , والعلاقة بين أجزاء الطبيعة تسير بشكل ديناميكي , بمعنى أنها تعتمد على التتأثير والتأثر المتبادل , مع الوضع في الاعتبار أنها تسير وفق آلية محددة ومنضبطة تماماً , ولكن هذه الآلية الديناميكية تقبل أن يكون بداخلها المتناقضات , كوجود الليل والنهار , إلا أن هذه المتناقضات تؤدي دورها بانتظام ودقة دون أن تتصارع, وهنا يتضح الخلاف الجوهري بين المعاني الثلاث؛ فوجود التناقض ليس بالضرورة أن يؤدي إلى الصراع, والصراع بطبيعة الحال لا يعني الديالكتيك , لأن الأخير يتميز بصراع بين متناقضين يؤدي في النهاية إلى أختفاء
النقيضين ووجود مكون ثالث يضمهما معاً .
العلاقة إذن تسير بشكل ديناميكي في الطبيعة , وتسير بنفس الشكل في المظاهر الحضارية الإنسانية , أي في العلوم الطبيعية وتطبيقاتها " التكنولوجيا " , وفي العلوم الإنسانية وتطبيقاتها " الحلول المختلفة للمشكلات المتعلقة بحياة البشر السياسية والإقتصادية وغيرها ", مع الاختلاف بينهما في درجة التعميم والدقة, وتسير أيضاً بنفس الشكل في الفنون والآداب, بل وفي العادات والتقاليد التي ليس لها أساس أيدولوجي لكنها غير مغتربة أي أنها تتفق مع المنطق السليم والحدس السليم, أو بعبارة أخرى مع الفطرة البشرية , والتي تعتمد في الأساس على الاتصال
التبادلي الدائم بين أفراد المجتمع الواحد, بل وبين الإنسان والطبيعة في بعض الأحيان .
هنا يجب أن نتساءل هل العلاقات البشرية جميعها تسير بنفس الشكل, وهل التاريخ بطبيعة الحال يسير في نفس الإطار؟... أعتقد أن العلاقات البشرية تتسم بالصراع, والتي تقتضي وجود اغتراب إرادي وبالتبعية اغتراب قهري في حالة مواجهة مباشرة بين طرفين, تلك الصورة التي تتطابق في علاقة الأفراد ببعضهم البعض, وعلاقة الجماعات داخل المجتمع الواحد, بل وعلاقة الحضارات داخل الحركة العامة للتاريخ, فحتى وأن تصارع قوتنان مغتربتان إرادياً فهما يتصارعان على النفوذ والسلطة والثروة مما يتطلب استلاب شعوب أخرى حقوقها, وهو ما يُنشئ مغترباً قهرياً في المعادلة, كما أن هذه العلاقات لا تتّسم أيضاً بالديالكتيك سواء كان مثالياً أو مادياً , فالانتقال من المجتمع العبودي إلى الإقطاعي إلى الرأسمالي مرتبط بالأساس باكتشاف الزراعة في حالة المجتمع الإقطاعي, وبالتقدم العلمي والتكنولوجي الصناعي في حالة المجتمع الرأسمالي , هي إذن مظاهر حضارية لها صفة الديناميكية التي تحدثنا عنها من قبل, أما استغلال الإنسان لهذه المظاهر في علاقته بالإنسان له صفة الثبات. فالعبيد والقيان والعامل المسلوب الحقوق, يمثلون الطرف المغترب قهرياً في مواجهة السيد والاقطاعي والرأسمالي السالب للحقوق الذين يمثلون الطرف المغترب إرادياً, وهذا ينقلنا إلى قضية أخرى وهي أن التاريخ لا يعيد ذاته ولكن أخطاء البشر هي التي تتكرر, وهنا يجب أن نتساءل عن حركة التاريخ , وأعتقد أن التاريخ يسير في حركة دائرية, تتكون من دائرتين تسيران في اتجاهين متضادين, وبطبيعة الحال لهما مراحل رئيسية على خط الدائرة ومراحل كثيرة فرعية, الدائرة الأولى تبدأ بمرحلة الصراع بين طرفين ثم تنتقل إلى مرحلة انتصار إحداهما ثم مرحلة القوة والضعف وصولاً إلى الصراع من جديد الذي يؤدي بطبيعة الحال إلى الهزيمة. والدائرة الثانية تبدأ من مرحلة الصراع مروراً بالهزيمة والضعف والإفاقة وصولاً إلى مرحلة الصراع من جديد الذي يؤدي بطبيعة الحال إلى الانتصار. فما أريد أن أقوله إن هنالك أمة تستطيع بعد مرحلة صراع أن تنتصر وتكون القوة المسيطرة على باقي الأمم حتى تفيق أمة أخرى وتنتقل من حالة الضعف لتدخل في صراع معها وتنتصر عليها وبطبيعة الحال تأخذ مكانها , وحتى في حالة تحالف قوتين متضادتين مع بعضهما ضد قوة أخرى.. تكون النتيجة الحتمية بعد القضاء عليها صراع القوتين وانتصار إحداهما على الأخرى, كما حدث من تحالف النظام الستاليني مع القوى الرأسمالية ضد النظام النازي, ذلك التحالف الذي سرعان ما تحول إلى صراع بعد القضاء على النازية في شكل الحرب
الباردة التي انتهت بشكل رمزي مع سقوط سور برلين .
