كتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب / تقي الدين أبي بكر الأزراري
خاص ألف
2014-04-23
خزانة الأدب وغاية الأرب
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله البديع الرفيع الذي أحسن ابتداء خلقنا بصنعته وأولانا جميل الصنيع فاستهلت الأصوات ببراعة توحيده وهو البصير السميع أدب نبينا محمدا فأحسن تأديبه حتى أرشدنا جزاه الله عنا خيرا إلى سلوك الأدب وأوضح لنا بديعه وغريبه
نحمده حمدا يحسن به التخلص من غزل الشهوة إلى حسن الختام ونشكره شكر من شعر ببديع صفاته فأحسن النظم وأعوذ بالله من قوم لا يشعرون بهذا النظام ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة شاعر بأنه الواحد وأن سيدنا محمدا وعبده ورسوله المبعوث من بيت عربي فصاحته على الأعراب والإعراب أعظم شاهد وعلى آله وأصحابه الذين هم نظام هذا البيت الشريف ودوائر بحره وأنواع بديعة وديباج صدره وسلم تسليما كثيرا
وبعد فهذه البديعية التي نسجتها بمدحه على منوال طرز البردة وكان مولانا المقر الأشرف العالي المولوي القاضوي المخدومي الناصري سيدي محمد بن البارزي الجهني الشافعي صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة جمل الله الوجود بوجوده هو الذي ثقف لي هذه الصعدة وحلب لي ضرعها الحافل لحصول هذه الزبدة
وما ذاك إلا أنه وقف بدمشق المحروسة على قصيدة بديعية للشيخ عز الدين الموصلي رحمه الله تعالى التزم فيها بتسمية النوع البديعي وورى بها من جنس الغزل ليتميز بذلك على الشيخ صفي الدين الحلي تغمده الله تعالى برحمته لأنه ما التزم في بديعيته بحمل هذا العبء الثقيل غير أن الشيخ عز الدين ما أعرب عن بناء بيوت أذن الله أن ترفع ولا طالت يده لإبهام العقادة إلى شيء من إشارات ابن أبي
الأصبع وربما رضي في الغالب بتسمية النوع ولم يعرب عن المسمى ونثر شمل الألفاظ والمعاني لشدة ما عقده نظما
( فيا دارها بالخيف إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال (
فاستخار الله مولانا الناصري المشار إليه ورسم لي بنظم قصيدة أطرز حلتها ببديع هذا الالتزام وأجاري الحلي برقة السحر الحلال الذي ينفث في عقد الأقلام فصرت أشيد البيت فيرسم لي بهدمه
وخراب البيوت في هذا البناء صعب على الناس ويقول بيت الصفي أصفى موردا وأنور اقتباسا
فأسن كل ما حده الفكر وأراجعه ببيت له على المناظرة طاقة فيحكم لي بالسبق وينقلني إلى غيره وقد صار لي فكرة إلى الغايات سباقه
فجاءت بديعية هدمت بها ما نحته الموصلي في بيوته من الجبال وجاريت الصفي مقيدا بتسمية النوع وهو من ذلك محلول العقال وسميتها تقديم أبي بكر عالما أنه لا يسمع من الحلي والموصلي في هذا التقديم مقال
وكان المشار إليه عظم الله شأنه هو الذي مشى أمامي وأشار إلى هذا السلوك وأرشد فاقتديت برأيه وهل يقتدي أبو بكر بغير محمد.
في حسن الابتداء وبراعة الاستهلال
حسن الابتداء عند المتقدمين
( لي في ابتدا مدحكم يا عرب ذي سلم ... براعة تستهل الدمع في العلم (
اعلم أنه اتفق علماء البديع على أن براعة المطلع عبارة عن طلوع أهلة المعاني واضحة في استهلالها وأن لا يتجافى بجنوب الألفاظ عن مضاجع الرقة وأن يكون التشبيب بنسيبها مرقصا عند السماع وطرق السهولة متكفلة لها بالسلامة من تجشم الحزن ومطلعها مع اجتناب الحشو ليس له تعلق بما بعده
وشرطوا أن يجتهد الناظم في تناسب قسميه بحيث لا يكون شطره الأول أجنبيا من شطره الثاني
وقد سمى ابن المعتز براعة الاستهلال حسن الابتداء وفي هذه التسمية تنبيه على تحسين المطالع وإن أخل الناظم بهذه الشروط لم يأت بشيء من حسن الابتداء وأورد في هذا الباب قول النابغة
( كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب (
قال زكي الدين بن أبي الأصبع لعمري لقد أحسن ابن المعتز الاختيار فإني أظنه نظر بين هذا الابتداء وبين ابتداء امرئ القيس حيث قال
( قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل (
فرأى ابتداء امرئ القيس على تقدمه وكثرة معانيه متفاوت القسمين جدا لأن صدر البيت جمع بين عذوبة اللفظ وسهولة السبك وكثرة المعاني وليس في الشطر الثاني شيء من ذلك
وعلى هذا التقدير مطلع النابغة أفضل من جهة ملايمة ألفاظه وتناسب قسميه وإن كان مطلع امرئ القيس أكثر معاني وما عظم ابتداء امرئ القيس في النفوس إلا الاقتصار على سماع صدر البيت فإنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل في شطر بيت وإذا تأمل الناقد البيت بكماله ظهر له تفاوت القسمين
وقال أعني ابن أبي الأصبع إذا وصلت إلى قول البحتري من هذا الباب وصلت إلى غاية لا تدرك وهو قوله :
( بودي لو يهوى العذول ويعشق ... ليعلم أسباب الهوى كيف تعلق (
انتهى كلام زكي الدين بن أبي الأصبع
ولقد أحسن أبو الطيب المتنبي حيث قال:
( أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي (
ومثله قوله أي قول حبيب
( حشاشة نفس ودعت يوم ودعوا ... فلم أدر أي الظاعنين أشيع (
وما ألطف قول أبي تمام في هذا الباب
( لا أنت أنت ولا الديار ديار ... خف الهوى وتقضت الأوطار (
ومثله قول أبي العلاء المعري:
( يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر ... لعل بالجزع أعوانا على السهر (
وقد خلب القلوب ابن المعتز في تناسب القسمين بقوله:
( أخذت من شبابي الأيام ... وتولى الصبا عليه السلام (
وما أحلى ما ناسب ابن هانئ قسمي مطلعه بالاستعارات الفائقة حيث قال:
( بسم الصباح لأعين الندماء ... وانشق جيب غلالة الظلماء (
وقال الشريف أبو جعفر البياضي يشير إلى الرفق بالإبل عند السرى وتلطف ما شاء في تناسب القسمين حيث قال:
( رفقا بهن فما خلقن حديدا ... أو ما تراها أعظما وجلودا (
وهذه القصيدة طريقها الغريب لم يسلكها غيره فإنه نسجها جميعها على هذا المنوال ومنها
( يفلين ناصية الفلا بمناسم ... وسم الوجا بدمائهن البيدا (
( فكأنهن نثرن درا بالخطا ... ونظمن منه بسيرهن عقودا (
ومما يعذب في الذوق من هذا الباب قول ابن قاضي ميلة:
( يزيد الهوى دمعي وقلبي المعنف ... ويحيي جفوني الوجد وهو المكلف (
وقد نبه مشايخ البديع على يقظة الناظم في حسن الابتداء فإنه أول شيء يقرع الأسماع ويتعين على ناظمه النظر في أحوال المخاطبين والممدوحين وتفقد ما يكرهون سماعه ويتطيرون منه ليتجنب ذكره ويختار لأوقات المدح ما يناسبها
وخطاب الملوك في حسن الابتداء هو العمدة في حسن الأدب فقد حكي أن أبا النجم الشاعر دخل على هشام بن عبد الملك في مجلسه فأنشده من نظمه :
( صفراء قد كادت ولما تفعل ... كأنها في الأفق عين الأحول (
وهشام بن عبد الملك أحول فأخرجه وأمر بحبسه
وكذلك اتفق لجرير مع أبيه عبد الملك فإنه دخل عليه وقد مدحه بقصيدة حائية أولها
( أتصحو أم فؤادك غير صاح ... (
فقال له عبد الملك بل فؤادك يا ابن الفاعلة
ومن هذه الجهة بعينها عابوا على أبي الطيب المتنبي خطابه لممدوحه في مطلع قصيدة حيث قال:
( كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا (
ومن مستقبحات الابتداء قول البحتري وقد أنشد يوسف بن محمد قصيدته التي أولها
( لك الويل من ليل تقاصر آخره ... (
فقال بل لك الويل والخزي وأما قصة إسحاق ابن إبراهيم الموصلي في هذا الباب فإني أنفعل وأخجل عند سماعها وما ذاك إلا أنه دخل على المعتصم وقد فرغ من بناء قصره بالميدان فشرع في إنشاء قصيدة نزل بمطلعها إلى الحضيض وكان هو وحكاية الحال في طرفي نقيض وهو
( يا دار غيرك البلا ومحاك ... يا ليت شعري ما الذي أبلاك (
فتطير المعتصم من قبح هذا المطلع وأمر بهدم القصر على الفور فنعوذ بالله من آفة الغفلة هذا مع يقظة إسحاق وسير الركبان بحسن محاضرته ومنادمته للخلفاء ولكنه قد يخبو الزناد وقد يكبو الجواد مع أنه قيل إن أحسن ابتداء ابتدأ به مولد قول إسحاق الموصلي حيث قال
( هل إلى أن تنام عيني سبيل ... إن عهدي بالنوم عهد طويل (
فانظر إلى هذا الأديب الحاذق المتيقظ كيف استطردت به خيول السهو إلى أن خاطب المعتصم في قصر رياحين تشييده غضة بخطاب الأطلال البالية وانظر إلى حشمة أبي نواس كيف خاطب الدمن بخطاب تود القصور العالية أن تتحلى بشعاره مع بلوغه في تناسب القسمين الطرف الأقصى حيث قال:
( لمن دمن تزداد حسن رسوم ... على طول ما أقوت وطيب نسيم (
وقصة ذي الرمة مع عبد الملك تقارب قصة إسحاق مع المعتصم فإنه دخل عليه يوما فأمره بإنشاد شيء من شعره فأنشد قوله
( ما بال عينك منها الماء ينسكب (
وكان بعين عبد الملك رمش فهي تدمع أبدا فتوهم أنه خاطبه وعرض به فقال له ما سؤالك عن هذا يا ابن الفاعلة
فمقته وأمر بإخراجه
حسن الابتداء عند المحدثين
