Alef Logo
المرصد الصحفي
              

سر ‘حمص’ المدينة والفكرة / آية الأتاسي

ألف

2014-02-24

حمص التي لم أولد ولم أعش فيها، هي جزء مني وهو الجزء الأقرب إلى قلبي.عبر الزمن كانت مدينة صغيرة بين حاضرتين ومركزين تجاريين مهمين هما حلب ودمشق، تطل على نهر العاصي، المتمرد على الأنهار وقوانين سيرها، ومن مياهه تشرب حصتها من الثورة والحرية.
في منتصف المسافة بين المدن والقلوب وأبوابها السبعة مشرعة للآخر القادم من الأرياف والقرى المجاورة…لم تختصر مدينة سورية التنوع الطائفي والمناطقي كما فعلت حمص، ولم تهمش مدينة في سنوات الحكم الأسدي كما حدث لحمص،
ولم تعاقب مدينة على مطالبتها بالحرية كما حدث في حمص..
عشية الثورة كانت الصورة المصغرة لوطن على حافة البركان..
وعندما قامت الثورة في سورية كانت من أولى المدن التي انخرطت بشكل كامل فيها وتركت بصمة حمصية خالصة عليها، راقصت الموت كما تعود الحماصنة أن يرقصوا رقصة الشيخاني بخنجر مسلول وقلب لا يستسلم، سخرت من الاستبداد وظلاميته بأقوى الأسلحة وأكثرها فتكاً ‘الفكاهة الحمصية’، ونجحت في حشد الشباب في وسط المدينة في ساحة شبيهة بميدان التحرير المصري هي ‘ساحة الساعة ‘، وانتهى الاعتصام طبعا بتدمير الساعة والساحة وموت الكثيرين.
حمص الذاكرة:
حمص الزمن الجميل بالنسبة لي كانت زيارات صيفية متقطعة لمنزل جدي ومحاولة للبحث عن أبي الغائب من خلالها وفيها…بمجرد ان أطأ ارض المدينة كانت تغمرني خفة غريبة، وكأنها عدوى خفة الروح الحمصية التي تحوم في المكان…حمص لم تكن مدينة جميلة بالمعنى التقليدي ولكن كان لها سحرهاالخاص ، ابتداءً من الضمة التي يفتتح بها الحماصنة كلماتهم فينتهون بضم قلوب مستمعيهم الساكنة، وصولاً للبيوت السوداء التي تلاعب قلوب سكانها البيضاء الشطرنج…ومروراً بالمطبخ الحمصي وكل أسراره الثمينة والتي يحتل فيها ‘الباذنجان الحمصي’ العرش والسلطان…فيدوخ ويسلتقي مستسلما في ‘شيخ مشطح’ ويحترق قلبه ويسيل لذة في ‘الباطرش’ المتبل باللحمة المفرومة والبندورة، ثم يتكور ويتقزم لتتكثف خواصه عندما يتخلخل مع الفلفل الأحمر والجوز في ‘المكدوس الحمصي’….أما كيف تصير الحلاوة جبناً والجبن سكراً فتلك هي خلطة حلاوة الجبن الحمصية وسر حلاوة صباياها وحسنهن…..
بعد إحساس الخفة الذي كان يصيبني عندما أدخل حمص، كان يداهمني إحساس الجوع والرغبة بالامتلاء بكل ما هو حمصي….فأفتح رئتي لاستقبال الريح الحمصية التي تهرب من البحر وتدخل من فتحة سرية إلى حمص، هنا لا نرى البحر ولكن نستنشقه…أدور بعدها بحثا عن الفلافل المغمسة بالطحينة وملفوفة في رغيف الخبز′ الكماجة الحمصية’…لا شيء كان يجعلني أشعر أنني وصلت إلى حمص إلا شطيرة الفلافل بكامل زينتها وخلطتها وأسرارها…
حمص الجوع:
تعيدني الذاكرة لكل ما كانت تفيض به مطابخ المدينة من أطايب الطعام وأشهى الأطباق، وأنا أشاهد اليوم خروج الحماصنة من حمص القديمة بعد 600 يوم من الحصار بوجوه شاحبة وأمعاء خاوية ومنهكة من تناول كل ما تفيض به الطبيعة وكل ما هو متاح من أجل البقاء حتى أوراق الشجر والحشائش الخضراء…
الجوع كافر وبلا أخلاق ولا ضمير…جوع يجعل أبا يعد النقود القليلة ويقف حائراً بين أن يشتري أنبوبة الغاز أو الدواء لمرض القلب أو الخبز لأولاده، معادلة ستحسم سريعاً لصالح جوع الصغار والدمعة الخجولة التي ستسقط بعدها من عين الأب رغما عنه، سيمسحها قبل أن تلتقطها عيون الصغار وستكون دمعة مدفوعة مقدماً للفرح الذي طال انتظاره في زمن الحصار…