ما الحل إذن ... أعتقد أن خلاص البشرية يكمن في كسر هذا الشكل الدائري, والصراع القائم على الاغتراب, والوصول إلى حالة بنائية داخل الأمة الواحدة, وعلاقات قائمة على التعارف والتعايش السلمي بين الأمم المختلفة, لأنها الوحيدة القادرة على بناء عالم جديد يتّسم بالتوازن والحفاظ على مصالح الأنا لكل أمة من دون الاعتداء على مصالح الآخر, فلن تتعارض المصالح إلا في حالة اغتراب طرفين واعتداء أحدهما على الآخر؛ فالحالة الأولى تكون قائمة على نسق واحد يحوي مجموعة من الأنساق الداخلية التي تعمل جميعها بشكل وظيفي لبناء المجتمع والخروج من حالة الصراع بين الجماعات, ولن يكون ذلك إلاّ بخلاص الشعوب من حكوماتها الديكتاتورية والفاشيستية، لأنها حكومات تنمي وتغذي هذا الصراع بل والصراع مع الأمم الأخرى للحفاظ على السلطة. أما العلاقات بين الأمم المختلفة فلن تصل إلى مرحلة التعارف والتعايش السلمي إلا بضغط الشعوب على حكوماتها لبناء عالم جديد قائم على المبادئ الإنسانية التي لا يختلف عليها أحد, وبطبيعة الحال لن يحدث ذلك إلا في ظل حكومات ديمقراطية ترضخ لمطالب شعوبها, لذا وجب على الشعوب أن تتخلص من حكوماتها الديكتاتورية والفاشيستية، هذا بالإضافة إلى التواصل الشعبي الذي أصبح يسيراً في عالمنا الآن, والذي نجده جلياً في الاحتجاجات الشعبية التي تصول وتجول في قريتنا الصغيرة مطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية بما يشبه حالة مخاض لثورة عالمية أولى, وأن لم ترضخ بعض الحكومات الديمقراطية يجب أن تقوم الشعوب بالثورة عليها, وفي حالة عدم رضوخ جميع الحكومات، يجب أن تكون هناك ثورة عالمية شعبية حتى وإن لم تنجح تلك الاحتجاجات بشكل تام، فإنها على الأقل ستكون قادرة على خفض شهية دراكولا...! ـ فخلاص البشرية إذن بين أيديها ـ وحتى إن اغتربت الحكومات،
تظل الشعوب هي الحافظة للضمير الإنساني, فالإنسان هو الإنسان في أي زمان ومكان .
***
-22-
سكون
......................
......................
"la cumparsita"
تن
تن
تن
تن
تارارا را را
تن
تن
تن
تن
تارارا را را
أيوه
قدرت
ف رمشة
عين
تارارا را را
ويّا
تلات
حركات
مجانين
تارارا را را
ترمي
الكرسي
من
الشباك .