انتهى ما أوردته في حسن الابتداء للعرب والمولدين وفحول الشعراء ونبهت على حسنه وقبيحه ولكن جذبتني يا أخا العرب نسبة المتأخرين إلى أن أثبت في هذا المحل تشبيبها ونسيبها وأظهر في شرح هذه البديعية الآهلة بديعها وغريبها ليعلم من تنزه في هذه الحدائق الزاهرة إن ما ربيع الآخر من ربيع الأول ببعيد وأن لكل زمان بديعا تمتع بلذة الجديد وهنا بحث لطيف وهو أن الاستشهاد بكلام المولدين وغيرهم من المتأخرين ليس فيه نقص لأن البديع أحد علوم الأدب الستة وذلك أنك إذا نظرت في الكلام العربي إما أن تبحث عن المعنى الذي وضع له اللفظ وهو علم اللغة وإما أن تبحث عن ذات اللفظ بحسب ما يعتريه وهو علم التصريف وإما أن تبحث عن المعنى الذي يفهم من الكلام المركب بحسب اختلاف أواخر الكلم وهو علم العربية وإما أن تبحث عن مطابقة الكلام لمقتضى الحال بحسب الوضع اللغوي وهو علم المعاني وإما أن تبحث عن طرق دلالة الكلام إيضاحا وخفاء بحسب الدلالة العقلية وهو علم البيان وإما أن تبحث عن وجوه تحسين الكلام وهو علم البديع
فالعلوم الثلاثة الأول يستشهد عليها بكلام العرب نظما ونثرا لأن المعتبر فيها ضبط ألفاظهم والعلوم الثلاثة الأخيرة يستشهد عليها بكلام العرب وغيرهم لأنها راجعة إلى المعاني ولا فرق في ذلك بين العرب وغيرهم إذا كان الرجوع إلى العقل
وقال أبو الفتح عثمان بن جني المولدون يستشهد بهم في المعاني كما يستشهد بالقدماء في الألفاظ
قال ابن رشيق في العمدة الذي ذكره أبو الفتح صحيح بين لأن المعاني اتسعت باتساع الناس في الدنيا وانتشار العرب بالإسلام في أقطار الأرض فإنهم حضروا الحواضر وتفننوا في المطاعم والملابس وعرفوا بالعيان ما دلتهم عليه بداهة عقولهم من فضل التشبيه ونحوه ومن هنا يحكى عن ابن الرومي أن لائما لامه وقال له لم لا تشبه تشبيه ابن المعتز وأنت أشعر منه فقال له أنشدني شيئا من قوله أعجز عن مثله فأنشده في صفة الهلال
فانظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر (
فقال له ابن الرومي زدني فأنشده
( كأن آذريونها ... والشمس فيه كاليه (
( مداهن من ذهب ... فيها بقايا غالية (
فقال واغوثاه لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ذاك إنما يصف ماعون بيته لأنه ابن الخلفاء وأنا مشغول بالتصرف في الشعر وطلب الرزق به أمدح هذا مرة وأهجو هذا كرة وأعاتب هذا تارة وأستعطف هذا طورا
انتهى كلام ابن رشيق
ورأيت الشيخ شمس الدين بن الصائغ رحمه الله تعالى قد استشهد في شرح البردة الذي سماه بالرقم بغالب أهل عصره في ما عرض له من أنواع البديع حتى أورد لهم شيئا من محاسن الزجل
رجع إلى ما كنا فيه من حسن الابتداء وتناسب القسمين وإيراد ما وعدنا به من كلام المتأخرين
قال قاضي هذه الصناعة وفاضلها والمتأخر الذي لم يتقدم عليه بغير الزمان أوائلها
( زار الصباح فكيف حالك يا دجى ... قم فاستذم بفرعه أو فالنجا (
أنظر إلى حسن هذا الابتداء كيف جمع مع اجتناب الحشو بين رقة النسيب وطرب التشبيب وتناسب القسمين وغرابة المعنى
ومثله قوله يخاطب العاذل:
( أخرج حديثك من سمعي فما دخلا ... لا ترم بالقول سهما ربما قتلا (
وما ألطف ما قال بعده:
( وما يخف على قلبي حديثك لي ... لا والذي خلق الإنسان والجبلا (
ومثله قوله:
( سمعتك والقلب لم يسمع ... فكم ذا تقول وكم لا أعي (
وما ألطف ما قال بعده:
( يقول وما عنده أنني ... بغير فؤاد ولا أضلع (
( أما مع هذا الفتى قلبه ... فقلت نعم يا فتى ما معي (
وأما مطلع قصيدة ابن النبيه فإن الأذواق السليمة تنتبه به إلى فتح هذا الباب وهو
( يا ساكني السفح كم عين بكم سفحت ... نزحتم فهي بعد الباب ما نزحت (
والقصيدة كلها تحف وطرف وعارضها ابن نباتة فما حلا معها مكرر نباته وأجرى الصفي معها ينابيع فكره فما صفا له معها مورد وجاراها الصفدي فتصفدت سوابق قوافيه عن لحاقها ومنها
( وروضة وجنات الورد قد خجلت ... فيها ضحى وعيون النرجس انفتحت (
( تشاجر الطير في أفنانها سحرا ... ومالت القضب للتعنيق فاصطلحت (
( والقطر قد رش نوب الدوح حين رأى ... مجامر الزهر في أذياله نفحت (
ومما يحسن نظامه في هذا السلك قوله:
( رنا وانثنى كالسيف والصعدة السمرا ... فما أكثر القتلى وما أرخص الأسرى (
ومما اختاره الشيخ جمال الدين بن نباته رحمه الله من ديوان أبي الفتوح نصر الله ابن قلاقس وهو حسن في هذا الباب قوله:
( كم مقلة للشقيق الغض رمداء ... إنسانها سابح في بحر أنداء (
وقوله:
( قفا واسألا مني زفيرا وأدمعا ... أكانا لهم إلا مصيفا ومربعا (
وهو من الغايات التي اختارها الشيخ جمال الدين بن نباتة من شعر ابن قلاقس فإنه قال طالعت ديوان الأديب البارع أبي الفتوح نصر الله بن قلاقس فطالعت الفن الغريب وفتح علي بتأمل ألفاظه فتلوت ( نصر من الله وفتح قريب (
بيد أني وجدت له حسنات تبهر العقول فضلا وسيئات يكاد بذكرها ابن قلاقس يقلي
انتهى كلام الشيخ جمال الدين بن نباتة
ومما وقع في تناسب القسمين إلى الغاية قول الشيخ ظهير الدين بن البارزي رحمه الله وهو
( يذكرني وجدي الحمام إذا غنى ... لأنا كلانا في الهوى يعشق الغصنا (
ذكر الصلاح الكتبي في كتابه فوات الوفيات أن الشيخ أثير الدين أبا حيان قال رأيت الشيخ المذكور صوفيا بحماة المحروسة وأنشدني لنفسه هذه القصيدة وعدة مقاطيع منها
( أراك فأستحيي فأطرق هيبة ... وأخفي الذي بي من هواك وأكتم (
( وهيهات أن يخفى وأنت جعلتني ... جميعي لسانا في الهوى يتكلم (
وتوفي بعد الثمانين والستمائة وأما مطلع الشيخ شمس الدين بن العفيف في هذا الباب فظرافته لا تنكر لأنه كان ينعت بالشاب الظريف قال في شطره الأول
( أعز الله أنصار العيون ... (
وفي الثاني
( وخلد ملك هاتيك الجفون ... (
وما أظرف ما قال بعده
( وضاعف بالفتور لها اقتدارا ... وجدد نعمة الحسن المصون (
وما أحسن ابتداءات الشيخ عبد العزيز الأنصاري شيخ شيوخ حماة فجميعها نسجت على هذا المنوال منها قوله
( حروف غرامي كلها حرف إغراء ... على أن سقمي بعض أفعال أسماء (
وقوله
( ويلاه من نومي المشرد ... أواه من شملي المبدد (
وقوله
( أهلا بطيفكم وسهلا ... لو كنت للإغفاء أهلا (
وما أحلى ما قال بعده
( لكنه وافي وقد ... حلف السهاد علي أن لا (
وقد توارد هو وابن عنين في هذا المعنى وكل كساه ديباجة تأخذ بمجامع القلوب ومطلع ابن عنين قوله
( ماذا على طيف الأحبة لو سرى ... وعليهم لو سامحوني بالكرى (
وقوله مهيار الديلمي في هذا الباب مشهور والذي أقوله إن الشيخ جمال الدين ابن نباتة نبات هذا البستان وقلادة هذا العقيان ومن مطالعه التي هي أبهج من مطالع الشمس قوله في هذا الباب
( في الريق سكر وفي الأصداغ تجعيد ... هذا المدام وهاتيك العناقيد (
وقوله
( بدا ورنت لواحظه دلالا ... فما أبهى الغزالة والغزالا (
وقوله:
( سلبت عقلي بأحداق وأقداح ... يا ساجي الطرف بل يا ساقي الراح (
وما ألطف ما قال بعده
( سكران من مقلة الساقي وقهوته ... فاترك ملامك في السكرين يا صاح (
وقوله:
( إنسان عيني بتعجيل السهاد بلي ... عمري لقد خلق الإنسان من عجل (
وقوله:
( قام يرنو بمقلة كحلاء ... علمتني الجنون بالسوداء (
وقوله:
( نفس عن الحب ما حادث وما غفلت ... بأي ذنب وقاك الله قد قتلت (
وقد تقدم شروط لا بد من اجتنابها في حسن الابتداء منها الحشو ولكن وقاك الله حشو اللوزينج
وقوله:
( لام العذار أطالت فيك تسهيدي ... كأنها لغرامي لام توكيد (
ولولا الإطالة لأفعمت الأذواق من هذا السكر النباني
ورأيت للشيخ صفي الدين الحلي في الأرتقيات قصيدة قافية مطلعها في هذا الباب غاية وهو قوله:
( قفي ودعينا قبل وشك التفرق ... فما أنا من يحيا إلى حين نلتقي (
وأنشدني من لفظه الشيخ عز الدين الموصلي قصيدة نونية نظمها بحماة ومطلعها في حسن الابتداء حسن
( سمعنا حمام الدوح في روضة غنا ... فأذكرنا ربع الحبائب والمغنى (
ولقد سهوت عن مطلع الشيخ علاء الدين علي بن المظفر الكندي الشهير بالوداعي فإنه ليس له في تناسب القسمين قسيم وهو
( بدر إذا ما بدا محياه ... أقول ربي وربك الله (
وعارضه الشيخ جمال الدين ابن نباته في هذه القصيدة بعينها وترقى إلى مطلع بدره وزاحمه في حسنه فمطلع الشيخ جمال الدين
( له إذا غازلتك عيناه ... سهام لحظ أجارك الله (
ومن مطالعي التي حصل لي فيها الفتوح في هذا الباب قولي
( طلعتم بدورا في أعز المطالع ... فبشرني قلبي بسعد طوالعي (
وقولي :
( إغراء لحظك ما لي منه تحذير ... ولا لتعريف وجدي فيك تنكير (
وقولي
( في عروض الجفا بحور دموعي ... ما أفادت قلبي سوى التقطيع (
وقولي
( لله قوم لنظم الوصل قد نثروا ... شعرت في حبهم يا ليتهم شعروا (
وقولي
( جردت سيف اللحظ عند تهددي ... يا قاتلي فسلبتني بمنجرد (
وقولي
( هواي بسفح القاسمية والجسر ... إذا هب ذاك الريح فهو الهوى العذري (
وكأني بمنتقد تألم قلبه على المتقدمين بكثرة النقد ومالت نفسه إلي مع المتأخرين ليستوفي الشروط الأدبية في مباشرة هذا العقد
وقولي:
( قد مال غصن النقا عن صبه هيفا ... يا ليته بنسيم العتب لو عطفا (
فأقول وبالله المستعان إن جماعة من المخاديم بدمشق رسموا أن أعارض شيئا من نظم الشيخ جمال الدين بن نباته وتخيروا لي خمس قصائد منها قصيدته الكافية التي مطلعها
( تصرمت الأيام دون وصالك ... فمن شافعي في الحب يا ابنة مالك (
فلما انتهيت إلى معارضتها وجدت بين الشطر الثاني من المطلع وبين الشطر الأول مباينة كما تقدم في مطلع امرئ القيس من الكلام على أن في شطره الأول ما ليس في الثاني
وقد اتفق علماء البديع على أن عدم تناسب القسمين نقص في حسن الابتداء وقد تقدم قول زكي الدين بن أبي الأصبع إن مطلع النابغة أفضل من مطلع امرئ القيس لتناسب القسمين وإن كان مطلع امرئ القيس أكثر معاني
انتهى ولو قال الشيخ جمال الدين في مطلعه
( تمذهبت في هجري بطول مطالك ... فمن شافعي في الحب يا ابنة مالك (
لجمع بين تناسب القسمين
ومطلعي الذي عارضت به الشيخ جمال الدين
( رضيع الهوى يشكو فطام وصالك ... فداوي بني الحب يا ابنة مالك (
وكذلك من مطلع الشيخ صفي الدين الحلي في قصيدته الجيمية التي هي من جملة القصائد الأرتقيات التي امتدح بها الملك المنصور صاحب ماردين
( جاءت لتنظر ما أبقت من المهج ... فعطرت سائر الأرجاء بالأرج (
فالشطر الثاني ليس من جنس الشطر الأول فإن الشطر الأول في الطريق الغرامية ليس له مثيل ومن أنكر هذا النقد ينتظر في مطلع الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض قدس الله سره فإنه في هذا الباب طرفة وهو:
( ما بين معترك الأحداق والمهج ... أنا القتيل بلا إثم ولا حرج (
وهنا نكتة لطيفة تؤيد هذا النقد
اتفق أن الشيخ نور الدين علي بن سعيد الأندلسي الأديب المشهور الذي من نظمه قوله
( وا طول شوقي إلى ثغور ... ملأى من الشهد الرحيق (
( عنها أخذت الذي تراه ... يعذب من شعري الرقيق (
لما ورد إلى هذه البلاد اجتمع بالصاحب بهاء الدين زهير وتطفل على موائد طريقته الغرامية وسأله الإرشاد إلى سلوكها فقال له طالع ديوان الحاجري والتلعفري وأكثر المطالعة فيهما وراجعني بعد ذلك فغاب عنه مدة وأكثر من مطالعة الديوانين إلى أن حفظ غالبهما ثم اجتمع به بعد ذلك وتذاكرا في الغراميات فأنشده الصاحب بهاء الدين زهير في غضون المحاضرة يا بان وادي الأجرع وقال أشتهي أن يكمل لي هذا المطلع فافتكر قليلا وقال سقيت غيث الأدمع فقال والله حسن لكن الأقرب إلى الطريق الغرامي أن تقول هل ملت من طرب معي وما ألطف مطلع الحاجري في هذا الطريق
( لك أن تشوقني إلى الأوطان ... وعلي أن أبكي بدمع قان (
والآراء على هذا النوع تستحسن هنا مطلع ناصر الدين بن النقيب فإنه أعدل شاهد مقبول والتشبيب بنفسه الطيب يغني في هذه الحضرة عن الموصول وهو
( قلدت يوم البين جيد مودعي ... دررا نظمت عقودها من أدمعي (
وبالنسبة إلى حسن الابتداءات مطلع الشيخ برهان الدين القيراطي مع حسنه وبهجته فيه نقص وهو
( قسما بروضة خدها ونباتها ... وبآسها المخضل في جنباتها (
فإنه لم يأت بجواب القسم ولا ما يحسن السكوت على مطلعه ولا تتم الفائدة إلا به
ومشايخ البديع قرروا أن لا يكون المطلع متعلقا بما بعده في حسن الابتداء
وقد آن أن أحبس عنان القلم فإن الشرح قد طال ولم أطله إلا ليزداد الطالب إيضاحا ويداوي علل فهمه بحكم المتقدمين ويتنزه في رياض الأدب على النبات الغض من نظم المتأخرين.
نهاية الجزء الأول
ألف / خاص ألف/
يتبع ...
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |