البعث ولا المذلة..

بعد أن اجتزنا المرحلة الاعدادية، وبلغنا مبلغ الرجال، صار لزاما علينا أن نكمل النقصان فينا وننتسب للحزب، دخل الموجه إلى صفنا وفي يده اوراق كثيرة، بدأ بتوزيعها علينا نحن الطلاب، «هذه طلبات انتساب للحزب» قال الموجه..

لا داعي لأن يقول أي كلمة أخرى، وخلال عشر دقائق وثلاثة شهور، كان نحو الثلاثين طالباً وطالبة رفاقاً حزبيين كاملي الأهلية، يجتمعون أسبوعياً في أيام الآحاد بعد انتهاء الدوام المدرسي، لينظروا في شؤون الدولة والمجتمع والوطن وفرن الحي الأول، وصراع الوجود، وباص النقل الداخلي، وانهيار جدار برلين، والموقف من الممثلة التركية سبيل كان والصور الفاضحة لسامنثا فوكس، ومدريد، والأرض والسلام، والتحديات الراهنة، والظروف الدقيقة طبعاً وأبداً ودائماً، حكمة الأب القائد، المناضل الأول قائد المسيرة..

"ولأن مصايب الناس يوم الحد ومصيبتي ما جرتش لحد"، ضاع طلب الانتساب الخاص بي، وضاعت فرصة اللقاء الاضافية بالرفيقة حبيبتي في الإجتماع الحزبي. أنكى من ذلك، كان الرفيق غريمي عضوا معها في الفرقة الحزبية ذاتها.. يا يوم الاحد المقيت.

ومن هنا بدأت حملة «البعث ولا المذلة»، جهود حثيثة مني في البحث عن الطلب المفقود، وتجديد الطلب مع رجاءات حارة هنا وهناك، للإسراع في قبول طلبي وتحويلي إلى رفيق بعثي بمرتبة نصير، ونجح الأمر.. تعال أيها الأحد اللعين..

ولأن الحلو مع البعث ما يكملش، خانت الرفيقة حبيبتي حبي وأحبت الرفيق أمين الفرقة الحزبية. وقفنا أنا والرفيق غريمي على باب غرفة الاجتماع، ورددنا الشعار «أمة عربية واحدة..ذات رسالة خالدة» وخرجنا من حياتها الحزبية إلى الأبد.

المنطلقات النظرية لكيرا ساوا

في الصفحة 58 من كتاب التربية القومية الخاص بطلاب البكالوريا، فقرة في أسفل الصفحة، تتحدث عن موقف حزب البعث من المرأة على الصعيد الدولي، ما زلت أذكر حجمها وعدد أسطرها، وكم مرة ذكرت المرأة في هذه الفقرة، التي، أمضيت ثلاثة أيام كاملة في حفظها فقط، وطبعاً أياماً طويلة أخرى في حفظ فقرات لا نهائية عن موقفه منها على الصعيد القطري والعربي، مواقفه منها التي حددتها مقررات المؤتمر القطري الرابع والخامس والسابع، أضف عليها مقررات المؤتمر القومي الثالث والرابع والأخير، سأعترف أني حصلت على علامات كاملة في امتحان التربية القومية، لست وحدي في ذلك، عموما..

في فيلم بديع للمخرج الياباني اكيرا كيراساوا، تقرر مجموعة من التلاميذ أن تقيم حفل تكريم لاستاذهم، الذي درّسهم قبل خمسة وعشرين عاماً، بمناسبة تقاعده من العمل، يحضر كل واحد منهم هديته الخاصة للأستاذ ويقدمها اثناء الحفل، يقوم أحد الطلاب بتقديم هديته، وهي أنه سيذكر محطات القطار بين مدينتين مفترضتين في اليابان، كرمى لعيون الأستاذ وزملائه الطلاب، يمضي وقت الفيلم وتنتهي الحفلة وما زال الطالب واقفاً ويعدد أسماء المحطات التي تبدو لانهائية في عددها وأسمائها..

يوما ما، عند تقاعد أستاذ التربية القومية في مدرستنا، سأهديه مجموعة مختارة من المنطلقات النظرية مع تشكيلة من مقررات المؤتمرات القطرية والقومية بخصوص المرأة والصراع العربي الصهيوني، بأدائي وصوتي أيضاً..

الكذب ملح الرجال..

لكي تدرس العلوم أو الهندسة، الطب أو الآثار، الأدب أو الإقتصاد، عليك أن تتجاوز مقررين للتربية القومية في الجامعة. شخصياً، رسبت لثلاث مرات متتالية. في أول مقرر رسبت جراء عدم قدرتي على فتح الكتاب، فتح الكتاب فقط دون النظر حتى لما يحتويه. في المرة الرابعة، حالفني حظ جيد، إذ طلب أستاذ المقرر في الإمتحان، موضوعاً عن النظرة والقيادة الحكيمة لحافظ الأسد قرأت السؤال وابتسمت. عرفت أن فرصة النجاح مواتية ولا يجب أن تضيع. خرج القمقم البعثي من داخلي وبدأ بالسرد، أنا لم أفعل شيئاً سوى أني نقلت كلماته على ورقة الإجابة، لم يترك القمقم صفة إيجابية وخصلة حميدة إلاّ وكانت من صلب شخصية القائد، لم يخل موقف بطولي في تاريخ العرب الحديث من بصمات القائد عليه، هو القائد، هو الملهم، المناضل، بطل الحرب والسلام، صاحب النظرة الثاقبة والحكمة المتجددة، صاحب الشباب الدائم والبشرة النضرة، أبو عيون جريئة، الصمود والتصدي، المقاومة والاكتفاء الذاتي، الاستقلال والسيادة كلها من صفاته. دبجت موضوعاً يليق بمعلقة، معلقة مديح تليق بسلطان. سلطان سيعطيني ألف ألف دينار عليها، لكن الدنانير التي أريدها هي علامات النجاح من أستاذ المقرر..

أجزلت العبارة ولعبت بالكلام، حتى كدت أن أتجاوز الجواهري وجوزيف حرب في مدائحهم الشهيرة للرئيس، استعرت من الجاحظ عبارة يمدح بها شيخه النظّام «لو كان لكل ألفية من السنين رجل فالنظّام هو رجل هذه الألفية» وأكملت أن الرئيس هو رجل الألفية الثانية بلا منازع شعرت بعد هذه الجملة، أني وضعت علامة النجاح في جيبي أنهيت كتابتي وسلمت ورقة الامتحان، وانتظرت النتيجة وكلي ثقة.

الثقة بأن الكذب هو طبختنا كلها وليس ملحها فقط..

بلد المليون شاعر..

ذهبت للعمل في موريتانيا وفي بالي المقولة التي تتردد دائما، موريتانيا بلد المليون شاعر، تخيلت أني سأجد الشعراء في كل مكان، في الشوارع ومقاهي الرصيف، في الحافلات وعلى شاطئ المحيط، في عمق الصحراء وفي الواحات، وأني سأكتب وصفات طبية بلغة الشعر ليفهمها الصيادلة والمرضى. في الحقيقة لم ألتقِ بأي شاعر هناك، أو نصف شاعر حتى من هؤلاء المليون، وتملكتني الرغبة لمعرفة سبب التسمية، التي اكتشفت سرهاعلى غوغل، سؤال وجهته مجلة العربي الكويتية في أحد استطلاعاتها الشهيرة عن موريتانيا في ستينيات القرن الماضي، كم عدد سكان موريتانيا، أجاب أحدهم: نحن في موريتانيا مليون شاعر..

بعد توريث الحكم في سوريا، يصر صديقي على مقولة خاصة به، كلما اصطدم بروتين أو فساد أو محسوبية في عمله» يوجد 17 مليون حافظ أسد في سوريا»، لا عجب إذن، أن كفر نبل بلافتاتها الشهيرة واللماحة، رفعت ذات مرة..

"كل المشكلة في الاسد القابع في كل واحد فينا".

عن جريدة المستقبل.