تارارا را را
تفتح
حنفية
عفاريت
تارارا را را
يلعبوا
قال
بنجومك
سيجه
تارارا را را
علشان
تبقى
من
الدراويش
تارارا را را
وشك
يرجع
أبيض
واسود
تارارا را را
راسك
تنقسم
نصين
تارارا را را
هتدور
على
أبره
وفتله
تارارا را را
يسرقها
منك
حرافيش
تارارا را را
كتبوا
رواية
جديدة
مريبة
تارارا را را
ف كوميديا
لكن
عبثية
تارارا را را
حبسوا
ملايكة
ف جحيم
سارتر
تارارا را را
أوضه
حيطانها
من
الدبان
تارارا را را
إدوا
المفتاح
لأخينا
جودو
تارارا را را
بعد
ماقفلوا
بماية
ترباس
تارارا را را
تن
تن
تن
تن
تارارا را را
تن
تن
تن
تن
تارارا را را
أنغام
شاذة
بتخرج
بره
تارارا را را
إيقاعات
الحاكم
بالله
تارارا را را
فجأة
بتتصفى
م النوته
تارارا را را
لجل
ماتكسر
عند
ال la
تارارا را را
ردد
تاني
إنك
ورقة
تارارا را را
مسحوبه
لصندوق
الدنيا
تارارا را را
كوابيس
يقظة
بترسم
واقع
تارارا را را
جوه
Matrixال
خليك
راكع
تارارا را را
عينك
زارها
مقص
رقابة
تارارا را را
دمك
بينقط
ع الروح
تارارا را را
بوزك
خارج
بره
الشاشة
تارارا را را
وشك
أزرق
آه ومخنوق
تارارا را را
وانا قاعد
اهو
بره
الشاشة
تارارا را را
مش
هسأل
ف ساعتك
موت
تارارا را را
تن
تن
تن
تن
تارارا را را
تن
تن
تن
تن
تارارا را
طش
: إحدى معزوفات التانجوla cumparsita
-23-
يقول ابن سينا... إن الله هو واجب الوجود, نعم فلا يمكن أن يكون هناك من أوجده , هكذا إذن يجب أن يوصف الله, فكيف يجب أن نوصف نحن , فمن نحن ؟ من أنا ؟ من أنتم ؟ من أنت ؟ ومن نكون ؟! . هل من الممكن أن يكون الإنسان مجرد حيوان مفترس, مجرد آلة للتدمير لا تحيا سوى على لحوم ودماء البشرية. آلة تنبئ بأن البقاء للأقوى, للأكثر فتكاً وقهراً وإبادة!؛ وكأن الحياة ليست حقاً للجميع, أو لنقل وكأن الموت هو سنة الحياة تحت سطوة الأقوياء .
هناك من يقول بأن الكون نشأ من مادة أولية أزلية...
هنا يجب أن أسألهم، من خلق هذه المادة أو كيف نشأت وتكونت؟,وهل من الممكن لكائن غير عاقل أن يخلق كائنات عاقلة، بل وأن يخلق الكون على هذا النحو المنتظم والمُحكم...؟
لا أعتقد ذلك. لذا لا بدّ وأن يكون لهذا الكون إله واحد؛ فعندما سئل في ذلك الإمام أحمد ابن حنبل، قال للسائل : "ماذا بعد العدد أربعة، قال ثلاثة، قال، وماذا بعد الثلاثة، قال اثنان، قال وماذا بعد الاثنين، قال واحد، قال وماذا بعد الواحد، فقال له السائل صفر".
وإذا نظرنا في هذه المحاورة، سوف نجدها تتفق مع الفطرة العقلية البشرية التي تسير بمنطق محكم ( رياضي ) مهما اختلفت أنواعه ومجالاته لكي تستطيع البشرية أن تصل إلى حقائق يقينية في الأمور المختلفة كما ذكرت في موضع سابق؛ فلا يمكن أن يكون هناك إلهين.. وإلا فمن خلقهما؟!, كما أنه لا يمكن أن يكون هناك خالق لإله واحد, فالمنطق يقول إنه لا بد أن تكون هناك بداية لكل شيء, فقبل الواحد صفر , والصفر يساوي العدم, أي اللا شيء, كما أنه لا يمكن تجزئة الواحد إلى النصف أو الربع لأنها أجزاء من الكل, كما أنها ناقصة ويجب على من خلق هذا الكون أن يكون كاملاً .
هل البشر يولدون أخياراً أم أشراراً ...؟!
هكذا يجب أن تكون البداية, فلن نعلم ما يجب أن نفعله إلا إذا علمنا من نكون؛ وأعتقد أن الإنسان يولد وفي فطرته الخير والشر, لكن سلوكه أي من المسلكين يعتمد على عاملين اثنين؛
ــ الأول رغبته في أن يتبع فطرته السوية ( عقله وحدسه العقلي والقلبي ) لكي يكون ما يجب أن يكون عليه, لكي لا تتحول الأنا إلى حالة الاغتراب الإرادي، وبالتبعية يتحول الآخر إلى مغترباً قهرياً!.
والثاني هو التربية التي من الممكن أن تسير في الاتجاه الطبيعي للنشأة السوية، أو على العكس تماماً، أن تسير عكس الطبيعة السوية للإنسان وما يجب أن يكون عليه فينشأ الاغتراب القهري للذات الذي يتحول في نهاية المطاف إلى اغتراب إرادي؛
والفرق هنا بين الإنسان والحيوان كما ذكرت في موضع سابق، يكمن في أنه قادر على الاختيار باستخدام عقله وقلبه, وبالتبعية عدم الركون إلى ذلك الجزء الحيواني بداخله النهم دائماً للفتك والسيطرة والإبادة والسرقة والاغتصاب .
إذاً... هل أنا مُسيّر أم مخيّر؟.
الجواب على هذا السؤال يكمن في السؤال التالي, كيف أكون حراً والله كتب من أنا ومن أكون ومن سأكون في المستقبل , أعتقد أن الجواب عند العلامة محمد عبده الذي قال بأن الله يعلم ذلك بعلمه المسبق , والعلم هنا كعلم القاضي الذي يعلم بأن الفرد إذا سلك هذا المسلك أو ذاك سينال الثواب أو العقاب , لكني سأتمادى قليلاً وأقول بأن الله يعلم بعلمه المسبق ما سأفعله وأختاره بكامل إرادتي فكتبه علي , وقد يسأل سائل لما إذن كتبه عليك ولم ينتظر حتى تفعله , أقول له بأن علم الله أزلي ومطلق ودقيق ولا يقبل الخطأ , وقد يسأل آخر كيف ذلك وهناك أمور تغير القدر مثل الدعاء , أقول له بأن الدعاء يكون لله المطلق، أي أنه هو الوحيد القادر على مساعدة الإنسان وتغيير ماكتبه عليه , وهو أيضاً يعلم بعلمه الأزلي أن الإنسان سيدعوه في تلك اللحظة فيغير ماكتبه عليه , وقد يسأل آخر ولما كل هذا لما لم يكتبه عليه منذ البداية , أقول له لكي يعلم الإنسان أنه حر في الاختيار ما بين الحق والباطل وأنه حر في أن يسلك هذا الدرب أو ذاك حتى وإن كُتب عليه غير ذلك في القدر في بادئ الأمر, لكنه غير قادر على أن يفعل ذلك بمفرده لأنه ناقص ونسبي , لذا يحتاج إلى الله المطلق، فهو الوحيد القادر على أن يغير ما كتبه عليه , وهنا يجب أن أنوّه إلى نقطتين فرعيتين لكنهما مرتبطتين ارتباطاً وثيقاً بقضية المطلق والنسبي. فالإنسان يدرك الأمور عن طريق الحواس التي هي بطبيعة الحال ناقصة ونسبية في تكوينها, هذا مع الأخذ في الاعتبار عاملي الزمان والمكان, وهذا لا يعني أنني أؤيّد النزعة اللاإدرية , وذلك لأن للإنسان قدرات عقلية وقلبية تعتمد على التفكير والحدس اللذين لا يختلفان في آلياتهما مابين إنسان وآخر , كما أن هذه الآليات تجعل الإنسان يستطيع أن يعي ما هو خلف المادي والملموس , أي أن يعي المطلق , لكنه مع ذلك لا يصبح مطلقاً بأي حال من الأحوال, النقطة الثانية متعلقة بالتمييز بين كل من العقيدة والشريعة والمعجزات, فالإنسان كما قال محمد عبده يجب أن يثبت بعقله أن الله هو واجب الوجود – لأن تلك قضية تتعلق بعمق وصدق الإيمان – وسأضيف إليه القلب أيضاً , لكنه لا يجب أن يسأل في الأمور المتعلقة بالشريعة , كلما أصلي العصر أربع ركعات مثلاً , فالشريعة على ما أعتقد في أمور العبادات مرتبطة بالطريقة التي يحب ويرضى الله أن يُعبد بها, أما فيما يتعلق بالمعاملات فهي قائمة بصورة تحفظ حقوق الإنسان وتبعد الضرر عنه وتحمي حقوق الآخرين كالربا ومضاره الاقتصادية على سبيل المثال, وهنا أختلف مع محمد عبده فحين يختلف العقل مع النقل يجب أن أرجح كفة النقل لا العقل كما قال محمد عبده، فهو يرى أنه يجب ترجيح كفة العقل حتى أستطيع أن أعي بعقلي المقصد الحقيقي للنقل , وهذا لنفس السبب السابق الذي ذكرته في حديثي عن المطلق والنسبي والمعرفة المطلقة والمعرفة النسبية , ولكن لا يعني هذا بأن تصبح الضرورات لا تبيح المخظورات , أو عدم وقف تطبيق بعض الحدود في حالة عدم توفر الشروط اللازمة لتطبيقها , لأن هذه أمور شرعية أساساً ومستنبطة من الأصل ومرتبطة بحياة الناس الواقعية وما يعترضها من مشكلات , وهنا يجب أن أنتقل إلى نقطة أخرى في الشريعة وهي أن الاستنباط من الشريعة يكون بعد الإيمان بها, أي أنه استنباط من أصولها , بعكس التفكير في العقيدة الذي هو تفكير في صحة الأصول من الأساس , أما فيما يتعلق بالمعجزات فإذا كنت أؤمن بأن الله هو المطلق الكامل، فهو إذن قادر على أن يفعل ما لا أستطيع أنا أن أفعله فأنا ناقص ونسبي, وبذلك تكون المعجزة دليل عيني على قدرة الإله وعلى أنه هو واجب الوجود .
صحيح يجب على الإنسان أن يحقق الوجود الفعلي لماهيته بما يتناسب مع تلك الماهية " القدرات الوراثية ( الدنا )، والقدرات المكتسبة ( الحياة ) "، وليس مع كل ماهو غير سوي يفرضه المجتمع عليه فهو ناتج عن فعل بشري مغترب إرادياً يؤدي في النهاية إلى الاغتراب القهري للذات, لذا لا بد أن تكون أحلام هذه الماهية أحلاماً غير مغتربة إرادياً من الأساس , وهنا تدخل الأخلاق إلى المعادلة بمشروعية هذه الأحلام المتوافقة مع الماهية ومشروعية السبيل إلى تحقيقها.
بالرغم من أن البشر يفكرون بطرق مختلفة وبطريقة تلقائية على حسب الموضوع الذي يفكرون فيه, سواء كان واقعياً أو علمياً أو ميتافيزيقياً أو شرعياً , إلا أن غاياتهم يجب أن تكون مشروعة , وكذلك الحال في السبيل إلى تحقيقها , فإذا كانت المشكلة واقعية على سبيل المثال, يجب عليهم أن يتبعوا المنطق البرجماتي بقاعدتيه المرتبطتين بالمعنى والصدق, ولكن هذا لا يعني أن يكون السبيل لحل المشكلة غير مشروع أخلاقياً , وإلا أصبحوا مغتربين إرادياً لا على مستوى اتباع المنطق السليم في قضية معينة ولكن على المستوى الأخلاقي الخاص بما يجب أن يؤمنوا به وأن يطبقوه في حياتهم الواقعية , بل ويصبح شغلهم الشاغل في هذه الحالة هو تحقيق أي غاية وبأي وسيلة كانت .
الحل إذن في الضبط الذاتي والإجتماعي, فقد فرّق بعض الفلاسفة ومن بينهم برجسون بين القانون الطبعي والقانون الأخلاقي، فالأول يقرر كما قال برجسون، والثاني يأمر, الأول لا يمكن التخلص منه، بينما الثاني يمكن أن ينفذه الفرد أو لا ينفذه, الأول يكون من الذات، بينما الثاني يكون من المجتمع, لذا لا بد أن يكون هناك ضبطاً ذاتياً بمعنى أن يكون الإنسان متوافقاً مع فطرته السوية وألا يغترب عنها , كما يجب أن يكون الضبط الاجتماعي متوافقاً مع هذه الفطرة وإلا أصيب الإنسان بالاغتراب القهري , بل ويؤثر في هذه الحالة عدم الانصياع إلى القانون الأخلاقي, وهنا أتفق مع برجسون في أن الدين يستطيع أن يسد تلك الثغرة بين القانون الطبعي الأخلاقي والقانون الأخلاقي المجتمعي، كما أحب أن أسميهما , " لأن الدين يمثل النظام العلوي الذي يتسم بالكمال والانسجام بطريقة ذاتية تلقائية " (نعمت حافظ , الفكر التربوي وتطبيقاته ) .
-24-
الأرض
ستفتحُ أبوابها للريح
والمطر
سينزلُ قطرةً
قطرة
إلى السماء
-25-
وسط تصاعد الغبار الكثيف يمكنك أن ترى النور فالحقيقة بداخلك لها عينان لا يغمضهما ذلك الغبار الذي يصول ويجول حين تغيب العدالة بداخلنا وداخل العالم الذي نعيش فيه لتلقى الحرية في نهاية المطاف على قارعة الطريق فلا حرية بدون عدالة ولا عدالة بلا حق ذلك الذي يستوجب أن يأخذ كل منا ماله وأن يعطي ما عليه وأن نعترف بأننا جميعاً متساوون في حقنا في الحياة .
ولكن كيف يمكن أن نكون أحراراً إن لم نعرف من نكون، وهنا يبرز سؤال الهوية ذلك السؤال الذي أصبح سهلاً وممتنعاً في آن سهل بالنسبة للعامة وممتنع بالنسبة للخاصة الذين أدخلونا في جدل لا طائل منه سوى ضياع الوقت والحلم بين طرفين أحدهما يتسم بالانغلاق والتطرف الفكري ويتحدث باسم الدين، والآخر يتسم بالانفصال عن هوية المجتمع الحقيقية ويتحدث باسم الحرية والمدنية، فالهوية السليمة هي التي تتفق مع الذات البشرية ( مع العقل والحدس العقلي والقلبي ) إلا أن بعض البشر يغتربون عن تلك الحقيقة وبالتبعية يظلون مختلفين وبالرغم من أن الخاصة هم من يكونون الأجدر على اكتشافها إلى أن الواقع يقول أن الفطرة السوية للعامة – نظراً لاغتراب بعض الخاصة - جعلتهم – حتى مع محاولة اجتذابهم يميناً أويساراً – هم الأجدر على رؤيتها بعين قادرة على أن تحمي مكونات الهوية الثقافية بطبقاتها الأركولوجية المختلفة من دون أن تتصارع أو أن يلغي أحدها الأخرى وهو ما يتنافى مع الطبيعة الجغرافية للذات البشرية .
ما هي الهوية ؟.. أعتقد أن الهوية تعني الانتماء لكل ما يشكل ماهية الإنسان و الأمم المكتسبة " الحياة " لا الوراثية " الدنا " أي أنها لا تعني الانتماء لكل ما هو فيزيولوجي كالجنس واللون لكنها تعني الانتماء لكل ما هو مكتسب كاللغة والدين لأن كل ما هو فيزيولوجي لن يكون هوية إلا إذا كان هناك اغتراب في التفكير قائم على التمييز العنصري، وهنا تصبح الهوية مغتربة وغير سوية بطبيعة الحال والأمر ينطبق أيضاً على كل ما هو متطرف وعنصري من جوانب الماهية المكتسبة والفرق بين ما هو فيزيولوجي وما هو مكتسب في أن كل ما هو فيزيولوجي أن أصبح هوية، كان مغترباً، في حين أن كل ماهو غير سوي فقط من الماهية المكتسبة أن أصبح هوية، كان مغترباً مع الوضع في الاعتبار أنه مغترب بطبيعة الحال حتى ولو لم يتحول إلى هوية .
أعتقد أيضاً أن هوية الأمم تتطور وتنضج لتأخذ بعض مكوناتها أبعاداً أعم وأشمل وأن هذا التطور والنضوج يتم بنفس الآلية التي تتكون بها الحضارة بمعنى أنها تبدأ بأيدولوجيا يؤمن بها الناس ومن ثم يبدأون في تطبيقها على أرض الواقع فتتكون ثقافة ( أي طريقة حياة ) وفي المرحلة النهائية تتكون الحضارة بشقيها المادي والمعنوي ( العلوم والفنون والآداب ) .
الأيدولوجيا والثقافة والحضارة إذن الممتدون عبر الزمان والمكان ( التاريخ والجغرافيا ) يمثلون روافد نمو ونضوج الهوية إلا أن الثقافة والحضارة تُعدان من انعكاساتها وتطبيقاتها أيضاً كما تجدر الإشارة إلى أن الهوية لها طبقاتها الأركولوجية المختلفة التي قد تختلف في بعض مكوناتها من طبقة إلى أخرى لكنها تظل محتفظة ببعض المكونات الثقافية والحضارية بل وتطورها أيضاً من طبقة إلى أخرى؛ فالهوية المصرية على سبيل المثال، لها طبقاتها الأركولوجية الممتدة عبر التاريخ من فرعونية ومسيحية وإسلامية وعربية، وبالرغم من اختفاء العقائد الفرعونية واللغة المصرية القديمة إلا أن العقيدتين المسيحية والإسلامية لا تزالان في حالة تجاور وتعايش لا تناحر وصراع، كما أن المصريين جميعاً أصبحوا عرباً أياً كانت عقيدتهم الدينية، هذا بالاضافة إلى أن بعض الجوانب الثقافية والحضارية الأخرى من كافة الطبقات الأركولوجية لاتزال موجودة حتى الأن وهو ما يُنشئ الخصوصية المصرية .
أنا إذن مصري وعربي ومسلم وإنسان، ولما يجب أن أكون أحدهم دون أن أكون الآخر؟! فالإسلام جاء لكي يلغي العنصرية بكافة أشكالها وذلك لأنها رسالة عالمية فالرسول صلى الله عليه وسلم أرسل رحمة للعالمين رسالة لافرق فيها بين عربي وأعجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى والتقوى محلها القلب والقلب لا يعلمه إلا الله... إذن لا فرق بين إنسان وإنسان خاصة وأن الدين يفرض على المؤمنين به أن يحترموا عقائد الآخرين وأن يؤمنوا بمبدئي التعارف والتعايش السلمي ما بين الأمم المختلفة وفقاً لما ورد في الذكر الحكيم: " وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ". كما أنها لم تنفِ أن يكون هناك قوميات، ولكن جردتها من العنصرية القائمة على مبدأ الأثنية ورابطة الدم وغيرها من أنواع العنصرية، فالعربية ليست أثنية بالمعنى المفهوم لكلمة عربي، وأنما " العربي هو من تحدث العربية " كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، أي من كانت ثقافته عربية، فاللغة مفتاح للتفكير والأفكار، هي من تصنع الثقافة أو بالأحرى طريقة حياة الأمم المختلفة، هذا بالاضافة إلى أن مكة كانت أحب بلاد الله إلى الله وأحب بلاد الله إليه عليه الصلاة والسلام لأنها وطنه،ولو أن أهلها أخرجوه منها، ما خرج منها أبداً. إذن الإسلام لم يلغِ الوطنية أيضاً، فأين التعارض وأين الخلاف لكي نقيم الجدل من الأساس .
يجب إذن إن أردنا أن نصنع نهضة وتنوير حقيقي أن لا نغترب عن هويتنا المصرية والعربية والإسلامية بل أن تكون النهضة مستمدة منها لا على طريقة كل من هو متشدد ومنغلق فكرياً ويتحدث باسم الدين، ولاعلى طريقة من هم منفصلون عن تلك الهوية بطبقاتها الأركولوجية المختلفة ويتحدثون باسم الحرية والمدنية هذا بالاضافة إلا أنه لكي يكون هناك سلام عالمي يجب أن يكون هناك تعارف وتعايش سلمي حقيقي قائم على العدالة والإنصاف بين الأمم المختلفة وأن تستمع الحكومات والخاصة أيضاً ولو لمرة واحدة في التاريخ إلى صوت العامة الذين أثبتوا أنهم الأجدر على رؤية الحقيقة والأجدر على الحفاظ على الضمير الإنساني.
نهاية الجزء الثالث
/ خاص ألف /
يتبع..
08-أيار-2021
14-تشرين الثاني-2020 | |
14-تشرين الثاني-2020 | |
01-آب-2020 | |
25-تموز-2020 | |
22-شباط-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |