‘برتقال’ كنفاني… ‘زيتون’ درويش… و’عنب’ المناصرة
2014-04-20
‘برتقال’ كنفاني… ‘زيتون’ درويش… و’عنب’ المناصرة
تعدديّة الرموز الثقافية الفلسطينية
فيصل درّاج
لا ينفصل وعي الشعب عن الرمز الذي يرى فيه ذاته، جاء ذلك عن تصميم وإرادة أو أتت به صدفة تاريخية صيّرته عرفاً، ولا ينتقل الشعب من وعي إلى آخر إلاّ بانفصال عن الرمز واستقدام رمز جديد.
فالإنجليزي يرى رمزه في (البحر) الذي ينقله من جزيرة صغيرة إلى أرجاء العالم كله، والهولندي ساكن الأرض المنخفضة يطمئن إلى رمز (السد)، والألماني يرتاح إلى رمز (الغابة الكثيفة)، التي تتمتع بالقوة والاستمرار والتجدد الذي لا عشوائية فيه. والرمز في هذا كله كثافة تاريخية وقوة ملهمة موحية وعُرْف يقبل به البشر دون مساءلة، ذلك أن للموروث سطوة تطغى على غيره. والسؤال هنا: إذا كان استقرار الرمز مرآة لأمة مستقرة، لم يعبث بها الدهر ولم تسقط عليها صدفة غير متوقعة، فما مآل الرمز لدى شعب اقتلع من أرضه ولم يعامله الدهر بطراوة قليلة أو كثيرة؟
- أعطى اللاجئ الفلسطيني (غسان كنفاني) لإحدى مجموعاته القصصية عنواناً موحياً: ‘أرض البرتقال الحزين’ مقرراً، بطمأنينة كبرى، أمرين متلازمين: إن أرض البرتقال هي فلسطين، وإن أرض البرتقال الحزين هي فلسطين المغتصبة التي اقتلع أهلها وتركوا برتقالهم لأيد غريبة. نظر الأديب إلى ‘عائد إلى حيفا’، مساوياً بين الوطن ومدينة منه، ومنصًّباً ‘حيفا’ رمزاً فلسطينياً أو رمزاً عن فلسطين. واختار (محمود درويش) لديوانه الشعري الأول عنوان: ‘أوراق الزيتون’ مستبدلاً بالبرتقال ثمراً مقدساً، يعشقه أهل الجليل ويعتبرونه رمز أرضهم المحتلة. اشتق الأديبان الراحلان رمزية فلسطين من مصيرها الفاجع، حيث الزيتون يهرب من أيدي أصحابه والبرتقال يقاسم اللاجئين أحزانهم. أمّا (الشاعر عز الدين المناصرة)، الذي ينتسب إلى أرض ولا يعيش فيها، فقد آثر العنب رمزاً: ‘يا عنب الخليل’، إلى أن وقع على رمز غنائي هو :’جفرا’، الكلمة التي يعرفها القلب الفلسطيني قبل أن تصافح الأذن.
- ما الذي يوحّد ويفصل بين الرموز الثلاثة، وما الذي دفع بثلاث مبدعين فلسطينيين إلى رموز ثلاثة؟ ترتبط الرموز الثلاثة الأولى بموقع الميلاد والطفولة، كما لو كان مهد الطفولة غابة كثيفة تضمن النمو والاستمرار في الحياة. إن رموز (الأقاليم الثلاثة)، التي يتعرّف كل منها بثمر معين، هي رمز فلسطين في وجوهها المتنوعة. بيد أن ما يدفع إلى توزيع فلسطين على رموز متعددة قائم في تجربة واحدة عنوانها: الفقد والاقتلاع واللجوء والاغتراب، كما لو كان للاستقرار رمز يتعرّف به، مثلما أن للاقتلاع المتعدد الاتجاهات رموزاً خاصة. أدى تبعثر الفلسطينيين إلى اضطراب رمزهم الأشهر أي: مدينة القدس.
- (القدس) هي المدينة المقدسة التي تحتضن الصخرة والمسجد الأقصى، وطأ ترابها عمر بن الخطاب وحرّرها صلاح الدين وعرج منها الرسول عليه السلام إلى السماء، المدينة الزاخرة بالآثار الإسلامية والمقدسة، التي أعطت لفلسطين كلها دلالة مهيبة. ففي المسجد الأقصى إحالة على القدس، وفي صخرة القدس إحالة على فلسطين، وفي الموضوعين إيحاء بعبق التاريخ وأطياف المقدس. ولهذا وصفها جبرا إبراهيم جبرا، في روايته ‘صيادون في شارع ضيّق’، بنثر متألق، وتغنى بها في في مطلع الفجر هدأة الغروب : ‘يا قدس الذهب والفضة، يا قدس العسجد والزبرجد’. وعندما أراد الراحل اسحاق موسى الحسيني أن يبرهن عن حبه لفلسطين كتب، رغم أشغاله الكثيرة، عن القدس، وحين أراد الملك الحسن ملك الغرب أن يدعم القضية الفلسطينية شكل هيئة للدفاع عن المدينة الجليلة، ولم ينسَ الملتزمون بالكفاح المسلح المدينة المجيدة فشكّلوا ‘كتائب الأقصى’. تبدو القدس، في الحالات جميعاً، مرجعاً دينياً وحضارياً ووطنياً، تعرّف فلسطين وتتعرّف بها، ويعرف الفلسطينيون أنها رمزهم الأكبر.
- والسؤال الآن هو التالي: إذا كان للقدس من الصفات ما لا يتمتع بها غيرها من المدن الفلسطينية، فما الذي جعل الروائي يرى الرمز في حيفا والبرتقال، وأملى على الشاعر الأشهر أن ينظر إلى الزيتون، ودفع بـ ‘عاشق الخليل’ إلى الاستنجاد بالعنب والتذكير بـ ‘جفرا’؟. لا أحد من هؤلاء نسي القدس، وإن كان المعيش الصعب يضيف إلى الرمز القديم رموزاً جديدة، مترجماً وعياً فلسطينياً نوعياً يصدر عن تجربة ملموسة لا عن تربية هادئة منجزة. فحين كان الفلسطيني في وطنه كان يرى القدس قبل غيرها، وحين خسر وطنه أصبح ينظر إلى فلسطين في مدنها كلها، صغيرة كانت أم كبيرة ومقدسة أو بلا قداسة. اشتق الفلسطيني المغترب من تجاربه المتعددة رموزاً متعددة، تستدعي ذكريات الطفولة وحكايات الأجداد، وغدت القدس مكاناً من وطن محاصر بالعذاب والخديعة. بقي الفلسطيني المخذول مع تجربته، وعيّن وعيه ‘التجريبي’ والمجرّب مرجعاً لهويته المفتوحة على احتمالات كثيرة.
لازمت صفة ‘اللاجئ’ الإنسان الفلسطيني منذ سقوط فلسطين حتى اليوم، وارتبطت بما يحصرها بشعب عربي معين، بدءاً بـ ‘بطاقة الإعاشة’ و ‘وكالة الغوث’ ومدارس ‘الأونروا’، كما لو كان ‘اللاجئ’ تعريفاً هو الفلسطيني بديلاً عن الوطن المفقود. لا مكان في هذا الشرط المأساوي لمدينة القدس، ولا أحد، عربياً كان أو غير عربي، يرى الفلسطيني المعذَّب في ‘قدسه’، أو يرى القدس في أحوال الغريب الفلسطيني. ولعل هذا الوضع، الذي يحدّد الفلسطيني إنساناً ناقصاً ومختلفاً كلياً عن غيره، هو الذي دفع بالراحلة سميرة عزام إلى كتابة قصة قصيرة عنوانها ‘الفلسطيني’، الذي هو إنسان لا يكترث الآخرون باسمه ويختصرونه إلى البلد الذي هُجّر منه. لقد أعاد غير الفلسطينيين خلق الإنسان الفلسطيني، فمحوا اسمه الشخصي وأعطوه اسماً عاماً ليس هو بالاسم، يشير إلى جغرافيا منكوبة ولا يكترث بالبشر والمقدسات.
- حين نشر روحي الخالدي كتابه ‘تاريخ علم الأدب بين فيكتور هيكو والعرب’، في مجلة ‘الهلال’ في بداية القرن الماضي، حذف اسمه واكتفى بصفة ‘المقدسي’. أراد الانتساب إلى المدينة المقدسة، التي لم تكن قد احتلت بعد، مدينة فلسطينية بين مدن أخرى، وإن كانت هي الأشهر والأكثر مهابة. كان هناك، في تلك الفترة، مجال للتمييز، فليست جميع المدن هي القدس، وليست القدس جميع البلدات الفلسطينية، واللاجئ الذي لا اسم له هو :غسان كنفاني، الذي اختصر إلى لقب لا يحتاج إلى مدينة القدس.
لم يكن الأمر مختلفاً مع صفة ‘ابن المخيم’ أو ‘أولاد المخيم’، أو ‘المخيم’ الذي احتشد فيه لاجئون من قرى ومدن وبلدات فلسطينية كثيرة، منها مدينة القدس. هل كان هناك ما يميز لاجئاً ‘مقدسياً’ عن لاجئ آخر جاء من قرى الجليل؟ الجميع سواسية، يذهبون إلى ‘مدرسة الوكالة’ ويقفون طوابير في الصباح مع ‘كرت الإعاشة’ من أجل حليب لا دسم فيه، والجميع يسكنون على هامش المدينة كي لا يخدشوا حياء المدينة الجميلة. حين كان بعض اللبنانيين يطالب بإزالة ‘مخيم تل الزعتر’، الذي قتل جميع أهله بدم بارد، كان يقول: إنه يشوّه جمال بيروت، بقدر ما يشوّه غيره من المخيمات جمال مدن أخرى. هل كان الغيور على جمال مدينته يهجس بالقدس أو بغيرها من بقاع فلسطين، وهل كان الفلسطيني الخارج من ‘تل الزعتر’ والمشدود إلى سيارتين منطلقتين في اتجاهين متعاكسين يهجس بالصخرة أو بغيرها من الصخور، أم كان يختنق برعب حزين شاكياً إلى ربه ظلماً لا نظير له؟
- تأتي الرموز من التجربة المعيشة لا من الأماكن، مقدسة كانت أو غير مقدسة، لأن ‘القدس′ الحقيقية هي تلك الروح الإنسانية البريئة التي سقط عليها ظلم لا مثيل له. وهذه التجربة التي انفتحت على احتمالات كثيرة ولا تزال، هي التي وزّعت الهوية الفلسطينية على رموز كثيرة لا تكف عن التكاثر: اللاجئ، الفلسطيني، ابن المخيم، الفدائي ثم ‘الإرهابي’، الذي أراد أن يكون له اسم علم كبقية البشر. فبعد أن وزّعت تجربة اللجوء على الفلسطيني ألقاباً كثيرة، لم يكن ‘المقدسي’ واحداً منها، أراد الفلسطيني أن يستبدل بألقاب السلب ألقاباً مغايرة، منها الفدائي الذي يلوذ بأمه الأرض، كما جاء في رواية ‘أم سعد’، ومنها الشهيد المكفن بألوانه كماجاء في رواية لم تكتمل عنوانها ‘برقوق نيسان’.
- أعلنت التجربة الفلسطينية أن الرموز عارضة، وأن لكل سياق رمزاً خاصاً به، وأعلنت أولاً أولوية التجربة على الكلام، فالقدس رمز الفلسطيني الذي يستطيع أن يزورها وأن يعيش فيها متى يشاء وكيفما يشاء، والمعاناة هي رمز الفلسطيني الذي حرم من فلسطين كلها. فللمعيش المستقر رمزه، وللمعيش المضطرب رموزه، والرمز في النهاية يأتي من الإنسان ويعود إليه، يعبّر عن أحواله التي تنتج وعيه، وتملي على الوعي بالتبدل والتغيّر والنقد الذاتي. فليس المطلوب الاعتراف بقدسية القدس، وهو أمر بديهي في الوعي الفلسطيني، إنما المطلوب مساءلة الأسباب التي أدّت إلى احتلال المدينة، في زمن، وتهويدها في زمن لاحق. وما مساءلة ‘مآل القدس′ إلا مساءلة الأسباب التي مزقت فلسطين ودفعتها إلى شيء يشبه الغرق. وما المساءلة التي تربط الظواهر بأسبابها المادية المركبة، إلا الانتقال من الوعي البلاغي، الذي يساوي بين الكلمات والأشياء، إلى الوعي التاريخي الذي يشتق رموز الإنسان من معاناته وكفاحه ومن دلالة الوطن في وعيه الذاهب من سؤال إلى آخر.
إذا كانت فلسطين في الوعي البلاغي هي مدينة القدس لا غيرها، فإن القدس في الوعي التاريخي هي فلسطين كلها. يبدأ الفلسطيني من دلالة الوطن كل الوطن، ذلك أن المفاضلة، في الشرط الفلسطيني، بين مكاناً وآخر، تفضي إلى التمسك بالمقدسات والإعراض عما هو غيرها، وهو كلام لا يستقيم على الإطلاق. بل يمكن القول: إن تجربة المنفى، والمنفى رمز فلسطيني كبير، جعلت الوعي الفلسطيني يرى في كل بقعة من فلسطين ‘قدساً صغيرة’، وأملت عليه أن يرى القدس بقعة من البقاع الفلسطينية، دون مفاضلة أو مراتب. وهو في هذا الوعي لا يهوّن من شأن القدس، إنما يعطي الوطن معناه الصحيح، لأن من يساوم على أي رمز فلسطيني صغير ينتهي إلى المساومة على الرموز الكبيرة.
والسؤال، في النهاية، هو التالي: هل الثقافة الفلسطينية، بالمعنى الواسع، ‘ثقافة مقدسية’ أم ثقافة وطنية؟ والجواب واضح، ذلك أن الثقافة الوطنية، وهي تمازج الكتابة والمعاناة والكفاح، تتعامل مع الوطني لامع الديني، وترى في الدفاع عن الديني واجباً وطنياً وجزءاً من الهوية الوطنية. فالوعي الذي يعلي من شأن القدس ويستخف بغيرها وعي معطوب مريض، والوعي الذي يدافع عن الوطن ويستهين بمقام القدس أكثر مرضاً وعطباً. تدور الأسئلة كلها في إطار الوطن والوطني وحقوق المواطنة، أي في مدار معيش ملموس يغيّر الوعي الوطني ويجدّد رموزه.
- يستمد الوعي الوطني الفلسطيني رموزه من مراجع ثلاثة: الوطن المغتصب، وطن البرتقال الحزين والزيتون وعنب الخليل، ومن المنفى الذي أملت تجاربه على الوعي المأساوي المقاتل أن يغير رموزه، ومن المستقبل الذي يقف غامضاً، موحياً بالأمل وقامعاً جميع الإجابات الجاهزة. والواضح في هذا كله أمور ثلاثة: أولوية الفعل الإنساني على البلاغة، وأولوية التجربة على الرموز، وأولوية المستقبل على الماضي. فلو كان في الماضي ما يوفر على الفلسطيني ضياعه لما وصل إلى ما وصل إليه. إضافة إلى ذلك، فإن تعددية الرموز تخلق بينها حواراً خصيباً، يمكن أن يستولد رموزاً أخرى، ذلك أن في التعدد نفوراً من اليقين الراسخ، وذهاباً إلى أسئلة جديدة لا تكف عن التكوّن.
يتغيّر وعي الأمة حين تغيّر رموزها، هكذا تقول العقول المفكرة. لم يشأ الفلسطينيون أن يغيّروا رموزهم، لكن التجربة اقترحت عليهم رموزاً متكاثرة، كي ينتقلوا من الوهم إلى الحقيقة، ومن المنفى إلى حدود الوطن، ومن حدود البرتقال والزيتون إلى أرض جديدة.
عن القدس العربي.
08-أيار-2021
رواية "مريم/ مريام".. السجين الفلسطيني الذي كتب رواية مغايرة |
11-تموز-2020 |
رواية "مريم/ مريام".. السجين الفلسطيني الذي كتب رواية مغايرة |
04-تموز-2020 |
09-أيار-2020 | |
25-نيسان-2020 | |
29-شباط-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |