سوسيولوجيا النظم الشعري بين الذات و الموضوع ـ د.الوارث الحسن
2014-04-26
)عنترة بن شداد العبسي نموذجا(
من نافلة القول، الإشارة إلى أن الإنتاج الأدبي، شعرا كان أو نثرا، يتضمن من بين ما يتضمنه، تداخل عنصري الذات والموضوع. وبحكم هذا التداخل، رأينا في دراستنا للنظم الشعري، أن نأخذ دورهما بعين الاعتبار، إيمانا منا بوجود علاقة جدلية لا انفصام فيها بين هذين المستويين. ونحن إذ نختار هذا المسلك، فإننا نقتفي آثار كثير من الباحثين، مثل زكي مبارك، الذي كتب قائلا : « من الواجب أن نتعمق في دراسة حياة الشاعر [...] وأن نعنى فوق ذلك بمعرفة العهد الذي عاش فيه الشاعر، بما لذلك من الأثر في معرفة أحوال وأذواق الشعراء [...]»(1) . وكان عباس محمود العقاد قد أكد من جهته هذا الطرح، بقوله : إن « معرفة البيئة ضرورية في نقد كل شعر، في كل أمة، وفي كل جيل [...]»(2).
ويرتبط إيماننا بأهمية هذا المنهج أيضا، لما يكتسيه الحديث عن الذات والموضوع من دور في معرفة العوامل المؤثرة في شخصية الشعراء ، وأثر تلك العوامل في شعرهم وأساليبهم و صورهم ، خصوصا خلال الدراسة المقارنة، التي تتطلب من الباحث « [...] حين يوازن بين شاعرين، أن يعرف حياتهما [...]، وأن يثبت مما أحاط بهما من مختلف الظروف»، على حد قول زكي مبارك(3).
نهدف من هذا المقال، الحديث عن أهم العوامل المؤثرة في شخصية عنترة(4) قصد الوقوف بقدر الإمكان على آثارها في شعره، وبالتالي في نظرته للحياة و المجتمع من حوله .
1. عامل البيئة والطبيعة:
عرفت شبه الجزيرة العربية ظروفا طبيعية ومناخية صعبة، بحكم طابعها الصحراوي، اضطر معها الإنسان في الجاهلية إلى الترحال والتنقل في أكثر الأحيان طلبا للنجعة، وبحثا عن سبل العيش، بكل ما تعنيه الرحلة من تعب وخوف ومخاطر.
وقد واجه عنترة ،كغيره من أبناء عبس، طبيعة هذا النظام البيئي، وجرب الرحلة وحياة التنقل، وقابل بيئات مختلفة، وعاش بين الجدب والقحط أحيانا، وبين الخصب والعطاء أحيانا أخرى، وتكيف كغيره من بني قومه، مع كل لون من ألوانها الطبيعية، وابتهج لعطائها وجمالها، وشقي لجفافها وقحطها. نقول هذا الكلام، وحجتنا عليه ما ورد في أشعاره من وصف لشتى المظاهر الطبيعية ومختلف الأماكن والمواضع، بنباتها وحيواناتها المتعددة.
وأشهر ما روي عنه، قوله في وصف الروض:
أوْ رَوضَــةً أُنُـفـاً تَـضَـمّـن نَـبْـتَـهـا Ë غَـيـثٌ قَـلـيـلُ الدِّمْـنِ لَيْسَ بِـمَـعْلَمِ
جَـادَتْ عَـلَـيْـهَـا كــلُّ عَـيْـنٍ ثَــرَّةٍ Ë فَـتَـركْـنَ كُـلّ حَـديـقَـةٍ كالــدِّرْهَـمِ
سَـحًّـا وتَـسْـكَـابـاً فـكُـلَّ عَـشِـيَّـةً Ë يَـجْـري عَـلَـيْـهـا الـمـاءُ لمْ يَتَصَرَّمِ (5)
وقوله في وصف الناقة :
هــلْ تُـبْـلِــغَــنِّـي دَارهـا شَـدَنِــيَّــةٌ Ë لُـعِـنتْ بِـمـحْرومِ الشَّـراب مُصَـرَّمِ
خَــطّـارَةٌ غِــبَّ الــسُّــرى زَيـَّافــةٌ Ë تَـقِـصُ الإكَـامَ بـكـلِّ خُـفٍّ مِــيْـثَمِ
وكَـأَنَّـمَـا أَقِـصُ الإكَــامَ عَـشِــيَّــةً Ë بـقَـريـبِ بـين الـمَنْسِـمَـيْـن مُصَلَّمِ
وقوله في وصف الحمام:
أفَمِــن بُــكـاءِ حـمـامـةِ فـي أَيـْكَةٍ Ë ذَرَفـتْ دُمُوعُك فوق ظَهْر المَحْمل(6)
و قوله في وصف الغزلان:
فــكَـأنَّـمـا الْـتَـفَـتـتْ بـجِيدِ جَدايَةٍ Ë رَشَــإٍ مــنَ الــغِـــزْلانِ حُــرٍّ أَرْثَـمِ(7)
وقوله في وصف النعام:
يَـأْوي إلَـى حِزَقِ النَّعَام كمـا أَوَتْ Ë حِــزَقٌ يَـمَـانـيَّـةٌ لأَعْـجَـمَ طِـمْـطِمِ
يَــتــبــعْـن قُــلّــةَ رأسِــه وكـــأنّــه Ë زَوجٌ عَــلــى حَــرجٍ لــهُـنّ مُـخـيَّمِ
صَـعْلٍ يـعُـود بذي الـعُـشَيْرة بيضَهُ Ë كالـعَبد ذي الفَرو الـطَّويل الأصْلَمِ(8)
وقوله في وصف الديار وعرصاتها:
طَـال الثَّـواءُ عَـلى رُسـوم الـمـنزلِ Ë بـيـن اللَّكـيكِ وبين ذاتِ الـحرْمَلِ
فَـوقـفـتُ فـي عَـرصَـاتِهـا مـتَـحيِّراً Ë أسَـلُ الـديـارَ كـفـعل مَنْ لَم يَذْهَلِ
لـعـبَـتْ بـهـا الأنْـواءُ بـعـد أنِـيسِها Ë والـرّامِـسـاتُ وكـلُّ جَـوْنٍ مُسْبِـلِ(9)
وتجعلنا هذه الشواهد، وغيرها(10)، نعتقد أن طبيعة البيئة التي عاشها عنترة شكلت إحدى العوامل المحددة لشخصيته، وحددت من جهتها القيم الأخلاقية عنده، «[...] فعودته الصبر والخشونة والجفاء لجفافها، وعودته القوة والبسالة والإقدام والعصبية لعدم الاستقرار وكثرة الترحال، وعودته الوفاء والأمانة والصدق ونصرة الجار وحماية الديار والحفاظ على الأعراض والكرم لخصوبتها [...]»(11).
ومن جهة أخرى، لم يكن التغني بالطبيعة، ببيئتها الجافة أو الخصبة عند عنترة، هدفا في ذاته، وإنما مجرد وسيلة لإبراز مشاعره وفقا لتصوراته الخاصة، « ليحقق التكامل بين نفسه وبين الاشكال الأساسية للعالم الطبيعي، وإقاعات الحياة، إذ رأى أن هذا هو الطريق أو الأسلوب الأصدق في التعبير عن نفسه»(12) .
2. عامل العبودية:
من الصعب على كل باحث إذا تكلم عن عنترة أن لا يستحضر روايات القصاصين عن بشرته السوداء، وما عانه من جرائها من احتقار وتهكم، وسباب وحرمان، وقسوة العيش، ومهانة الدار، خصوصا بعدما نبذه والده، ورفضته عشيرته.
وبقدر ما سببته العبودية لعنترة من متاعب أثرت في نفسيته وشخصيته وحياته، بقدر ما كانت عاملا من عوامل مجاهدته على إثبات ذاته بين أهله، كما تعبر عن ذلك صرخاته المنظومة، مصداقا للقول المشهور « إن الفنان يلون الأشياء بدمه»(13). فلقد كان عنترة يحمل في نفسه الرغبة في الحرية والانعتاق من العبودية، ولما قصر عن الوصول إليها وقامت أمامه عقبات قاهرة، انعكست هذه الرغبات إلى باطن نفسه، فشكلت له عقدا نفسية، لكنه لم يستسلم، ولم ينطو على نفسه، بقدر ما قاوم بعنف بشجاعة وبطولة تبعات المهانة (14). بل لقد وجد في هذه البطولة خلال المعارك التي خاضها إلى جانب قومه، ما شفع به لنفسه، كما في قوله مفتخرا:
أنَـا الـعَـبـدُ الــذي يَـلْـقـى الـمَنايا Ë غَـدَاة الـرَّوْع لا يَـخْشى الـمَحَاقَا (15)
وفي قوله مذكرا أهله بأياديه البيضاء عليهم :
قدْ أَطَعنُ الطَّعْنَةَ النَّجلاءَ عن عُرُضٍ Ë تَـصْفَـرُّ كَـفُّ أَخِيـهـا وهُوَ منْزُوفُ(16)
ومن ثمّ، انبعثت صورة عنترة البطل التي يمثلها في شعره، ويعرضها في نظمه، وتضخمت الأنا في ذاتيته إلى حد الاعتزاز والافتخار، فكان بذلك يريد أن يثبت فكرة الوجود، التي كان يعتقد أنها ضرورية له، كي يبرز بين أفراد قبيلته، وبالتالي يؤكد فكرة حريته(17) .
فنراه يذكر أهله ببطولته الخارقة في قوله :
وحَـلـيـلِ غَـانـيـةٍ تـَركْـتُ مُـجَـدَّلا Ë تَـمْـكو فَـريصَـتـُه كَـشِدْق الأعْـلَمِ
عَـجِـلـتْ يَـدايَ لَـه بـمَـارنِ طَـعْنةٍ Ë ورَشـاشِ نـَـافِــذةٍ كَـلـوْنٍ الـعَـنْـدَمِ(18)
ونجده يسخر شجاعته ليغطي وضاعة نسبه في قوله :
إنّي امرؤٌ من خَيـرِ عبسٍ مـنــصباً Ë شَـطري وأحْـمي سائِري بالـمُنْصَلِ(19)
وفضلا عن افتخاره ببطولته وفروسيته وشجاعته، لم ينس عنترة أن يبتهج بخصاله الحميدة، وأخلاقه الفاضلة رغم سواد لونه، كما في قوله:
وأغَـضُّ طَـرْفـي ما بَدتْ لي جَارتي Ë حــتـّـى يُـواري جَـارَتـي مَـأواهـاَ
إنِّـي امـرؤٌ سَـمْـح الـخَـلِيقةِ مـاجِدٌ Ë لا أُتْـبِـعُ الـنـفـسَ اللَّـجُوجَ هواها (20)
وفي قوله أيضا:
هـلاَّ سـَأَلْـتِ الـخـيـلَ يا ابنَةَ مالكٍ Ë إن كُـنـتِ جـاهـلـةً بما لـم تـعْلمي
يـخـبـرُكَ مـن شَـهِـدَ الـوقـائعَ أنني Ë أغْشى الوَغَى وأعِفُّ عـندَ الـمَغْنَمِ (21)
وفي قوله :
أغْـشـى فَـتـاةَ الـحيّ عنـد حَليلِـهـا Ë وإذا غَــزا فـِي الـجَيْشِ لا أغْشاهَا(22)
وفي قوله كذلك:
ولقَد أبـيتُ عـلـى الـطَّـوى وأَظَلُّـه Ë حَـتّـى أنـالَ بـه كَـريـمَ الـمَــأكـلِ(23)
وهذا كله، يعني أن الحرية كانت المحرك الأساسي لعنترة إزاء المعوقات الخلقية، وخصوصا ما تعلق منها بالعبودية، وما ارتبط بها من احتقار واستهزاء وتهكم.
وباختصار شديد، نستطيع القول، باطمئنان، إن المعاناة من الدونية كان لها بدورها دور مهم في تحديد الملامح الأساسية لشخصية عنترة ولشعره.
3. عامل الحب :
لقد أغرم عنترة بابنة عمه عبلة، وصار يكن لها حبا جَمّا، ويتمنى رضاها ولا يعير غيرها نظرا، بل يخلص لها وحدها(24)، كما في قوله :
ولـئِـن سَـألتَ بِـذاكَ عَـبـلةَ خَبَّرتْ Ë أنْ لا أريـدُ مِـنَ الـنِّـسـاءِ سِــواهَـا
وأَجـيـبُـهـا إمّـا دعـتْ لـعَـظـيـمــةٍ Ë وأُعِـيــنُــهـا وأكُـفُّ عـمّـا سَـاهـَـا(25)
لكن أنّى له هذا الحب؟ وهو العبد الراعي، الأسود اللون، المحتقر من طرف أبناء القبيلة، وهي ابنة سادة بني عبس المصونة، يتمنى أبوها أن يزوجها بذي حسب ونسب وجاه. ورغم هذه المعوقات، ظل عنترة متعلقا بعبلة، عاشقا لها، ولم يكف عن التمني في كسب قلبها، على نحو قوله:
ولَـقَـد نَـزَلْـتِ فَـلا تَـظُـنّـي غـيْـرَه Ë مـنِّـي بِـمـنْـزلةِ الـمُـحبِّ الـمُكْرَمِ (26)
وقوله يصف جمالها :
رمــتِ الــفُــؤادَ مَـلـيـحـةٌ عـذْراءُ Ë بِــسِــهَـامِ لـحـظٍ مـا لَـهُــنَّ دَواءُ
مَـرَّت أوانَ الــعِــيـدِ بـيْـن نَـواهِـدِ Ë مـثْـل الـشـمـوس لـحـاظـهن ظباءُ
فـاغـتـالـنـي سقمي الذي في باطني v أخـــفـــيــتــه فــأذاعــه الإخـفـاءُ (27)
وقد كان عنترة يدري أكثر من غيره بأن حبه محكوم عليه بالتعثر. لكنه، رغم ذلك، أخذ على نفسه بميثاق تحمل كل المشاق للعبور إلى مقصده. كما يبدو من قوله:
ولأجْـهـدَنَّ عـلـى اللّقاءِ لكي أرَى Ë مَا أرْتَـجِـيـه، أو يَـحـيـنَ قَـضـائـي(28)
وهذه وجهة قاسية، فيما يظهر، ارتضاها عنترة لنفسه، بفعل شغفه بعبلة، كما في قوله:
وكَــمْ جَـهْـدِ نــائــبـةِ قـد لَـقِـيـتُ Ë لأجـلِـكِ يـا بنْتَ عـمّـي ونَـكْـبـهْ (29)
فهذا الرجل المغرم كان يقابل كل المآسي بثبات، بل لقد تغزل بحبيبته وهو يعلم أن عرف القبيلة يقضي بحرمان من يتشبب بامرأة من أن يتزوجها. وقد ساعده على ركوب التحدي ثقته بنفسه وبقدرته على كسب الرهان، كما تعود ذلك في نزاله لأعدائه بساحة الوغى. وقد عبر عن ذلك بقوله، مثلا:
يـا عـَبْـلُ كم مِـن غَـمْـرةٍ بـاشَرتُهَا Ë بالنَّفسِ ما كادتْ لَـعـَمْرُكِ تَنْجَلي
فـيـهـا لَـوامـعُ لـوْ شَـهِدْتِ زُهَاءها Ë لَـسَـلـوْتِ بـعـد تَخَضُّبٍ وتَكَحُّلِ (30)
لكنه لم ينس في المقابل الإشارة إلى ما يتمتع به من طيبوبة، وما يتحلى به من تواضع، كما في خطابه لعبلة :
أثْـنِـي عـلـيَّ بـمَـا عـلِـمْـتِ فـإنّـني Ë سَـمْحٌ مُـخَـالـقَـتـي إذا لَـم أُظْــلَـمِ(31)
إلى أن يقول:
فــإذا شَـرِبـتُ فـإنّـنـي مُـسـتـهلكُ Ë مَالـي وعِـرضِــي وافــرٌ لَم يُكْلَمِ
وإذا صَحوْتُ فَمَا أُقَصِّرُ عَـنْ نَدَى Ë وكَـمَـا عَـلِـمْتِ شَمَائِلي وتَكَرُّمِي(32)
فهل نجح عنترة في استقطاب عبلة ؟
مهما كان الأمر، فمعاناته كانت شديدة، ورغبته « في انتزاع نفسه من ابتذال الواقع، والسمو فوق الآخرين بمآثر استثنائية»(33) تبقى واردة، مما يؤكد أن وقع المعاناة كان شديدا، وأن ما رواه شعرا عن هيامه، وحبه، كان خلاصة تلك المعاناة.
وإذا تركنا جانبا هذا الفخر، وما يرتبط به من إشهار للمناقب، والمزايا، وتجاوزنا إمكانية كون ذلك مجرد تمرين كلامي فحسب، واستحضرنا الحجج الاستنكارية الموجهة لعبلة، أمكننا الوقوف من خلالها على شهادات أخرى دالة على تتمين الذات العنترية من جهة، وانتزاع إعجاب عبلة من جهة أخرى. ويتعزز لدينا هذا التأكيد حين ننظر مليا إلى مفهومي: «البطولة» و«الحب» لدى عنترة. ففي الوقت الذي كان يجابه فيه هذا الرجل عداء محيطه الاجتماعي، ويتأثر بجفاء عبلة حياله، فإنه كان يسعى إلى تذويب مأساته بالانغماس في الحروب، وانتشال نهاية بطولية أقسى وأخطر من تلك التي تسلط بها ميدان الحب، على اعتبار أن الحب يصبح إشكاليا بالنسبة لعنترة، على الطريقة التي تؤدي إلى تحقيق العمل البطولي...(34) .
يقول مؤكدا شجاعته وبطولته وعدم جزعه من الموت:
ولَـقـد غَـدوتُ أمـامَ رايـةِ غـالـبٍ Ë يـومَ الـهـِيـاجِ ومـا غدوتُ بـأعْــزَلِ
بَـكـرتْ تُـخَـوِّفُـنـي الحتوفَ كأنِّني Ë أصبحتُ عن غرضِ الحُتوفِ بـمعزل
فــأجـبـتُـهـا إنّ الـمـنـيَّـة مَـنــهــلٌ Ë لابـدَّ أن أُسْــقـى بـكـأسِ الـمـنْـهَـلِ(35)
وعلى كل، فقد كان العامل العاطفي عند عنترة محددا أساسيا لشخصيته، وباعثا تكوينيا لمنظومته الشعرية، لما له من ارتباط بالشعور الداخلي، وبكيانه الذاتي ووجوده. وتظهر آثار هذا العامل بوضوح في محاولة عنترة التوفيق بين الآخر، «المحبوبة» وبين ذاته، وفي اختلاط عاطفة الحب عنده بنزعة البطولة الحربية والقيم الأخلاقية؛ ففي هذه الأخيرة يحصل على وجوده كإنسان، وفي الحب يحصل على دليل عملي لهذا الوجود.
4. عامل النظام القبلي :
من المعروف أن القبيلة كانت تتخذ في ظل طبيعة الحياة البدوية في العصر الجاهلي، جملة من الأعراف والأنظمة والتقاليد التي تجعل الرقابة العرفية بمثابة المؤطر التشريعي الذي يراقب كل فرد على حدة داخل المجتمع. وبناء عليه، كان خروج فرد أو إخلاله بالمألوف من بنود هذه التشريعات المنظمة، يعني تعرضه حتما لمرسوم الانصراف أو الخلع أو الطرد، الذي يصدر في حقه من لدن قبيلته. لهذا، وخوفا من مغبة هذه العواقب، كان أبناء القبيلة مشدودين إلى ولائها المقدس، حريصين على الأخذ وتطبيق أسسها المشتركة، القائمة على القرابة والمنفعة والمصلحة.
لكن هذه الأعراف والتقاليد المنظمة، لم تكن منصفة لبعض الفئات، ونخص بالذكر منهم أبناء الإماء، أو الغرباء، أو الهجناء، إذ كانوا عرضة للنفي والخلع والتجريد من الهوية أو النبذ والدونية.
وقد تأثر عنترة بهذا التمييز، لكونه أسود ابن أمة حبشية. الأمر الذي حكم عليه بالدونية في قبيلته، خصوصا بعد أن تنكر له والده، ونبذته عشيرته. ومن ثم، تولد لدى صاحبنا شعور دفين بالعزلة والغربة في قبيلته، وشعور مماثل بالغبن، والظلم من قومه. وقد عبر عن هذا الإحساس كثيرا في أشعاره، مثل قوله:
أُعـاتب دهـراً لا يــلِــيـنُ لـعـاتـبِ Ë وأطـلبُ أمْـناً من صُروفِ النَّوائبِ
وتُـوعِـدنـي الأيّــامُ وعــداً تَـغرُّ بي Ë وأعــلــمُ حــقـاً أنّـه وعـدُ كـاذبِ
خَـدمـتُ أُنـاسـاً واتَّـخـذتُ أقَاربـاً Ë لِـعـونِي ولكن أصَبـحُوا كالعقَاربِ
يُـنـادونَـنِـي فـي السِّلم يا ابنَ زَبيبةٍ Ë وعـنْد صِدامِ الخيْل يا ابنَ الأَطايِبِ(36)
ومما كان يزيد من ألم عنترة وحسرته، استغلال قومه له، عندما تدعوهم الحاجة الماسة إلى خدماته، ولأنه كان مضطرا لتلبية دعوتهم، لإظهار قوته وشدة بأسه، رغبة منه في إثبات أن لا فرق بين الحر والعبد، وأن عظمة الإنسان إنما هي في نفسه، وفي قدرته، وكفاءته، وشخصيته القوية، كما في قوله:
دَعوني أُوَفّي السّيْفَ بالحربِ حقَّـهُ Ë وأشْـربُ مـن كـأسِ الـمَنيّة صَافـيا
ومَـن قَـال إنِّـي سـيّـدٌ وابـنُ سـيـّدٍ Ë فسَيفي وهذا الرُّمحُ عمّـي وخـالـيا(37)
وفي قوله يصف قتله لأحد الأبطال:
جَـادتْ يـدايَ لـه بـعـاجـلِ طـعْـنـةٍ Ë بـمُــثَـقّـفٍ صَـدقِ الـقَـنـاةِ مُـقـوّم
بِـرحِـيـبةِ الـفَرْغـيـنِ يَهدي جَرسُها Ë بـالليلِ مُـعْـتـسَّ الـسِّـبـاعِ الـضُـرَّمِ
وتـركـتُـهُ جـزرَ الـسِّـبـاع يَـنُـشْـنـهُ Ë مـا بـيـن قُـلَّـةِ رأســهِ والـمِـعـصـمِ(38)
وكانت رغبة عنترة في إثبات وجوده وانتمائه لقبيلته وفي إبراز قدراته، تزداد إلحاحا، كلما ازداد أهله وأبناء عشيرته في نبذه، ولسان حاله يردد :
وهذا يعني، أن عنترة اختار البقاء في قبيلته بدل الهجرة أو الصعلكة، وفضل أن يرفع ظلم ذوي القربى عوض الاستسلام لإهاناتهم، فوجد ضالته في شجاعته، وبطولاته،ولسانه، للوصول إلى حريته، ولم يجعل تلك البطولات فردية لذاته، وإنما جعلها مرتبطة بالذات مرة، وبالقبيلة مرة أخرى، إلى أن حصل على الاعتراف به: « وأصبحت مظاهر القبيلة عنده، أشد ظهورا وأعظم بروزا»(39) ، وفي هذا الصدد يقول:
أنـــا الـهَـجــيــنُ عــنــتــرهْ Ë كـل امــرئٍ يـحــمي حِــرهْ
أسْــــــــودَهُ وأحـــــمَــــرهْ Ë والــشَّـــعــراتِ الـمُـشْـعرَهْ
الــــوارِداتِ مِـــشْــــفَــــرهْ(40)
وهكذا يبدو واضحا أن طبيعة النظام القبلي، كانت من العوامل التي أثرت في شخصية عنترة، ومن البواعث التي ساهمت بدورها في تكوين شعره. ونستطيع القول في النهاية، إن الظروف الطبيعية، والمعاناة من العبودية، وما ارتبط بها من نفي وغربة، وأحباط عاطفية، كان لها الدور الأساسي في تحديد الملامح الأساسية لشخصية عنترة، ولشعره، ولعلها كانت وراء خصوصية الأغراض الشعرية نظم فيها أشعاره .
عن جريدة طنجة الأدبية .
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |