والمادية والزمكانية،بالإضافة الى فاعليته الثقافية الفردية الناجمة عن بعد سوسيو ثقافي جماعي.

ويعتبر الفكر عملية لعقل الأشياء ووعيا بالذات الفنية في محيطها ،باعتبار أنه اتجاه نحو البعد الأنطلوجي الذي يبحث عن فهم الوجود وعلاقة الذات به،مع ضبط هذه العلاقة في قواعد تكون أقرب الى الوضوح والمنطق في عملية البحث التشكيلي،التي تمر عبرها العملية العقلية مستوعبة كل جوانبها المتعلقة بالذاكرة التي تمثل القديم والتالد والموروث ،والموقف الجديد والمعاصر في الفنون التشكيلية بكل مقوماته الجمالية.

ومن هنا يستند الفن الى العملية التعبيرية الذاتية النابعة من خلال علاقة الذات بوجودها العيني والمحسوس في الواقع،اذ تتميز هذه العلاقة بعملية توتر تنشأ مسألة الابداع الفني من سعي الفنان الى البحث التشكيلي النابع من فكرة تتوالد عبر جذوره وذاكرته البصرية مستديمة لأنها تستند الى سبل التحكم في مدلولات الواقع المعيش ومحاولة فهمه وتعديه دون موضعته في حين آخر،والفن بذلك هو وليد هذه التحولات المستمرة التي تعيشها الرحلة الانشائية في تحديد معالم هوية اللوحة الفنية في الفن التشكيلي المعاصر في تونس،اذ يستحيل في خضم هذه التجربة المتواصلة والمستديمة ،وان لم نعرّفها باللانهائية،كائنا حيا يواكب حياتها وتغيراتها ،ومن ذلك قول أدونيس:"...يعتبر الفن بجوهره ،ابن الأمة،كما أن الانسان ابنهما،ينمو ويرتقي ،ثم يهرم ويموت ،ثم ينبعث انبعاثهما،فتيا ،مبدعا،من جديد...."[1]

ومن ذلك تنشأ العلاقة الجدلية في الفن بين ماهو تالد قديم ،ويعنى بمسألة الأصالة والهوية،وما هو حديث ومعاصر ،باحث في في مكنونات التغيير الشامل بثقافة عصرية تسعى الى تأصيل فني وفكري يقوم على العلاقات التبادلية الثقافية المنقولة والمحورة عن تجارب الآخر.

لكن في موضعة هذه الذاتية وتحديداتها ،يندرج التساؤل حول مسألة الابداع الفني ،الذي يجد نفسه متذبذبا بين مسألة المعاصرة والتراث،بما هو حصيلة ابداع ماضي ،يمثل ذاكرة فكرية ومادية متسعة نظرا لارتباطها بالتاريخ الاجتماعي والثقافي لفئة معينة بكامل تفاعلاتها الثقافية وتحولاتها الفنية التي تولد الوحدة الاجتماعية والذاتية والثقافية.

ان هذا التساؤل حول وجود الفن والفنان ،بين الفكر التراثي القديم ومحاولات التحديث والمعاصرة في الفنون التشكيلية،يحيلنا الى مسألة الابداع الذي يعايش الواقع ،لكنه بعيد عنه بمعنى الالتزام في الفن ،أي على الفنان التشبث بواقعه ومحاولة معالجته تشكيليا حسب رؤية حديثة ومتطورة ،بعيدة كل البعد عن مسألة العروبة والقومية ،الرافضة لفكرة الاندماج بهوية الآخر بداعي التقليد بدون التطوير ،دون أن تطرح البديل الفكري والثقافي والاجتماعي .

ومن هنا نجد الفن التشكيلي العربي المعاصر عموما والتونسي خصوصا متأرجحا بين مسألة الحداثة والمعاصرة والأصالة ،ومبادئ الهوية وإشكالاتها،وتواصل الذاتية الثقافية بحثها عن الانشاء لتأصيل ممارسة تشكيلية مخصوصة.

لكن ألا يمكن لهذا الحديث عن الأصالة أن يكون واهيا؟ ،نظرا لعملية الانفتاح التي يشهدها الفكر من خلال الوسائط التكنولوجية الحديثة ،ذات التطورات التقنية العالية الجودة من حيث جماليات الصورة المرئية وسطوتها البصرية ،كالأنترنات والمواقع الالكترونية والقنوات التلفزية ،وهذا ما يؤكد ضعف القول بمسألة تأصيل الممارسة الفنية ،والتعمق في التراث والانغلاق على الذاتية الثقافية ،التي طرحت منذ خمسينات القرن الماضي،فسؤال الحداثة والمعاصرة سوّر بمسألة الهوية ،مع الجهل بالتفاصيل الدقيقة للماضي وحضارته.

ومن ذلك تجلى هذا السؤال ملتبسا ومتعدد التأويلات ،اذ جعل من الفن العربي محدودا ومنغلقا على ذاته ،دون بعض المحاولات التشكيلية ،التي وان حاولت الاندماج مع الماضي وتراثه الفكري والثقافي،وانما هي محاولات لمعالجة الواقع واليومي المعيش ،دون الوعي الارادي بهذه المسألة ،ونذكر على سبيل الذكر لا الحصر ،تجربة الفنان القرجي وعمار فرحات ونجيب بلخوجة ولطفي الأرنؤوط ،وتجربة مشروع المفردة في الفنون التشكيلية بمركز الفن الحي بتونس،الذين استلهموا من التراث رؤية تشكيلية حديثة وجديدة، تبتعد عن جانب التأصيل البسيط ،وتستعيد الذاكرة البصرية والمادية لتحولها في خضم قنوات تعبيرية ،لا تجعل من فهم مسألة الهوية مسألة كرونولوجية وخطية أفقية بسيطة ،وانما هي مجموعة من الترددات الفكرية الاستنباطية التوليدية ،وفق علاقات تشكيلية تستند الى رؤية مستحدثة ،للواقع اليومي والمعيش .

اذ تقوم بالأساس على مفهوم الانفتاح النافي لمكونات الانغلاق على الذات والهوية التي لم تعد مخصوصة ،ولا يمكننا أن نطرحها كمسألة نظرا لتعدد الثقافات داخل المجتمع الواحد،بفعل مسألة التعامل مع مقومات حضارية أخرى ،وهذه المسألة ليست بحديثة ،اذا ما اعتبرنا ما عالجه "دولاكروا" في أعماله ناهلا من الضوء في البلدان العربية أوأعمال كل من "ماتيس" و"بول كلي" في محاولتهم الاستلهام من التراث الاسلامي والزحرفة لتوظيفها من خلال تعددية الأشكال والألوان وانسيابية الخطوط .

ومن هنا يتجلى مفهوم الانفتاح ،بما هو سعي دؤوب الى البحث التشكيلي وفق رؤية تعددية للقراءات التقبلية لهوية اللوحة الفنية ،التي لم تعد منحصرة في بوتقة الانتساب الى الذاتية وبلد دون اخر ،وانما تعود ذاتيتها في فرادتها وجدتها وحضور فكر الفنان فيها ،التي تنشأ من خلال محاورة المادة والتقنية والى مكونات الفكر النابع منها ،في خضم التجربة الانشائية التي شيدتها،والتي تتقاطع مع مسألة الانغلاق والتقوقع والنمطية ،المتميزة بالقراءة المحدودة القائمة على معايير جمالية وتحليلية سلبية جاهزة .

بالتالي نتحدث عن مبدأ التجاوز في الفنون ،تجاوز الفعل الى الانفعال القائم على الانفتاح على كل الفنون ،الباثة لجملة من العلاقات الاستردادية بين الباث بما هو الفنان واللوحة والمتلقي،فالممارسة التشكيلية المعاصرة استحالت ممارسة منفتحة على المكاني والزماني ،واستحالت ذات هوية لا محدودة في فضاء معين أو مساحة،وانما تتميز بالتعددية في المعالجة الانشائية ،سوى تعلق الأمر باللوحة المسندية أو المنحوتة أو الحفر،أو غيرها من أصناف الفنون ،أم افتراضية تستند الى سبل وآليات تكنولوجية معاصرة .

ومن هنا تنزاح الممارسة الفنية المعاصرة عن القانون الوضعي والكلاسيكي ،الغارق في مسائلة التراث دون التمعن في غالبية مكوناته،وانما هي مسألة تقوم على مبدأ تزويقي للهوية ،فالهوية المعاصرة هي معايشة الفنان لواقعه ،والانصهار فيه ومحاولة معالجته ،انطلاقا من رؤية فنية تطرح تساؤلات جوهرية على المتلقي البصري ،وهذا لا ينفي مقومات الذاكرة وعلاقتها الجدلية بالفن وما تحويه من ترسبات فكرية واتنية وأخلاقية ،تمثل المخزون الذي ينهل منه الفنان ،دون الانصياع لتراث وفكر قديم والتقوقع فيه .

ومن هنا استحالت الرؤية الفنية المعاصرة في الفنون التشكيلية ساعية الى التحرر ،من الجزئية الى الكلية ،ونائية بالفكر الفني عن القالب الجاهز ،ذو النظريات الجاهزة ،والمتوارثة من جيل الى جيل ،فيجد الفنان ذاته ازاء المادة ومكوناتها وامكاناتها ،ومدى تأثيرها على جسدانيته ،فالرحلة الانشائية في العمل الفني المعاصر لا تقوم على أساليب ومناهل تقنية فحسب ،وانما هي مغامرة تستند الى صيغ توليدية ضمن ممارسات توافقية بين الشكل واللون و"الفضاء ،بما هو مكان العمل الفني" على حد تعبير (هنري فوسيون) ،ويكون ذلك بفعل المعايشة للتجربة الذاتية المتفاعلة بين الارادي والصدفوي ،والتأثيرات الفكرة والمادية والنفسية للفنان ذاته.

وهذا ما يتضح في قول "سوزي .جابليك في كتابه التحديث وظله":...على كل حال فانه وبكل تأكيد بأن التقاليد اليوم ليست هي المحدد ، لوسائط ولا لغائية الفن،فهما في اكتشاف جد متواصل ،والتحولات الكبرى في العالم الحديث قد غيروا طبيعة الفن وأيضا نفسية وتحفيزية الفنانين."[2]

وبالتالي يجد الفنان نفسه في العمل الفني المعاصر، ساعيا الى التحرر من كل ما هو تالد في لحظة الابداع التي لا تستند الى الماضي فحسب ،وانما تقوم على معالجة الحاضر والعيني ،في منطق لا يستند الى رؤية ذاتية فحسب ،وانما من خلال عملية المحايثة لليومي المشحون بالرمزية.

ومن ذلك فان حديثنا عن الحداثة والمعاصرة في الفنون التشكيلية ،يمثل احساسا بالعصر ورؤيا ذات كشف مادي ومعنوي ،ورؤية تجاوز و اختراق وتقدم الى الأمام،فهي بذلك تسعي الى البحث عن شرعية المستقبل ،تتحول بالذات وتحثه على الاكتشاف والاستحداث المتواصل ،الذي يقوم الى اعادة نظر في هوية اللوحة ومدلولاتها ورهاناتها الجمالية والفكرية.

طه الليل:جامعي تونسي وناقد فني

[1] أدونيس:الثابت والمتحول،دار العودة بيروت ،ص 62,

[2] « ….en tous cas, ce n’est certainement pas la tradition qui détermine aujourd’hui les moyens et les fins de l’art , lesquels sont perpétuellement a réinventer.les grandes bouleversements du monde moderne ont modifié la nature de l’art ainsi que la psychologie et les motivations des Artistes. »SUZI GABLIK. Le modernisme et son ombre ,Ed. Thomas and Hudson Sarl, Paris.1997.P.16.