جوع في عيون طفل صغير…يمسك في يده ملعقة فارغة باحثاً عن الجنة وعندما تسأله محدثته عن معنى الجنة…يجيب بعفوية: الجنة فيها خبز وأنا جوعان…جوعان كلمة يرددها الكثير من الأطفال في حمص اليوم، جيل جديد من أطفال المجاعة، المجاعة كسياسة لتركيع المناطق الثائرة تحت شعار ‘الجوع أو الركوع′…
فمن لم تقتله القذيفة والرصاصة والاعتقال يقتله الجوع …هكذا هي استراتيجية النظام الأخيرة للقضاء على آخر معاقل الثورة…سياسة ضحاياها الأطفال الصغار بالدرجة الأولى، الذين لا تحتمل أجسادهم الصغيرة وحش الجوع الكاسر..
طفل المجاعة الافريقي صار سورياً بجلد ابيض وألم واحد لا لون له…اسمه الجوع!
حمص التعايش الكاذب:
حمص التي كانت تتوسط المدن السورية وتعبرها القلوب القادمة من الساحل إلى الداخل ومن حلب إلى الشام وبالعكس…لم تكن مجرد محطة في طريق السفر بل كانت مدينة التوازنات وخطوط التماس، يتعايش فيها الريف مع المدينة والساحل مع الداخل في فسيفساء فريدة من الطوائف والأديان….
تعايش كشفت الأحداث الأخيرة كم كان هشاً وكاذباً، تعايش صار تهجيراً وتقسيماً وتطهيراً….
صار النزوح الحمصي مرادفا لخروج رجل كهل من حي لآخر في داخل المدينة الواحدة، خروج قد يكون بلاعودة وبلا مفاتيح لبيوت تهدمت ولم يبق لها أبواب لتفتح…خروج بأرجل خشبية، فالأرجل الحقيقية التهمتها القذائف ودفنت تحت الأنقاض…
نزوح الحمصي في سورية اليوم هو نكبة سورية بكل ما في النكبة من قهر ووجع انساني، بماذا نستطيع أن نصف الأطفال والنساء والكهول وهم يغادرون حمص القديمة بوجوههم الحزينة وظهورهم المقوسة وبأيديهم أكياس صغيرة من البلاستيك هي كل ما تبقى لهم…بماذا نصف مدينة مهدمة بصقت كل أحشائها على الملأ وأبنية تفتت ولم يبق منها لا حديد ولا حجر. وهل هناك وصف ينطبق على الجيش الأسدي غير جيش الاحتلال، جيش يقصف المدن ويروع البشر ويقيم الحواجز ومراكز التفتيش ويخضع الرجال ممن هم دون الخامسة والخمسين للاستجواب والاعتقال…لا شيء ينقص لتكتمل صورة الاحتلال والنزوح والتقسيم غير صورة المستعمرين الجدد يبنون مستعمراتهم على أشلاء السكان الأصليين، صورة لم يبخل بها علينا بعض سكان الأحياء الموالية الذين بنوا جداراً بشرياً، جدارا من الفصل العنصري لمنع وصول المعونات الغذائية لأبناء حمص القديمة….
وكأن حمص، جارة العاصي، صارت الحكاية السورية بكل وجعها وألمها وأملها …هنا بدأت الثورة بأحلى صورها كحراك شعبي سلمي، وهنا وئدت وقمعت بكل أشكال الحصار والتجويع …وهنا ستبعث من تحت الرماد كتلك الطفلة السورية الصغيرة التي حفر الناس بأيديهم ليخرجوها من تحت البناء المهدم وخرجت بوجه رمادي يعلوه الركام ولكنها كانت حية تتنفس….
حمص أم الحجارة السوداء ستلم حجارتها يوماً وتعيد البناء…حجارة لن تبنى منها القبور كما قال الشاعر الحمصي نسيب عريضة يوماً:

عد بي إلى حمص ولو حشو الكفن
واهتف أتيت بعاثر مردود
واجعل ضريحي من حجار سود

بل ستبنى حمص الحرة من جديد بحجارتها السوداء…وستبنى بسواعد من بقي من أبنائها…فقد ينجحون باغتيال الحجر والشجر والبشر، ولكن تبقى الروح الحمصية عصية على الموت، هي سر الحماصنة الخالد والذي يتوارثونه عبر الأجيال في تعويذة حب واحتراف للحياة لا يهزم.


عن القدس العربي.




تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow