قصيدة الرفض في تونس ما بعد الثورة / سيف الدين بنزيد
ألف
2014-05-04
عرّف نزار قبّاني الشعرَ الحقّ بكونه من مواطني مدينة “لا”. يقول: “الشعر أساسًا هو عملٌ من أعمال المعارضة لا الموالاة، ومن أعمال الرفض لا القبول”. لا يعترف الشاعر، في سبيل تغيير المجتمع نحو الأفضل، بالقوانين الموضوعة، ما دام القانون قد “خُلق ليُخترَق”. بل نعلم أنّ القانون الإلهيّ ذاته قد خُرق من بعض الأنبياء على غرار آدم ويونان (يونس). يقول الشاعر المصريّ أمل دنقل مازجاً بين الشيطان والزعيم الرومانيّ الثائر سبارتاكوس: “المجد للشيطان معبود الرياح/ مَن قال”لا“في وجه مَن قالوا”نعم“/ مَن علّم الإنسانَ تمزيق العدم”.
بذلك تكون جذور “قصيدة الرفض” أو “قصيدة لا” بتعبير حجازي قديمة قِدَم الإنسان. نجد الرفض حاضراً في الموروث الجاهليّ منذ نصوص الصعاليك القدامى (الشنفرى، تأبّط شرّا، السليك، عروة بن الورد...). ولم تأفل ظاهرة الصعلكة عبر العصور لأنّ التمرّد غريزة في الإنسان. وقد وُجد الشعراء الصعاليك في العصرين الأمويّ فالعبّاسيّ (القتّال الكلابيّ، مالك بن الريب، أبو الشمقمق، أبو نواس...) وصولاً إلى العصر الحديث حتّى أنّنا نجد من تسميات دنقل: “أمير شعراء الرفض” و“عنترة الشعب العربيّ” و“الشاعر الصعلوك” إلخ...
نلقي الضوء في هذا المقال على قصيدة الرفض في تونس بعد ثورة 14 كانون الثاني 2011 انطلاقاً من بعض ما نُشر في صحيفة “المغرب” التونسيّة لشاعرات وشعراء من أجيال مختلفة.
في نصّ بعنوان “مات الأمل”، يقول البشير موسى: “في عالم هاديس/ (هذا الوطنْ)/ تُصَدّ الدموعُ، هنا تُكبَحُ الآهُ/ وتُمعِن في التذكّر/ كيف البداية كانت/ هناك وكيف المصير؟ (ع 699). نلاحظ في هذه الأسطر منذ العنوان سيطرة معجم اليأس ورفض الوضع الجديد، لذلك اختار الشاعر أن يموقع الوطن في عالم كابوسيّ مترع بالظلام من خلال استلهام صورة العالم السفليّ أو”جحيم هاديس“من الميثولوجيا الإغريقيّة. يقول في نصّ آخر عنيف:”أنا جمرة/ بها يستنير الياسمين/ أنا السعير/ لمَن يُذِلّ خواطري/ وأنا الكمين“(ع728)، فنحسّ ضمنيّا في هذه الشطرات بملامح بروميثيوسيّة من خلال هيمنة معجم النار (جمرة، سعير، يستنير) لأنّها نار إيجابيّة ستعمّ بالفائدة على المجتمع،”مجتمع ثورة الياسمين“، وكأنّنا بالبشير موسى يصيح على لسان تشي غيفارا:”السبيل ظلام مُدلهمّ فإن لم أحترق أنا وأنتَ فمن سينير السبيلَ؟“. للشاعر نصّ ثوريّ آخر بعنوان”يا ديكتاتور“ولكن نرجّح لقرائن موجودة فيه أنّه كُتب في عهد النظام السابق وتمّ إرجاء نشره إلى الثالث من تشرين الثاني 2013.
وقد أثّرتْ حوادث الاغتيال وصوَر تشييع جنازات الشهداء في وجدان الشعراء التونسيّين، كما الحالُ في نصّ للشاعرة والمحامية يسرى فراوس بعنوان”المؤبّنون“، جاء فيه:”ثلاثا/ ضحك الشهيدُ من موكبهم/ مؤبّنون بحزن مؤقّت/ أوّلهُمْ رئيسٌ ثانيهُمْ رئيسٌ ثالثهُمْ رئيسٌ/ ومُؤقّتٌ شعبُهُمْ“(ع663). وما دُمنا في رمزيّة الرقم ثلاثة، هذا مقطع من قصيدةٍ للمنتصر الحملي بعنوان”هجائيّة بالثلاث“، يقول فيها:”ثلاثة تربّعوا على العرش وارتفعوا/ على هموم الشعب وما حفلوا/ بأفعال وأقوال“(ع565). يتضح من هذين المثالين - ومن خلال الإشارة إلى الرؤساء الثلاثة تحديدا - انخراط الشاعرين في الواقع السياسيّ واختيارهما بوعي تام اقتحامَ مضمار ينطوي على قسط من الأخطار والمجهول. في قصيدة للمكّي الهمّامي مهداة في الأساس إلى شهيدي الوطن عن الجبهة الشعبيّة (الزعيم شكري بلعيد المغتال في ذكرى ساقية سيدي يوسف يوم 8 شباط والنائب بالمجلس التّأسيسيّ محمّد البراهمي المغتال في ذكرى عيد الجمهورية 25 تموز) يعلن الشاعر تمرّده فيقول:”قتلوه، ولم يقتلوه، فقد نبتت في التراب يداه.../ قتلوه وظنّوا بتونس غدرا/ فبرعمَ غصن التمرّد فينا/ وأينعَ في كلّ قلب هواه“(ع 599). ليس هذا القول الانفعاليّ في نهاية المطاف – على ما يبعثه في النفس من غليان وثورة- سوى تأبين أو تعليق مباشر على تلك الأحداث الدمويّة، أي ليس سوى وثيقة تاريخيّة. لذلك نحن نلحّ دائما على التّفكير في الأجيال المقبلة وعدم الاقتصار على مشكلات الوقت الحاضر وتجنّب”الاستعجال“. ولعلّ تكهّن الشاعر يوسف الخال منذ أكثر من أربعة عقود بوقوع ثورات عربيّة في هذا الوقت دليل على عمق البعد الرؤويّ لديه. في نصّ عنوانه”أرضي ودمي“، يقول الشاعر هشام الورتتاني بنبرة تحدٍّ محاولاً تجاوز اللحظات العابرة نحو غد أجمل:”سنعيش هنا/ في كلّ الحاضر والماضي/ ونُعدّ غدا أفضل/ فالحقّ لنا/ والأرض لنا/ والجرحُ لنا/ قد ينزف لكن يروينا/ سنظلّ كما نحن/ وَعْدًا في الصخر رسمناه/ (...)/ سنقيل الخوف ولن نخضع/ ونُحيل الصمت إلى المنفى“(ع599).
في نصّ عنوانه”مَن ينقذ وطني؟“يصيح محمّد الخذري:”رياحُ الغدر تعصف بوطني/ وأشواكها تُدميه لا تني/ تنغرز في الروح والبدن/ تزعم أنّ ربيعه ستعبق ياسمينُه“(ع740). نلاحظ في هذه الجمل السرديّة كيف فقد الشعر ألقه وإيحائيّته وغموضه المغري بالقراءة وصار مجرّد إخبار بالغدر الذي يلحّ الخذري على تصويره. ففي نصّ ثان يقول:”ما بال قلبي كموطني وقد قطّعتْ أوصالَهُ لفحاتُ الغدر تكويه“(ع675). لا تختلف نفسيّة الخذري في هذين النصّين عن نفسيّة البشير موسى في نصّه”مات الأمل“. فالصور قاتمة ومتشائمة ما دام مصير البلاد سائرا إلى المجهول ولا ملامح لحلول الربيع المزعوم.
وتطلق نجوى الرزقي (مناضلة شابة وسجينة سياسيّة سابقة) صرختها تقول:”اصرخ/ فأنتَ الآن مُعتقل ومنتصِرُ/ اصرخ/ فهذا الصوتُ حرّركَ وقيّدهُمْ“(ع687). نلمح في هذه الجمل مفارقتين، فالمواطن مسجون بصمتِه ومنتصِرٌ بثورته التي كسبها. والصوت محرّر ومقيّد في الآن نفسه! والمقصود من الصوت في هذا السياق هو الصوت الانتخابيّ الذي قيّد مَن في السلطة بمسؤوليّاتٍ جسام وجعل المواطنَ يشرب أوّل كأس من الحريّة منذ خمسين عاما. وإذا كان الشعب قد حقّق إرادته وانتصر على نظام مستبدّ فإنّ مسار الثورة بعدُ لم يكتمل ولا ينبغي السكوت عن الحقّ في ظلّ نشوء أيّ ديكتاتوريّة جديدة. وتوجّه المنصف المزغنّي في قصيدة كاريكاتوريّة بالهجاء المباشر لساكن قرطاج الساكن، يقول:”الأمن في البلاد/ يحتاج للعتاد/ لا تُعلن الحِداد/ يكفي من الرقاد“(ع681). تبدو نبرة السخرية واضحة منذ الجناس الوارد في العنوان، إذ تفيد كلمة”ساكن“الأولى معنى الإقامة وتفيد الثانية معنى الخمول. هذا النصّ الجريء مصقولٌ فنيّا لاحتوائه تخريجات دلاليّة متولّدة عن التشابه الصوتيّ كما يبيّن المثال الآتي:”جُهودكُم أقداح/ جهادكُم نِكاحْ“. هذا الأسلوب يميّز القصائد المنغّمة للمزغنّي الذي يعتبر تجويد النصّ وتهذيبه نوعاً من أنواع”الوحام الدائم“الذي ينتابه أثناء ولادة القصيدة.
وتحرّض الشاعرة زهور العربيّ المتلقّي، فتحثّه على التعبير، تقول:”عبّر أريدكَ أن تُعبّر/ كيفما شئتَ عبّر/ كسّر قوالبَ المألوف/ والمسموح/ والممنوع/(...)/ الغ كراسيّ العُهر من قاموسنا/ وامنع تصنيعها في كلّ معمَل/ واختر للعرش كرسيّا يبلى سريعا“.(ع669). نجد في هذا المقطع هيمنة لأفعال الأمر كأنّنا إزاء خطبة سياسيّة متأجّجة. ومن الوسائل التي اعتمدتها الشاعرة في إمرار إيديولوجيتها بشكل يقرّبها أكثر من الجمهور: الكتابة باللغة المحكيّة (الدارجة التونسيّة)، فتقول في قصيدة بعنوان”يا ذيب“متحدّثة بلسان تونس:”يا ذيب... يا ولد حشايا/ جبت ثعالب عاملة الدّين لعوبة/ وعملت من الكراسي ركوبة/ وجبت وجبت يا قلب يا موجوع/ زعْمَا نبرى ولاّ الربيع يعود“(ع681).
لعلّ أبرز ما جاءت به الثورة في تونس على مستوى التعبير والإبداع الشعريّ هو تكسير حواجز الصمت وكتابة النصوص بأكثر حريّة من دون تلميحاتٍ أو صور رمزيّة معقّدة ممّا دفع ببعض الشعراء إلى الوقوع في مباشريّة الخطاب الإيديولوجيّ وتسخير الاهتمام بالمضمون على حساب الجماليّة. فالتراكيب اللغويّة، كما تبيّن الأمثلة، في جلّها بسيطة وواضحة. والمقوّمات الفنّيّة قليلة. والمعاني لا تحتمل تأويلات أو قراءات متعدّدة. وهذا راجع إلى أسباب عدة من بينها تواتر الأحداث السياسيّة بشكل لافت ورغبة الشعراء في مواكبتها من خلال النشر في الصحف مع أنّ الشاعر الحقّ حسب رأينا هو من يستفيد من حاضره وماضيه لا ليكتبَ على الأحداث بل ليستشرف المستقبل وينشئ نبوءة. لهذا نحن نعتبر أنّ”أدب الالتزام“، شعراً أكان أم نثراً، ينبغي أن يكون في الآن نفسه”أدب موقف وأدب جمال" حتّى يرتقي إلى مستوى الإبداع.
ملحق النهار الثقافي